أحمد امشكح
لا يزال استقلال المغرب، رغم كل هذه السنوات التي تراكمت، يثير شهية النبش في سيرته بالنظر إلى أن عددا من حلقات هذا الاستقلال، وقبله، لا تزال مفقودة. ولا غرابة أن تكشف المعطيات كيف استفادت عدة أطراف من استقلال، سيعترف الكثيرون أنه كان ناقصا وغير مكتمل بالنظر لما حملته معاهدة اكس ليبان، التي قادها بعض زعماء حزب الاستقلال بتوافق مع السلطان محمد الخامس، من شروط كانت تعني أن المغرب وقع على رفع الحماية دون أن يستفيد كلية من الاستقلال النهائي. بدليل أن مناطق عدة من البلد ظلت تحت سلطة المستعمر خصوصا في الشمال والجنوب. وهي المناطق التي لا يزال مغرب اليوم يصارع من أجل استعادتها.
من استفاد من كعكة الاستقلال؟
هذا هو السؤال الذي يقض المضاجع. لكن ليس سرا اليوم أن نجد أن من بين أولئك المستفيدين يوجد حزب الاستقلال، بتياريه التقليدي والعصري. ويوجد الأمير مولاي الحسن، الذي ظل يتطلع للحكم حتى على عهد والده. ويوجد بعض أعضاء جيش التحرير، سواء أولئك الذين قبلوا بحل هذه المنظمة، أو الذين رفضوا ذلك. والحصيلة، هي أن الكعكة التي ظلت توزع بين أطراف عدة، هي التي ضيعت على مغرب الاستقلال الكثير من الوقت والجهد.
لكن قبل ذلك، لا بد أن نذكر أن التوقيع على عهد الحماية الفرنسية كان هو الآخر لأسباب مباشرة، كانت في مقدمتها ما عرف بـ»البيعة الحفيظية»، التي لم يلتزم المولى عبد الحفيظ بشروطها، والتي كان من بينها عدم الخضوع لما فرضه مؤتمر الجزيرة الخضراء في 1906، والذي اتخذ عدة قرارات منها المساواة الاقتصادية بين الدول العربية في المغرب، وإنشاء شرطة فرنسية وإسبانية في الموانئ المغربية، وإحداث بنك مخزني تحت إشراف دولي. والحصيلة هي أن علماء فاس سيقررون عزل السلطان قبل أن يوقع في الثلاثين من مارس من سنة 1912 على عقد الحماية. حيث تردد أنه باع عرشه ببضعة آلاف. لذلك فالمستفيدون من كعكة الاستقلال، ساروا على نهج المستفيدين من كعكة الحماية أيضا.
لقد كتب العلامة ابن عبد الله السليماني في كتابه «اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي حول المغرب» عن هذه البيعة أنه لما «بويع بالخلافة هذا السلطان» المولى عبد الحفيظ» وهو بمدينة مراكش، والأحوال غاية في الاضطراب، وقد أحاط بالمغرب من المصائب العجب العجاب، وبيت المال أنقى من الكف والمشاكل السياسية زاحفة على الوطن بالصف، والتدخل الأورباوي بلغ حد النصاب وإنما يتذكر أولوا الألباب.»
أما الزعيم الاستقلالي علال الفاسي، فيعتبر أن البيعة الحفيظية التي كتبها بفاس وطنيون ممتازون، ووضع صيغتها السيد أحمد بن المواز، أحد رجال الفكر إذ ذاك، ميثاقا قوميا ودستوريا من الطراز الأول. حيث اشترط علماء فاس على السلطان الجديد جملة من الشروط منها أن يعمل جهده في استرجاع الجهات المقتطعة من الحدود المغربية، وأن يبادر بطرد الجنس المحتل من الأماكن التي احتلها، وأن يسعى جهده لإلغاء معاهدة الجزيرة لأنه لم يرجع فيها إلى الشعب. كما عليه أن يعمل على إلغاء الامتيازات الأجنبية، وألا يستشير الأجانب في شؤون الأمة، وألا يبرم مع الأجانب عقودا سلمية أو تجارية إلا بعد استشارة الأمة. ويعلق علال الفاسي على هذه الشروط بالقول: «وتعتبر هذه البيعة عقدا بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية إلى ملكية مقيدة دستورية».
لقد بلغت الأزمة ذروتها مع العصيان القبلي سنة 1911، حيث كثفت القبائل التي ساءت علاقتها بالمخزن من اجتماعاتها، وخاصة القبائل المجاورة لفاس ومكناس، ولعل أهم اجتماع هو ذلك الذي انعقد في 22 فبراير 1911، بقرية أكوراي، وقد ضم وفودا من بني مطير وجروان وأزمور وبني مجيد وزعير، وقبائل أخرى من الغرب مثل الشراردة وبني حسن وبعض الشرفاء.
وقد اتفقت هذه القبائل على مواجهة المخزن، وقتل الباشا الكلاوي واختطاف السلطان، خلال احتفالات المولد النبوي. لم يقو السلطان على الوفاء بما تعهد به، بعد أن تراجعت فرنسا عن الكثير من المطالب التي كانت موضوع لائحة تقدم بها مولاي الحفيظ، بناء على مفاوضات. لكن الدولة الفرنسية ضمنت للسلطان، بعد مفاوضات طويلة وعسيرة، وضعية لائقة بشخصه، حيث وضعت تحت تصرفه 500 ألف فرنك، وهو المقدار المالي الذي اعتبره البعض في حينه بمثابة الشيك الذي دفع لسلطان الجهاد مقابل توقيعه على عقد الحماية، الشيء الذي نفاه المدافعون عنه حينما وضحوا أن المبلغ يدخل ضمن تنفيذ ما اتفق عليه من «إعطاء تسهيلات للسلطان لأداء ما تحمله جنابه بالخصوص من صوائر المحلات السعيدة أثناء الثورة».
وفي نفس الآن فوتت له الدولة الفرنسية بعض الأملاك في مراكش كالمامونية، أوغاطيم، وفي فاس عين الشيخ. بالإضافة إلى مجموعة من الشروط التي اشترط على أن تدون في عقد مكتوب، وتضمن مستقبل عائلته وفروعه، بما فيها ضمان معاش مناسب له، وحقه في التنازل عن العرش وتعيين وريث له.
«إن الذي يملك القوة يريد في الغالب أن يمارس السلطة من دون أن يقتسمها مع غيره». هذا ما كتبه مولاي عبد الحفيظ في «نفائح الأزهار في أطايب الأشعار» وهو يتنازل عن العرش، في سابقة من نوعها في تاريخ السلاطين العلويين، فقد قال لأحد الصحافيين الذين سألوه بعد التوقيع على وثيقة الحماية عن الأسباب التي جعلته يتخذ هذا القرار: «إنني لم أكن ولن أكون سلطان الحماية، إن الأمر سيكون مخالفا لسيرتي ولحاجتي للحرية والاستقلال. إنني لا أستطيع أن أنسى، وشعبي كذلك يتذكر أنني لم أتول العرش، ولم أبق فيه إلا لكوني قمت في مراكش مدافعا عن بلدي ضد كل تدخل أجنبي. إنني لا أستطيع أن أقبل العمل ضد ضميري، وألتمس بنفسي وضع القيد الذي ثرت ضده في رجلي». في هذا الخاص تذكير ببعض الأحداث السياسية التي رافقت الإعلان عن الاستقلال، وكيف استفاد الكثيرون من كعكته.
الأمير مولاي الحسن يتطلع إلى الـحكم مباشرة بعد الاستقلال
لم يكن الأمير مولاي الحسن يعتبر نفسه مجرد ولي للعهد. لقد ظل يشتغل إلى جانب والده سواء في المنفى أو بعد الحصول على الاستقلال، على أساس أنه هو نائب الملك الذي يجب أن تكون له رؤيته في تدبير شأن الاستقلال والاستفادة من خيراته، لذلك لم يكن متحمسا لحكومة عبد الله إبراهيم، التي وجد أنها لن تخدم مصالحه ولن تسهل مهمته في الوصول إلى الحكم، حيث سيقود حربا شرسة لإسقاطها دون أن تكمل سنتين من عمرها.
لقد حكى أحمد رضى اكديرة، مستشار الملك الراحل وصديقه، في كتاب «مغرب الحسن الثاني» بأن الأمير مولاي الحسن اعتبر تأسيس حكومة يسار برئاسة عبد الله إبراهيم تولى فيها بوعبيد منصب نائب رئيس الوزراء، خطرا».
وفي منتصف سنوات الثمانينيات سيزيد صديق الملك الراحل ومدير ديوانه في الشرح أن «الخطر كان يكمن في حكومة عبد الله إبراهيم»، على اعتبار أن الأمر يتعلق بحدث من أحداث عالم الخمسينيات والستينيات الذي كان خاضعا بقوة لتيار اليسار. «وبسرعة أظهرت التدابير الأولى لحكومة اليسار، على الصعيد الاقتصادي وكذا السياسي، نوايا أصحاب هذه التدابير وحوافزهم، مما جعل ولي العهد الأمير مولاي الحسن يشكل مجموعة قوية حوله، تتكون من الشخصيات الأكثر تمثيلية، وهي عناصر منتمية أو غير منتمية للأحزاب الأخرى. هكذا نظمت معارضة حقيقية أدت إلى سقوط حكومة عبد الله إبراهيم».
فما كان يعتبره اكديرة قرارات خطيرة على مستوى التدبير الاقتصادي والمالي لحكومة عبد الله إبراهيم، هو ما قاله عنه محمد الخامس في خطاب تدشين بنك المغرب يوم الخميس 2 يوليوز1959 «ويطيب لنا بهذه المناسبة أن ننوه بوزير اقتصادنا عبد الرحيم بوعبيد الذي ما فتئ يبرهن على كفاءته ومقدرته منذ أن أوليناه ثقتنا وأسندنا إليه تدبير ماليتنا، وتسيير سياستنا الاقتصادية». لذلك لم تكن الخلفيات التي حركت الأمير مولاي الحسن لدفع والده لقرار إعفاء عبد الله ابراهيم وإسقاط حكومته، غير طموح أميري بمعية بطانته لتولي شؤون البلاد.
وموازاة هذا الشق الاقتصادي لحكومة المرحوم عبد الله إبراهيم، كان هناك شق سياسي يشرحه احمد رضا اكديرة في نفس المؤلف حيث يقول، «إن التيار اليساري بالذات لم يكن إلا شكلا من أشكال رد الفعل ضد الامبريالية.. لذلك لم يختف التيار اليساري بما له من قوة ضاربة وبما كان عليه من تنظيم سياسي، وبما له من أنصار جد متمركزين وجد منظمين».
لقد نجح الأمير وهو يعد العدة لإسقاط الحكومة، بعد أن اعتمد في حربه على عدد من المقربين منه خصوصا من داخل حزب الإستقلال الذي وجد الفرصة مواتية لرد دين سابق. ولم يكن غريبا أن صحافة حزب الاستقلال هي التي تولت أمر الهجوم على كل ما كانت تحمله الحكومة من مشاريع. وشكلت أسبوعية «ليفار» التي أسسها أحمد رضا اكديرة ثم أسبوعية «الأيام» ما سيطلق عليه سياسيا بأدوات «حكومة الطابور الخامس» إلى درجة أن علال الفاسي الزعيم، ظل يكتب افتتاحيات «الأيام»، التي ستغلق صفحاتها مباشرة بعد أن سقطت حكومة عبد الله ابراهيم..
لقد نجحت حكومة «الطابور الخامس» في مهمتها، وهي التي كانت تتكون أساسا من الأمير مولاي الحسن، وصديقه أحمد رضا اكديرة، وأحمد الغزاوي، وإدريس المحمدي، وامحمد باحنيني وأحمد العلوي، والجنرال الكتاوي، والكولونيل أوفقير آنذاك وغيرهم كثير.ومما سهل مأمورية الحكومة الموازية أن ولي العهد الأمير مولاي الحسن، كان يشرف على القوات المسلحة الملكية ومختلف أجهزة الأمن والمخابرات. وقد كانت علاقاته متينة مع أغلب المتحكمين في الإدارة، إذ اخترقت صلاته كل دواليب الدولة، في حين لم يكن يحظى عبد الله إبراهيم، رئيس الحكومة إلا بدعم نسبي جدا من طرف حزب الاستقلال والنقابات والاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
كما لم ينس الأمير أن حكومة عبد الله ابراهيم، وفي مقدمتها وزير الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد، كانت قد رفضت أداء بعض الديون التي كانت قد تراكمت على الأمير وهو في باريس، حيث كان قد فتح مكتبا استشاريا لدعم القضية الوطنية خلال فترة المفاوضات حول الاستقلال.
فقد ظل ولي العهد الأمير مولاي الحسن يعتبر نفسه مهندس العودة من المنفى، ما جعل والده ينظر إليه نظرة أخرى. لذلك راح الأمير، بعد هذه الصفقة، يطالب بالرفع من مصروفه وهو وقتها في باريس بعد أن فتح في العاصمة الفرنسية مكتبا كان يجري من خلاله اتصالاته مع الجهات النافذة. وهو المكتب الذي كان عليه أن يؤدي أجور تلك الشخصيات السياسية والإعلامية والأمنية التي اشتغلت إلى جانب الملف المغربي.
لقد طلب محمد الخامس من وزراء حكومته أن يصرف للأمير مولاي الحسن ما يحتاجه لكي يستمر هذا المكتب في أداء مهامه، وإلا فسدت كل الأشياء التي كسبها المغرب. غير أن بعض الوزراء تحفظوا على الأمر حينما اكتشفوا أن ديون الأمير لم تكن، فقط بسبب هذا المكتب وأجور الأمن والمخابرات التي اخترقها، ولكن لأن الأمير الحسن دخل في جملة من الصفقات والامتيازات لفائدة شركات فرنسية وأمريكية. بالإضافة إلى أنه ظل يدعو من يشاء إلى المغرب من خلال رحلات نظمت لفائدة أصدقائه من النساء والرجال، ما رفع الكلفة عاليا. والحصيلة هي أن حكومة بداية الاستقلال ستكتشف أن ذلك «الصندوق الأسود» الذي ستصرف منه ديون ولي العهد، لم يكن يتوفر إلا على ثلاثين ألف دولار، وتلك كانت مجرد قطرة في بحر ديون الأمير.
معاهدة إكس ليبان تفتح شهية المستفيدين من الاستقلال
حينما اشتدت ضربات المقاومة المسلحة في مغرب، كان ملكه يعيش في المنفى، وبعد أن فشلت الإدارة الفرنسية في تنصيب ملك بديل حينما اختارت لهذا الدور محمد بن عرفة، كان لا بد من البحث عن صيغة لإنهاء هذا الاحتقان. لذلك كان الحل هو الترتيب لمعاهدة «إيكس ليبان»، والتي حضرها من الجانب المغربي ممثلون عن حزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال، وممثلون عن السلطان، وبعض قواد الاستعمار.
لقد دامت المفاوضات ثلاثة أيام حيث تم الاتفاق خلالها على رجوع محمد الخامس من منفاه بمدغشقر، وإعلان «نية» فرنسا منح المغرب «استقلالا» في 2 نونبر1955، على أن تكون تفاصيله محددة فيما بعد من الإعلان المشترك، والبروتوكول الملحق به في 2 مارس 1956. وبهذا الاتفاق، سيتم التنازل من طرف الإدارة الفرنسية عن قسط صغير من الثروات لصالح البورجوازية التي نشأت في حضنها بالبلد كي تستطيع تأمين الجزء الأكبر، وستسهر على بناء نظام سياسي على مقاسها.ولعل النجاح الفرنسي في هذه المهمة، هو الذي شجع الاستعمار الإسباني على توقيع اتفاق 2 أبريل 1956 مع محمد الخامس.
وتضمن الإعلان المشترك في ديباجته أنه موقع بين حكومة جمهورية فرنسا وسلطان المغرب محمد الخامس. وهذا كان له انعكاس مباشر في بنية النظام السياسي من البداية، بحيث سينص هذا الإعلان في أول نقطة على أن السلطة التشريعية يمارسها السلطان. غير أنه لم يكن استجابة كلية لمطلب الاستقلال، بل تجديد الاعتراف المتبادل بين السلطان والاستعمار. فإذا كانت معاهدة 30مارس1912 قد جاءت بطلب من السلطان بن يوسف العلوي بعدما حاصرته القبائل المجاورة لفاس، وأصبحت معظم مناطق البلاد خارج سيطرته، فإن إعلان 2 مارس 1956 نص على أن الفترة الفاصلة بين التاريخين، مرحلة أنجز من خلالها المغرب تقدما لم تعد المعاهدة المذكورة بعده صالحة لتنظيم العلاقات الفرنسية المغربية. هذا التقدم لا يعني في الواقع بالنسبة للطرفين سوى تدمير القوة العسكرية للقبائل المغربية ومقاومتها. وغياب التهديد الفعلي الذي كان قائما بالنسبة للنظام المركزي. ولا يعني سوى انتزاع أجود الأراضي المغربية بالقوة من طرف المعمرين والقواد الذين يدينون بالولاء للسلطان وللاستعمار في نفس الوقت. هذه الأراضي التي كانت تشكل مصدر قوة اقتصادية، حيث سيتملكها المعمرون بعد صدور قانون التحفيظ العقاري سنة 1913. هذا التقدم لا يعني كذلك سوى بناء الطرق المعبدة والسكك الحديدية التي تصل الموانئ بمختلف مواقع استخراج الفوسفاط وباقي المعادن الطبيعية. ومواقع استغلال الثروة الغابوية لتأمين استنزاف هذه الثروات لصالح المستعمر. لهذا فوثيقة تعترف بشرعية معاهدة استعمارية لا يمكن أن تجلب الاستقلال. فهذا الإعلان المشترك لا يعدو كونه وثيقة استعمارية جديدة، مهدت لاتفاقات جديدة لاستغلال البلد. وكما جاء في نص الإعلان المشترك، فإن مفاوضات ستجمع في باريس بين المغرب وفرنسا هدفها توقيع اتفاقيات جديدة لتنظيم العلاقات بين البلدين في مجالات المصلحة المشتركة أساسا كالدفاع، والعلاقات الخارجية، والاقتصادية، والثقافية. والتي تضمن حقوق وحريات الفرنسيين المقيمين في المغرب والمغاربة المقيمين في فرنسا.
لذلك فحينما ستأتي حكومة عبد الله ابراهيم، ستتضح الصورة أكثر حيث شكلت هذه المعاهدة وما تضمنته من إجراءات، بداية استفادة البعض من كعكتها. ولذلك ستضع هذه الحكومة ضمن أولى الأولويات إعادة النظر في الكثير من شروط هذه المعاهدة.
وزاد نص الإعلان المشترك أنه خلال الفترة الانتقالية، وفي انتظار توقيع الاتفاقيات الجديدة بين الطرفين وبناء المؤسسات الجديدة، لن يتم المس بوضعية الجيش الفرنسي، وأن الجيش الذي سيتوفر عليه سلطان المغرب سيتم تشكيله برعاية فرنسية. أما الفقرة الأولى من البروتوكول الملحق، ففرض من خلالها الاطلاع على جميع مشاريع الظهائر والمراسيم من طرف ممثل فرنسا بالمغرب لأجل وضع ملاحظاته على النصوص لما يتعلق الأمر بالمس بمصالح فرنسا والفرنسيين أو الأجانب خلال الفترة الانتقالية.
في نفس الوقت الذي وقع فيه الطرفان الفرنسي والمغربي على الإعلان المشترك والبرتوكول الملحق، سترفع حكومة مبارك البكاري الأولى أربع رسائل تحمل طلبات لنظيرتها الفرنسية. كانت الرسالة الأولى تطلب من الحكومة الاستعمارية الفرنسية الاستمرار في تسيير العلاقات الخارجية للمغرب، وتمثيل وحماية المواطنين المغاربة ومصالحهم في الخارج، في انتظار الاتفاق على إجراءات جديدة.
وتفعيلا لبنود «اكس ليبان»، ستواصل فرنسا تنظيمها لجلسات المحاكمة لأعضاء المقاومة وجيش التحرير الذين رفضوا تسليم السلاح. وستبني المخافر السرية والعلنية كدار بريشة، ودار المقري، لإعدامهم ودفنهم. لذلك يعتبر الكثيرون أن ما جاءت به معاهدة «إكس ليبان» كان بمثابة بداية استفادة أولئك الذين حضروا أشغالها، وصادقوا بعد ذلك على كل الشروط التي جاءت بها الإدارة الفرنسية.
علال الفاسي يسقط حكومة الوطنيين للاستفادة من خيرات الاستقلال
في بحر سنة 1958، سيترأس الملك محمد الخامس بالقصر الملكي مراسيم تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم، والتي لم تعمرغير سنة وخمسة أشهر. قبل أن تتم إقالتها يوم الخميس 19 ماي 1960 .
لكن قبل هذا الموعد، كانت أزمة حكومة بلافريج قد وضعت البلاد الخارجة على التو من محنة الحماية، في المحك. لذلك سعى محمد الخامس إلى إيجاد حل سريع ونهائي.
فقد حاول أن يعجل بحل الأزمة الوزارية حينما استدعى الزعيم الاستقلالي علال الفاسي ليكلفه بتشكيل حكومة بديلة لحكومة بلا فريج. وفي الوقت الذي راح علال الفاسي يعد لائحة وزرائه، تحرك بعض الاستقلاليين ليقولوا للملك ما مفاده إن «حكومة علال لا يوافق عليها كل الاستقلاليين».
لم يستسغ علال الفاسي هذا الأمر، وهو الذي كان يعد العدة ليتولى رئاسة الحكومة. لذلك سيختار الاستقرار في طنجة، فيما يشبه المنفى الاختياري. فعهد محمد الخامس إلى شيخ الإسلام بمهمة الاتصال بالمرحوم عبد الله إبراهيم، والفقيه البصري والمحجوب بن الصديق. فيما تولى نفس المهمة كل من الفقيه عواد وعبد الرحمن بن عبد العالي، لإقناع عبد الرحيم بوعبيد.
قبل عبد الله ابراهيم بالمهمة حينما ظلت جملة الملك محمد الخامس ترن في أذنه وهو يخاطبه فيما يشبه التهديد «إما أن تقبل بتشكيل الحكومة، وإما أن أغادر نهائيا نحو مكة أو المدينة لأمكث هناك مبتعدا إلى أن يقبض الله روحي».
ظل عبد الله ابراهيم متشبثا بضرورة بقاء عبد الرحيم بوعبيد وزيرا في حكومته، بالإضافة إلى المهدي بن بركة، الذي كان هو الآخر مرشحا لرئاستها، قبل أن تقترح عليه وزارة التعليم العمومي، في محاولة لإبعاد قادة حزب الاستقلال الذين ينتمون لتياره التقليدي.
غير أن الأمير مولاي الحسن سيرفض أن يتولى بن بركة هذه المهمة. ليتم إسنادها في آخر ساعة لعبد الكريم بن جلون، وهو الذي كان يتولى وزارة العدل في حكومة مبارك البكاي الأولى والثانية، وظل في نفس المنصب في حكومة بلافريج. إلا أنه رفض البقاء في وزارة العدل مع حكومة عبد الله إبراهيم. كما رفض عبد الرحمن اليوسفي هو الآخر حقيبة وزارة العدل، ليتم إسنادها إلى الحاج امحمد باحنيني مع احتفاظه بمنصب أمين عام للحكومة.
في ظل هذه الأجواء تم تنصيب الحكومة التي ترأسها في النهاية عبد الله إبراهيم، خصوصا وأن ثلاثة من زعماء الجناح اليساري في حزب الاستقلال كانوا مرشحين لتولي رئاستها. فإلى جانب عبد الله إبراهيم، كان عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة مرشحين لهذا المنصب. ولكن الأمير مولاي الحسن اتفق مع المحجوب بن الصديق على التعجيل بطرح اسم عبد الله إبراهيم كرئيس للحكومة وهذا ما حصل في النهاية.
كانت أولى الخطوات التي سارت عليها حكومة عبد الله ابراهيم، هي إصلاح حال الاقتصاد الوطني المتضرر من كل سنوات الحماية. لذلك سيتخذ عبد الرحيم بوعبيد، الذي أصبح نائبا لرئيس الحكومة ووزيرا للإقتصاد والمالية، جملة من القرارات التي اعتبرت شجاعة في حينها ومنها الإعلان عن فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي. كما سيتحول البنك المخزني إلى بنك المغرب. وسيتم إنشاء صندوق الإيداع والتدبير، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، والبنك الوطني للإنماء الاقتصادي، والمكتب الوطني للري، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومكتب الأبحاث والمساهمات الصناعية. كما وقع الاتفاق مع الإيطاليين لبناء مصنع تكرير البيترول «لاسمير». وغير ذلك من القرارات التي مهدت للإعلان عن إجراءات هدفها التحرير الاقتصادي لبلادنا. وهي الإجراءات التي ستعرف بقرارات 22 أكتوبر1959، وهي قرارات تزامنت مع صدور ظهير شريف أعلن عن تأسيس الدرهم كعملة وطنية غير قابلة للتحويل.
لقد قال عبد الرحيم بوعبيد عن قرارات 22 أكتوبر1959 : «إن عهد الاستقلال يتطلب منا أن نتحرر من التبعية وأن لاننساق وراء عجلة نظام كانت قراراته المهتمة باقتصادنا يتم اتخاذها خارج المغرب، ودونما مراعاة لظروف المغرب النوعية. ولا يمكن لأي تعاون دولي صحيح أن يزدهر ويكتسي مدلوله الحقيقي إلا إذا كان كل من يساهم فيه، يبذل جهوده بوسائله الخاصة قبل كل شيء. وهذا شرط أساسي لقيام علاقات الاحترام المتبادل بين الدول المستقلة. لهذا نحن الآن في سياق سياسة اقتصادية ونقدية مستقلة».
كانت هذه واحدة من الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها حكومة عبد الله إبراهيم في مستهل عملها. لكن يبدو أن ذلك سيغضب بعض النافذين في الدولة الذين رأوا أن أفكار عبد الله ابراهيم ووزيره في الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد يسارية، وفي حاجة لمن يوقفها عند حدها لكي لا يلتف حولها الشعب المغربي ويؤمن بها. كما سيقود علال الفاسي رفقة بعض القادة الاستقلاليين معركة للمساهمة في إسقاط هذه الحكومة بعد أن وجدوا أنهم خارج الحساب، وأنهم لن ينالوا شيئا من كعكة الاستقلال التي ناضلوا من أجلها.
لا يزال استقلال المغرب، رغم كل هذه السنوات التي تراكمت، يثير شهية النبش في سيرته بالنظر إلى أن عددا من حلقات هذا الاستقلال، وقبله، لا تزال مفقودة. ولا غرابة أن تكشف المعطيات كيف استفادت عدة أطراف من استقلال، سيعترف الكثيرون أنه كان ناقصا وغير مكتمل بالنظر لما حملته معاهدة اكس ليبان، التي قادها بعض زعماء حزب الاستقلال بتوافق مع السلطان محمد الخامس، من شروط كانت تعني أن المغرب وقع على رفع الحماية دون أن يستفيد كلية من الاستقلال النهائي. بدليل أن مناطق عدة من البلد ظلت تحت سلطة المستعمر خصوصا في الشمال والجنوب. وهي المناطق التي لا يزال مغرب اليوم يصارع من أجل استعادتها.
من استفاد من كعكة الاستقلال؟
هذا هو السؤال الذي يقض المضاجع. لكن ليس سرا اليوم أن نجد أن من بين أولئك المستفيدين يوجد حزب الاستقلال، بتياريه التقليدي والعصري. ويوجد الأمير مولاي الحسن، الذي ظل يتطلع للحكم حتى على عهد والده. ويوجد بعض أعضاء جيش التحرير، سواء أولئك الذين قبلوا بحل هذه المنظمة، أو الذين رفضوا ذلك. والحصيلة، هي أن الكعكة التي ظلت توزع بين أطراف عدة، هي التي ضيعت على مغرب الاستقلال الكثير من الوقت والجهد.
لكن قبل ذلك، لا بد أن نذكر أن التوقيع على عهد الحماية الفرنسية كان هو الآخر لأسباب مباشرة، كانت في مقدمتها ما عرف بـ»البيعة الحفيظية»، التي لم يلتزم المولى عبد الحفيظ بشروطها، والتي كان من بينها عدم الخضوع لما فرضه مؤتمر الجزيرة الخضراء في 1906، والذي اتخذ عدة قرارات منها المساواة الاقتصادية بين الدول العربية في المغرب، وإنشاء شرطة فرنسية وإسبانية في الموانئ المغربية، وإحداث بنك مخزني تحت إشراف دولي. والحصيلة هي أن علماء فاس سيقررون عزل السلطان قبل أن يوقع في الثلاثين من مارس من سنة 1912 على عقد الحماية. حيث تردد أنه باع عرشه ببضعة آلاف. لذلك فالمستفيدون من كعكة الاستقلال، ساروا على نهج المستفيدين من كعكة الحماية أيضا.
لقد كتب العلامة ابن عبد الله السليماني في كتابه «اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي حول المغرب» عن هذه البيعة أنه لما «بويع بالخلافة هذا السلطان» المولى عبد الحفيظ» وهو بمدينة مراكش، والأحوال غاية في الاضطراب، وقد أحاط بالمغرب من المصائب العجب العجاب، وبيت المال أنقى من الكف والمشاكل السياسية زاحفة على الوطن بالصف، والتدخل الأورباوي بلغ حد النصاب وإنما يتذكر أولوا الألباب.»
أما الزعيم الاستقلالي علال الفاسي، فيعتبر أن البيعة الحفيظية التي كتبها بفاس وطنيون ممتازون، ووضع صيغتها السيد أحمد بن المواز، أحد رجال الفكر إذ ذاك، ميثاقا قوميا ودستوريا من الطراز الأول. حيث اشترط علماء فاس على السلطان الجديد جملة من الشروط منها أن يعمل جهده في استرجاع الجهات المقتطعة من الحدود المغربية، وأن يبادر بطرد الجنس المحتل من الأماكن التي احتلها، وأن يسعى جهده لإلغاء معاهدة الجزيرة لأنه لم يرجع فيها إلى الشعب. كما عليه أن يعمل على إلغاء الامتيازات الأجنبية، وألا يستشير الأجانب في شؤون الأمة، وألا يبرم مع الأجانب عقودا سلمية أو تجارية إلا بعد استشارة الأمة. ويعلق علال الفاسي على هذه الشروط بالقول: «وتعتبر هذه البيعة عقدا بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية إلى ملكية مقيدة دستورية».
لقد بلغت الأزمة ذروتها مع العصيان القبلي سنة 1911، حيث كثفت القبائل التي ساءت علاقتها بالمخزن من اجتماعاتها، وخاصة القبائل المجاورة لفاس ومكناس، ولعل أهم اجتماع هو ذلك الذي انعقد في 22 فبراير 1911، بقرية أكوراي، وقد ضم وفودا من بني مطير وجروان وأزمور وبني مجيد وزعير، وقبائل أخرى من الغرب مثل الشراردة وبني حسن وبعض الشرفاء.
وقد اتفقت هذه القبائل على مواجهة المخزن، وقتل الباشا الكلاوي واختطاف السلطان، خلال احتفالات المولد النبوي. لم يقو السلطان على الوفاء بما تعهد به، بعد أن تراجعت فرنسا عن الكثير من المطالب التي كانت موضوع لائحة تقدم بها مولاي الحفيظ، بناء على مفاوضات. لكن الدولة الفرنسية ضمنت للسلطان، بعد مفاوضات طويلة وعسيرة، وضعية لائقة بشخصه، حيث وضعت تحت تصرفه 500 ألف فرنك، وهو المقدار المالي الذي اعتبره البعض في حينه بمثابة الشيك الذي دفع لسلطان الجهاد مقابل توقيعه على عقد الحماية، الشيء الذي نفاه المدافعون عنه حينما وضحوا أن المبلغ يدخل ضمن تنفيذ ما اتفق عليه من «إعطاء تسهيلات للسلطان لأداء ما تحمله جنابه بالخصوص من صوائر المحلات السعيدة أثناء الثورة».
وفي نفس الآن فوتت له الدولة الفرنسية بعض الأملاك في مراكش كالمامونية، أوغاطيم، وفي فاس عين الشيخ. بالإضافة إلى مجموعة من الشروط التي اشترط على أن تدون في عقد مكتوب، وتضمن مستقبل عائلته وفروعه، بما فيها ضمان معاش مناسب له، وحقه في التنازل عن العرش وتعيين وريث له.
«إن الذي يملك القوة يريد في الغالب أن يمارس السلطة من دون أن يقتسمها مع غيره». هذا ما كتبه مولاي عبد الحفيظ في «نفائح الأزهار في أطايب الأشعار» وهو يتنازل عن العرش، في سابقة من نوعها في تاريخ السلاطين العلويين، فقد قال لأحد الصحافيين الذين سألوه بعد التوقيع على وثيقة الحماية عن الأسباب التي جعلته يتخذ هذا القرار: «إنني لم أكن ولن أكون سلطان الحماية، إن الأمر سيكون مخالفا لسيرتي ولحاجتي للحرية والاستقلال. إنني لا أستطيع أن أنسى، وشعبي كذلك يتذكر أنني لم أتول العرش، ولم أبق فيه إلا لكوني قمت في مراكش مدافعا عن بلدي ضد كل تدخل أجنبي. إنني لا أستطيع أن أقبل العمل ضد ضميري، وألتمس بنفسي وضع القيد الذي ثرت ضده في رجلي». في هذا الخاص تذكير ببعض الأحداث السياسية التي رافقت الإعلان عن الاستقلال، وكيف استفاد الكثيرون من كعكته.
الأمير مولاي الحسن يتطلع إلى الـحكم مباشرة بعد الاستقلال
لم يكن الأمير مولاي الحسن يعتبر نفسه مجرد ولي للعهد. لقد ظل يشتغل إلى جانب والده سواء في المنفى أو بعد الحصول على الاستقلال، على أساس أنه هو نائب الملك الذي يجب أن تكون له رؤيته في تدبير شأن الاستقلال والاستفادة من خيراته، لذلك لم يكن متحمسا لحكومة عبد الله إبراهيم، التي وجد أنها لن تخدم مصالحه ولن تسهل مهمته في الوصول إلى الحكم، حيث سيقود حربا شرسة لإسقاطها دون أن تكمل سنتين من عمرها.
لقد حكى أحمد رضى اكديرة، مستشار الملك الراحل وصديقه، في كتاب «مغرب الحسن الثاني» بأن الأمير مولاي الحسن اعتبر تأسيس حكومة يسار برئاسة عبد الله إبراهيم تولى فيها بوعبيد منصب نائب رئيس الوزراء، خطرا».
وفي منتصف سنوات الثمانينيات سيزيد صديق الملك الراحل ومدير ديوانه في الشرح أن «الخطر كان يكمن في حكومة عبد الله إبراهيم»، على اعتبار أن الأمر يتعلق بحدث من أحداث عالم الخمسينيات والستينيات الذي كان خاضعا بقوة لتيار اليسار. «وبسرعة أظهرت التدابير الأولى لحكومة اليسار، على الصعيد الاقتصادي وكذا السياسي، نوايا أصحاب هذه التدابير وحوافزهم، مما جعل ولي العهد الأمير مولاي الحسن يشكل مجموعة قوية حوله، تتكون من الشخصيات الأكثر تمثيلية، وهي عناصر منتمية أو غير منتمية للأحزاب الأخرى. هكذا نظمت معارضة حقيقية أدت إلى سقوط حكومة عبد الله إبراهيم».
فما كان يعتبره اكديرة قرارات خطيرة على مستوى التدبير الاقتصادي والمالي لحكومة عبد الله إبراهيم، هو ما قاله عنه محمد الخامس في خطاب تدشين بنك المغرب يوم الخميس 2 يوليوز1959 «ويطيب لنا بهذه المناسبة أن ننوه بوزير اقتصادنا عبد الرحيم بوعبيد الذي ما فتئ يبرهن على كفاءته ومقدرته منذ أن أوليناه ثقتنا وأسندنا إليه تدبير ماليتنا، وتسيير سياستنا الاقتصادية». لذلك لم تكن الخلفيات التي حركت الأمير مولاي الحسن لدفع والده لقرار إعفاء عبد الله ابراهيم وإسقاط حكومته، غير طموح أميري بمعية بطانته لتولي شؤون البلاد.
وموازاة هذا الشق الاقتصادي لحكومة المرحوم عبد الله إبراهيم، كان هناك شق سياسي يشرحه احمد رضا اكديرة في نفس المؤلف حيث يقول، «إن التيار اليساري بالذات لم يكن إلا شكلا من أشكال رد الفعل ضد الامبريالية.. لذلك لم يختف التيار اليساري بما له من قوة ضاربة وبما كان عليه من تنظيم سياسي، وبما له من أنصار جد متمركزين وجد منظمين».
لقد نجح الأمير وهو يعد العدة لإسقاط الحكومة، بعد أن اعتمد في حربه على عدد من المقربين منه خصوصا من داخل حزب الإستقلال الذي وجد الفرصة مواتية لرد دين سابق. ولم يكن غريبا أن صحافة حزب الاستقلال هي التي تولت أمر الهجوم على كل ما كانت تحمله الحكومة من مشاريع. وشكلت أسبوعية «ليفار» التي أسسها أحمد رضا اكديرة ثم أسبوعية «الأيام» ما سيطلق عليه سياسيا بأدوات «حكومة الطابور الخامس» إلى درجة أن علال الفاسي الزعيم، ظل يكتب افتتاحيات «الأيام»، التي ستغلق صفحاتها مباشرة بعد أن سقطت حكومة عبد الله ابراهيم..
لقد نجحت حكومة «الطابور الخامس» في مهمتها، وهي التي كانت تتكون أساسا من الأمير مولاي الحسن، وصديقه أحمد رضا اكديرة، وأحمد الغزاوي، وإدريس المحمدي، وامحمد باحنيني وأحمد العلوي، والجنرال الكتاوي، والكولونيل أوفقير آنذاك وغيرهم كثير.ومما سهل مأمورية الحكومة الموازية أن ولي العهد الأمير مولاي الحسن، كان يشرف على القوات المسلحة الملكية ومختلف أجهزة الأمن والمخابرات. وقد كانت علاقاته متينة مع أغلب المتحكمين في الإدارة، إذ اخترقت صلاته كل دواليب الدولة، في حين لم يكن يحظى عبد الله إبراهيم، رئيس الحكومة إلا بدعم نسبي جدا من طرف حزب الاستقلال والنقابات والاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
كما لم ينس الأمير أن حكومة عبد الله ابراهيم، وفي مقدمتها وزير الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد، كانت قد رفضت أداء بعض الديون التي كانت قد تراكمت على الأمير وهو في باريس، حيث كان قد فتح مكتبا استشاريا لدعم القضية الوطنية خلال فترة المفاوضات حول الاستقلال.
فقد ظل ولي العهد الأمير مولاي الحسن يعتبر نفسه مهندس العودة من المنفى، ما جعل والده ينظر إليه نظرة أخرى. لذلك راح الأمير، بعد هذه الصفقة، يطالب بالرفع من مصروفه وهو وقتها في باريس بعد أن فتح في العاصمة الفرنسية مكتبا كان يجري من خلاله اتصالاته مع الجهات النافذة. وهو المكتب الذي كان عليه أن يؤدي أجور تلك الشخصيات السياسية والإعلامية والأمنية التي اشتغلت إلى جانب الملف المغربي.
لقد طلب محمد الخامس من وزراء حكومته أن يصرف للأمير مولاي الحسن ما يحتاجه لكي يستمر هذا المكتب في أداء مهامه، وإلا فسدت كل الأشياء التي كسبها المغرب. غير أن بعض الوزراء تحفظوا على الأمر حينما اكتشفوا أن ديون الأمير لم تكن، فقط بسبب هذا المكتب وأجور الأمن والمخابرات التي اخترقها، ولكن لأن الأمير الحسن دخل في جملة من الصفقات والامتيازات لفائدة شركات فرنسية وأمريكية. بالإضافة إلى أنه ظل يدعو من يشاء إلى المغرب من خلال رحلات نظمت لفائدة أصدقائه من النساء والرجال، ما رفع الكلفة عاليا. والحصيلة هي أن حكومة بداية الاستقلال ستكتشف أن ذلك «الصندوق الأسود» الذي ستصرف منه ديون ولي العهد، لم يكن يتوفر إلا على ثلاثين ألف دولار، وتلك كانت مجرد قطرة في بحر ديون الأمير.
معاهدة إكس ليبان تفتح شهية المستفيدين من الاستقلال
حينما اشتدت ضربات المقاومة المسلحة في مغرب، كان ملكه يعيش في المنفى، وبعد أن فشلت الإدارة الفرنسية في تنصيب ملك بديل حينما اختارت لهذا الدور محمد بن عرفة، كان لا بد من البحث عن صيغة لإنهاء هذا الاحتقان. لذلك كان الحل هو الترتيب لمعاهدة «إيكس ليبان»، والتي حضرها من الجانب المغربي ممثلون عن حزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال، وممثلون عن السلطان، وبعض قواد الاستعمار.
لقد دامت المفاوضات ثلاثة أيام حيث تم الاتفاق خلالها على رجوع محمد الخامس من منفاه بمدغشقر، وإعلان «نية» فرنسا منح المغرب «استقلالا» في 2 نونبر1955، على أن تكون تفاصيله محددة فيما بعد من الإعلان المشترك، والبروتوكول الملحق به في 2 مارس 1956. وبهذا الاتفاق، سيتم التنازل من طرف الإدارة الفرنسية عن قسط صغير من الثروات لصالح البورجوازية التي نشأت في حضنها بالبلد كي تستطيع تأمين الجزء الأكبر، وستسهر على بناء نظام سياسي على مقاسها.ولعل النجاح الفرنسي في هذه المهمة، هو الذي شجع الاستعمار الإسباني على توقيع اتفاق 2 أبريل 1956 مع محمد الخامس.
وتضمن الإعلان المشترك في ديباجته أنه موقع بين حكومة جمهورية فرنسا وسلطان المغرب محمد الخامس. وهذا كان له انعكاس مباشر في بنية النظام السياسي من البداية، بحيث سينص هذا الإعلان في أول نقطة على أن السلطة التشريعية يمارسها السلطان. غير أنه لم يكن استجابة كلية لمطلب الاستقلال، بل تجديد الاعتراف المتبادل بين السلطان والاستعمار. فإذا كانت معاهدة 30مارس1912 قد جاءت بطلب من السلطان بن يوسف العلوي بعدما حاصرته القبائل المجاورة لفاس، وأصبحت معظم مناطق البلاد خارج سيطرته، فإن إعلان 2 مارس 1956 نص على أن الفترة الفاصلة بين التاريخين، مرحلة أنجز من خلالها المغرب تقدما لم تعد المعاهدة المذكورة بعده صالحة لتنظيم العلاقات الفرنسية المغربية. هذا التقدم لا يعني في الواقع بالنسبة للطرفين سوى تدمير القوة العسكرية للقبائل المغربية ومقاومتها. وغياب التهديد الفعلي الذي كان قائما بالنسبة للنظام المركزي. ولا يعني سوى انتزاع أجود الأراضي المغربية بالقوة من طرف المعمرين والقواد الذين يدينون بالولاء للسلطان وللاستعمار في نفس الوقت. هذه الأراضي التي كانت تشكل مصدر قوة اقتصادية، حيث سيتملكها المعمرون بعد صدور قانون التحفيظ العقاري سنة 1913. هذا التقدم لا يعني كذلك سوى بناء الطرق المعبدة والسكك الحديدية التي تصل الموانئ بمختلف مواقع استخراج الفوسفاط وباقي المعادن الطبيعية. ومواقع استغلال الثروة الغابوية لتأمين استنزاف هذه الثروات لصالح المستعمر. لهذا فوثيقة تعترف بشرعية معاهدة استعمارية لا يمكن أن تجلب الاستقلال. فهذا الإعلان المشترك لا يعدو كونه وثيقة استعمارية جديدة، مهدت لاتفاقات جديدة لاستغلال البلد. وكما جاء في نص الإعلان المشترك، فإن مفاوضات ستجمع في باريس بين المغرب وفرنسا هدفها توقيع اتفاقيات جديدة لتنظيم العلاقات بين البلدين في مجالات المصلحة المشتركة أساسا كالدفاع، والعلاقات الخارجية، والاقتصادية، والثقافية. والتي تضمن حقوق وحريات الفرنسيين المقيمين في المغرب والمغاربة المقيمين في فرنسا.
لذلك فحينما ستأتي حكومة عبد الله ابراهيم، ستتضح الصورة أكثر حيث شكلت هذه المعاهدة وما تضمنته من إجراءات، بداية استفادة البعض من كعكتها. ولذلك ستضع هذه الحكومة ضمن أولى الأولويات إعادة النظر في الكثير من شروط هذه المعاهدة.
وزاد نص الإعلان المشترك أنه خلال الفترة الانتقالية، وفي انتظار توقيع الاتفاقيات الجديدة بين الطرفين وبناء المؤسسات الجديدة، لن يتم المس بوضعية الجيش الفرنسي، وأن الجيش الذي سيتوفر عليه سلطان المغرب سيتم تشكيله برعاية فرنسية. أما الفقرة الأولى من البروتوكول الملحق، ففرض من خلالها الاطلاع على جميع مشاريع الظهائر والمراسيم من طرف ممثل فرنسا بالمغرب لأجل وضع ملاحظاته على النصوص لما يتعلق الأمر بالمس بمصالح فرنسا والفرنسيين أو الأجانب خلال الفترة الانتقالية.
في نفس الوقت الذي وقع فيه الطرفان الفرنسي والمغربي على الإعلان المشترك والبرتوكول الملحق، سترفع حكومة مبارك البكاري الأولى أربع رسائل تحمل طلبات لنظيرتها الفرنسية. كانت الرسالة الأولى تطلب من الحكومة الاستعمارية الفرنسية الاستمرار في تسيير العلاقات الخارجية للمغرب، وتمثيل وحماية المواطنين المغاربة ومصالحهم في الخارج، في انتظار الاتفاق على إجراءات جديدة.
وتفعيلا لبنود «اكس ليبان»، ستواصل فرنسا تنظيمها لجلسات المحاكمة لأعضاء المقاومة وجيش التحرير الذين رفضوا تسليم السلاح. وستبني المخافر السرية والعلنية كدار بريشة، ودار المقري، لإعدامهم ودفنهم. لذلك يعتبر الكثيرون أن ما جاءت به معاهدة «إكس ليبان» كان بمثابة بداية استفادة أولئك الذين حضروا أشغالها، وصادقوا بعد ذلك على كل الشروط التي جاءت بها الإدارة الفرنسية.
علال الفاسي يسقط حكومة الوطنيين للاستفادة من خيرات الاستقلال
في بحر سنة 1958، سيترأس الملك محمد الخامس بالقصر الملكي مراسيم تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم، والتي لم تعمرغير سنة وخمسة أشهر. قبل أن تتم إقالتها يوم الخميس 19 ماي 1960 .
لكن قبل هذا الموعد، كانت أزمة حكومة بلافريج قد وضعت البلاد الخارجة على التو من محنة الحماية، في المحك. لذلك سعى محمد الخامس إلى إيجاد حل سريع ونهائي.
فقد حاول أن يعجل بحل الأزمة الوزارية حينما استدعى الزعيم الاستقلالي علال الفاسي ليكلفه بتشكيل حكومة بديلة لحكومة بلا فريج. وفي الوقت الذي راح علال الفاسي يعد لائحة وزرائه، تحرك بعض الاستقلاليين ليقولوا للملك ما مفاده إن «حكومة علال لا يوافق عليها كل الاستقلاليين».
لم يستسغ علال الفاسي هذا الأمر، وهو الذي كان يعد العدة ليتولى رئاسة الحكومة. لذلك سيختار الاستقرار في طنجة، فيما يشبه المنفى الاختياري. فعهد محمد الخامس إلى شيخ الإسلام بمهمة الاتصال بالمرحوم عبد الله إبراهيم، والفقيه البصري والمحجوب بن الصديق. فيما تولى نفس المهمة كل من الفقيه عواد وعبد الرحمن بن عبد العالي، لإقناع عبد الرحيم بوعبيد.
قبل عبد الله ابراهيم بالمهمة حينما ظلت جملة الملك محمد الخامس ترن في أذنه وهو يخاطبه فيما يشبه التهديد «إما أن تقبل بتشكيل الحكومة، وإما أن أغادر نهائيا نحو مكة أو المدينة لأمكث هناك مبتعدا إلى أن يقبض الله روحي».
ظل عبد الله ابراهيم متشبثا بضرورة بقاء عبد الرحيم بوعبيد وزيرا في حكومته، بالإضافة إلى المهدي بن بركة، الذي كان هو الآخر مرشحا لرئاستها، قبل أن تقترح عليه وزارة التعليم العمومي، في محاولة لإبعاد قادة حزب الاستقلال الذين ينتمون لتياره التقليدي.
غير أن الأمير مولاي الحسن سيرفض أن يتولى بن بركة هذه المهمة. ليتم إسنادها في آخر ساعة لعبد الكريم بن جلون، وهو الذي كان يتولى وزارة العدل في حكومة مبارك البكاي الأولى والثانية، وظل في نفس المنصب في حكومة بلافريج. إلا أنه رفض البقاء في وزارة العدل مع حكومة عبد الله إبراهيم. كما رفض عبد الرحمن اليوسفي هو الآخر حقيبة وزارة العدل، ليتم إسنادها إلى الحاج امحمد باحنيني مع احتفاظه بمنصب أمين عام للحكومة.
في ظل هذه الأجواء تم تنصيب الحكومة التي ترأسها في النهاية عبد الله إبراهيم، خصوصا وأن ثلاثة من زعماء الجناح اليساري في حزب الاستقلال كانوا مرشحين لتولي رئاستها. فإلى جانب عبد الله إبراهيم، كان عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة مرشحين لهذا المنصب. ولكن الأمير مولاي الحسن اتفق مع المحجوب بن الصديق على التعجيل بطرح اسم عبد الله إبراهيم كرئيس للحكومة وهذا ما حصل في النهاية.
كانت أولى الخطوات التي سارت عليها حكومة عبد الله ابراهيم، هي إصلاح حال الاقتصاد الوطني المتضرر من كل سنوات الحماية. لذلك سيتخذ عبد الرحيم بوعبيد، الذي أصبح نائبا لرئيس الحكومة ووزيرا للإقتصاد والمالية، جملة من القرارات التي اعتبرت شجاعة في حينها ومنها الإعلان عن فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي. كما سيتحول البنك المخزني إلى بنك المغرب. وسيتم إنشاء صندوق الإيداع والتدبير، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، والبنك الوطني للإنماء الاقتصادي، والمكتب الوطني للري، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومكتب الأبحاث والمساهمات الصناعية. كما وقع الاتفاق مع الإيطاليين لبناء مصنع تكرير البيترول «لاسمير». وغير ذلك من القرارات التي مهدت للإعلان عن إجراءات هدفها التحرير الاقتصادي لبلادنا. وهي الإجراءات التي ستعرف بقرارات 22 أكتوبر1959، وهي قرارات تزامنت مع صدور ظهير شريف أعلن عن تأسيس الدرهم كعملة وطنية غير قابلة للتحويل.
لقد قال عبد الرحيم بوعبيد عن قرارات 22 أكتوبر1959 : «إن عهد الاستقلال يتطلب منا أن نتحرر من التبعية وأن لاننساق وراء عجلة نظام كانت قراراته المهتمة باقتصادنا يتم اتخاذها خارج المغرب، ودونما مراعاة لظروف المغرب النوعية. ولا يمكن لأي تعاون دولي صحيح أن يزدهر ويكتسي مدلوله الحقيقي إلا إذا كان كل من يساهم فيه، يبذل جهوده بوسائله الخاصة قبل كل شيء. وهذا شرط أساسي لقيام علاقات الاحترام المتبادل بين الدول المستقلة. لهذا نحن الآن في سياق سياسة اقتصادية ونقدية مستقلة».
كانت هذه واحدة من الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها حكومة عبد الله إبراهيم في مستهل عملها. لكن يبدو أن ذلك سيغضب بعض النافذين في الدولة الذين رأوا أن أفكار عبد الله ابراهيم ووزيره في الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد يسارية، وفي حاجة لمن يوقفها عند حدها لكي لا يلتف حولها الشعب المغربي ويؤمن بها. كما سيقود علال الفاسي رفقة بعض القادة الاستقلاليين معركة للمساهمة في إسقاط هذه الحكومة بعد أن وجدوا أنهم خارج الحساب، وأنهم لن ينالوا شيئا من كعكة الاستقلال التي ناضلوا من أجلها.