محمد أمزيان/ روزندال - هولندا
ركن سيارته على الضفة الأخرى من النهر الذي ارتفع صبيبه حتى أخاف أطفاله المنكمشين في المقعد الخلفي، بينما ساحت حياة بعينيها عبر النافذة. كانت تنظر إلى ما بعد الجبل. خاف أمين أن يجرف السيل سيارته إن هو غامر بها لعبور المجرى الذي لا يكف عن التقيؤ. نزل. رمى بصره نحو الجبل. مسح نظارتيه بمنديل "كلينكس". أعاد المنديل المبلل إلى جيب سترته العسكرية. يحب السترات العسكرية منذ أن وقعت عيناه على صورة لوالده باللباس العسكري، فأغرم به. أومأ لأطفاله أن ينزلوا. لحقتهم زوجته حياة. عادة ما يكون النهر جافا أو ضعيف الصبيب في هذا الوقت. لكن أمطار هذه السنة بدأت مبكرا على غير عادتها، عنيفة ومفاجئة. فاته أن يستقرئ حالة الطقس في الصباح قبل أن ينطلق نحو الجبل.
باهتمام زائد يتابع أمين كيف تجلد مياه السيل جدارا ترابيا راكمته مواسم الجفاف المتعاقبة حول جذوع أشجار تين ميتة. يتواصل الجلد بقسوة وكأن المياه تتقصد تأديب أشجار التين الميتة عن جرم اقترفته في ماضي حياتها. جل أشجار التين تبدو ميتة في هذا المكان، قليل منها يعود للحياة مع الربيع والباقي يموت فعلا، مثلما ماتت أشجار الزيتون والكروم واللوز عن آخرها. هذا المكان كان في الماضي جنة حقيقية من تين وزيتون وأعناب يتقافز فيها الأطفال. أما الآن فلم يتبق منها سوى هذه الأعجاز الخاوية التي تصفعها السيول لتنفيها تماماً من هذا المكان. جزء من طفولة أمين نبت هنا أيضا.
"هل هي إشارة من فوق كي أعود أدراجي؟" تساءل أمين مع نفسه دون أن يلتفت إلى زوجته وأطفاله الذين تركهم في العراء يرتجفون من شدة البرد. "سأنتظر قليلا لعل السيول تهدأ". اعتقد أنه يكلم زوجته، إلا أن حياة لم تلتفت إليه. تذكر الصغار فجأة. وجد ابنته الكبيرة تحضن أخاها وأختها الصغرى. حياة التي دفنت رأسها في وشاح أسود وقفت بلا حركة وكأنها تمثال من صلصال عمه البلل. لم تنطق منذ الصباح ولو بكلمة واحدة. استسلمت لعتمتها الداخلية. شاردة. أمين أيضا يتحاشى النظر إليها، خوفا من كلمة قد تفلت منها أو منه. هي كذلك تدرك أن أي حديث أو نقاش معه في هذا الظرف، ومهما كان عابرا أو تافها قد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه. أشهر كاملة قضاها أمين وهو يستعد ذهنيا وروحيا لهذه الرحلة، وموجات الحمى التي اجتاحته في الأشهر الأخيرة لم تثنه، والآن هذه السيول التي لا يدري من أين نزلت عليه.
- خذي السيارة وعودي مع الأولاد. سأبحث عن مكان آخر لأعبر منه نحو الضفة الأخرى.
قال لزوجته بنبرة محايدة. فكر قليلا ونظره مصوب نحو الجبل.
- سأعود مع المغيب. وقد أبيت في البيت القديم.
لم يكن أحد يجرؤ أن يناقش أو يجادل. استسلموا لكلامه بلا أدنى اعتراض. ابنه غرغر بكلمات غير مفهومة سرعان ما بلعها وأتبعها بدموع اختلطت بحبات المطر.
تمنى في قرارة نفسه لو نطقت زوجته. لو قالت له: "ارجع معنا، وسنعود للجبل في يوم غير هذا اليوم". حياة لم تنطق، وأمين لم يتراجع. ركب عناده ورفع عينيه نحو السماء.
ركن سيارته على الضفة الأخرى من النهر الذي ارتفع صبيبه حتى أخاف أطفاله المنكمشين في المقعد الخلفي، بينما ساحت حياة بعينيها عبر النافذة. كانت تنظر إلى ما بعد الجبل. خاف أمين أن يجرف السيل سيارته إن هو غامر بها لعبور المجرى الذي لا يكف عن التقيؤ. نزل. رمى بصره نحو الجبل. مسح نظارتيه بمنديل "كلينكس". أعاد المنديل المبلل إلى جيب سترته العسكرية. يحب السترات العسكرية منذ أن وقعت عيناه على صورة لوالده باللباس العسكري، فأغرم به. أومأ لأطفاله أن ينزلوا. لحقتهم زوجته حياة. عادة ما يكون النهر جافا أو ضعيف الصبيب في هذا الوقت. لكن أمطار هذه السنة بدأت مبكرا على غير عادتها، عنيفة ومفاجئة. فاته أن يستقرئ حالة الطقس في الصباح قبل أن ينطلق نحو الجبل.
باهتمام زائد يتابع أمين كيف تجلد مياه السيل جدارا ترابيا راكمته مواسم الجفاف المتعاقبة حول جذوع أشجار تين ميتة. يتواصل الجلد بقسوة وكأن المياه تتقصد تأديب أشجار التين الميتة عن جرم اقترفته في ماضي حياتها. جل أشجار التين تبدو ميتة في هذا المكان، قليل منها يعود للحياة مع الربيع والباقي يموت فعلا، مثلما ماتت أشجار الزيتون والكروم واللوز عن آخرها. هذا المكان كان في الماضي جنة حقيقية من تين وزيتون وأعناب يتقافز فيها الأطفال. أما الآن فلم يتبق منها سوى هذه الأعجاز الخاوية التي تصفعها السيول لتنفيها تماماً من هذا المكان. جزء من طفولة أمين نبت هنا أيضا.
"هل هي إشارة من فوق كي أعود أدراجي؟" تساءل أمين مع نفسه دون أن يلتفت إلى زوجته وأطفاله الذين تركهم في العراء يرتجفون من شدة البرد. "سأنتظر قليلا لعل السيول تهدأ". اعتقد أنه يكلم زوجته، إلا أن حياة لم تلتفت إليه. تذكر الصغار فجأة. وجد ابنته الكبيرة تحضن أخاها وأختها الصغرى. حياة التي دفنت رأسها في وشاح أسود وقفت بلا حركة وكأنها تمثال من صلصال عمه البلل. لم تنطق منذ الصباح ولو بكلمة واحدة. استسلمت لعتمتها الداخلية. شاردة. أمين أيضا يتحاشى النظر إليها، خوفا من كلمة قد تفلت منها أو منه. هي كذلك تدرك أن أي حديث أو نقاش معه في هذا الظرف، ومهما كان عابرا أو تافها قد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه. أشهر كاملة قضاها أمين وهو يستعد ذهنيا وروحيا لهذه الرحلة، وموجات الحمى التي اجتاحته في الأشهر الأخيرة لم تثنه، والآن هذه السيول التي لا يدري من أين نزلت عليه.
- خذي السيارة وعودي مع الأولاد. سأبحث عن مكان آخر لأعبر منه نحو الضفة الأخرى.
قال لزوجته بنبرة محايدة. فكر قليلا ونظره مصوب نحو الجبل.
- سأعود مع المغيب. وقد أبيت في البيت القديم.
لم يكن أحد يجرؤ أن يناقش أو يجادل. استسلموا لكلامه بلا أدنى اعتراض. ابنه غرغر بكلمات غير مفهومة سرعان ما بلعها وأتبعها بدموع اختلطت بحبات المطر.
تمنى في قرارة نفسه لو نطقت زوجته. لو قالت له: "ارجع معنا، وسنعود للجبل في يوم غير هذا اليوم". حياة لم تنطق، وأمين لم يتراجع. ركب عناده ورفع عينيه نحو السماء.