أحمد عصيد
"ليس التاريخ مجالا لتصفية الحسابات"، "لا ينبغي إثارة النعرات"، "هذا النبش في التاريخ مدعاة للفتن والصراعات"، "التاريخ مجال للبحث العلمي له مختصوه". كانت هذه بعض من ردود الأفعال التي صدرت عن بعض المثقفين والسياسيين المغاربة في سياق النقاش الذي أثاره مقالنا عن "الهوية والتاريخ ورموز الدولة الوطنية" وكذا مقالنا عن "جذور العنف في الدولة المغربية"، وإذا كنا نوافق على ما ورد في هذه الملاحظات من آراء وجيهة من حيث المبدأ، إلا أننا لا نقبل أن تكون نتيجتها التراجع عن طرح موضوع التاريخ وقضاياه وقراءاته في النقاش العمومي، وإلا صارت هذه الملاحظات سلبية في آثارها ونتائجها، لأنها ستنتهي إلى إقرار ضرورة الركون إلى الصمت خوفا من الطابوهات السياسية والإجتماعية التي يستحسن حسب هذا المنطق تجنبها. والحال أن أي تطور لا يمكن أن يحدث بدون كسر الطابوهات من هذا النوع وتحويلها إلى قضايا مفكر فيها بمختلف أنواع المقاربات، العلمية الأكاديمية منها أو السياسية.
وأعتقد أن المعيار الذي لا ينبغي أن يغيب عنا ونحن نتناول مختلف هذه القضايا هو معيار الوحدة الوطنية الجامعة، التي هي مكسب تاريخي لا يمكن التراجع عنه أو التفريط فيه، ونقصد بهذا أن النقاش حول قضايا الهوية والتاريخ لكي يكتسي طابع الجدية المطلوب ينبغي أن يتمّ خارج النعرات القبلية أو العرقية أو الطائفية من أي نوع، وأن يكون هدفه تجاوز عوائق الحاضر ونقائصه وعيوبه التي تتمثل أساسا في شيوع أنواع الميز واللامساواة، في اتجاه الرقي بالوضعية الإنسانية وضمان الشروط المطلوبة لانتقال سلمي وهادئ نحو الديمقراطية.
ثمة ترابط عميق بين مفاهيم الهوية و التاريخ والسياسة، حيث يحيل الربط بين هذه المفاهيم على إشكاليات دقيقة و متشعبة، تنفتح على مجالات التاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا واللسانيات وغيرها. فالهوية خارج التعريفات النظرية والثقافية، عندما نربطها بمجال المجتمع الإنساني، تصبح صعبة التحديد كخصائص ثابتة للإنسان أو للحضارة، حيث تصبح الهوية شعورا بالإنتماء يخضع لتراتبية على مستويات عدة، (الإنتماء إلى القبيلة، الإنتماء إلى الجهة أو إلى الوطن أو العقيدة أو القارة إلخ)..
إنّ مفهوم الهوية معقد ومنفلت وليس قابلا للقياس أو التحديد الدقيق، ذلك أن الهوية عندما نربطها بالتاريخ تصبح صيرورة للتجربة الإنسانية المتغيرة، حيث لا مجال للفصل بين الهوية والثقافة، فعلاقة الهوية بالتاريخ تبرز أن الهوية صيرورة يعاد بناؤها في زمن عبر النشاط الإنساني والتفاعل والتبادل. ولهذا لا تثور إشكالية الهوية إلا في المنعطفات التاريخية الحاسمة ولحظات التحول الكبرى التي تنبعث فيها الأسئلة القلقة.
من هذا المنطلق فالتاريخ بسبب ما ذكرنا لا يعني فهم الماضي فقط بل الحاضر أيضا، حيث أن نظرتنا إلى التاريخ تعكس الكثير من توترات الحاضر وتستجيب لحاجاته، مما يفسر سعي الإنسان الدائم إلى إعادة قراءة التاريخ وتفسيره وتأويله، ويبرز بالتالي عدم وجاهة الرأي القائل بضرورة طمس السؤال التاريخي أو تأجيله بسبب الحساسيات السياسية أو الدينية أو العرقية والإثنية.
فإذا لم تكن نصوص التاريخ المكتوب تتغير فإنّ قراءاته من منطلق حاجات الحاضر تتغير وتختلف حسب السياق، غير أنّ إعادة قراءة التاريخ تعبر عن درجة نضج الحاضر ورغبة أهله في التجاوز والتجديد والتطوير والمضي نحو المستقبل.
وإذا كانت السياسة تدبيرا للظرفي، فإن ذلك لا يمكن أن يحدث بمعزل عن طبيعة الكيان الدولتي وهويته، هذه الهوية التي تشكلت بالطبع في التاريخ وانبنت عبر صيرورة الأحداث والوقائع والتجارب. ومن الطبيعي أن تسعى الدولة عبر مختلف بنياتها إلى ترسيخ هويتها الجامعة لدى الأفراد والجماعات المنضوين تحت سلطتها لضمان ولائهم لها والحفاظ عبر ذلك على الإستقرار. غير أن المشكل يثور عندما يجد الفرد تنافرا بين وعيه الفردي بالإنتماء الهوياتي وهوية الدولة الرسمية.
هذا التداخل بين الهوية والتاريخ والسياسة يكتسي طابعا متوترا في البلدان الإسلامية عامة وفي المغرب بصفة خاصة بسبب أن هوية الدولة تتحدد عبر الدين الذي هو "دين الدولة"، أي أنه وسيلة من وسائل ممارسة السلطة، مما يزيد الأمر تعقيدا بالنسبة لموضوع التاريخ.
غير أن ما يميز المغرب حاليا وكذا العديد من المجتمعات الإسلامية في موضوع التاريخ، هو ما يلاحظ من ثقل الماضي على الحاضر، حيث تسود فكرة أسطورية عن ازدهار الماضي في مقابل تخلف الحاضر مما خلق نوعا من "البلوكاج" النفسي والذهني لدى المسلمين نتج عنه نوع من تقديس الرواية السنية الأورثوذوكسية للتاريخ، وهي رواية تضمر الكثير من الخوف من الإكتشاف وتتجنب البتّ في التناقضات والمفارقات، وتضع حدودا للمعرفة والبحث التاريخي، حيث تستند الشرعية السياسية للسلطة ـ بسبب عدم فصل الدين عن الدولة ـ إلى رواية معينة للتاريخ، مما يجعل هذه الرواية محروسة ومراقبة، وهذا ما جعل علاقة التاريخ بالسياسة وبالوعي العام علاقة متوترة.
وينضاف إلى ما ذكرنا سبب آخر يجعل النقاش حول التاريخ يكتسي طابعا حادّا يثير الكثير من المخاوف، وهو هشاشة الوضع العام الذي لم يعرف بعد تقوية أسس البناء الديمقراطي، حيث أنّ الحسم في اختيار الديمقراطية هو الذي من شأنه أن يجعل التاريخ مجالا مفتوحا للقراءات المختلفة التي لن تثير أية حساسيات من أي نوع، ويظهر هنا بطلان الرأي الذي يستشهد بالتجربة الإسبانية، والذي يزعم أن الإسبان قد تجنبوا أي نقاش حول التاريخ بعد الحرب الأهلية تفاديا للوقوع في تصفية الحسابات التي من شأنها عرقلة المرور نحو الديمقراطية، والواقع أن الذي حسم النقاش التاريخي في إسبانيا وجعل الشعب الإسباني يتجاوز النقاش التاريخي هو الحسم في اختيار الديمقراطية ووضع أسسها الفعلية، وهو وضع نفتقده في المغرب، حيث ما زال ثمة إصرار على تكريس مساوئ الماضي وعرقلة الإنتقال نحو الديمقراطية، مما يجعل الوضع يبدو متذبذبا ومثيرا للأسئلة القلقة.
إن أسئلة التاريخ بالمغرب المعاصر تبرز بشكل كبير مدى الحاجة الماسة إلى فهم الماضي فهما متوازنا ومنفلتا قدر الإمكان من هيمنة الإيديولوجيا الرسمية والإيديولوجيات المنازعة لها، حيث ساهم ضعف الثقة في المؤسسات الرسمية وفي الأحزاب السياسية في تزايد قلق السؤال التاريخي، مما يحتمّ إعادة قراءة تاريخ المغرب وتصحيحه في المقررات الدراسية وخاصة في إطار سياسة الجهوية الموسعة التي تمّ طرحها للنقاش مؤخرا، حيث سيمكن ذلك من العودة إلى التاريخ الإجتماعي المحلي عوض الإكتفاء بالتاريخ الرسمي الذي كان عبارة عن عملية انتقاء لعناصر هوياتية ولرموز ثقافية في فترة ما وسياق خصوصي تلبية لحاجات الدولة الوطنية المركزية.
"ليس التاريخ مجالا لتصفية الحسابات"، "لا ينبغي إثارة النعرات"، "هذا النبش في التاريخ مدعاة للفتن والصراعات"، "التاريخ مجال للبحث العلمي له مختصوه". كانت هذه بعض من ردود الأفعال التي صدرت عن بعض المثقفين والسياسيين المغاربة في سياق النقاش الذي أثاره مقالنا عن "الهوية والتاريخ ورموز الدولة الوطنية" وكذا مقالنا عن "جذور العنف في الدولة المغربية"، وإذا كنا نوافق على ما ورد في هذه الملاحظات من آراء وجيهة من حيث المبدأ، إلا أننا لا نقبل أن تكون نتيجتها التراجع عن طرح موضوع التاريخ وقضاياه وقراءاته في النقاش العمومي، وإلا صارت هذه الملاحظات سلبية في آثارها ونتائجها، لأنها ستنتهي إلى إقرار ضرورة الركون إلى الصمت خوفا من الطابوهات السياسية والإجتماعية التي يستحسن حسب هذا المنطق تجنبها. والحال أن أي تطور لا يمكن أن يحدث بدون كسر الطابوهات من هذا النوع وتحويلها إلى قضايا مفكر فيها بمختلف أنواع المقاربات، العلمية الأكاديمية منها أو السياسية.
وأعتقد أن المعيار الذي لا ينبغي أن يغيب عنا ونحن نتناول مختلف هذه القضايا هو معيار الوحدة الوطنية الجامعة، التي هي مكسب تاريخي لا يمكن التراجع عنه أو التفريط فيه، ونقصد بهذا أن النقاش حول قضايا الهوية والتاريخ لكي يكتسي طابع الجدية المطلوب ينبغي أن يتمّ خارج النعرات القبلية أو العرقية أو الطائفية من أي نوع، وأن يكون هدفه تجاوز عوائق الحاضر ونقائصه وعيوبه التي تتمثل أساسا في شيوع أنواع الميز واللامساواة، في اتجاه الرقي بالوضعية الإنسانية وضمان الشروط المطلوبة لانتقال سلمي وهادئ نحو الديمقراطية.
ثمة ترابط عميق بين مفاهيم الهوية و التاريخ والسياسة، حيث يحيل الربط بين هذه المفاهيم على إشكاليات دقيقة و متشعبة، تنفتح على مجالات التاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا واللسانيات وغيرها. فالهوية خارج التعريفات النظرية والثقافية، عندما نربطها بمجال المجتمع الإنساني، تصبح صعبة التحديد كخصائص ثابتة للإنسان أو للحضارة، حيث تصبح الهوية شعورا بالإنتماء يخضع لتراتبية على مستويات عدة، (الإنتماء إلى القبيلة، الإنتماء إلى الجهة أو إلى الوطن أو العقيدة أو القارة إلخ)..
إنّ مفهوم الهوية معقد ومنفلت وليس قابلا للقياس أو التحديد الدقيق، ذلك أن الهوية عندما نربطها بالتاريخ تصبح صيرورة للتجربة الإنسانية المتغيرة، حيث لا مجال للفصل بين الهوية والثقافة، فعلاقة الهوية بالتاريخ تبرز أن الهوية صيرورة يعاد بناؤها في زمن عبر النشاط الإنساني والتفاعل والتبادل. ولهذا لا تثور إشكالية الهوية إلا في المنعطفات التاريخية الحاسمة ولحظات التحول الكبرى التي تنبعث فيها الأسئلة القلقة.
من هذا المنطلق فالتاريخ بسبب ما ذكرنا لا يعني فهم الماضي فقط بل الحاضر أيضا، حيث أن نظرتنا إلى التاريخ تعكس الكثير من توترات الحاضر وتستجيب لحاجاته، مما يفسر سعي الإنسان الدائم إلى إعادة قراءة التاريخ وتفسيره وتأويله، ويبرز بالتالي عدم وجاهة الرأي القائل بضرورة طمس السؤال التاريخي أو تأجيله بسبب الحساسيات السياسية أو الدينية أو العرقية والإثنية.
فإذا لم تكن نصوص التاريخ المكتوب تتغير فإنّ قراءاته من منطلق حاجات الحاضر تتغير وتختلف حسب السياق، غير أنّ إعادة قراءة التاريخ تعبر عن درجة نضج الحاضر ورغبة أهله في التجاوز والتجديد والتطوير والمضي نحو المستقبل.
وإذا كانت السياسة تدبيرا للظرفي، فإن ذلك لا يمكن أن يحدث بمعزل عن طبيعة الكيان الدولتي وهويته، هذه الهوية التي تشكلت بالطبع في التاريخ وانبنت عبر صيرورة الأحداث والوقائع والتجارب. ومن الطبيعي أن تسعى الدولة عبر مختلف بنياتها إلى ترسيخ هويتها الجامعة لدى الأفراد والجماعات المنضوين تحت سلطتها لضمان ولائهم لها والحفاظ عبر ذلك على الإستقرار. غير أن المشكل يثور عندما يجد الفرد تنافرا بين وعيه الفردي بالإنتماء الهوياتي وهوية الدولة الرسمية.
هذا التداخل بين الهوية والتاريخ والسياسة يكتسي طابعا متوترا في البلدان الإسلامية عامة وفي المغرب بصفة خاصة بسبب أن هوية الدولة تتحدد عبر الدين الذي هو "دين الدولة"، أي أنه وسيلة من وسائل ممارسة السلطة، مما يزيد الأمر تعقيدا بالنسبة لموضوع التاريخ.
غير أن ما يميز المغرب حاليا وكذا العديد من المجتمعات الإسلامية في موضوع التاريخ، هو ما يلاحظ من ثقل الماضي على الحاضر، حيث تسود فكرة أسطورية عن ازدهار الماضي في مقابل تخلف الحاضر مما خلق نوعا من "البلوكاج" النفسي والذهني لدى المسلمين نتج عنه نوع من تقديس الرواية السنية الأورثوذوكسية للتاريخ، وهي رواية تضمر الكثير من الخوف من الإكتشاف وتتجنب البتّ في التناقضات والمفارقات، وتضع حدودا للمعرفة والبحث التاريخي، حيث تستند الشرعية السياسية للسلطة ـ بسبب عدم فصل الدين عن الدولة ـ إلى رواية معينة للتاريخ، مما يجعل هذه الرواية محروسة ومراقبة، وهذا ما جعل علاقة التاريخ بالسياسة وبالوعي العام علاقة متوترة.
وينضاف إلى ما ذكرنا سبب آخر يجعل النقاش حول التاريخ يكتسي طابعا حادّا يثير الكثير من المخاوف، وهو هشاشة الوضع العام الذي لم يعرف بعد تقوية أسس البناء الديمقراطي، حيث أنّ الحسم في اختيار الديمقراطية هو الذي من شأنه أن يجعل التاريخ مجالا مفتوحا للقراءات المختلفة التي لن تثير أية حساسيات من أي نوع، ويظهر هنا بطلان الرأي الذي يستشهد بالتجربة الإسبانية، والذي يزعم أن الإسبان قد تجنبوا أي نقاش حول التاريخ بعد الحرب الأهلية تفاديا للوقوع في تصفية الحسابات التي من شأنها عرقلة المرور نحو الديمقراطية، والواقع أن الذي حسم النقاش التاريخي في إسبانيا وجعل الشعب الإسباني يتجاوز النقاش التاريخي هو الحسم في اختيار الديمقراطية ووضع أسسها الفعلية، وهو وضع نفتقده في المغرب، حيث ما زال ثمة إصرار على تكريس مساوئ الماضي وعرقلة الإنتقال نحو الديمقراطية، مما يجعل الوضع يبدو متذبذبا ومثيرا للأسئلة القلقة.
إن أسئلة التاريخ بالمغرب المعاصر تبرز بشكل كبير مدى الحاجة الماسة إلى فهم الماضي فهما متوازنا ومنفلتا قدر الإمكان من هيمنة الإيديولوجيا الرسمية والإيديولوجيات المنازعة لها، حيث ساهم ضعف الثقة في المؤسسات الرسمية وفي الأحزاب السياسية في تزايد قلق السؤال التاريخي، مما يحتمّ إعادة قراءة تاريخ المغرب وتصحيحه في المقررات الدراسية وخاصة في إطار سياسة الجهوية الموسعة التي تمّ طرحها للنقاش مؤخرا، حيث سيمكن ذلك من العودة إلى التاريخ الإجتماعي المحلي عوض الإكتفاء بالتاريخ الرسمي الذي كان عبارة عن عملية انتقاء لعناصر هوياتية ولرموز ثقافية في فترة ما وسياق خصوصي تلبية لحاجات الدولة الوطنية المركزية.