يوبا الغديوي، دوسلدوف / ألمانيا
هل هو مكر التاريخ أن يعيش الريفيون كابوس التيه الدائم في شوارع وأزقة البلدان الأخرى وهم الذين حولوا قراهم ومداشرهم إلى ساحات حرب مفتوحة على جميع الجبهات حتى ينعموا بالحرية والاستقرار ؟ ألا يستحق الريفيون سوى شوارع أوروبا الباردة ولياليها العارية القاسية كضريبة جماعية لمقاومتهم الباسلة للآلة الاستعمارية الفرنسية والإسبانية وصنعيتهما العلوية المغربية ؟ ألا يوجد وطن اسمه الريف من شأنه أن يأوي كل أبنائه الريفيين الذين شردتهم سياسات النفي الجماعي التي نهجها الاحتلال المخزني ضدهم لو لم يكن وطنا مغتصبا، ليظل بالتالي أبناءه مشردون تتقاذفهم الأيام بين شوارع المدن الأوروبية ويطاردهم شبح الموت الآتي مع تلاطم أمواج المتوسط ؟ .... هذه الأسئلة وغيرها، تراودني كما تراود بلا شك كل من تجري في عروقه قطرة دم ريفية حرة، ونحن نرى بأم أعيننا الموجة الثانية، أو الشوط الثاني من مسلسل التهجير والنفي القسري الذي اعتمده النظام المغربي ضد أبناء الريف منذ أن استلم السلطة من طرف أيدي الاستعمارين الإسباني والفرنسي، بهدف إفراغ بلاد الريف من كل طاقاته المنتجة، والمزعجة في نفس الوقت لسلطة لا شرعية ولا مشروعية لها في بلاد ارتوت بدماء الأجداد الطاهرة لتظل حرة مستقلة وحاضنة لأبنائها، فإذا بها تتحول إلى جحيم لهم بفعل مكر التاريخ وتآمر السلطة والأعيان...
أصوغ هذا الكلام وأنا أستحضر إحدى أبرز مشاهد المأساة الإنسانية التي يعيشها الكثير من أبناء الريف الذين اختاروا المغامرة عبر ما بات يُعرف بــ "طريق تركيا" للوصول إلى بلاد كونوا عنها صورا جميلة في مخيلتهم من خلال سيارات المرسيديس والآودي والبي إيم ... المرقمة بألمانيا التي تخترق شوارع وأزقة المدن الريفية، بل وحتى قراها ومدارشرها، صور جميلة لألمانيا لم يعرفها هؤلاء الذين غامروا بحياتهم للوصول إليها إلا من خلال أغاني "أيادجيس أوليمان" (يا بنت ألمانيا) التي تحولت إلى محور أحلام الكثير من أبناء الريف الذين فقدوا الأمل في مستقبل أفضل في وطنهم... تعود هذه الصورة من صور المأساة، أو بالأحرى مشهد من مشاهد التراجيدية الريفية الواقعية إلى إحدى الأيام القليلة الماضية ببرودها الشديدة، حيث كنت بمعية صديق نعد مربعات الرصيف على جنبات إحدى شوارع مدينة دوسلدوف (شرق ألمانيا)، ويصوت مرتفع كنا نتبادل أطراف الحديث، حينها قصدنا شخص كان واقفا قرب محطة الحافلات، وكان مستهل كلامه كما هي عادة المسلمين: "السلام عليكم" ... رجل في عقده الثالث تظهر عليه ملامح التعب ويحمل محفظة على ظهره واضعا قبعة سوداء ومرتديا ملابس كثيرة ...بدون مقدمات طلب منا مساعدته: "أييثما (إخواني) أريد السفر الى بروكسيل لكن سائق الحافلة رفض أن أسافر معه لعدم توفري على بطاقة الهوية ! اكتشفت أنه من المهاجرين الــ "غير النظاميين" ومن المحتمل أن يكون من الذين ولجوا ألمانيا عن طريق تركيا، ومن باب الفضول سألته، فكان بيننا الحوار التالي : هل لي أن أعرف لماذا لا تملك أوراقك؟ أنا مهاجر غير شرعي كنت في فرانكفورت برفقة أحد معارفي لكنه طردني بعد إقامتي معه ثلاثة أسابيع وألان أريد أن أسافر إلى بروكسيل ... ومن لديك هناك ؟ أحد أفراد عائلتي... وهل يعلم بقدومك؟ لا يعرف شيئا عن قدومي! .... سأصل هناك وسأتصل به، ولست متأكد إن كان سيستقبلني للمبيت معه في هذا البرد القارس الذي تسلل لكل عظامي يا أخي... بنظرة سريعة تأسفت لحاله وشعرت بمعاناته وبوحدته الموحشة في هذا العالم الموحش المخيف...عالم الانا وما أدراك ما أنا... طلب مني أن أسأل موظفة تشتغل في وكالة للأسفار حول ما إن كان بإمكانه السفر على متن حافلاتها. دخلت الى الوكالة وقد كانت مكتظة بالمهاجرين السوريين ومن بعض الجنسيات الاخرى قذفت بهم الايام الى هذا المصير المجهول...
بعد لحظات عدت إليه أجر مرارة الشؤم أخبرته بما أخبرتني به بعدما سألتها بخصوص صديق زارني قادما من فرنسا والأن أراد العودة مجددا الى مسقط رأسه، لكن لسوء حظه أنه أتلف كل ما يثبت هويته. هزت رأسها كتعبير عن الرفض وأردفت: "على صديقك أن يقصد إحدى مكاتب الأمن ليحصل على وثيقة تثبت هويته حينها يستطيع أن يسمح له بالركوب..." وفي لحظة كنت فيها لا أزال أسرد عليه الواقعة شعرت بحزن وكآبة في عينيه، تمنى أن يكون كلامي مجرد خدعة وأن يكون تواجده في هذا المكان والزمان مجرد كابوس سينتهي لمجرد أن يستيقظ...لكنه للأسف حقيقة ولا شيء غير الحقيقة.... النهار يجمع أخر خيوطه تاركا مكانه لظلام سيحل لا محالة بعد لحظات وانخفاض درجة الحرارة يلوح في الافق...بين نهار قصير وليل بارد وطويل صار من كان إلى حدود الأمس القريب ذو شغل قار وبيت في أزغنغان يمسح دموع الحسرة والأسى، وظل طريقه في أرض "هتلر"، فلا الارض حنت عليه ولا السماء رحمته... "كم من الاموال صرفت كي أصل إلى هنا؟ وكم من المخاطر صادفت وقمنا بأشياء لم تخطر على بالي يوما... قطعنا مئات الكيلومترات سيرا على الأقدام وركبنا أمواج البحر وكاد الموت أن يخطفنا بغتة...نمنا في العراء وبتنا جياعا... كل هذا من أجل غد أفضل ... لينتهي بي المصير في هذا الزمن الموحش..." يستمر في سرد حكايته المؤلمة وأنا أتابعه بتأمل عميق وأنظر إلى نظرته الشاردة حيث حكايات وأماني لم تحك... تحسست آلامه وغُصت في ظلامه...أردت ومن كل قلبي ان يُنهي قصته هذه وأن يكون هناك سبب لأمنيتي... استفسارات وتساؤلات استنكارية دارت في مخيلتي فجأة، ليكون سؤال البحث عن الإجابة الشافية آلاف الأسئلة المُحرقة: كيف انتهى بنا الامر مشردين في العالم؟ ماهي اللعنة التي قذفت بنا الى هنا؟ أجدادنا قتلوا وأبيدوا وهُجروا وتتشتتوا من أجل أن يعيش أحفادهم الذين هم نحن في سلام وأمن في وطننا، فإذا بنا نفترش شوارع أوروبا ونغطي سمائها المبللة... يا لها من لعنة الأقدار! كانت هذه واحدة من صور المأساة التي ننتهي إليها وقد قذفت بنا بلداننا الى هنا كما قذفت أجدادنا في السابق.
صورة تعيد بنا عقارب الساعة إلى الوراء لاستحضار مشاهد نهاية الخمسينات من القرن الماضي، حين قام النظام المغربي بعد ثورة الكرامة الشهيرة، بتوقيع اتفاقيات لتصدير اليد العاملة مع مجموعة من البلدان الأوروبية لتكون السواعد الريفية قوة عمل مهمة للآلة الرأسمالية الأوروبية وليستفيد النظام من تحويلاتهم المالية من العملة الصعبة من جهة، ولإبعادهم من بلادهم الريف التي هي الوعاء الذي يحمل ذاكرتهم، وبالتالي شرارة ثورتهم المحتملة ضد هذا النظام الغاصب، واليوم، ويا لمكر التاريخ وخدعة الزمان، نرى بأن التاريخ يعيد نفسه بنفس التفاصيل تقريبا، حيث بدأت حملة واسعة لتهجير أبناء الريف عبر تركيا بهدف إفراغ الريف من طاقاته الشابة والخلاقة وتعويضها بآخرين قادمين من المناطق الداخلية للمغرب في إطار ما يُعرف بتغيير البنية السكانية للبلاد، حيث يقوم النظام المخزني بحملات تهجير واسعة، كما يحدث مؤخرا في الهجرة عبر تُركيا، تُستعمل فيها وسائل دعاية كبيرة وبدقة عالية جدا لدفع الشباب الريفي لمغادرة وطنه وتعويضهم بالمعربين القادمين من المناطق الداخلية، ولعل الملاحظة الأساسية التي تسري على الموجة الأخيرة هي كونها استهدفت الفئات الشابة في الريف، باعتبارها قوة المجتمع.
لقد استهدفوا ترحيل الشباب ليقوموا بتعويضهم بآخرين معربين، سيصبحون مع مرور السنوات مندمجين في المجتمع الريفي من خلال علاقات الزواج، مع فتيات ريفيات بالخصوص، وهو ما سيُحول بشكل تلقائي البنية الديمغرافية للريف من ريفية معتزة بأصولها وهويتها وغير راكعة للمخرن، إلى "بنية معربة وخاضعة كُليا للنظام المخزني"، أي أن الهدف الأساسي هو مخزنة الريف عن طريق تحويل بنيته الديمغرافية، وإلا فكيف نفسر أن آلاف الشباب الذين التحقوا بتركيا كبلاد عبور إلى أوروبا كلهم من الريف ؟ لماذا لم يغادر الآلاف من المغاربة القاطنين بالمناطق الداخلية على غرار أبناء الريف؟ إن الهدف من موجة التهجير الثانية هذه ليس سوى إخلاء الريف من طاقاته البشرية، وتعويضهم بالمنحدرين من المناطق الداخلية، وبالتالي خلق ازدواجية هجروية ونزيف سكاني حاد يؤدي إلى انقلاب خطير في البنية السكانية للمجتمع الريفي، بهدف القضاء على مقوماته الاجتماعية وهويته السياسية لاستكمال ما تبقى من تنفيذ المشروع الأمني الجديد للدولة في الريف وإخضاع الجميع لرغبات صاحب السلطة.
هل هو مكر التاريخ أن يعيش الريفيون كابوس التيه الدائم في شوارع وأزقة البلدان الأخرى وهم الذين حولوا قراهم ومداشرهم إلى ساحات حرب مفتوحة على جميع الجبهات حتى ينعموا بالحرية والاستقرار ؟ ألا يستحق الريفيون سوى شوارع أوروبا الباردة ولياليها العارية القاسية كضريبة جماعية لمقاومتهم الباسلة للآلة الاستعمارية الفرنسية والإسبانية وصنعيتهما العلوية المغربية ؟ ألا يوجد وطن اسمه الريف من شأنه أن يأوي كل أبنائه الريفيين الذين شردتهم سياسات النفي الجماعي التي نهجها الاحتلال المخزني ضدهم لو لم يكن وطنا مغتصبا، ليظل بالتالي أبناءه مشردون تتقاذفهم الأيام بين شوارع المدن الأوروبية ويطاردهم شبح الموت الآتي مع تلاطم أمواج المتوسط ؟ .... هذه الأسئلة وغيرها، تراودني كما تراود بلا شك كل من تجري في عروقه قطرة دم ريفية حرة، ونحن نرى بأم أعيننا الموجة الثانية، أو الشوط الثاني من مسلسل التهجير والنفي القسري الذي اعتمده النظام المغربي ضد أبناء الريف منذ أن استلم السلطة من طرف أيدي الاستعمارين الإسباني والفرنسي، بهدف إفراغ بلاد الريف من كل طاقاته المنتجة، والمزعجة في نفس الوقت لسلطة لا شرعية ولا مشروعية لها في بلاد ارتوت بدماء الأجداد الطاهرة لتظل حرة مستقلة وحاضنة لأبنائها، فإذا بها تتحول إلى جحيم لهم بفعل مكر التاريخ وتآمر السلطة والأعيان...
أصوغ هذا الكلام وأنا أستحضر إحدى أبرز مشاهد المأساة الإنسانية التي يعيشها الكثير من أبناء الريف الذين اختاروا المغامرة عبر ما بات يُعرف بــ "طريق تركيا" للوصول إلى بلاد كونوا عنها صورا جميلة في مخيلتهم من خلال سيارات المرسيديس والآودي والبي إيم ... المرقمة بألمانيا التي تخترق شوارع وأزقة المدن الريفية، بل وحتى قراها ومدارشرها، صور جميلة لألمانيا لم يعرفها هؤلاء الذين غامروا بحياتهم للوصول إليها إلا من خلال أغاني "أيادجيس أوليمان" (يا بنت ألمانيا) التي تحولت إلى محور أحلام الكثير من أبناء الريف الذين فقدوا الأمل في مستقبل أفضل في وطنهم... تعود هذه الصورة من صور المأساة، أو بالأحرى مشهد من مشاهد التراجيدية الريفية الواقعية إلى إحدى الأيام القليلة الماضية ببرودها الشديدة، حيث كنت بمعية صديق نعد مربعات الرصيف على جنبات إحدى شوارع مدينة دوسلدوف (شرق ألمانيا)، ويصوت مرتفع كنا نتبادل أطراف الحديث، حينها قصدنا شخص كان واقفا قرب محطة الحافلات، وكان مستهل كلامه كما هي عادة المسلمين: "السلام عليكم" ... رجل في عقده الثالث تظهر عليه ملامح التعب ويحمل محفظة على ظهره واضعا قبعة سوداء ومرتديا ملابس كثيرة ...بدون مقدمات طلب منا مساعدته: "أييثما (إخواني) أريد السفر الى بروكسيل لكن سائق الحافلة رفض أن أسافر معه لعدم توفري على بطاقة الهوية ! اكتشفت أنه من المهاجرين الــ "غير النظاميين" ومن المحتمل أن يكون من الذين ولجوا ألمانيا عن طريق تركيا، ومن باب الفضول سألته، فكان بيننا الحوار التالي : هل لي أن أعرف لماذا لا تملك أوراقك؟ أنا مهاجر غير شرعي كنت في فرانكفورت برفقة أحد معارفي لكنه طردني بعد إقامتي معه ثلاثة أسابيع وألان أريد أن أسافر إلى بروكسيل ... ومن لديك هناك ؟ أحد أفراد عائلتي... وهل يعلم بقدومك؟ لا يعرف شيئا عن قدومي! .... سأصل هناك وسأتصل به، ولست متأكد إن كان سيستقبلني للمبيت معه في هذا البرد القارس الذي تسلل لكل عظامي يا أخي... بنظرة سريعة تأسفت لحاله وشعرت بمعاناته وبوحدته الموحشة في هذا العالم الموحش المخيف...عالم الانا وما أدراك ما أنا... طلب مني أن أسأل موظفة تشتغل في وكالة للأسفار حول ما إن كان بإمكانه السفر على متن حافلاتها. دخلت الى الوكالة وقد كانت مكتظة بالمهاجرين السوريين ومن بعض الجنسيات الاخرى قذفت بهم الايام الى هذا المصير المجهول...
بعد لحظات عدت إليه أجر مرارة الشؤم أخبرته بما أخبرتني به بعدما سألتها بخصوص صديق زارني قادما من فرنسا والأن أراد العودة مجددا الى مسقط رأسه، لكن لسوء حظه أنه أتلف كل ما يثبت هويته. هزت رأسها كتعبير عن الرفض وأردفت: "على صديقك أن يقصد إحدى مكاتب الأمن ليحصل على وثيقة تثبت هويته حينها يستطيع أن يسمح له بالركوب..." وفي لحظة كنت فيها لا أزال أسرد عليه الواقعة شعرت بحزن وكآبة في عينيه، تمنى أن يكون كلامي مجرد خدعة وأن يكون تواجده في هذا المكان والزمان مجرد كابوس سينتهي لمجرد أن يستيقظ...لكنه للأسف حقيقة ولا شيء غير الحقيقة.... النهار يجمع أخر خيوطه تاركا مكانه لظلام سيحل لا محالة بعد لحظات وانخفاض درجة الحرارة يلوح في الافق...بين نهار قصير وليل بارد وطويل صار من كان إلى حدود الأمس القريب ذو شغل قار وبيت في أزغنغان يمسح دموع الحسرة والأسى، وظل طريقه في أرض "هتلر"، فلا الارض حنت عليه ولا السماء رحمته... "كم من الاموال صرفت كي أصل إلى هنا؟ وكم من المخاطر صادفت وقمنا بأشياء لم تخطر على بالي يوما... قطعنا مئات الكيلومترات سيرا على الأقدام وركبنا أمواج البحر وكاد الموت أن يخطفنا بغتة...نمنا في العراء وبتنا جياعا... كل هذا من أجل غد أفضل ... لينتهي بي المصير في هذا الزمن الموحش..." يستمر في سرد حكايته المؤلمة وأنا أتابعه بتأمل عميق وأنظر إلى نظرته الشاردة حيث حكايات وأماني لم تحك... تحسست آلامه وغُصت في ظلامه...أردت ومن كل قلبي ان يُنهي قصته هذه وأن يكون هناك سبب لأمنيتي... استفسارات وتساؤلات استنكارية دارت في مخيلتي فجأة، ليكون سؤال البحث عن الإجابة الشافية آلاف الأسئلة المُحرقة: كيف انتهى بنا الامر مشردين في العالم؟ ماهي اللعنة التي قذفت بنا الى هنا؟ أجدادنا قتلوا وأبيدوا وهُجروا وتتشتتوا من أجل أن يعيش أحفادهم الذين هم نحن في سلام وأمن في وطننا، فإذا بنا نفترش شوارع أوروبا ونغطي سمائها المبللة... يا لها من لعنة الأقدار! كانت هذه واحدة من صور المأساة التي ننتهي إليها وقد قذفت بنا بلداننا الى هنا كما قذفت أجدادنا في السابق.
صورة تعيد بنا عقارب الساعة إلى الوراء لاستحضار مشاهد نهاية الخمسينات من القرن الماضي، حين قام النظام المغربي بعد ثورة الكرامة الشهيرة، بتوقيع اتفاقيات لتصدير اليد العاملة مع مجموعة من البلدان الأوروبية لتكون السواعد الريفية قوة عمل مهمة للآلة الرأسمالية الأوروبية وليستفيد النظام من تحويلاتهم المالية من العملة الصعبة من جهة، ولإبعادهم من بلادهم الريف التي هي الوعاء الذي يحمل ذاكرتهم، وبالتالي شرارة ثورتهم المحتملة ضد هذا النظام الغاصب، واليوم، ويا لمكر التاريخ وخدعة الزمان، نرى بأن التاريخ يعيد نفسه بنفس التفاصيل تقريبا، حيث بدأت حملة واسعة لتهجير أبناء الريف عبر تركيا بهدف إفراغ الريف من طاقاته الشابة والخلاقة وتعويضها بآخرين قادمين من المناطق الداخلية للمغرب في إطار ما يُعرف بتغيير البنية السكانية للبلاد، حيث يقوم النظام المخزني بحملات تهجير واسعة، كما يحدث مؤخرا في الهجرة عبر تُركيا، تُستعمل فيها وسائل دعاية كبيرة وبدقة عالية جدا لدفع الشباب الريفي لمغادرة وطنه وتعويضهم بالمعربين القادمين من المناطق الداخلية، ولعل الملاحظة الأساسية التي تسري على الموجة الأخيرة هي كونها استهدفت الفئات الشابة في الريف، باعتبارها قوة المجتمع.
لقد استهدفوا ترحيل الشباب ليقوموا بتعويضهم بآخرين معربين، سيصبحون مع مرور السنوات مندمجين في المجتمع الريفي من خلال علاقات الزواج، مع فتيات ريفيات بالخصوص، وهو ما سيُحول بشكل تلقائي البنية الديمغرافية للريف من ريفية معتزة بأصولها وهويتها وغير راكعة للمخرن، إلى "بنية معربة وخاضعة كُليا للنظام المخزني"، أي أن الهدف الأساسي هو مخزنة الريف عن طريق تحويل بنيته الديمغرافية، وإلا فكيف نفسر أن آلاف الشباب الذين التحقوا بتركيا كبلاد عبور إلى أوروبا كلهم من الريف ؟ لماذا لم يغادر الآلاف من المغاربة القاطنين بالمناطق الداخلية على غرار أبناء الريف؟ إن الهدف من موجة التهجير الثانية هذه ليس سوى إخلاء الريف من طاقاته البشرية، وتعويضهم بالمنحدرين من المناطق الداخلية، وبالتالي خلق ازدواجية هجروية ونزيف سكاني حاد يؤدي إلى انقلاب خطير في البنية السكانية للمجتمع الريفي، بهدف القضاء على مقوماته الاجتماعية وهويته السياسية لاستكمال ما تبقى من تنفيذ المشروع الأمني الجديد للدولة في الريف وإخضاع الجميع لرغبات صاحب السلطة.