بقلم: عبد الحفيظ الشريف*
بتقدم العلم وتطوره وبانعكاساته على الفلسفة، بدأ الإنسان يستشعر حرية أكبر في تعامله مع الطبيعة والكون من حوله وسيطرته التدريجية على موضوعاته ومجهولاته. وبدأت تتقلص تدريجيا في وعي الإنسان تلك التطلعات الى القوى ما فوق الطبيعية – الميتافيزيقا- التي تتحكم في القدر والتصريف في كل شيئ، فهذه الأخيرة لم تعد مسؤولية لة عن الكوارث والزلازل والأعاصير والجفاف والحروب والزرع والضرع. بل أصبح الأنسان سيد مصيره ومالك أمره. وأصبحت مراكز البحث والتخطيط ومختبرات العلم هي دورالعبادة الجديدة.
هذا ما يسمى بثورة العصر العلمية التي تكونت أوربا ضمنها منذ بداية القرن السابع عشر. إنها تتضمن تصورا كونيا جديدا بدأت صياغته منذ نيوتن، ثم مضى في دروب التطور مستكملا باقي الحلقات في فروع المعرفة العلمية الأساسية، وصولا الى صياغته الماركسية، فبدءا من القرن الخامس عشر ظهرت بعض التحولات في أوربا الغربية، التي أدت الى قيام حركة ضخمة من الثورات الفكرية و الإجتماعية إنعكست نتائجها على أوربا كلها و على العالم بأسره، وقد أطلق على مجمل هذه الحركة بكل ما رفقها من أحداث، كالإصلاح الديني، والثورة الصناعية، وإنتزاع زعامة العالم القديم من العرب والمسلمين، والثورتين الأمريكية والفرنسية، وقيام الدول القومية وغير ذلك إسم "النهضة الأوربية". فقد أفادت أوربا والعالم الغربي عموما من علوم السابقين ولا سيما العرب والمسلمين الذين كانوا سدنة العلم والثقافة والحضارة في العصور التي سبقت هذه العصور، كما أن العرب بلا ريب أو شك قد أفادوا من علوم الإغريق وغيرهم، لذا فقد توفرت لأوربا ظروف خاصة، إضافة الى وراثتها لعلوم السابقين ومنجزاتهم الثقافية والحضارية، كما كانت توفرت للعرب والمسلمين ظروف خاصة قبل ذلك وللإغريق قبل العرب. ويبدو أن التراكمات الحضارية كانت قد بلغت درجة عالية، فعندما وجدت الظروف الملائمة تحولت الى حركة نوعية هائلة كانت بداية لمرحلة جديدة لها خصائصها المميزة،
الفوارق بين العالم الحيث والعالم القديم
يروي "بول هازار"،أحد كبار مؤرخي الفكر في فرنسا، قصة ذلك الصراع الدامي الذي شهدته العصور الوسطى، والذي ولد مفهوم الغرب بالمعنى الحديث للكلمة بقوله: "لقد جاء فلاسفة عصر التنوير، لكن المكان لم يكن شاغرا، فهؤلاء المتحمسون الجريئون وجدوا أمامهم تصورا عن الحياة، كان سائدا منذ ثمانية عشر قرنا ومختلطا بحضارة أوربا، فقد كانت المسيحية مألوفة لدى الناس منذ ولادتهم، كان أول شيء يتعرفون عليه منذ طفولتهم وكانت تصهرهم وتربيهم وتثقفهم، وتتحكم بكل عمل كبير من أعمال وجودهم، وتؤرخ للفصول، والأيام، والساعات، و تحول موتهم الى خلاص، وفي كل مرة كانوا يرفعون فيها رؤوسهم الى أعلى، كانوا يرون فوق كنائسهم ومعابدهم نفس الصليب الذي كان قد إرتفع في الجلجلة. كان الدين جزءا لا يتجزأ من أرواحهم ويتغلغل الى أعماقهم إلى حد أنه كان يختلط بكينونتهم العميقة. كان يريدهم كلهم، ولا يقبل أبدا أن تشاطره إياه أية سلطة أخرى، كان شعاره : من ليس معي فهو ضدي، كان الإيمان المسيحي يقول بأن العقل يقودنا شوطا ما في مجال المعرفة، ولكنه يتوقف عند نقطة معينة وينتهي دائما بالإصطدام بسيد ما، بمجهول ما، عنذئن يكون أفضل معين لنا، هو أن نضع ثقتنا بعقل أعلى سيساعدنا ويتيح لنا يوما أن نخترق الحجاب الذي بين عيوننا وبين الحقيقة المطلقة، هذا في حين أن الفلاسفة كانوا يضعون ثقتهم كلها في عقل بشري محض... وبالتالي فالصراع بينهما كانا محتوما، صدام مروع لم يسبق له مثيلا. كان الصراع عميقا يستهدف قطع الشجرة الأم من جذورها"1.
آثرت أن أنقل النص السالف على الرغم من طوله، لكونه يعكس حقيقة الصراع الذي سيطفو على ساحة الفكر الأوربي، طيلة عقود من الزمن، صراع بين سلطتين متباينتين، سلطة روحية تستمد أسسها و مقوماتها من نظريات ورؤى ماورائية مقدسة، وسلطة زمنية تؤثر سلطة العقل على ماسواها من السلط، ذلك ماجعل من هذا الصراع حتمية وضرورة تاريخية لامحيد عنها، فهما ضدان لايجتمعان وعدوان لا يتصالحان وكل منهما يسعى الى تدمير الآخر، يقول" إميل بوترو":" إن أمر العلاقات بين الدين و العلم حيث يراقب في ثنايا التاريخ يثير أشد العجب، فإنه على الرغم من تصالح العلم والدين مرة بعد مرة، وعلى الرغم من جهود أعاظم المفكرين التي بذلوها ملحين في حل هذا المشكل حلا عقليا، لو يبرح العلم والدين قائمين على قدم الكفاح، ولم ينقطع بينهما صراع يريد به كل منهما أن يدمر صاحبه لا أن يغلبه فحسب. على أن هذين النظامين لا يزالان قائمين، و لم يكن مجديا أن تحاول العقائد الدينية تسخير العلم فقد تحرر العلم من هذا الرق وكأنما إنعكست الآية منذ ذلك و أخذ العلم ينذر بفناء الأديان ولكن ألأديان ظلت راسخة وشهد بما فيها من قوة الحياة عنف الصراع".2
إن هذين النصين، يحملان أكثر من دلالة، بيدأن الذي يهمنا في هذا المقام تجسيدهما لطبيعة الصراع بين النسقين الفكريين العلمي والديني، تلك الازمة التي انتهت باقصاء النسق الديني من مجال الحياة وحصره داخل جدران المعابد، وطرده من مجال النظر العقلي الى مجال الإحساس والشعور، وهذا المقطع يثير في أنفسنا التساؤل عن مصدر عنف هذا الصراع والدافع إلى تحرر العلم من هذا الرق الذي فرضه الفكر الديني، وطبيعة الدين الذي استهدفته هذه المقاومة.
كان تفكير الكنيسة يتجه اتجاها معاكسا للحقيقة وظل موغلا في ميتافيزيقيا عقيمة ومزيفة، وقد بدت ملامح الانحلال والتفسخ على محيا الكنيسة الكاثوليكية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. يقول "برينتون":" يجب أن تسجل حقيقة مؤداها أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذاتها تعرضت في القرن الرابع عشر والخامس عشر بخاصة، لضغوط وليدة زمن القلاقل والاضطرابات والذي أصبح منذ ذلك الحين علامة لبداية إنحدار ثقافة العصر الوسيط، فمثلما أسرفت عمارة الكنائس في زينتها وزخرفها تطبيقا لأسلوب الفن القوطي الدي أوشك على الإنهيار، كذلك أسرفت حياة الكنيسة في الإنغماس في الدنيا و زينتها و أضحت أكثر تدهورا، وفقدت توازنها الدقيق الذي عهدته في عصر القديس "توماس الإكويني." 3
فهكذا، وبنظرة أعمق نستطيع القول أن ما يميز العالم الحديث عن العالم القديم ويرسم بينهما حدودا دقيقة هو وجود العلم الحديث. العلم ولا سيما العلوم الطبيعية، مثل هذا المخلوق وبهذه السمات لم يكن قد ظهر الى مسرح الحياة في العالم القديم. والعلم هنا ليس أي ضرب من ضروب المعرفة بل هو تلك المعرفة القائمة على التجربة الحسية وعلى الوقائع المادية الملموسة، وغير الموافق الإيديولوجية والدينية التي قوامها الإيمان لا العلم بالمعنى الضيق. وهذا العلم في الواقع العامل الأساسي الذي ساهم في عملية التغير الإجتماعي المتواصلة. فمنهجية عملية التغيير قائمة على منهجية العلم، فإذا كانت منهجية العلم قائمة على وضع فرضيات مؤقتة قابلة للتغير وفق قواعد معينة، فإن ما يترتب على هذه المنهجية العلمية من تغيير دائم و نتائج متجددة ينعكس على الحياة الإجتماعية بأسرها. يضاف الى ذلك أن الحركة العلمية تقرض مناخا من الحرية لا تقوم للعلم قائمة بدونها.
لأجل رسم صورة أدق و أشمل، أود هنا إضافة عنصر آخر، الا و هو العلوم الإجتماعية. إن العلوم التجريبية الطبيعية لم تكن وحدها التي غابت عن لائحة عناصر العالم القديم ومكوناته، بل والعلوم الإجتماعية أيضا كانت غائبة هي الأخرى. لم يكن في الماضي علم اجتماع أو علم نفس، أو علم إقتصاد، أو علم إنسان، بالمعنى الحديث للكلمة، ربما نسمع أن إبن خلدون أسس علم إجتماع إسلامي، أو علم الأجتماع بصفة عامة، بيدأن الحكم في حقيقته على جانب كبير من التسامح، وربما إبتعد عن الصواب أكثر مما إقترب منه. العلوم الإجتماعية بالمعنى الأصلي للكلمة من الظواهر الجديدة في هذا العالم. الرؤية السوسيولوجية والسايكولوجية بالمعنى التجريبي الحديث للكلمة كانت غائبة عن العالم القديم. وإذا، حينما نعتبر العلم الحديث السمة المميزة للعالم المعاصر، ينبغي إضافة العلوم الإجتماعية الى لائحة العلوم التجريبية والطبيعية، وستشكل هذه المجموعة توليفة على جانب كبير من الأهمية.
تشكل العقل الحديث
ولما كانت هذه هي وضعية العصر الوسيط، فإن برتراند راسل1872 -1970 يحدد أربع حركات تحدد معالم فترة الإنتقال التي إمتدت منذ وقت تراجع العصور الوسطى إلى غاية القرن السابع عشر، فسنعمد الى الوقوف عند كل مرحلة على حدى.
إن أول مرحلة تستوقفنا، هي النهضة الإيطالية التي تزامنت والقرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، وما عرفته من بروز كبار الفنانين والأدباء و على رأسهم، "دانتي" الذي كان على الرغم من أنه كان لايزال متأثرا بعمق بطرق التفكير السائدة في العصور الوسطى، فإنه إستطاع بإعتماده اللغة الشعبية، تلك الأداة التي جعلت الكلمة المكتوبة متاحة للإنسان العادي غير الملم باللغة اللاتينية، وبظهور كتاب مثل "بوكاشيو" و"تبرارك"،أن يحدث ثورة تكمن في العودة الى المثل العليا الدنيوية، والى الإهتمام بثقافة القدماء الدنيوية، وظهر ذلك بجلاء في جميع الفنون والعلوم، وكان يمثل ذلك خروجا على التراث الكنسي السائد في العصور الوسطى.
يقول "برتراند راسل":" لقد أصبحت لحركة النهضة في إيطاليا، وهي البلد الذي كانت فيه آثار الحضارة القديمة تقدم رموزا للعصور الماضية، ركيزة أقوى مما أصبح لها فيما بعد في البلاد الواقعة شمال الألب".4
ولقد كانت مدينة فلورنسا من أهم المدن الإيطالية التي حملت لواء النهضة، فلم يسبق لأية مدينة بإستثناء أثينا، أن أنتجت مثل هذه الكوكبة اللامعة من الفنانين والمفكرين، إذ كان "دانتي" و"مايكل أنجلو" و"ليوناردو دافنشي" وغيرهم كثيرون من أهل فلورنسا و "جاليليو جاليلي" فيما بعد.
يبدو من خلال ماأسلفنا ذكره، أن العصور الوسطى كانت عصورا دينية، وبهذا فإن عصر النهضة كان يعني على الأقل محاولة العودة الى ما هو وثني أو لاديني، وإن لم يكن زندقة وإلحادا. ألا ينبغي حينئذ ربط فنون العصور الوسطى بالكنيسة، وفنون عصر النهضة بالحرية البوهيمية التي لا تقيم وزنا للأعراف والتقاليد. تلك هي الخلاصة التي نخلص إليها من خلال تأمل بعض أشكال الفنون التي سادت في المرحلة التي عمت العصر الوسيط.5
والمحطة الثانية التي تستوقفنا في صدد التأريخ لمرحلة الإنتقال من العصر الوسيط الى العصر الحديث، بروز حركة إصطلح عليها بإسم نزعة الأنسنة أو الإنسانية.
يرى "برتراند راسل" بأن النزعة الإنسانية كانت ثاني العوامل الكبرى الجديدة المؤثرة في هذه الفترة، فإذا كانت النهضة قد أثرت تأثيرا مباشرا في النظرة العامة الى الحياة، فإن الحركة الإنسانية هذه إقتصر تأثيرها على المفكرين و الباحثين. يرى أحد الباحثين أن النزعة الإنسانية كانت أشبه بعباءة تطوي تحتها كل من كانت له نظرة الى العالم اللاهوتية أساسا، و لاهي عقلانية في المقام الأول، فبحسب هذا الإستعمال لن يكون ضروريا على الإطلاق النظر الى النزعة الإنسانية بإعتبارها موقفا وسطا بين غيبيات الدين من جهة وبين العلوم الوضعية من جهة أخرى، هذا على الرغم من أن النزعة الإنسانية كانت في حالات كثيرة تمثل تماما هذا الموقع الوسط، ولقد ذهبت هذه الحركة إبان هذه القرون الاولى من العصر الحيث مذهب نبذ عادات الفكر الوسيط، والمثل العليا لهذا العصر بخاصة، وقد إعتبر الداعية الى النزعة الإنسانية متمردا عظيما ضد نظرة العصور الوسطى الى الكون دون أن تكون له نظرة واضحة خاصة عن الكون والإنسان والطبيعة6.
والحركة الإنسانية أو الإنسانيون مصطلح له إستعمالات فضفاضة جدا، على نحو لايتلاءم مع مؤرخي الفكر، ويتضح هذا بخاصة، حيث يمكن أن يكون- الإنساني- رجل دين يسعى لغرس دعوته دون إلتزام ديني محدد، وهو مصطلح أيضا يفي بالافراط في الإقبال على العلوم الطبيعية، والإيمان بأن الإنسان اسمى من الكائنات الأخرى، لكنه يظل أدنى مرتبة من الإله7. وبذلك يكون الإنسانيون قد خلفوا أعمالا فنية خالدة لا تبلى مع الزمن، وأدوا دورهم في تدمير إتجاهات العصور الوسطى، كما قاموا بدور مهم في صياغة النظم والأسس والقوانين الأولية لبناء منظومة الدولة الإقليمية الحديثة.
ومن المتعارف عليه أن حركة الأنسنة هذه قد عاصرت موجات الإصلاح الديني، الذي اتى بها كل من "لوثر" 1413-1546 و "كالفن" 1509-1564 و"شبينوزا" 1632-1677، هذا الأخير الذي يرى أن النص المقدس لا يعد مطلقا أو إلهيا بمعنى تقديس حرفيته أو الإعتقاد أن نصوصه لم تحرف أو تغير عبر الزمن، أو أن الكلمات التي استخدمت للتعبير عن الفكرة نفسها تبدلت، بل المقصود هو أن الشريعة، بغض النظر عن الكلمات، هي كلام الله حينما تتخلص من هذه الوصية"8.
أما التطور الرابع، فقد نشأ مباشرة عقب إحياء الدراسات العلمية الوضعية والتجريبية، ذاك الإحياء الذي إستهلته حركة النقد عند "أوكام"، وخلال القرنين التاليين حدث تقدم هائل في مشارب علمية مختلفة، من أهمها، إعادة إكتشاف نظام مركزية الشمس على يد "كبرنيكوس"، وقد طبع الكتاب الذي عرض فيه هذا الكشف سنة 1543، ليطرح ثبات الأجرام السماوية الكبيرة ودوران الصغيرة من حولها، ونسبة المشاهدة الحسية من الأرض، ومنذ القرن السابع عشر أحرزت العلوم الفزيائية والرياضية تقدما سريعا. يذهب أحد الباحثين المعاصرين الى القول، بأن تحولات هامة حدثت في هذه المرحلة من تاريخ الفكر الأوربي، خاصة التحولات المهمة والاساسية التي حدثت في ميادين العلوم الدقيقة، التي تمثل الثورة العلمية، هذه التحولات لم تأتي من فراغ"9، وبعبارة أخرى فإنه لم يكن بإمكان تلك التحولات أن تحدث لولا بعض الأحداث الأساسية، ونتساءل فيما إذا كان بإمكان ثورة علمية أن تحدث في القرن السابع عشر، لو ظل مستوى العلم * في أوربا الغربية على ماكانت عليه الحال في النصف الأول من القرن الثاني عشر، أي قبل التحولات العلمية التي حدثت كنتيجة من نتائج حركة الترجمة الكبرى التي تمت من اللغتين الإغريقية والعربية الى اللغة اللاتينية القديمة التي بدأت حولي العام 1150 و إستمرت الى غاية القرن الثالث عشر الميلادي.
لقد ظهرت الثورة العلمية أول ما ظهرت، في علم الفلك، وعلم الكون، والعلوم الطبيعية، ذلك بأن برز علماء كبار، كأمثال "كبرنيكوس" في روما، الذي أعلن نظرية حول مركزية الشمس حوالي سنة 1500 ، وإن لم يدعمها بحجج قوية، إذ أن المناخ الفكري الذي ظل سائدا آنذاك لا يسمح بإعلان مثل هذه الفرضيات، فالناس تتمسك بالقديم، والنظريات التي كانت سائدة تقتصر على ما ورثه الخلف من السلف، آراء الكنيسة وتعاليم الكتاب المقدس كانت هي دستور الحياة والفكر،ولقد ظل كوبرنيكوس عاجزا عن التصريح بنظريته مدة ثلاثين عاما، هكذا سارت الأمور الى غاية 1616 حين ثارت ثائرة الكنيسة عندما آمن "غاليليو غاليلي" 1564-1642 بنظرية "كوبيرنيكوس "حين علمت الكنيسة أن الامر لا يتعلق بنزوة فكرية، إذ أدرك حراس العقيدة بسرعة فائقة معنى إكتشافاتهم وتأثيرها الثقافي والنفسي في المؤمنين بالعقيدة، كما أدركوا أنها تقدم مقولات علمية بديلة عن مقولاتهم في العقيدة لمن يتمسك بها باعتبارها تفسيرا للظواهر غير علمي بطبيعته، فـ "غاليليو" يرى من خلال المجهر المكبر جبال القمر ووديانه وأقمار المشتري الأربعة ويدرس قانون حركتها، وقد درس الأمر بعناية فائقة وإستعمل المنظار المقرب التلسكوب لبحثه ودراسته، فثبت له بعد ذلك أن ما قال به "كوبرنيكوس" صحيح وأن الفرضية أضحت حقيقة واقعة، حينئذن أدركت الكنيسة أن خطرا داهما يحدق بها، فبادرت الى التصدي لأفكار العلماء بشدة، وحرمت تداول كتاب كوبرنيكوس، ولقد بلغ فعل الكنيسة أقصاه عندما أعلنت تعض صاحبة للعنة والمطاردة.
هكذا بدت كيفية عملية الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة على أتباعها واضحة للعيان، وظلت كل نظرية جديدة، بموجب الكنيسة بدعة، وكانت كل مخالفة لتعاليم الكتاب المقدس كفرا وإلحادا وتجديفا بحق الله وتعاليم السماء، فلا يحق لأي فرد يظن أنه قد أدرك شيئا جديدا، وأن يعمل فكره في مجرى الأمور، أو ان يعلن رأيا مخالفا للموروث بل عليه أن يسلم بالقديم حتى لو لم يكن يتلاءم والحقائق10، لذا يمكن القول أن أفكارا عظيمة ظلت حبيسة عقول أصحابها، ولم يكتب لها أن ترى النور وأن تشيع بين عامة الناس، لأن الناس ما فتئوا يعتقدون أن الماضي يحمل بين طياته سمات الأبدية والخلود. بيدانه في مراحل لاحقة بدأت النظريات العلمية الجديدة تحضى بالإهتمام من قبل العلماء، وتكتسب جماعات من المناصرين، على الرغم من طغيان سلطات الكنيسة، ولقد بلغ تأييد نظرية كوبرنيكوس حدا سار فيه كثير من العلماء الى الجهر علانية بصحتها وبكنها حقيقة علمية لا مفر منها.
تلك هي بدايات عصر النهضة والمرتبطة بالمذاهب الإنسانية، التي مضت تعمق فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية، ولكن تلك البدايات حائزة القاعدة الكافية من المنجزات العلمية والتطور المعرفي العلمي الإستقرائي، فإنصبت جهودها على التفكيك ليأتي التركيب في مراحل لاحقة حين استكمال هذه العقلية الجديدة لشروطها، ولهذا تميز القرن السادس عشر بفوضى لاحدود لها، حين إنحلت الروابط الدينية والعائلية والإجتماعية فنشأت الحروب وتعددت الفلسفات.
عبر التطور من القرن السادس عشر الى القرن العشرين، تعمقت تدريجيا مناهج البحث العلمي، كذلك بدات تتأكد القطيعة المعرفية على المستوى الفلسفي بداية بوضعية أوغست كونت، إلى أن اكتشفت أوربا نفسها في براثن الجدل المادي الدياليكتي كنتاج حتمي لتجربتها في في إطار إحداثها للقطيعة المعرفية مع اللاهوت والميتافيزيقيا، ومع تطور إنجازاتها العلمية وتطوير مناهجها المعرفي. ثم بقيت الحضارة الغربية تصارع نتائج تجربتها القلقة.
هذه جملة العوامل التي ساهمت في نقل أوربا من العصر القديم عصر الدين الى العصر الحديث عصر العلم، أو ما أصطلح عليه بعصر الأنوار، بيدأن هناك عوامل أخرى ساهمت أيما مساهمة في تغيير شخوص خشبة المسرح الأوربي، لم نأتي على ذكرها، كتطور الحياة الصناعية والإقتصادية في أوربا و بروز مفكرين و سياسيين تنويريين ك"ميكيافيلي" و"هوبس" و"مونتسكيو" وغيرهم وبروز فلاسفة عظام ك"ديكارت" و"ليبنتز" و"كانط" و"هيغل" و"نيتشه" و"ماركس" وغيرهم، كل هذه العوامل جعلت أوربا تعتبر العصور القديمة الى غير رجعة، فاتحة آفاقا جديدة هي تلك التي ستفرز لنا الغرب بمفهومه الحديث.
نخلص في الأخير، بعد هذا العرض الموجز لمجريات الأحداث في أوربا الى أن الفكر الأوربي الحديث هو عبارة عن سلسلة من المراجعات لتراثها بإعتباره فكر الماضي وفكر الحاضر معا، فلا يمكن عزل الماضي عن الحاضر. و لقد تاتى هذا للفكر الأوربي بفضل القراءة وإعادة القراءة المتجددة لتاريخه على أساس من الإتصال والإنفصال، من النظر وإعادة النظر، من النقد ونقد النقد. إن الإنفصال عن التراث في تاريخ الفكر الأوربي كان من أجل تجديد الإتصال معه، والإتصال من أجل تجديد الإنفصال عنه11. لذا فإنه من اللازم اللازب القول بأن للنقد لائحة من الفضائل والإيجابيات، يرشح عنه تطور الفكر، وتقدم العلوم، وتصحيح المسار، وتفتح البصائر.
بكلمة إن الفكر الأوربي كان ولا يزال يتجدد من داخل تراثه وفي ذات الوقت يعمل جاهدا على تجديد هذا التراث، عن طريق إعادة بناء موارده القديمة وإغنائه بمواد جديدة، وهكذا إستطاع الأوربي أن يعيد خلال القرون الأخيرة كتابة تاريخه الحضاري العام بمختلف جوانبه بصورة تجعل من هذا التاريخ نسقا يعبر عن تراكمية للأحداث في إتجاه النهضة والتقدم.
*باحث مغربي في تاريخ الفكر مقيم بمدينة أمستردام الهولندية
الهوامش:
1-هاشم صالح،سؤال التنوير، مجلة الوحدة العدد 81 يونيو 1991 ، السنة السابعة ص 8-91
2-محمد محمد أمزيان، منهج البحث الإجتماعي بين الوضعية و المعيارية ص 12-13 ، بيت الحكمة للطباعة و النشر، وجدة2
3- كرينتون برينتون، تشكيل العقل الحديث، ت شوقي جلال و صدقي حطاب ص 24 ، سلسلة عالم المعرفة العدد 82
4 - برتراند راسل، حكمة الغرب، ت فؤاد زكريا ج2، ص 72 ديسمبر 1983، منشورات المجلس الوطني للثقافة و الفنون والآداب، الكويت
5- برتراند راسل، المرجع نفسه
6- كرينتون برينتون، المرجع نفسه
7 -كرينتون برينتون، المرجع نفسه
8- عزمي بشارة، الدين و العلمانية في سياق تاريخي، الجزء الأول، الطبعة الأولى،المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، 2013
9 - برتراند راسل، مرجع نفسه
10- عبد الله العمر، ظاهرة العلم الحديث: دراسات تحليلية و تاريخية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، الكويت، عدد 69، سبتمبر 1983
11 - محمد عابد الجابري، إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث، ص 48
بتقدم العلم وتطوره وبانعكاساته على الفلسفة، بدأ الإنسان يستشعر حرية أكبر في تعامله مع الطبيعة والكون من حوله وسيطرته التدريجية على موضوعاته ومجهولاته. وبدأت تتقلص تدريجيا في وعي الإنسان تلك التطلعات الى القوى ما فوق الطبيعية – الميتافيزيقا- التي تتحكم في القدر والتصريف في كل شيئ، فهذه الأخيرة لم تعد مسؤولية لة عن الكوارث والزلازل والأعاصير والجفاف والحروب والزرع والضرع. بل أصبح الأنسان سيد مصيره ومالك أمره. وأصبحت مراكز البحث والتخطيط ومختبرات العلم هي دورالعبادة الجديدة.
هذا ما يسمى بثورة العصر العلمية التي تكونت أوربا ضمنها منذ بداية القرن السابع عشر. إنها تتضمن تصورا كونيا جديدا بدأت صياغته منذ نيوتن، ثم مضى في دروب التطور مستكملا باقي الحلقات في فروع المعرفة العلمية الأساسية، وصولا الى صياغته الماركسية، فبدءا من القرن الخامس عشر ظهرت بعض التحولات في أوربا الغربية، التي أدت الى قيام حركة ضخمة من الثورات الفكرية و الإجتماعية إنعكست نتائجها على أوربا كلها و على العالم بأسره، وقد أطلق على مجمل هذه الحركة بكل ما رفقها من أحداث، كالإصلاح الديني، والثورة الصناعية، وإنتزاع زعامة العالم القديم من العرب والمسلمين، والثورتين الأمريكية والفرنسية، وقيام الدول القومية وغير ذلك إسم "النهضة الأوربية". فقد أفادت أوربا والعالم الغربي عموما من علوم السابقين ولا سيما العرب والمسلمين الذين كانوا سدنة العلم والثقافة والحضارة في العصور التي سبقت هذه العصور، كما أن العرب بلا ريب أو شك قد أفادوا من علوم الإغريق وغيرهم، لذا فقد توفرت لأوربا ظروف خاصة، إضافة الى وراثتها لعلوم السابقين ومنجزاتهم الثقافية والحضارية، كما كانت توفرت للعرب والمسلمين ظروف خاصة قبل ذلك وللإغريق قبل العرب. ويبدو أن التراكمات الحضارية كانت قد بلغت درجة عالية، فعندما وجدت الظروف الملائمة تحولت الى حركة نوعية هائلة كانت بداية لمرحلة جديدة لها خصائصها المميزة،
الفوارق بين العالم الحيث والعالم القديم
يروي "بول هازار"،أحد كبار مؤرخي الفكر في فرنسا، قصة ذلك الصراع الدامي الذي شهدته العصور الوسطى، والذي ولد مفهوم الغرب بالمعنى الحديث للكلمة بقوله: "لقد جاء فلاسفة عصر التنوير، لكن المكان لم يكن شاغرا، فهؤلاء المتحمسون الجريئون وجدوا أمامهم تصورا عن الحياة، كان سائدا منذ ثمانية عشر قرنا ومختلطا بحضارة أوربا، فقد كانت المسيحية مألوفة لدى الناس منذ ولادتهم، كان أول شيء يتعرفون عليه منذ طفولتهم وكانت تصهرهم وتربيهم وتثقفهم، وتتحكم بكل عمل كبير من أعمال وجودهم، وتؤرخ للفصول، والأيام، والساعات، و تحول موتهم الى خلاص، وفي كل مرة كانوا يرفعون فيها رؤوسهم الى أعلى، كانوا يرون فوق كنائسهم ومعابدهم نفس الصليب الذي كان قد إرتفع في الجلجلة. كان الدين جزءا لا يتجزأ من أرواحهم ويتغلغل الى أعماقهم إلى حد أنه كان يختلط بكينونتهم العميقة. كان يريدهم كلهم، ولا يقبل أبدا أن تشاطره إياه أية سلطة أخرى، كان شعاره : من ليس معي فهو ضدي، كان الإيمان المسيحي يقول بأن العقل يقودنا شوطا ما في مجال المعرفة، ولكنه يتوقف عند نقطة معينة وينتهي دائما بالإصطدام بسيد ما، بمجهول ما، عنذئن يكون أفضل معين لنا، هو أن نضع ثقتنا بعقل أعلى سيساعدنا ويتيح لنا يوما أن نخترق الحجاب الذي بين عيوننا وبين الحقيقة المطلقة، هذا في حين أن الفلاسفة كانوا يضعون ثقتهم كلها في عقل بشري محض... وبالتالي فالصراع بينهما كانا محتوما، صدام مروع لم يسبق له مثيلا. كان الصراع عميقا يستهدف قطع الشجرة الأم من جذورها"1.
آثرت أن أنقل النص السالف على الرغم من طوله، لكونه يعكس حقيقة الصراع الذي سيطفو على ساحة الفكر الأوربي، طيلة عقود من الزمن، صراع بين سلطتين متباينتين، سلطة روحية تستمد أسسها و مقوماتها من نظريات ورؤى ماورائية مقدسة، وسلطة زمنية تؤثر سلطة العقل على ماسواها من السلط، ذلك ماجعل من هذا الصراع حتمية وضرورة تاريخية لامحيد عنها، فهما ضدان لايجتمعان وعدوان لا يتصالحان وكل منهما يسعى الى تدمير الآخر، يقول" إميل بوترو":" إن أمر العلاقات بين الدين و العلم حيث يراقب في ثنايا التاريخ يثير أشد العجب، فإنه على الرغم من تصالح العلم والدين مرة بعد مرة، وعلى الرغم من جهود أعاظم المفكرين التي بذلوها ملحين في حل هذا المشكل حلا عقليا، لو يبرح العلم والدين قائمين على قدم الكفاح، ولم ينقطع بينهما صراع يريد به كل منهما أن يدمر صاحبه لا أن يغلبه فحسب. على أن هذين النظامين لا يزالان قائمين، و لم يكن مجديا أن تحاول العقائد الدينية تسخير العلم فقد تحرر العلم من هذا الرق وكأنما إنعكست الآية منذ ذلك و أخذ العلم ينذر بفناء الأديان ولكن ألأديان ظلت راسخة وشهد بما فيها من قوة الحياة عنف الصراع".2
إن هذين النصين، يحملان أكثر من دلالة، بيدأن الذي يهمنا في هذا المقام تجسيدهما لطبيعة الصراع بين النسقين الفكريين العلمي والديني، تلك الازمة التي انتهت باقصاء النسق الديني من مجال الحياة وحصره داخل جدران المعابد، وطرده من مجال النظر العقلي الى مجال الإحساس والشعور، وهذا المقطع يثير في أنفسنا التساؤل عن مصدر عنف هذا الصراع والدافع إلى تحرر العلم من هذا الرق الذي فرضه الفكر الديني، وطبيعة الدين الذي استهدفته هذه المقاومة.
كان تفكير الكنيسة يتجه اتجاها معاكسا للحقيقة وظل موغلا في ميتافيزيقيا عقيمة ومزيفة، وقد بدت ملامح الانحلال والتفسخ على محيا الكنيسة الكاثوليكية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. يقول "برينتون":" يجب أن تسجل حقيقة مؤداها أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذاتها تعرضت في القرن الرابع عشر والخامس عشر بخاصة، لضغوط وليدة زمن القلاقل والاضطرابات والذي أصبح منذ ذلك الحين علامة لبداية إنحدار ثقافة العصر الوسيط، فمثلما أسرفت عمارة الكنائس في زينتها وزخرفها تطبيقا لأسلوب الفن القوطي الدي أوشك على الإنهيار، كذلك أسرفت حياة الكنيسة في الإنغماس في الدنيا و زينتها و أضحت أكثر تدهورا، وفقدت توازنها الدقيق الذي عهدته في عصر القديس "توماس الإكويني." 3
فهكذا، وبنظرة أعمق نستطيع القول أن ما يميز العالم الحديث عن العالم القديم ويرسم بينهما حدودا دقيقة هو وجود العلم الحديث. العلم ولا سيما العلوم الطبيعية، مثل هذا المخلوق وبهذه السمات لم يكن قد ظهر الى مسرح الحياة في العالم القديم. والعلم هنا ليس أي ضرب من ضروب المعرفة بل هو تلك المعرفة القائمة على التجربة الحسية وعلى الوقائع المادية الملموسة، وغير الموافق الإيديولوجية والدينية التي قوامها الإيمان لا العلم بالمعنى الضيق. وهذا العلم في الواقع العامل الأساسي الذي ساهم في عملية التغير الإجتماعي المتواصلة. فمنهجية عملية التغيير قائمة على منهجية العلم، فإذا كانت منهجية العلم قائمة على وضع فرضيات مؤقتة قابلة للتغير وفق قواعد معينة، فإن ما يترتب على هذه المنهجية العلمية من تغيير دائم و نتائج متجددة ينعكس على الحياة الإجتماعية بأسرها. يضاف الى ذلك أن الحركة العلمية تقرض مناخا من الحرية لا تقوم للعلم قائمة بدونها.
لأجل رسم صورة أدق و أشمل، أود هنا إضافة عنصر آخر، الا و هو العلوم الإجتماعية. إن العلوم التجريبية الطبيعية لم تكن وحدها التي غابت عن لائحة عناصر العالم القديم ومكوناته، بل والعلوم الإجتماعية أيضا كانت غائبة هي الأخرى. لم يكن في الماضي علم اجتماع أو علم نفس، أو علم إقتصاد، أو علم إنسان، بالمعنى الحديث للكلمة، ربما نسمع أن إبن خلدون أسس علم إجتماع إسلامي، أو علم الأجتماع بصفة عامة، بيدأن الحكم في حقيقته على جانب كبير من التسامح، وربما إبتعد عن الصواب أكثر مما إقترب منه. العلوم الإجتماعية بالمعنى الأصلي للكلمة من الظواهر الجديدة في هذا العالم. الرؤية السوسيولوجية والسايكولوجية بالمعنى التجريبي الحديث للكلمة كانت غائبة عن العالم القديم. وإذا، حينما نعتبر العلم الحديث السمة المميزة للعالم المعاصر، ينبغي إضافة العلوم الإجتماعية الى لائحة العلوم التجريبية والطبيعية، وستشكل هذه المجموعة توليفة على جانب كبير من الأهمية.
تشكل العقل الحديث
ولما كانت هذه هي وضعية العصر الوسيط، فإن برتراند راسل1872 -1970 يحدد أربع حركات تحدد معالم فترة الإنتقال التي إمتدت منذ وقت تراجع العصور الوسطى إلى غاية القرن السابع عشر، فسنعمد الى الوقوف عند كل مرحلة على حدى.
إن أول مرحلة تستوقفنا، هي النهضة الإيطالية التي تزامنت والقرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، وما عرفته من بروز كبار الفنانين والأدباء و على رأسهم، "دانتي" الذي كان على الرغم من أنه كان لايزال متأثرا بعمق بطرق التفكير السائدة في العصور الوسطى، فإنه إستطاع بإعتماده اللغة الشعبية، تلك الأداة التي جعلت الكلمة المكتوبة متاحة للإنسان العادي غير الملم باللغة اللاتينية، وبظهور كتاب مثل "بوكاشيو" و"تبرارك"،أن يحدث ثورة تكمن في العودة الى المثل العليا الدنيوية، والى الإهتمام بثقافة القدماء الدنيوية، وظهر ذلك بجلاء في جميع الفنون والعلوم، وكان يمثل ذلك خروجا على التراث الكنسي السائد في العصور الوسطى.
يقول "برتراند راسل":" لقد أصبحت لحركة النهضة في إيطاليا، وهي البلد الذي كانت فيه آثار الحضارة القديمة تقدم رموزا للعصور الماضية، ركيزة أقوى مما أصبح لها فيما بعد في البلاد الواقعة شمال الألب".4
ولقد كانت مدينة فلورنسا من أهم المدن الإيطالية التي حملت لواء النهضة، فلم يسبق لأية مدينة بإستثناء أثينا، أن أنتجت مثل هذه الكوكبة اللامعة من الفنانين والمفكرين، إذ كان "دانتي" و"مايكل أنجلو" و"ليوناردو دافنشي" وغيرهم كثيرون من أهل فلورنسا و "جاليليو جاليلي" فيما بعد.
يبدو من خلال ماأسلفنا ذكره، أن العصور الوسطى كانت عصورا دينية، وبهذا فإن عصر النهضة كان يعني على الأقل محاولة العودة الى ما هو وثني أو لاديني، وإن لم يكن زندقة وإلحادا. ألا ينبغي حينئذ ربط فنون العصور الوسطى بالكنيسة، وفنون عصر النهضة بالحرية البوهيمية التي لا تقيم وزنا للأعراف والتقاليد. تلك هي الخلاصة التي نخلص إليها من خلال تأمل بعض أشكال الفنون التي سادت في المرحلة التي عمت العصر الوسيط.5
والمحطة الثانية التي تستوقفنا في صدد التأريخ لمرحلة الإنتقال من العصر الوسيط الى العصر الحديث، بروز حركة إصطلح عليها بإسم نزعة الأنسنة أو الإنسانية.
يرى "برتراند راسل" بأن النزعة الإنسانية كانت ثاني العوامل الكبرى الجديدة المؤثرة في هذه الفترة، فإذا كانت النهضة قد أثرت تأثيرا مباشرا في النظرة العامة الى الحياة، فإن الحركة الإنسانية هذه إقتصر تأثيرها على المفكرين و الباحثين. يرى أحد الباحثين أن النزعة الإنسانية كانت أشبه بعباءة تطوي تحتها كل من كانت له نظرة الى العالم اللاهوتية أساسا، و لاهي عقلانية في المقام الأول، فبحسب هذا الإستعمال لن يكون ضروريا على الإطلاق النظر الى النزعة الإنسانية بإعتبارها موقفا وسطا بين غيبيات الدين من جهة وبين العلوم الوضعية من جهة أخرى، هذا على الرغم من أن النزعة الإنسانية كانت في حالات كثيرة تمثل تماما هذا الموقع الوسط، ولقد ذهبت هذه الحركة إبان هذه القرون الاولى من العصر الحيث مذهب نبذ عادات الفكر الوسيط، والمثل العليا لهذا العصر بخاصة، وقد إعتبر الداعية الى النزعة الإنسانية متمردا عظيما ضد نظرة العصور الوسطى الى الكون دون أن تكون له نظرة واضحة خاصة عن الكون والإنسان والطبيعة6.
والحركة الإنسانية أو الإنسانيون مصطلح له إستعمالات فضفاضة جدا، على نحو لايتلاءم مع مؤرخي الفكر، ويتضح هذا بخاصة، حيث يمكن أن يكون- الإنساني- رجل دين يسعى لغرس دعوته دون إلتزام ديني محدد، وهو مصطلح أيضا يفي بالافراط في الإقبال على العلوم الطبيعية، والإيمان بأن الإنسان اسمى من الكائنات الأخرى، لكنه يظل أدنى مرتبة من الإله7. وبذلك يكون الإنسانيون قد خلفوا أعمالا فنية خالدة لا تبلى مع الزمن، وأدوا دورهم في تدمير إتجاهات العصور الوسطى، كما قاموا بدور مهم في صياغة النظم والأسس والقوانين الأولية لبناء منظومة الدولة الإقليمية الحديثة.
ومن المتعارف عليه أن حركة الأنسنة هذه قد عاصرت موجات الإصلاح الديني، الذي اتى بها كل من "لوثر" 1413-1546 و "كالفن" 1509-1564 و"شبينوزا" 1632-1677، هذا الأخير الذي يرى أن النص المقدس لا يعد مطلقا أو إلهيا بمعنى تقديس حرفيته أو الإعتقاد أن نصوصه لم تحرف أو تغير عبر الزمن، أو أن الكلمات التي استخدمت للتعبير عن الفكرة نفسها تبدلت، بل المقصود هو أن الشريعة، بغض النظر عن الكلمات، هي كلام الله حينما تتخلص من هذه الوصية"8.
أما التطور الرابع، فقد نشأ مباشرة عقب إحياء الدراسات العلمية الوضعية والتجريبية، ذاك الإحياء الذي إستهلته حركة النقد عند "أوكام"، وخلال القرنين التاليين حدث تقدم هائل في مشارب علمية مختلفة، من أهمها، إعادة إكتشاف نظام مركزية الشمس على يد "كبرنيكوس"، وقد طبع الكتاب الذي عرض فيه هذا الكشف سنة 1543، ليطرح ثبات الأجرام السماوية الكبيرة ودوران الصغيرة من حولها، ونسبة المشاهدة الحسية من الأرض، ومنذ القرن السابع عشر أحرزت العلوم الفزيائية والرياضية تقدما سريعا. يذهب أحد الباحثين المعاصرين الى القول، بأن تحولات هامة حدثت في هذه المرحلة من تاريخ الفكر الأوربي، خاصة التحولات المهمة والاساسية التي حدثت في ميادين العلوم الدقيقة، التي تمثل الثورة العلمية، هذه التحولات لم تأتي من فراغ"9، وبعبارة أخرى فإنه لم يكن بإمكان تلك التحولات أن تحدث لولا بعض الأحداث الأساسية، ونتساءل فيما إذا كان بإمكان ثورة علمية أن تحدث في القرن السابع عشر، لو ظل مستوى العلم * في أوربا الغربية على ماكانت عليه الحال في النصف الأول من القرن الثاني عشر، أي قبل التحولات العلمية التي حدثت كنتيجة من نتائج حركة الترجمة الكبرى التي تمت من اللغتين الإغريقية والعربية الى اللغة اللاتينية القديمة التي بدأت حولي العام 1150 و إستمرت الى غاية القرن الثالث عشر الميلادي.
لقد ظهرت الثورة العلمية أول ما ظهرت، في علم الفلك، وعلم الكون، والعلوم الطبيعية، ذلك بأن برز علماء كبار، كأمثال "كبرنيكوس" في روما، الذي أعلن نظرية حول مركزية الشمس حوالي سنة 1500 ، وإن لم يدعمها بحجج قوية، إذ أن المناخ الفكري الذي ظل سائدا آنذاك لا يسمح بإعلان مثل هذه الفرضيات، فالناس تتمسك بالقديم، والنظريات التي كانت سائدة تقتصر على ما ورثه الخلف من السلف، آراء الكنيسة وتعاليم الكتاب المقدس كانت هي دستور الحياة والفكر،ولقد ظل كوبرنيكوس عاجزا عن التصريح بنظريته مدة ثلاثين عاما، هكذا سارت الأمور الى غاية 1616 حين ثارت ثائرة الكنيسة عندما آمن "غاليليو غاليلي" 1564-1642 بنظرية "كوبيرنيكوس "حين علمت الكنيسة أن الامر لا يتعلق بنزوة فكرية، إذ أدرك حراس العقيدة بسرعة فائقة معنى إكتشافاتهم وتأثيرها الثقافي والنفسي في المؤمنين بالعقيدة، كما أدركوا أنها تقدم مقولات علمية بديلة عن مقولاتهم في العقيدة لمن يتمسك بها باعتبارها تفسيرا للظواهر غير علمي بطبيعته، فـ "غاليليو" يرى من خلال المجهر المكبر جبال القمر ووديانه وأقمار المشتري الأربعة ويدرس قانون حركتها، وقد درس الأمر بعناية فائقة وإستعمل المنظار المقرب التلسكوب لبحثه ودراسته، فثبت له بعد ذلك أن ما قال به "كوبرنيكوس" صحيح وأن الفرضية أضحت حقيقة واقعة، حينئذن أدركت الكنيسة أن خطرا داهما يحدق بها، فبادرت الى التصدي لأفكار العلماء بشدة، وحرمت تداول كتاب كوبرنيكوس، ولقد بلغ فعل الكنيسة أقصاه عندما أعلنت تعض صاحبة للعنة والمطاردة.
هكذا بدت كيفية عملية الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة على أتباعها واضحة للعيان، وظلت كل نظرية جديدة، بموجب الكنيسة بدعة، وكانت كل مخالفة لتعاليم الكتاب المقدس كفرا وإلحادا وتجديفا بحق الله وتعاليم السماء، فلا يحق لأي فرد يظن أنه قد أدرك شيئا جديدا، وأن يعمل فكره في مجرى الأمور، أو ان يعلن رأيا مخالفا للموروث بل عليه أن يسلم بالقديم حتى لو لم يكن يتلاءم والحقائق10، لذا يمكن القول أن أفكارا عظيمة ظلت حبيسة عقول أصحابها، ولم يكتب لها أن ترى النور وأن تشيع بين عامة الناس، لأن الناس ما فتئوا يعتقدون أن الماضي يحمل بين طياته سمات الأبدية والخلود. بيدانه في مراحل لاحقة بدأت النظريات العلمية الجديدة تحضى بالإهتمام من قبل العلماء، وتكتسب جماعات من المناصرين، على الرغم من طغيان سلطات الكنيسة، ولقد بلغ تأييد نظرية كوبرنيكوس حدا سار فيه كثير من العلماء الى الجهر علانية بصحتها وبكنها حقيقة علمية لا مفر منها.
تلك هي بدايات عصر النهضة والمرتبطة بالمذاهب الإنسانية، التي مضت تعمق فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية، ولكن تلك البدايات حائزة القاعدة الكافية من المنجزات العلمية والتطور المعرفي العلمي الإستقرائي، فإنصبت جهودها على التفكيك ليأتي التركيب في مراحل لاحقة حين استكمال هذه العقلية الجديدة لشروطها، ولهذا تميز القرن السادس عشر بفوضى لاحدود لها، حين إنحلت الروابط الدينية والعائلية والإجتماعية فنشأت الحروب وتعددت الفلسفات.
عبر التطور من القرن السادس عشر الى القرن العشرين، تعمقت تدريجيا مناهج البحث العلمي، كذلك بدات تتأكد القطيعة المعرفية على المستوى الفلسفي بداية بوضعية أوغست كونت، إلى أن اكتشفت أوربا نفسها في براثن الجدل المادي الدياليكتي كنتاج حتمي لتجربتها في في إطار إحداثها للقطيعة المعرفية مع اللاهوت والميتافيزيقيا، ومع تطور إنجازاتها العلمية وتطوير مناهجها المعرفي. ثم بقيت الحضارة الغربية تصارع نتائج تجربتها القلقة.
هذه جملة العوامل التي ساهمت في نقل أوربا من العصر القديم عصر الدين الى العصر الحديث عصر العلم، أو ما أصطلح عليه بعصر الأنوار، بيدأن هناك عوامل أخرى ساهمت أيما مساهمة في تغيير شخوص خشبة المسرح الأوربي، لم نأتي على ذكرها، كتطور الحياة الصناعية والإقتصادية في أوربا و بروز مفكرين و سياسيين تنويريين ك"ميكيافيلي" و"هوبس" و"مونتسكيو" وغيرهم وبروز فلاسفة عظام ك"ديكارت" و"ليبنتز" و"كانط" و"هيغل" و"نيتشه" و"ماركس" وغيرهم، كل هذه العوامل جعلت أوربا تعتبر العصور القديمة الى غير رجعة، فاتحة آفاقا جديدة هي تلك التي ستفرز لنا الغرب بمفهومه الحديث.
نخلص في الأخير، بعد هذا العرض الموجز لمجريات الأحداث في أوربا الى أن الفكر الأوربي الحديث هو عبارة عن سلسلة من المراجعات لتراثها بإعتباره فكر الماضي وفكر الحاضر معا، فلا يمكن عزل الماضي عن الحاضر. و لقد تاتى هذا للفكر الأوربي بفضل القراءة وإعادة القراءة المتجددة لتاريخه على أساس من الإتصال والإنفصال، من النظر وإعادة النظر، من النقد ونقد النقد. إن الإنفصال عن التراث في تاريخ الفكر الأوربي كان من أجل تجديد الإتصال معه، والإتصال من أجل تجديد الإنفصال عنه11. لذا فإنه من اللازم اللازب القول بأن للنقد لائحة من الفضائل والإيجابيات، يرشح عنه تطور الفكر، وتقدم العلوم، وتصحيح المسار، وتفتح البصائر.
بكلمة إن الفكر الأوربي كان ولا يزال يتجدد من داخل تراثه وفي ذات الوقت يعمل جاهدا على تجديد هذا التراث، عن طريق إعادة بناء موارده القديمة وإغنائه بمواد جديدة، وهكذا إستطاع الأوربي أن يعيد خلال القرون الأخيرة كتابة تاريخه الحضاري العام بمختلف جوانبه بصورة تجعل من هذا التاريخ نسقا يعبر عن تراكمية للأحداث في إتجاه النهضة والتقدم.
*باحث مغربي في تاريخ الفكر مقيم بمدينة أمستردام الهولندية
الهوامش:
1-هاشم صالح،سؤال التنوير، مجلة الوحدة العدد 81 يونيو 1991 ، السنة السابعة ص 8-91
2-محمد محمد أمزيان، منهج البحث الإجتماعي بين الوضعية و المعيارية ص 12-13 ، بيت الحكمة للطباعة و النشر، وجدة2
3- كرينتون برينتون، تشكيل العقل الحديث، ت شوقي جلال و صدقي حطاب ص 24 ، سلسلة عالم المعرفة العدد 82
4 - برتراند راسل، حكمة الغرب، ت فؤاد زكريا ج2، ص 72 ديسمبر 1983، منشورات المجلس الوطني للثقافة و الفنون والآداب، الكويت
5- برتراند راسل، المرجع نفسه
6- كرينتون برينتون، المرجع نفسه
7 -كرينتون برينتون، المرجع نفسه
8- عزمي بشارة، الدين و العلمانية في سياق تاريخي، الجزء الأول، الطبعة الأولى،المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، 2013
9 - برتراند راسل، مرجع نفسه
10- عبد الله العمر، ظاهرة العلم الحديث: دراسات تحليلية و تاريخية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، الكويت، عدد 69، سبتمبر 1983
11 - محمد عابد الجابري، إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث، ص 48