بقلم: محمد الرازقي
كل مجموعة بشرية ذات خصائص معينة تميزها عن غيرها (مميزات ثقافية, جغرافية, عرقية....) إلا وتسعى إلى تطوير قدراتها وإمكانياتها الذاتية ,وتحاول في نفس الوقت إيجاد حلول لمشاكلها باعتبارها أمور تعنيها,وللإشكاليات الكبرى التي تحدد مصيرها ,أو بعبارة أخرى هي التي تقرر لنفسها الغايات الكبرى كأفق انتظار يعطي لوجودها معنى.
وبما أن كل واحد منا ينتمي إلى جماعته كيفما كانت صفاتها, فإنني وبوصفي احد أبناء الريف الذين وجدو نفسهم مسكونين بهمومه ,بطموحاته, بآماله وآلامه وإخفاقاته في آن, وجدتني أمام هاجس وسؤال الحداثة .إذ ظل هذا الأخير يؤرقني طيلة سنوات ,سؤال قلق ,يتخذ لنفسه عدة صيغ, ويعبر عن نفسه في سياقات مختلفة, وهو سؤال ليس بالغريب عن هذه المنطقة بما تتوفر عليه من إمكانيات ومؤهلات ذاتيه ,تؤهلها لان تبحث عن نفسها في النقاش العالمي الذي أصبح اليوم ,لا يعالج مسألة الحداثة فقط, بل صاروا يتكلمون عن ما بعد الحداثة, إذن في وضع كهذا ,يصبح سؤال الحداثة عندنا في الريف سؤالا مشروعا.
لكن وقبل تسليط الضوء على إشكال بهذه الخطورة باعتباره يناقش مصير أمة, لابد من الوقوف ولو على عجل أمام بعض المصطلحات وتحديد معانيها قبل الانتقال إلى صلب الموضوع, حتى يتسنى لنا الإمساك بأطرافه أو على الأقل للوقوف على خطوطه العريضة.
ا ن أول ما قد يلاحظه القارئ كلمة "الرّيف" لكن وبما أننا نتناولها في علاقتها بالحداثة, فان السؤال الذي يطرح نفسه, ما المقصود بالريف هنا والآن؟ هل المقصود بها ذلك الفضاء الجغرافي البديع الذي يطل على البحر الأبيض المتوسط, والذي يقع في القسم الشمالي من المغرب؟ أم أننا نقصد ذلك العنصر البشري الذي يسكن هذا الفضاء؟ أم أننا نشير بطريقة أو بأخرى غالى تلك المؤسسات الفاعلة فيه؟
ومن جهة أخرى ما المقصود بِـ "سؤال الحداثة" ؟ وهل تحضر كلمة "سؤال" هنا في صيغة "مشكل" أو "قضية" ؟ وإذا كان الأمر كذلك, هل "قضية الحداثة" هذه التي نتكلم عنها هي "حداثة" تحققت تاريخيا في هذا المجال أو ذاك؟أم أنها مجرد شعار نتخيله ونسعى إلى تحقيقه؟
إن الموضوع, كما يبدو ذو مزالق كثيرة لذلك لابد من الحذر ولابد من أن نحتاط,لان أي إجابة عن أسئلة على هذه الشاكلة لهو ضرب من المقامرة والرهان,.
لنتقدم خطوة للأمام فنقول أننا نقصد في الحقيقة بلفظة الريف كل هذه الأمور باعتبارها فواعل لها أثرها وبصمتها في تحديد مسار الأحداث عن قريب أو عن بعيد, أو باعتبارها مفعولات تتأثر بغيرها في علاقات لا نهائية , لكن هذا لايعني أننا نأخذ الأمر بهذا التعميم بل نركز وبالأخص على العنصر البشري ,الذي أصبح مع الحداثة كما سنرى المرجع الأساسي لأي تنمية حقيقية لإمكانيات مجتمع ما كائنا ما كان, في علاقته بالحداثة وتمثله لها, وحينما نقول التمثل لابد من استحضار التقسيم الذي لابد منه بين مستويين من الحداثة,بين مستوى أول تجريبي ,أي حداثة تحققت تاريخيا على ارض الوقع,ومستوى ثان كأفق انتظار,بحيث تغدو فيه الحداثة كمستقبل يحضنا على العمل من اجل بلوغه ويمنحنها في نفس الوقت دينامية لمواصلة المسير دون عياء أو كلل.
طبعا عندما نتحدث عن الريف وفي نفس الوقت حينما نستحضر قتامة الظروف التي يمر منها ,إذ يقف اليوم أمام مفترق طرق يجد نفسها ملزم بالاختيار بين هذا وذاك, فإننا نضع صوب أعيننا الحداثة كمدخل أو كأفق انتظار لم يتحقق بعد في الريف, نسعى من خلال تمثل مبادئها العامة إلى تبين ملامح الطريق الملائم لمشروع مجتمعي كهذا . فالريف اليوم محط صراع بين تيارات عدة لكن في مجملها يمكن أن نردها إلى تيارين, الأول لا يزيد شيئا عما هو موجود أو عما كان موجودا بل كل ما يفعله هو انه يعيد تغليف الأمور بحيث تبدو من الخارج كأنها جديدة كل الجدة, لكن في واقع الأمر لا تختلف عن سابقاتها في شئ, إذا ما ولجنا إلى عمقها ومكوناتها الأساسية ,وفي الطرف النقيض نجد تيار آخر ينادي بضرورة إحداث ثورة شبيهة بالثورة الكوبرنيكية في العصور الوسطى تقلب السائد رأسا على عقب حيث يعتبر أن هذا الظرف التاريخي الحساس في أمس الحاجة إلى منطلقات جديدة تقوم على أنقاض سابقاتها التي لم تزد المنطقة إلا انتكاسا, وبين هذا وذاك تبرز الحاجة إلى مبادئ جديدة ترد للإنسان الريفي الاعتبار كذات لها الحق في أن تكون كما تريد هي أو يملي عليها عقلها, دون وصاية من احد , وتفكر في وجودها لتعقله وفهمه لاستشراف المستقبل وبناء دعائمه وبالتالي توفير جو ملائم وارض خصبة لخوض تجربة الحداثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
لنتقدم خطوة أخرى ,لنضع اليد على الجرح مباشرة, دون إسهاب في القول أو إطناب, لنقول أن الإنسان الريفي ليست مشكلته في غياب البنية التحتية للمدينة فقط ,أو في انعدام مرفأ صحي, أو حفرة في الطريق العامة, نعم هذه مشاكل لها أثارها السلبية على سير الحياة العامة في الريف, لكن هذه بمثابة الشجرة التي تخفي وراءها غابة من الأشجار,إذ أن جوهر الإشكال يقع في الإنسان الريفي ذاته, وهنا لابد من مصارحة ذواتنا حتى نتجاوز حاضرنا ونبني للأفضل, فمعرفة الأسباب والعلل من اقصر الطرق لمعالجة المشاكل التي تعترضنا والتحكم في مجرياتها, هذا لأنه كل المقاربات التي حاولت معالجة مسألة التخلف في الريف, كانت تركز على الأشياء الثانوية ,وان ظهر العنصر البشري ضمن ديباجتها , ونحن حينما نتكلم عن الريف أيضا فإننا نعني ضمنا المدن والقرى التي تقع ضمن حدوده , فإذا أخذنا على سبيل المثل لا الحصر, قضية التعليم في تمسمان وهي جزء لا يتجزأ من هذا الفضاء,نجد أن التعليم وهو من بين أهم الحقوق المدنية للإنسان لا تتسنى الظروف إلا لاستثناءات قليلة لمتابعة الدراسة في المرحلة الإعدادية, أو ربما في بعض الأحيان حتى المرحلة الابتدائي نفسها, يضرب فيها الطفل على نعومة أظفاره كيلومترات من الطرق الملتوية يتساوى فيها فصل الصيف بنظيره الشتاء, إنها حقا حالة مأساوية فمنذ أن يرى الطفل النور وهو يتكبد ألوان مختلفة من المعانات, غياب في التغطية الصحية ,كوارث في التعليم ,صدمات في سوق الشغل ,تمزقات نفسية في الأسر ,كل هذا رغم ذلك نتساءل حول الحداثة, لماذا؟ حتى نتجاوز هذا الواقع المأساوي, لكن هل يمكن أن نفعل ذلك ,عبر إنسان منهك القوى وجد ضالته وأمانه الروحي في المثل الدينية,فاعرض عن الدنيا زاهدا فيها,بعدما أصابه اليأس ,متطلعا لعالم أخر ,عالم تتحقق فيه العدالة اللاهية, ويرزق فيه الإنسان بدون حساب ,بعد أن كان في عالم ملئ بالجبر والأقدار, فكل شئ مقرر سلفا فيه وما علينا إلا أن نخضع لمشيئة القدر,ونستسلم ,ونحن نتفرج في مستقبلنا يتلاشى في الأفق,يتلاعب به ذوو المناصب المختلفة,في مختلف الموئسات والمستويات, لنؤجل مسائلتهم إلى يوم الحساب.
كيف سنعالج مسألة الحداثة في عالم اختلط في الفاعل المرئي باللامرئي ,وكيف نحدد الاختصاصات والمهام وبالتالي تحديد المسؤوليات, وليس الإنسان هنا إلا مجرد مترجم لأفعال تتجاوز إرادته؟ كيف سنعالج هذه المسألة وقد اختلطت العقائد بالأمور المدنية التي تحتاج إلى إعمال النظر والاجتهاد؟ وتمازجت حياة الناس الخاصة بحياتهم العامة؟
لابد وأننا في حاجة إلى إنسان جديد ليتأتى لنا هذا, إنسان يؤمن بقدراته الذاتية, وبإمكانية استثمارها وتطويرها, إنسان يفصل بين دائرة الحياة العامة ودائرة الحياة الخاصة,وهذا الفصل بين الدائرة العامة(حيث استعمال العقل يجب أن يكون حرا دائما) ,والدائرة الخاصة (التي يمكن لاستعمالها أن يكون محدودا جدا) يدخل في قلب الصيرورة التي يخرج فيها الإنسان من حالة قصوره الذاتي,المسئول هو عنه, ويشكل هذا الفصل حجر الزاوية لمفهوم السياسة الحديث.
إذ كيف يجوز لنا أن نتحدث اليوم وباستفاضة عن مشاريع من قبيل (الجهوية,و...,و.....) والأخذ بيد المنطقة إلى الأفضل , ونحن لم نعالج المعنيّ بالأمر أساسا الذي هو الإنسان الريفي, ولم نسبر أغوار بنيته العقلية والذهنية ,حتى تتبين لنا الطرق والسبل التي من شأنها أن تتحقق من خلاله تلك الحداثة المنشودة ,التي بدأت تفد علينا منذ سنوات كمنتوج يسوق في إطار ما يسمى بالعولمة ,حداثة برانية وافدة ,لا نعرف عنها شئ إلا مظاهرها الخارجية ,وليس حداثة جوانية .
ويبقى السؤال مطروحا هل نحن حقا ,نمتلك الجرأة والاستعداد الكافي لتقبل هذه القلق الذي ينشأ عن التشكيك في السائد والقطيعة معه قصد تجاوزه؟وللتمهيد لسؤال اكبر هو سؤال الحداثة, في مجتمع كالريف يعيش على إنتاجات غيره من الشعوب التي تجرأت على إعادة ترتيب علاقاتها مع حاضرها وماضيها بصرامة وواقعية, فكانت النتيجة مستقبل نفتقده نحن في الريف على الأقل في وقتنا الحاضر.