حاوره : محمد بوتخريط
ثمة خيط رفيع يفصل بينه وما يكتب.. يعرف الكتابة وتعرفه... لذلك فهو لم يعد بامكانه التوقف عنها. شاعر وقاص مبدع من بلاد عاشت تراتيل الحزن بكل صنوفه وتفاصيله، وما كسرت التفاصيل ريشات جناحيه. ظل عاشقا لتراب الأرض هناك. أعلن صارخاً: "لم أولد الا لأكون واحدا ممن يخربون الذات بفوضى المفردات وتأسيس الغنائية التأملية". لامس بكلماته الملتهبة، شغاف الأرواح النائمة، وفتح لنا من خيوط سطورها أشياء عديدة نضعف أمامها أحيانا، تحسسنا أطفالاً صغارًا تائهين ونحن نحاول احتواءها فى عناق عابر.
كتب عن "كبدانة" بوابة الصورة الممكنة كما يقول عنها ، نافذة العمر التي يشم منها روائحه الخاصة، ذاك العش الذي فرخت فيه كل أشيائه الخاصة وكل التجليات .. خطّها ذاكرة ما زالت طازجة تحمل روائح البحر و"حجرة ماواس" وذاك الريف الشامخ هناك تلك الجذورالعميقة لكينونتنا الامازيغية .. هي لوحة الزمن والذكريات، تلك التي لم تغب عنه ولو للحظة.
إنه ذاك المتخم بوجع الفقد الحميم الذي يكبر ليصبح وطن، والممتلئ بوطن لم يصغر في قلبه.. أبدا. أبحر في أجناس الأدب منذ الثمانينات فكتب القصة وأبدع في الكتابة الشعرية. صدرت له مؤخرا مجموعة شعرية بعنوان: "الخيل لا تنام على مهلها". وسيصدر له قريبا أعمال أخرى في الشعر والقصة .
إنه الكاتب محمد كنوف شاعر وقاص مغربي مقيم بألمانيا، من مواليد 1962 بقبيلة كبدانة التابعة لإقليم الناظور شمال شرق المغرب في الريف، تابع تعليمه الثانوي بالناظور،ثم التحق بالمركز التربوي الجهوي بمدينة وجدة، ليلتحق بعد تخرجه بمدينة الدار البيضاء التي عُين فيها أستاذا ومكث فيها إلى أن انتقل سنة 1993 الى ألمانيا.
في البداية طبعا: من هو محمد كنوف المبدع والإنسان؟
محمد كنوف لا يقدم نفسه كما يشاء ، لأن الخصوصية الشخصية كمبدع من الأحسن أن يقدمه الكائن القارىء ، لكن لا بأس أن أعترف بجنون الكتابة الذي ورطني في غواية اللغة وشفافها الجميل ، الثورة والتجريب المستمر لأنماط وأنساق الإبداع هما الهم الوحيد الذي أشتغل عليه جيدا بكل قوة . أنا أحمق باللغة وعاشق حتى الموت بجمال التعبيرية الشعرية .لم أولد الا لأكون واحدا ممن يخربون الذات بفوضى المفردات وتأسيس الغنائية التأملية والتي لا يعترف بها الكثير من النمطيين . أما محمد كنوف الإنسان فهو الحس المرهف وكما عبرت مرار القاسي لغة والباكي حد الفشل الجميل. أحاول أن أكون انسانا بدائرة أوسع وبأخطاء أقل.
متى بدأت الكتابة أو ما الذي دفعك اليها وبالتالي الاستمرار فيها .. متى بدأتَ تشعر بأنك تقف على عتبة الموهبة و شعرت بأنك تلمس مفاتيح ابواب الخفقات واللحظات الشاعرية ؟
اذا لم تحس بالموهبة تدفعك للكتابة فأنت قاتل نفسك الجمالية . بمعنى الموهبة تولد معك منذ الحليب الأول ، وتكبر وتشاغب وتورط صاحبها لأنها الشرخ الواضح في مرايا المبدعين وهي الفاصل البرزخي بين من هو موهوب وبين من هو صانع للموهبة ، اذ لا يمكنني أن أكون شاعرا الا اذا اختلطت الكريات الحمرات في دمي بكمياء الموهبة التي بدونها لن تكون مبدعا مهما كانت قامتك التحصيلية العلمية. كأي طفل شقي الوضع مشاغب كالريح وهائج كالبحر وعاشق حتى الموت ، رأيتني أكتب ثم أكتب عن كل الأشياء التي أوهمتني بأنني مميز ، وأنا أكبر كنت ومازلت أربي حجل الكلام وأعتني بالخطاطيف الشاردة باللغة الغنائية تارة وبالتأمل في اللغة وبها في الكينونة الطائشة. أحاول ان أرتب قلبي على عقارب الوقت وبكل المقاييس .
أين يجد محمد كنوف نفسه أقدر بالتعبير عما يدور بخاطره ، بالسرد النثري أكثر، أم بالقصائد؟
الحقيقة كم مرة يحدث لي أن أبدأ شاعرا وفجأة أنتهي ناثرا , وعكس ذلك تماما . أنا أرتاح فقط في سرير اللغة ولا أنام الا على ركبتيها الجميلتين ، لا أفرق كما باقي المبدعين بين الإرتياح لفصيلة دون أخرى، لغتي هي من تسوسني بلجام الجمال ، وهي من تختار لي حديقتي وهي الوردة التي أعطر بها نصي الجديد . شعر أم نثر لا فرق بين الوسادتين ، ولا فرق عندي بين الجميلتين.
"كبدانة " أي ذكريات تحفظها مخيلة محمد كنوف عن هذا المكان الذي نشأ وترعرع فيه؟
هي التردد المستمر للروح ، وهي التراب الذي لا يستطيع أي منظف أن يغسله عن ثوب الذاكرة . كبدانة بالنسبة لي بوابة الصورة الممكنة ، نافذة العمر التي أشم منها روائحي الخاصة ، وهي العش الذي فرخت فيه كل أشيائي الخاصة وكل التجليات . حين تذكر كبدانة ، معناه أنك توقظ في القلب طفولته الصغيرة والحب الصغير والسنابل التي جرحتها بمنجل كنت أستعرته من أبي الفلاح . ، لا يمكن تصور كبدانة أو بالأحرى قبيلتي التي نشأت فيها بدون شيئين اثنين : البحر وحجر ماواس . البحر ايقونك الملح الواسعة التي ربتني موجته على اكتشاف الاعماق الطبيعية والآدمية. أما حجر ماواس فهو الرابظ فوق جبالنا هناك والتي تدعى سبعة رجال وكأنني ثامنهم كلما رايت ذاك الحجر ، انه الحب المقدس في العلو الجغرافي وهو الإرتباط بالتاريخ . كبدانة ما قالت الحياة لمحمد كنوف .
ماذا يعني لك الريف. أهو فعلا ذاك الحلم الطفولي كما قلتَ يوما ام هو فقط ذكريات الامس تحوم في هيئة احلام الطفولة التي لم تعشها جيدا..أم ماذا ؟
الريف هو الجذور العميقة لكينونتنا الامازيغية . وهو الرمز لمجمل التاريخ هو الماضي الأول فينا بكل أحلامه واحتمالاته ، وهو الحاظر فينا باتساع السيرورة والهوية وهو الغد الذي يؤسس فينا شموخ التواجد بين كل الأمكنة وبين كل البشر . بالنسبة لي الريف مضغة لصيقة بالقلب والذاكرة ، بمعنى هو الحلم الذي يشدني بكل أناته وبكل أطيافه . وهو قوس قزحي الخاص الذي الهو به كلما تعبت من الإغتراب في مرافئ ضيقة جدا . الريف أصل والريف هويتي الفائقة.
"أبي الذي نال الحب كله الى أخر العمر" (هذا كلامك). لا جدال على كون الأب هو الحب وهو الأصل والعماد الذي نتكئ عليه . ولكن الملاحظ من خلال كتاباتك ان "للأب " عندك مكانة أخرى خاصة واهتمام خاص جدا و معاني أخرى كثيرة فما السر في الحكاية كلها؟
أبي هو حبيبي وشيخي الصوفي الزاهد ، وهو الحب الاول والأخير ، وهو اختصار لرحلتي التأملية في الحياة . مكانته لا تتغير في القلب مهما كثر قاطنوه. لأنه وببساطة متناهية أبي لا أب أحد غيري ، هي ليست انانية لكنها احتواء خاص لهذا الشخص الذي لولاه لما تعلمت سر الإنسان . هو التواضع المتجلي ، وهو الكادح الذي لم يتعب أبدا وهو المحب للناس جميعا ، وهو المربي الذي رباني على العفة والأمل وهو الجندي الذي لقنني فنون الحرب لمواجهة هذه الحياة . المفارقة العجيبة جدا التي ميزت الراحل أبي هي أنه كان محبا للعلوم والدراسة علما أنه كان أمي الحرف لكنه سيد التأمل الفكري . حينما يكون لك اب بهذه المميزات لا يسعك الا أن تحبه وبكل الجنون . لذلك سميت أبني الصغير باسم أبي حتى يستمر هذا الحب واقعيا وجينيا ايضا.
س ـ تكتب قصَّة قصيرة وتكتب شعراً .. لماذا التنوُّع ، وأين تجد نفسك أكثر في هذه المنعطفات الجميلة ؟
ج : أكتب كما سبقت الإشارة في كل الانماط لأنها سرير لغتي ولأنني قائد الجوقة السيمفونية ، وعلي كل السلالم الأيقاعية . أجد نفسي وروحي في كل هذه الأشكال التعبيرية.
لكلِّ مبدع ريشته و أدواته وبالتالي أسلوبه الخاص في التعبير، ماذا عن أسلوبك أنت وأدواتك في الكتابة الإبداعية؟
أنا لا أملك سرا ولا ادوات ، خاصة للكتابة ، هي بالبساطة ذاتها التي يملكها كل أديب ، موهبة ثم لغة تصقلها كالمرايا كل مرة وحب لفعل الكتابة ، اذا غابت الرغبة ، فلا حظ يوفقك للكتابة .
شعراء العالم كثيرون لمن تقرأ أكثر،ومن منهم يشدك أكثر ويبهرك ؟
أنا قارئ جيد لكل جيد ، وعميق في ذوقي الأدبي ، اقرا بخمس لغات الرواية الشعر والقصة . لكنني لا افضل مبدعا معينا لي حتى لا احاصر الذوق بطعم معين انتبهت مبكرا لهذا الأمر لذلك اخترت التنوع نصا وشكلا وذوقا . أستريح جذا حين أدخل المختبر اللغوي الخاص لأدونيس ، وأكون مزهوا جدا بغنائية محمود درويش ، أما الرواية وفن الحكي والقص فهناك الكثيرون ممن يأسرون ذائقتي ، صنع الله ابراهيم ، عبد الرحمن منيف ، محمد زفزاف والكبير جدا العم أحمد بوزفور الأسماء كثيرة كالنجوم، وذكرت بعضها على سبيل المثال لا الحصر. زد على ذلك المبدعين العالميين .
ممّا لا شك فيه أنَّ مخيلة الإنسان لا تخلوا من الخيال، فما أخبار الخيال في قصائدك،أم أن شخصيات قصائدك مولودة من واقع محيط بك ؟
المخيل في مفهوم الشعرية البنيوية انما هو تفاصيل معيش موسع في دائرة المتأمل فيه . بمعنى الواقعي هو المتخيل أيضا . لكن المبدع وحده من يقود بسحره هذا المخيل الى الواقعي أو بالعكس أيضا. قصائدي فيها من المخيل الواقعي ما يرعب العقل ويربك الذات الجمعية ، لكن وللأسف قليل من ينتبه الى هذا الأمر وكأن القارئ لقصائدي يتلذذ فقط بلعبة الغواية اللغوية ، ولا يحاول النفاذ الى قلب الشكل الجمالي والنمط التجريبي . الأحكام المسبقة والجاهزة هي من ساهمت في قتل ابداع كثيرين من القامات فوجدت نفسها في الظل ثم انسحبت من المشهد.
لمست في كتاباتك نوعا من "النرجسية" وشفافيتك تجاهها بادية كذلك، فهل هذه السمة نتيجة تربية ما ، أم ان تجربتك الكتابية /الشعرية على مدى السنين ، جعلتك واثقا مما تقدم ؟
المبجع نرجسي بطبعه لكنها ليست مرضية تماما ، انما هي نتيجة التراكمات الذاتية الخفية منها والعلنية ، وهي طيش لغوي جميل لا يعيب المبدع أبدا . لأن الورد الجميل في الطبيعة يجذب كل الكائنات الطائرة والتي تمشي على اثنين كذلك .لا دخل للتربية في ذلك . النرجسية كما عبرت أنت ، أسميها الغواية الذاتية والتبصر القلبي الجميل.
اراك حزينا في كتاباتك احيانا رغم امتلاكك لروح النكتة ؟
هو الفرح ذاته ، ليس حزنا بقدر ما هو هدوء التأمل بالقلب أحيانا . الحزن جزء من واقع حزين نعيشه يوميا على هذه الأرض ، الحروب والأرهاب والقتل والجوع والفتن وبأسماء واحالات متععددة وبأجندات مختلفة . لا يمكن لهذه الأشكال من الموت اليومي الا لتحزنك ، لكن حزن الشعراء فيه فرح بالغد المؤجل في حلمنا ونحن من يمد جسر العبور الى ما هو أجمل بعد اليوم .
متى تطل دمعة محمد كنوف ومتى تختفي او بالأحرى متى تبتسم شفتاه؟
دمعتي سلاحي وهو الجيش الوحيد الذي يوقفني على حساسية الروح المفرطة . قلت مرارا أنا بكاء وبكائي لحد الثمالة . دمعتي تسبق ابتسامتي ، والدمعة عندي رحمة للقلب ، وتعاطف وحب واختلاج وانسانية مفرطة في الحس البشري. وهي تختفي من العين لتغوص عميقا في القلب وتظهر بتجلي اللغة وتنز صورة في ملح الدمع.
صدرت لك مؤخرا عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر بالرباط مجموعة شعرية بعنوان : "الخيل لا تنام على مهلها" هل لك ان تقربنا اكثر من هذه الخيول ؟
هي تجربة النشر لا غير أردت أن اقدم لنفسي أول صورى بالحبر والورق ، وهي أشعار مشكلة من قصائد قديمة وجديدة . أنني جربت الولادة وأعلنت للقارئ أن هناك ولدا جميلا يسمى الخيل لا تنام على مهلها . أن تقدم ابنك للناس معناه أنك تهدي لهم صورته كما أردت والباقي للنقاد والمهتمين هم من سيكشفون ماهية هذه الهدية . يبقى الرهان في وطننا دائما بيد الكائن القارئ . ومع الأسف هناك كسل هائل في القراءة . اقولها بكل المرارة .
قرأت لك في حوار سابق تقول عن عنوان مجموعتك الشعرية الأولى أن :"العنوان ينم بشكل ما عن بداية الرقص في حلبة الخيول الشعرية وسوف لن أنام بعد هذا التجريب الجمالي.."ماذا تقصد بالضبط ؟
القصد من وراء ذلك هو أنني سأتابع الرقص اللغوي بكتابات أخرى وبدواوين جديدة . وأنا راقص جيد على حبال الحرف .الرقص معناه الفرح وهو العرس الذي سوف لن ينتهي الا بانتهاء صوتي من هذه الكينونة .سأتابع التخريب اللغوي وبعناد جميل وفي أشكال مختلفة.
يقال دائما بأن السياسة تدخل في خبزنا اليومي ، ولاحظت ان في قصائدك أحيانا ولو كانت عن الحب مثلاً يوحى الى القارئ وكأن هذا الحب يصب بشكل او بآخر في قلب الوطن .. إلى أي مدى تجد نفسك ملتزماً كشاعر ومبدع بهذا القول؟
اللإلتزام هو فلسفة وجودية ، أن تلتزم بواقعك وبكل تفاصيل هذا الواقع وبجمبع قضاياه البشرية والسياسية ، الحب قضية وجودية قبل أن تكون احساسا هلاميا عند البشر ، وهذا ما يؤكده جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار . أنا ملتزم بالقضايا الكبرى والصغرى في آن واحد ومنذ بداياتي الإبداعية وللتذكير أول نص نشر لي في جريدة البيان في اواسط السبعينيات كان شعرا ملتزما ، وللذكرى كنت أول شاعر في المغرب آنذاك يرثي عزيز بلال بقصيدة آلو شيكاغو وهو الذي اغتيل في أحد الفنادق بأمريكا وفي مدينة شيكاغو .
ملتزم بالقضايا السياسية الكبرى كفلسطين ، وقصية محمد عبد الكريم الخطابي وطابور لالة يما . الإلتزام ميزة فكرية وجمالية في كتاباتي بشكل مستمر. أن تكون محدقا في الساسة معناه أنك تحس بالنبض الآخر ، تعيش الصراع الأبدي والجدلي بين بني البشر . لذلك من لم يهتم بها ستميز ه صفة واحدة عنا ، الا وهي انه ينتمي لعصر خارج الأرض.و خارج السيرورة المعيشة.
اين الوطن بعيون وقلم محمد كنوف ؟
من لاوطن له يعني أنه لا يملك قلبا ولا وجودا ولا قبرا كذلك . الوطن هو الإنتماء بكل تفاصيله وهو الهوية الجامعة للتاريخ الخاص ، وهو بوصلة الحب في معانيه الواسعة . والوطن بشكل خاص في شعري هو الحنين الذي يذيب القلب وأنا بعيد عنه هنا بألمانيا . الوطن حروف التنفس عن كل التراب الذي تمرغنا فيه ذات طفولة بعيدة . انه الحافز الكبير على الإستمرار في الحياة وفي جغرافية لا تتغير مهما تبادلتنا الأوطان المؤقتة . الوطن مؤشر الحنين في شعري وهو نور الرجوع الذي أهتدي به كلما قرصتني ذبابة الوجع .
يُقال ان الشعر لا يموت إذا استجاب لحاجات ضرورية جوهرية لدى الإنسان، والتي هي ليست في الأصل سوى مزيج من ذاكرة وواقع واستحضارلأشياء متأصلة في روح هذا الإنسان نفسه ..والملاحظ في قصائدك هذه الجزئية من التفاصيل التي تتكئ بالعام إلى ذاكرة تأبى النسيان .نسيان الجذور كما ايضا واقع الحال . ماذا تقول في ذلك؟
الشعر هو الشعر هو الكائن الجمبل الذي لا أتنفس جيدا الا برئته الواسعة . هو الذاكرة الابدية عندي وهو الكلام المقدس الخاص ، هو العز والمال والصداقات والتاريخ وهو الهواء الذي بدونه لن أكون . أن تكون شاعرا معناه أنك تحرر الذات الجمعية في ذاكرة الحياة وهو أيضا الروح المملوؤة بالأشباح الجميلة التي لا يرافق حركيتها الا الشاعر ذاته .أقول هو الكائن الوحيد الذي لا يمكنني الإستغناء عنه . هو الوصف الذي لا تحتويه الأوصاف . الشكل الخارج من قيامة اللغة الى حالة الكون والإنسان. انه الشعر ، انه الشعر.
يُقال ان "الكتابة" تموت عندما يموت ضمير الأنسان ويكون الكاتب عبدا مطيعا للسلطة ومسؤليها.. ما رأيك ؟
الكاتب الأصيل هو من يجعل كتاباته حية أبدية بانتمائه للشعوب والإنسانية بكل أطيافها . لكن الكاتب السلطوي التوجه هو آلة ميكانيكية تحت الطلب وبالمواصفات الآنية المحددة له سلفا ، هو الموظف الذي لا يبدع وانما يشتغل على اجندة مرتبة له ، لذلك كتاباته حتما ستموت بعمر قصير جدا . لأنها لا تنتمي لجدلية الأبداع الأنساني الحر .أن تكون مبدعا انسانيا ملتزما بكل تفاصيل الحياة وبشكل محايد هي ما ستكتب لسرمدية ابداعك، ومن يكتب للسلطة فقد أعدم ذوقه وفكره ولغته ثم مات وحيدا منسيا .
أنت تعيش في بيئة غير التي تربيت وترعرعت فيها ، ماذا أضاف المكان / المانيا للشاعر محمد كنوف ؟
الإضافات كثيرة ، في الحقيقة هي الأحساس بالحرية الشخصية والفكرية والإبداعية التي لا نجدها غالبا في بلداننا. زد على ذلك أنني صقلت حياتي هنا أكثر من هناك . احتكاك بشري هائل يجعلك تحس ببشريتك أكثر ، الحرية هي أثمن شيء حصلت هنا ، في المهجر . المهجر أضاف لي سماء خصوصية جدا وبهواء وجودي رائع وبمميزات ذات جودة عالية.
ماذا بعد "الخيل لا تنام على مهلها" سمعتُ أنه سيُصدر لك قريبا ثلاثة أعمال متتالية في الشعر والقصة القصيرة جدا ...هل من خيول أخرى في الطريق ؟
الديوان الثاني في الطريق الى الولادة وسيبصر الحياة هذا الصيف ومجموعة قصص قصيرة وكتاب للتأملات الجنونية في هذه الحياة السنة المقبلة ان شاء الله.
ما هو مضمون رسالتك الثقافية التي تريد إرساله إلى الآخر..؟
قصيرة وواضحة جدا ، كن حر الفكر والمبدأ ، واكسر الخبث الذي يقيدك حين تتمترس في لوبيهات ثقافية رديئة ووسع قلبك للحب ، بكل ما أوتيت من لغة وفكر. واخرج من دائرة التكتلات العديمة الحياة.
سمعت انك مدعو لتكون ضيفا على المهرجان الدولي للشعر بالناظور المزمع تنظيمه ايام ثمانية عشرة وتسعة عشر من شهر مايو تحت شعار "القصيدة ..بأصوات العالم". ماذا سيكون صوتك لأهل الناظور والريف عامة. هل "سترفع كعادتك اغنيات القلب للمدينة التي سكنت عمرك طويلا" . ؟
بالطبع سأكون مبتهجا بجمهور الناظور والذي أنتمي اليه ، سأكون كمن يولد مرة أخرى لأنني اشتقت له وآخر أمسية شعرية بالناظور كانت سنة 1988 في ذكرى الراحل البطل المقاوم مولاي محند عبد الكريم الخطابي ، والتي كان فيها معي الشاعر والصحفي عبد الحميد جماهري والشاعر الفلسطيني حسن عيسى ،.سأغني للمدينة التي مررت فيها ومنها الى أرصفة كادت تصيب ذاكرة أصدقاء بالنسيان . سيكون صوتي قاسيا جدا بالحب ، وسأحدق عميقا في عيون لم ترد أن تراني سيد الغناء ، لكنني أحبها جدا وأخيرا شكرا للمدينة التي رافقتني لأزيد من ثلاثين سنة في رحلتي البطوطية ان صح هذا التعبير .
وأخيرا أشكرك السي محمد بوثخريط على هذه الإلتفاتة الجميلة ، والتي بها أيقضتني من نسيان كاد يورثني موتا.
ثمة خيط رفيع يفصل بينه وما يكتب.. يعرف الكتابة وتعرفه... لذلك فهو لم يعد بامكانه التوقف عنها. شاعر وقاص مبدع من بلاد عاشت تراتيل الحزن بكل صنوفه وتفاصيله، وما كسرت التفاصيل ريشات جناحيه. ظل عاشقا لتراب الأرض هناك. أعلن صارخاً: "لم أولد الا لأكون واحدا ممن يخربون الذات بفوضى المفردات وتأسيس الغنائية التأملية". لامس بكلماته الملتهبة، شغاف الأرواح النائمة، وفتح لنا من خيوط سطورها أشياء عديدة نضعف أمامها أحيانا، تحسسنا أطفالاً صغارًا تائهين ونحن نحاول احتواءها فى عناق عابر.
كتب عن "كبدانة" بوابة الصورة الممكنة كما يقول عنها ، نافذة العمر التي يشم منها روائحه الخاصة، ذاك العش الذي فرخت فيه كل أشيائه الخاصة وكل التجليات .. خطّها ذاكرة ما زالت طازجة تحمل روائح البحر و"حجرة ماواس" وذاك الريف الشامخ هناك تلك الجذورالعميقة لكينونتنا الامازيغية .. هي لوحة الزمن والذكريات، تلك التي لم تغب عنه ولو للحظة.
إنه ذاك المتخم بوجع الفقد الحميم الذي يكبر ليصبح وطن، والممتلئ بوطن لم يصغر في قلبه.. أبدا. أبحر في أجناس الأدب منذ الثمانينات فكتب القصة وأبدع في الكتابة الشعرية. صدرت له مؤخرا مجموعة شعرية بعنوان: "الخيل لا تنام على مهلها". وسيصدر له قريبا أعمال أخرى في الشعر والقصة .
إنه الكاتب محمد كنوف شاعر وقاص مغربي مقيم بألمانيا، من مواليد 1962 بقبيلة كبدانة التابعة لإقليم الناظور شمال شرق المغرب في الريف، تابع تعليمه الثانوي بالناظور،ثم التحق بالمركز التربوي الجهوي بمدينة وجدة، ليلتحق بعد تخرجه بمدينة الدار البيضاء التي عُين فيها أستاذا ومكث فيها إلى أن انتقل سنة 1993 الى ألمانيا.
في البداية طبعا: من هو محمد كنوف المبدع والإنسان؟
محمد كنوف لا يقدم نفسه كما يشاء ، لأن الخصوصية الشخصية كمبدع من الأحسن أن يقدمه الكائن القارىء ، لكن لا بأس أن أعترف بجنون الكتابة الذي ورطني في غواية اللغة وشفافها الجميل ، الثورة والتجريب المستمر لأنماط وأنساق الإبداع هما الهم الوحيد الذي أشتغل عليه جيدا بكل قوة . أنا أحمق باللغة وعاشق حتى الموت بجمال التعبيرية الشعرية .لم أولد الا لأكون واحدا ممن يخربون الذات بفوضى المفردات وتأسيس الغنائية التأملية والتي لا يعترف بها الكثير من النمطيين . أما محمد كنوف الإنسان فهو الحس المرهف وكما عبرت مرار القاسي لغة والباكي حد الفشل الجميل. أحاول أن أكون انسانا بدائرة أوسع وبأخطاء أقل.
متى بدأت الكتابة أو ما الذي دفعك اليها وبالتالي الاستمرار فيها .. متى بدأتَ تشعر بأنك تقف على عتبة الموهبة و شعرت بأنك تلمس مفاتيح ابواب الخفقات واللحظات الشاعرية ؟
اذا لم تحس بالموهبة تدفعك للكتابة فأنت قاتل نفسك الجمالية . بمعنى الموهبة تولد معك منذ الحليب الأول ، وتكبر وتشاغب وتورط صاحبها لأنها الشرخ الواضح في مرايا المبدعين وهي الفاصل البرزخي بين من هو موهوب وبين من هو صانع للموهبة ، اذ لا يمكنني أن أكون شاعرا الا اذا اختلطت الكريات الحمرات في دمي بكمياء الموهبة التي بدونها لن تكون مبدعا مهما كانت قامتك التحصيلية العلمية. كأي طفل شقي الوضع مشاغب كالريح وهائج كالبحر وعاشق حتى الموت ، رأيتني أكتب ثم أكتب عن كل الأشياء التي أوهمتني بأنني مميز ، وأنا أكبر كنت ومازلت أربي حجل الكلام وأعتني بالخطاطيف الشاردة باللغة الغنائية تارة وبالتأمل في اللغة وبها في الكينونة الطائشة. أحاول ان أرتب قلبي على عقارب الوقت وبكل المقاييس .
أين يجد محمد كنوف نفسه أقدر بالتعبير عما يدور بخاطره ، بالسرد النثري أكثر، أم بالقصائد؟
الحقيقة كم مرة يحدث لي أن أبدأ شاعرا وفجأة أنتهي ناثرا , وعكس ذلك تماما . أنا أرتاح فقط في سرير اللغة ولا أنام الا على ركبتيها الجميلتين ، لا أفرق كما باقي المبدعين بين الإرتياح لفصيلة دون أخرى، لغتي هي من تسوسني بلجام الجمال ، وهي من تختار لي حديقتي وهي الوردة التي أعطر بها نصي الجديد . شعر أم نثر لا فرق بين الوسادتين ، ولا فرق عندي بين الجميلتين.
"كبدانة " أي ذكريات تحفظها مخيلة محمد كنوف عن هذا المكان الذي نشأ وترعرع فيه؟
هي التردد المستمر للروح ، وهي التراب الذي لا يستطيع أي منظف أن يغسله عن ثوب الذاكرة . كبدانة بالنسبة لي بوابة الصورة الممكنة ، نافذة العمر التي أشم منها روائحي الخاصة ، وهي العش الذي فرخت فيه كل أشيائي الخاصة وكل التجليات . حين تذكر كبدانة ، معناه أنك توقظ في القلب طفولته الصغيرة والحب الصغير والسنابل التي جرحتها بمنجل كنت أستعرته من أبي الفلاح . ، لا يمكن تصور كبدانة أو بالأحرى قبيلتي التي نشأت فيها بدون شيئين اثنين : البحر وحجر ماواس . البحر ايقونك الملح الواسعة التي ربتني موجته على اكتشاف الاعماق الطبيعية والآدمية. أما حجر ماواس فهو الرابظ فوق جبالنا هناك والتي تدعى سبعة رجال وكأنني ثامنهم كلما رايت ذاك الحجر ، انه الحب المقدس في العلو الجغرافي وهو الإرتباط بالتاريخ . كبدانة ما قالت الحياة لمحمد كنوف .
ماذا يعني لك الريف. أهو فعلا ذاك الحلم الطفولي كما قلتَ يوما ام هو فقط ذكريات الامس تحوم في هيئة احلام الطفولة التي لم تعشها جيدا..أم ماذا ؟
الريف هو الجذور العميقة لكينونتنا الامازيغية . وهو الرمز لمجمل التاريخ هو الماضي الأول فينا بكل أحلامه واحتمالاته ، وهو الحاظر فينا باتساع السيرورة والهوية وهو الغد الذي يؤسس فينا شموخ التواجد بين كل الأمكنة وبين كل البشر . بالنسبة لي الريف مضغة لصيقة بالقلب والذاكرة ، بمعنى هو الحلم الذي يشدني بكل أناته وبكل أطيافه . وهو قوس قزحي الخاص الذي الهو به كلما تعبت من الإغتراب في مرافئ ضيقة جدا . الريف أصل والريف هويتي الفائقة.
"أبي الذي نال الحب كله الى أخر العمر" (هذا كلامك). لا جدال على كون الأب هو الحب وهو الأصل والعماد الذي نتكئ عليه . ولكن الملاحظ من خلال كتاباتك ان "للأب " عندك مكانة أخرى خاصة واهتمام خاص جدا و معاني أخرى كثيرة فما السر في الحكاية كلها؟
أبي هو حبيبي وشيخي الصوفي الزاهد ، وهو الحب الاول والأخير ، وهو اختصار لرحلتي التأملية في الحياة . مكانته لا تتغير في القلب مهما كثر قاطنوه. لأنه وببساطة متناهية أبي لا أب أحد غيري ، هي ليست انانية لكنها احتواء خاص لهذا الشخص الذي لولاه لما تعلمت سر الإنسان . هو التواضع المتجلي ، وهو الكادح الذي لم يتعب أبدا وهو المحب للناس جميعا ، وهو المربي الذي رباني على العفة والأمل وهو الجندي الذي لقنني فنون الحرب لمواجهة هذه الحياة . المفارقة العجيبة جدا التي ميزت الراحل أبي هي أنه كان محبا للعلوم والدراسة علما أنه كان أمي الحرف لكنه سيد التأمل الفكري . حينما يكون لك اب بهذه المميزات لا يسعك الا أن تحبه وبكل الجنون . لذلك سميت أبني الصغير باسم أبي حتى يستمر هذا الحب واقعيا وجينيا ايضا.
س ـ تكتب قصَّة قصيرة وتكتب شعراً .. لماذا التنوُّع ، وأين تجد نفسك أكثر في هذه المنعطفات الجميلة ؟
ج : أكتب كما سبقت الإشارة في كل الانماط لأنها سرير لغتي ولأنني قائد الجوقة السيمفونية ، وعلي كل السلالم الأيقاعية . أجد نفسي وروحي في كل هذه الأشكال التعبيرية.
لكلِّ مبدع ريشته و أدواته وبالتالي أسلوبه الخاص في التعبير، ماذا عن أسلوبك أنت وأدواتك في الكتابة الإبداعية؟
أنا لا أملك سرا ولا ادوات ، خاصة للكتابة ، هي بالبساطة ذاتها التي يملكها كل أديب ، موهبة ثم لغة تصقلها كالمرايا كل مرة وحب لفعل الكتابة ، اذا غابت الرغبة ، فلا حظ يوفقك للكتابة .
شعراء العالم كثيرون لمن تقرأ أكثر،ومن منهم يشدك أكثر ويبهرك ؟
أنا قارئ جيد لكل جيد ، وعميق في ذوقي الأدبي ، اقرا بخمس لغات الرواية الشعر والقصة . لكنني لا افضل مبدعا معينا لي حتى لا احاصر الذوق بطعم معين انتبهت مبكرا لهذا الأمر لذلك اخترت التنوع نصا وشكلا وذوقا . أستريح جذا حين أدخل المختبر اللغوي الخاص لأدونيس ، وأكون مزهوا جدا بغنائية محمود درويش ، أما الرواية وفن الحكي والقص فهناك الكثيرون ممن يأسرون ذائقتي ، صنع الله ابراهيم ، عبد الرحمن منيف ، محمد زفزاف والكبير جدا العم أحمد بوزفور الأسماء كثيرة كالنجوم، وذكرت بعضها على سبيل المثال لا الحصر. زد على ذلك المبدعين العالميين .
ممّا لا شك فيه أنَّ مخيلة الإنسان لا تخلوا من الخيال، فما أخبار الخيال في قصائدك،أم أن شخصيات قصائدك مولودة من واقع محيط بك ؟
المخيل في مفهوم الشعرية البنيوية انما هو تفاصيل معيش موسع في دائرة المتأمل فيه . بمعنى الواقعي هو المتخيل أيضا . لكن المبدع وحده من يقود بسحره هذا المخيل الى الواقعي أو بالعكس أيضا. قصائدي فيها من المخيل الواقعي ما يرعب العقل ويربك الذات الجمعية ، لكن وللأسف قليل من ينتبه الى هذا الأمر وكأن القارئ لقصائدي يتلذذ فقط بلعبة الغواية اللغوية ، ولا يحاول النفاذ الى قلب الشكل الجمالي والنمط التجريبي . الأحكام المسبقة والجاهزة هي من ساهمت في قتل ابداع كثيرين من القامات فوجدت نفسها في الظل ثم انسحبت من المشهد.
لمست في كتاباتك نوعا من "النرجسية" وشفافيتك تجاهها بادية كذلك، فهل هذه السمة نتيجة تربية ما ، أم ان تجربتك الكتابية /الشعرية على مدى السنين ، جعلتك واثقا مما تقدم ؟
المبجع نرجسي بطبعه لكنها ليست مرضية تماما ، انما هي نتيجة التراكمات الذاتية الخفية منها والعلنية ، وهي طيش لغوي جميل لا يعيب المبدع أبدا . لأن الورد الجميل في الطبيعة يجذب كل الكائنات الطائرة والتي تمشي على اثنين كذلك .لا دخل للتربية في ذلك . النرجسية كما عبرت أنت ، أسميها الغواية الذاتية والتبصر القلبي الجميل.
اراك حزينا في كتاباتك احيانا رغم امتلاكك لروح النكتة ؟
هو الفرح ذاته ، ليس حزنا بقدر ما هو هدوء التأمل بالقلب أحيانا . الحزن جزء من واقع حزين نعيشه يوميا على هذه الأرض ، الحروب والأرهاب والقتل والجوع والفتن وبأسماء واحالات متععددة وبأجندات مختلفة . لا يمكن لهذه الأشكال من الموت اليومي الا لتحزنك ، لكن حزن الشعراء فيه فرح بالغد المؤجل في حلمنا ونحن من يمد جسر العبور الى ما هو أجمل بعد اليوم .
متى تطل دمعة محمد كنوف ومتى تختفي او بالأحرى متى تبتسم شفتاه؟
دمعتي سلاحي وهو الجيش الوحيد الذي يوقفني على حساسية الروح المفرطة . قلت مرارا أنا بكاء وبكائي لحد الثمالة . دمعتي تسبق ابتسامتي ، والدمعة عندي رحمة للقلب ، وتعاطف وحب واختلاج وانسانية مفرطة في الحس البشري. وهي تختفي من العين لتغوص عميقا في القلب وتظهر بتجلي اللغة وتنز صورة في ملح الدمع.
صدرت لك مؤخرا عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر بالرباط مجموعة شعرية بعنوان : "الخيل لا تنام على مهلها" هل لك ان تقربنا اكثر من هذه الخيول ؟
هي تجربة النشر لا غير أردت أن اقدم لنفسي أول صورى بالحبر والورق ، وهي أشعار مشكلة من قصائد قديمة وجديدة . أنني جربت الولادة وأعلنت للقارئ أن هناك ولدا جميلا يسمى الخيل لا تنام على مهلها . أن تقدم ابنك للناس معناه أنك تهدي لهم صورته كما أردت والباقي للنقاد والمهتمين هم من سيكشفون ماهية هذه الهدية . يبقى الرهان في وطننا دائما بيد الكائن القارئ . ومع الأسف هناك كسل هائل في القراءة . اقولها بكل المرارة .
قرأت لك في حوار سابق تقول عن عنوان مجموعتك الشعرية الأولى أن :"العنوان ينم بشكل ما عن بداية الرقص في حلبة الخيول الشعرية وسوف لن أنام بعد هذا التجريب الجمالي.."ماذا تقصد بالضبط ؟
القصد من وراء ذلك هو أنني سأتابع الرقص اللغوي بكتابات أخرى وبدواوين جديدة . وأنا راقص جيد على حبال الحرف .الرقص معناه الفرح وهو العرس الذي سوف لن ينتهي الا بانتهاء صوتي من هذه الكينونة .سأتابع التخريب اللغوي وبعناد جميل وفي أشكال مختلفة.
يقال دائما بأن السياسة تدخل في خبزنا اليومي ، ولاحظت ان في قصائدك أحيانا ولو كانت عن الحب مثلاً يوحى الى القارئ وكأن هذا الحب يصب بشكل او بآخر في قلب الوطن .. إلى أي مدى تجد نفسك ملتزماً كشاعر ومبدع بهذا القول؟
اللإلتزام هو فلسفة وجودية ، أن تلتزم بواقعك وبكل تفاصيل هذا الواقع وبجمبع قضاياه البشرية والسياسية ، الحب قضية وجودية قبل أن تكون احساسا هلاميا عند البشر ، وهذا ما يؤكده جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار . أنا ملتزم بالقضايا الكبرى والصغرى في آن واحد ومنذ بداياتي الإبداعية وللتذكير أول نص نشر لي في جريدة البيان في اواسط السبعينيات كان شعرا ملتزما ، وللذكرى كنت أول شاعر في المغرب آنذاك يرثي عزيز بلال بقصيدة آلو شيكاغو وهو الذي اغتيل في أحد الفنادق بأمريكا وفي مدينة شيكاغو .
ملتزم بالقضايا السياسية الكبرى كفلسطين ، وقصية محمد عبد الكريم الخطابي وطابور لالة يما . الإلتزام ميزة فكرية وجمالية في كتاباتي بشكل مستمر. أن تكون محدقا في الساسة معناه أنك تحس بالنبض الآخر ، تعيش الصراع الأبدي والجدلي بين بني البشر . لذلك من لم يهتم بها ستميز ه صفة واحدة عنا ، الا وهي انه ينتمي لعصر خارج الأرض.و خارج السيرورة المعيشة.
اين الوطن بعيون وقلم محمد كنوف ؟
من لاوطن له يعني أنه لا يملك قلبا ولا وجودا ولا قبرا كذلك . الوطن هو الإنتماء بكل تفاصيله وهو الهوية الجامعة للتاريخ الخاص ، وهو بوصلة الحب في معانيه الواسعة . والوطن بشكل خاص في شعري هو الحنين الذي يذيب القلب وأنا بعيد عنه هنا بألمانيا . الوطن حروف التنفس عن كل التراب الذي تمرغنا فيه ذات طفولة بعيدة . انه الحافز الكبير على الإستمرار في الحياة وفي جغرافية لا تتغير مهما تبادلتنا الأوطان المؤقتة . الوطن مؤشر الحنين في شعري وهو نور الرجوع الذي أهتدي به كلما قرصتني ذبابة الوجع .
يُقال ان الشعر لا يموت إذا استجاب لحاجات ضرورية جوهرية لدى الإنسان، والتي هي ليست في الأصل سوى مزيج من ذاكرة وواقع واستحضارلأشياء متأصلة في روح هذا الإنسان نفسه ..والملاحظ في قصائدك هذه الجزئية من التفاصيل التي تتكئ بالعام إلى ذاكرة تأبى النسيان .نسيان الجذور كما ايضا واقع الحال . ماذا تقول في ذلك؟
الشعر هو الشعر هو الكائن الجمبل الذي لا أتنفس جيدا الا برئته الواسعة . هو الذاكرة الابدية عندي وهو الكلام المقدس الخاص ، هو العز والمال والصداقات والتاريخ وهو الهواء الذي بدونه لن أكون . أن تكون شاعرا معناه أنك تحرر الذات الجمعية في ذاكرة الحياة وهو أيضا الروح المملوؤة بالأشباح الجميلة التي لا يرافق حركيتها الا الشاعر ذاته .أقول هو الكائن الوحيد الذي لا يمكنني الإستغناء عنه . هو الوصف الذي لا تحتويه الأوصاف . الشكل الخارج من قيامة اللغة الى حالة الكون والإنسان. انه الشعر ، انه الشعر.
يُقال ان "الكتابة" تموت عندما يموت ضمير الأنسان ويكون الكاتب عبدا مطيعا للسلطة ومسؤليها.. ما رأيك ؟
الكاتب الأصيل هو من يجعل كتاباته حية أبدية بانتمائه للشعوب والإنسانية بكل أطيافها . لكن الكاتب السلطوي التوجه هو آلة ميكانيكية تحت الطلب وبالمواصفات الآنية المحددة له سلفا ، هو الموظف الذي لا يبدع وانما يشتغل على اجندة مرتبة له ، لذلك كتاباته حتما ستموت بعمر قصير جدا . لأنها لا تنتمي لجدلية الأبداع الأنساني الحر .أن تكون مبدعا انسانيا ملتزما بكل تفاصيل الحياة وبشكل محايد هي ما ستكتب لسرمدية ابداعك، ومن يكتب للسلطة فقد أعدم ذوقه وفكره ولغته ثم مات وحيدا منسيا .
أنت تعيش في بيئة غير التي تربيت وترعرعت فيها ، ماذا أضاف المكان / المانيا للشاعر محمد كنوف ؟
الإضافات كثيرة ، في الحقيقة هي الأحساس بالحرية الشخصية والفكرية والإبداعية التي لا نجدها غالبا في بلداننا. زد على ذلك أنني صقلت حياتي هنا أكثر من هناك . احتكاك بشري هائل يجعلك تحس ببشريتك أكثر ، الحرية هي أثمن شيء حصلت هنا ، في المهجر . المهجر أضاف لي سماء خصوصية جدا وبهواء وجودي رائع وبمميزات ذات جودة عالية.
ماذا بعد "الخيل لا تنام على مهلها" سمعتُ أنه سيُصدر لك قريبا ثلاثة أعمال متتالية في الشعر والقصة القصيرة جدا ...هل من خيول أخرى في الطريق ؟
الديوان الثاني في الطريق الى الولادة وسيبصر الحياة هذا الصيف ومجموعة قصص قصيرة وكتاب للتأملات الجنونية في هذه الحياة السنة المقبلة ان شاء الله.
ما هو مضمون رسالتك الثقافية التي تريد إرساله إلى الآخر..؟
قصيرة وواضحة جدا ، كن حر الفكر والمبدأ ، واكسر الخبث الذي يقيدك حين تتمترس في لوبيهات ثقافية رديئة ووسع قلبك للحب ، بكل ما أوتيت من لغة وفكر. واخرج من دائرة التكتلات العديمة الحياة.
سمعت انك مدعو لتكون ضيفا على المهرجان الدولي للشعر بالناظور المزمع تنظيمه ايام ثمانية عشرة وتسعة عشر من شهر مايو تحت شعار "القصيدة ..بأصوات العالم". ماذا سيكون صوتك لأهل الناظور والريف عامة. هل "سترفع كعادتك اغنيات القلب للمدينة التي سكنت عمرك طويلا" . ؟
بالطبع سأكون مبتهجا بجمهور الناظور والذي أنتمي اليه ، سأكون كمن يولد مرة أخرى لأنني اشتقت له وآخر أمسية شعرية بالناظور كانت سنة 1988 في ذكرى الراحل البطل المقاوم مولاي محند عبد الكريم الخطابي ، والتي كان فيها معي الشاعر والصحفي عبد الحميد جماهري والشاعر الفلسطيني حسن عيسى ،.سأغني للمدينة التي مررت فيها ومنها الى أرصفة كادت تصيب ذاكرة أصدقاء بالنسيان . سيكون صوتي قاسيا جدا بالحب ، وسأحدق عميقا في عيون لم ترد أن تراني سيد الغناء ، لكنني أحبها جدا وأخيرا شكرا للمدينة التي رافقتني لأزيد من ثلاثين سنة في رحلتي البطوطية ان صح هذا التعبير .
وأخيرا أشكرك السي محمد بوثخريط على هذه الإلتفاتة الجميلة ، والتي بها أيقضتني من نسيان كاد يورثني موتا.