عبد المطلب الزيزاوي
منذ أن تعرّض شهيد الحڭرة محسن فكري للطحن في حاوية للأزبال يوم 28 أكتوبر من سنة 2016، والريف يتوهج وينبعث من رماده كما يفعل طائر الفينيق في الأسطورة الإغريقية. فقد أعقبت ليلة طحن الشهيد مجموعة من المسيرات والمظاهرات، سرعان ما ستتحوّل إلى حِراك شعبي سلميّ أبان عن مستوى عالٍ من التنظيم وحس رفيع بالمسؤولية المشتركة لحماية الريف من أي انزلاق ممكن. حِراكٌ يقوده شباب غيورعلى وطنه، جعلتهم غيرتهم ينهضون ضد الحڭرة ويطالبون بالكرامة والعدالة.
لقد استطاعوا جلب اهتمام العالم بحضاريتهم، فقد نظّموا مظاهراتهم وشكّلوا سلاسل بشرية تقوم بحماية الممتلكات العامة والخاصة، بل إنهم قاموا بحماية الإدارة العمومية ومفوضية الشرطة وقوات الأمن نفسها. ليصل إلى العالم، وليس إلى المغرب فقط، بأن الريفيين والريفيات وصلوا إلى مستوى عالي من النضج، جعلهم مدرسة رائدة قدّمت الدروس للعالم في معنى التنظيم والمسؤولية.
كانت مدينة الحسيمة منطلق الشرارة الأولى لهذا الحِراك، وبعد الحسيمة سوف تنهض المناطق المجاورة، أيت حذيفة، أيت بوفراح، تروڭوت، الخ. ليمتد بعد ذلك إلى الناظور، ميضار، تفرسيت، دار الكبداني، بركان إلخ. بحيث صرخ أهلها ضد نفس سياسات الحڭرة والتهميش التي يتقاسمها الجميع بدرجات متفاوتة. هذه الوقفات لم تبقى محصورة في الريف بل امتدت إلى إسبانيا، فرنسا، بلجيكا، هولاندا، ألمانيا، النرويج وغيرها. القاسم المشترك بين جميع المحتجين ليس انتمائهم فقط إلى رقعة جغرافية اسمها الريف، بل أكثر من ذلك، إلى حساسية ونفسية ووجدان جماعي ينهل من تاريخ شامخ شموخ جبال الريف ومن قيم timmuzɣa وtirrugza ، وقيم الشرف. هذه القيم تبقى منغرسة في تربة الريف، لا يفهمها إلا أهل الريف ومن عاشر واندمج مع أهله.
لقد نجح هؤلاء الشباب المتنور في تصدير هذا الحراك لبقية مناطق المغرب، فخرجت مظاهرات منددة بالمصير لذي لقيه محسن فكري في كلٍ من طنجة، الدار البيضاء، آسفي، الصويرة، أگادير، كلميم والعيون، كما وجدة، فاس، الرشيدية، مراكش، ورزازات وطاطا، إلخ. لتكون بذلك قد جمعت شمل المغاربة ووحّدتهم تحت راية المطالبة بالكرامة وإيقاف الحگرة من الشمال إلى الجنوب.
كانت اللغة الأمازيغية لغة الحِراك الرئيسية، ذلك أن من العناصر الرئيسية المحددة للريف هو انتمائه الأمازيغي، إنها اللغة التي يتحدث بها، فالجميع يفخر بقوله: "ssawareɣ tmaziɣt". هي ليست لغة فقط وإنما هي أيضا منبع لقيم منغرسة في الوعي الجماعي والتي تجعل الريفي يحسّ بتميز نسبي عن غيره، لا يرضى بالذل، مستعد للموت من أجل شرفه، إلخ. قد يقول قائل بأن هذه الصفات موجودة لدى كل إنسان، وإذ لا ننفي ذلك، فإننا نقول بأن بروزها لدى الريفي تعكسها مقولات وتمثلات عند الكثير من المغاربة تدور حول أن: "ريافة رجال"، "ريافة العز"، "نتوما رياف "، إلخ وقد عشت هذه التمثلات حيث كان يرددها على مسامعي الكثيرمن زملاء، أصدقاء وحتى بعد الأساتذة حينما كنت أتابع دراستي بمدينة فاس أواخر التسعينات لأن منطقة دار الكبداني لا تتوفر على ثانوية آنذاك.
وأعتقد أنها ترسّخت الآن أكثر من أي وقت مضى بعد الإنزال الأمني الرهيب الذي أريدَ له أن يُرهبهم دون أن ينجح في ذلك يوم الخميس 18-06-2017 يوم المسيرة التاريخية التي ضمّت أكثر من 100 ألف متظاهر.
إن أهمّ ما يميز الحراك الشعبي الريفي، إضافة إلى تنظيمه، هو انخراط أغلبية شرائح المجتمع فيه. بحيث لم يكن نخبويا ولا محصورا على فئة الطلبة والتلاميذ كما هو الشأن لبعض الحركات الاحتجاجية، لقد ضمّ الفلاحين والصيّادين والتجار والطلبة والتلاميذ والآباء والأمهات وكل فئات المجتمع.
الإضافة التاريخية الأخرى لهذا الحراك، هو انخراط النساء الكبير فيه، خاصة بمدينة الحسيمة. هذا الأمر هو إنجاز تاريخي يُحسب للحراك، خصوصا إذا عرفنا بأن المرأة الريفية تعاني من هيمنة العقلية الذكورية. وبالتالي فمن حسنات الحراك أنه، إضافة إلى تحرير الشباب من هالة الخوف، فقد حرّر النساء كذلك، ولن تستطيع أية مناسبة أخرى فعل ذلك باستثناء الحراك الذي فعلها بشكل لافت للنظر. وهذا ما يبرز بأن الجيل الجديد من الشباب المتنوّر له رأي آخر.
الانخراط امتد كذلك إلى الأطفال، بمعنى أن الحراك امتد إلى صميم الحياة اليومية للريفيين والريفيات، فقد أصبح الأطفال الصغار يردّدون شعارات المظاهرات المُطالِبة بالحرية والكرامة ورفض العسكرة في ألعابهم وبدأوا يتغنون بها. الملاحِظ اللبيب سيلاحظ مدى انغراس حراك الريف في النفوس ويعكس مدى رفضها بالذل والمهانة، لهذا لم تنل منهم هجمات الكثيرين من ذوي النفوس المنغرسة في العبودية والتي تسعى جاهدة لوأد هذه النهضة السلمية.
هذه الهجمات لم تقتصر فقط على تشويه صورة المناضلين أو النيل من عزيمتهم بتخويفهم، بل كانت أيضا هجمات مادية، صدرت عن مجموعة من ذوي السوابق العدلية الذين تمّ تسخيرهم لذات الغرض، كما كان الشأن بالناظور، وقد نتج عن هجماتهم جرح العديد من المحتجين والمناضلين. هؤلاء المعتدين كانوا يحملون أعلاما رسمية للدولة المغربية ويحملون صورا الملك ويرددون شعارات مناوئة للمحتجين مهدّدين لهم أمام قوى الأمن التي لم تتدخل لثنيهم عن الاعتداء الوحشي على المحتجّين الذين لم يجابهوهم بنفس الأسلوب الدنيء.
بعد أن فشلت هذه الاستراتيجية في قمع الشباب المتنور الحاملين لفكرة الحراك، تمّ استعمال وسائل أخرى كالإشاعة. حيث تم الترويج لمجموعة من الإشاعات الكاذبة والمُغرضة تناهض المظاهرات وتقول بأنها ضد الملك، بالتالي فقد حاولت تشويه الهدف من تلك المظاهرات في سبيل شرعنة التدخل ضدها وحصر المناضلين لكي لا يحصلوا على الدعم الشعبي، وقد حصل هذا في كل من العروي مثلا ودار الكبداني ومجموعة أخرى من المناطق.
لم تُجدي هذه الأساليب نفعا، إذ سرعان ما ستتداعى أمام يقظة الشباب وعزمهم على تحقيق ملفّهم المطلبي. فقد قام هؤلاء بردود فعل حضارية جعلت أولئك المعتدين أنفسهم يعتذرون أمام الكاميرات ويُبدون الندم عمّا صدر منهم، وصرّحوا أنهم لم يكونوا على علم بما يقع، بل تمّ التغرير بهم من قبل جهات مسؤولة، وعبّروا عن مساندتهم لإخوانهم، وقالوا بأن الدماء الأمازيغية تجري في عروقهم.
تساءل الكثير من الملاحظين عن سبب استمرار الحراك وطول نفسه أمام هذه الاستراتيجيات التي استهدفته واستهدفت الشباب المناضلين. ولن يعلم حقيقته إلا الراسخون في علم الريف، الذين يدركون بأن الحراك صار جزءً من يومهم ومعيشهم، الأمر الذي أوقع المسؤولون في ورطة، خصوصا بعد أن اكتشف الجميع بأنهم همُ الواقفون وراء تلك الهجمات.
أما الطامة الكبرى التي أفاضت كأس الجهات الرسمية ستكون حين تفتقت قريحة بعض المسؤولين السياسيين الذين خرجوا في خرجة إعلامية وقاموا باستنكار ما اعتبروه "أعمالا تخريبية" رافقت حراك الريف، وأن هذه الاحتجاجات تجاوزت ما اعتبروه كذلك "خطوطا حمراء"، وأن الحراك ما هو إلا "خرافة" لها طابع "انفصالي" وغيرها من التهم الجاهزة التي فضحت جهلهم وانفصالهم عن القضايا الحقيقة للشعب والمجتمع.
هذه التصريحات استنكرها أحرار هذا الوطن، وقدمت شحنة إضافية لأهل الريف، أو هذا الريف العصي عن الفهم بتعبير الأستاذ مرزوق الورياشي. تصريحات أولئك المتحزبين أبانت عن عقدتهم تجاه الريف، عن خنوعهم وانفصالهم عن هذا الريف الذين يريدونه أن يبتلع لسانه وألا يزعجهم لأنهم لا يقدرون عليه.
تهمة الانفصال مرادفة لتهمة التفرقة التي يوزعها العديد من المتحزبين والنخب "المدينية"، وهي ليست وليدة اليوم في الحقيقة، بل إن أبرزها –إضافة إلى تهمة اليوم- يمكن إرجاعها إلى سنة 1930، لأنه بعد صدور ظهير 16 ماي 1930 الذي أُلصق به نعت "البربري" من قبل بعض نخب محور فاس الرباط وسلا، تبين بوضوح بأن نفس العقلية، عقلية المركز والهامش لا زالت متحكمة في لا شعور كل من يزال يردد هذه الأسطوانة. بعد ترديد: "يا لطيف يا لطيف اللهم لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر" سوف تظهر أولى بوادر تأسيس "تنظيم حزبي" في 23 غشت 1930 من عشرة أعضاء، بينهم محميون. هؤلاء اتخذوا القابا تيمنا بالعشرات المبشرين بالجنة، ولجوؤهم لهذا الأسلوب كان من أجل حشد أكبر عدد ممكن من الأنصار . هذه الجماعة سوف تقدم عريضة مطلبية يوم 24 غشت والتي لا تتضمن أية إشارة إلى الاستقلال. بعد ذلك سوف تتأسس كتلة العمل الوطني، وفي 18 دجنبر 1936 تأسس حزب الاصلاح الوطني بالمنطقة الشمالية.
لكن ما أصبو الوصول إليه هو أن هذه الأحزاب كانت تكن عداء واضحا لكل ما هو أمازيغي. إذ أصبح مفهوم "الوطنية" بالنسبة إليهم محصورا في العروبة والاسلام . أما الأمازيغي فقد بقي دائما في لاشعور "الحركة الوطنية" باعتباره ذلك الذي في "الهامش، في البادية، في الجبال، والمنفصل عن المركز وعن المدينة". هامش له لغته وعقليته وكبرياؤه، هامش يأبى الخضوع. مقابل مركز يحيل على عقلية أخرى، عقلية الحضارة والذكاء والدهاء بالنسبة إليهم، لكنه المرادف لعقلية العبودية والخنوع والخبث بالنسبة لذلك الذي في "الهامش". مركز يحاول دائما السيطرة وكسر شوكة ما يعتبر في ذهنه هامشا. لكنه في الريف يعتبر عيبا من يقبل الخنوع أو كما يقول أهله: "neccin wer nrebbu txancet" التي تلخص قيمة الحرية لدى الريفي.
أستحضر هذا التاريخ وهذه المعطيات الأنثروبولوجية، لأن ما يحصل اليوم له ماضيه، ولا يمكن فهم الحاضر بالحاضر فقط، مادام الحاضر عبارة عن تراكم للماضي. فلا يخفى على العُقلاء بأن مقاومة الريف للاستعمار الاسباني كانت قبل حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي بسنوات. إذ منذ احتلال مليلية، عرفت المنطقة من حين إلى آخر مواجهات بين السكان والسلطات الاسبانية. وعلى سبيل المثال، معركة سيدي ورياش سنة 1893 حيث كان من تداعياتها معاقبة الريفيين من قبل المخزن عن طريق استخدام القوة لتأديب القبائل حسب ما جاء في اتفاقية "واد راس" وتعويض إسبانيا التي منيت بها .
الحراك أعاد النقاش حول مقاومة المنطقة تحت قيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث قام هذا الأخير بمراسلة العديد من فقهاء جامع القرويين لمساندته "في موضوع الجهاد وضرورة الدعوة له ومساندة حركة الريف من أجل طرد الفرنسيين والاسبان. غير أن دعوته لم تجِد صدى فعليا لدى هؤلاء، بل قام أحدهم وهو أحمد بن الجيلالي بتسليم الرسالة التي توصل بها من ابن عبد الكريم إلى ممثل المقيم العام ليوطي بفاس" . في مقابل ذلك وبعد التحالف الفرنسي ـ الاسباني 1925، قام بقصف أجدير باستخدام 76 طائرة مع غاز TNT وغاز moutarde إضافة الى سلاح المدفعية. بعد هذا التحالف والذي استخدمت فيه أسلحة وعتاد عسكري رهيب احتفل هؤلاء بتدمير الريفيين ولا أدري هل قرأوا اللطيف على إخوانهم البرابر كما قرأوه سنة 1930؟ بالرغم من كل هذه الاسلحة التي أتت على الأخضر واليابس، بقي الريف موشوما في ذاكرة الجنود الفرنسيين والإسبان الذين لقنوا درسا لن ينسوه من قبل من كان يعتبرونهم مجرد فلاحين بؤساء . وها هو يرسم وشما في ذاكرة القرن الواحد والعشرين من جديد.
استحضار هذا الماضي يتيح للمناضلين فهم ومعرفة إن كان هناك تغير في علاقة المخزن مع الريف أم لا. قد يقول قائل، أنه فيما مضى لم يكن هناك استقرار سياسي، عكس اليوم الذي ينعم فيها بلدنا والحمد لله بنعمة الاستقرار. لكن هذا ينفيه واقع الريف، فالآلاف من العساكر والدرك الحربي الذين أرسلوا لمجابهة المحتجّين الذين يطالبون فقط بالمستشفيات والجامعة وفرص العمل والكرامة والعدالة الاجتماعية بعد سبعة أشهر من الحراك السلمي يفنّد ذلك. لقد تم شحذ السكاكين وتجهيز الدرك والشرطة والدرك الحربي باسم الوحدة الترابية كمحاولة لوأد ملحمة الريفيين، كما تمّ أيضا شحذ الأقلام من قبل بعد المنابر الإعلامية الورقية والإلكترونية. فأي وطنية هذه؟ ما هي أسسها وملامحها؟
الحراك ليس مطلبيا فقط، وإنما هو فرصة لفتح أوراش فكرية عظمى أمام العقل الجمعي للمغاربة، أوراش تهم النقاش العمومي حول "الوطنية" وحول طبيعة "الدولة" التي يريدونها، لإنشاء تعاقد جديد وبأسس جديدة. فإن كان يتم الحديث الآن عن صفة "الانفصال" ككلمة فقد فُرض على الجميع تصوّر معناها دون الاتفاق مسبقا عليه أو الإجماع على ذلك المعنى. إن "الانفصال" صفة ملازمة لفكرة "الوحدة"، إذ لا يمكن للانفصال أن يكون إلا إذا كانت العلاقات بين العناصر والأجزاء متناغمة ومنسجمة وتشكل وحدة، بحيث تذوب العناصر والأجزاء كلها في كلٍّ وفي واحدٍ. فأين هذا "الكل" وهذا "الواحد" الذي قد ينفصل وينشقّ عنه "الجزء"؟
ما أريدَ لنا أن نفهمه هو أن الدولة المغربية تمثل هذا الكل وهذا الواحد، وقد يكون هذا صحيحا من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية فنشوء الدولة في المغرب لم يعبّر بتاتا عن نشأة مجتمع سياسي تعاقدي، وإنما أملته شروط تاريخية ارتبطت بالاحتلال (الفرنسي أساسا). لهذا فهي لم تشكل كُلاّ نشأ بفعل إرادة أجزائه، بل قد لا يجد الأجزاء أي رابط يربطهم بهذا الكل غير هذا الشرط التاريخي الخارج عن إرادة الجميع. وإذا لم يعثر الأجزاء على ذواتهم في هذا الكل فهو يفقد معناه، وبالتالي سيتخذ شكل مظهر عام فقط.
إن الدولة تعاقد يجمع كل العناصر لتُجسد الروح الموضوعية لهم، وإذا لم تستطع أن تترجم هذه الروح فهي تفقد خاصيتها كدولة تسع الجميع، بالتالي بإمكان الأجزاء المطالبة بفسخ ذلك التعاقد ما دامت الدولة لم تحقق مصالحهم، فلماذا علينا أن نعيش في دولة لا تحقق لنا الغايات التي أسسناها من أجلها؟
صحيح أن الشرط التاريخي يتجاوزنا، بالتالي لم نشارك في تأسيسها، إلا أن الحاضر بين أيدينا، بالتالي فالدولة عنصر من حاضرنا ونحن أيضا واقع لن تستطيع تجاوزه، وعلى النقاش أن يُفتح عن ماهيتها وإلا صارت ذلك الوحش الذي يقلتنا باسم "الوحدة" التي لا وجود لها إلا بالنسبة لمن تحمي الدولة مصالحهم دون غيرهم.
فهل بإمكان المفكرين المغاربة فتح هذه الأوراش الفكرية لنقل المغاربة إلى عصر أنوار جديد في القرن الواحد والعشرين؟ أشك في ذلك، وما أنا على يقين به هو أن مسيرة 18 ماي2017 هي ملحمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنها تقدّم للعالم درسا حول عظمة بنات وأبناء هذه المنطقة التواقين للعيش بكرامة وعدالة اجتماعية مع احترام تاريخهم وثقافتهم، وتوزيع عادل للثروات وبناء دولة عادلة ووطن يتسع لجميع أبنائه.
الهوامش
[1] علال الفاسي (عمر)، حمزة الطاهري (أبو بكر)، محمد بلحسن الوزاني (عثمان)، العربي بوعياد (علي)، أحمد بوعياد (سعد)، الحسن بوعياد (سعيد)، عبد القادر التازي (طلحة)، محمد الديوري (الزبير)، إدريس بنعبد الرحمان برادة (عبد الرحمان بن عوف)، أحمد مكوار (أبو عبيدة ). انظر: محمد ضريف، “الأحزاب السياسية المغربية 1934″، منشورات الجمعية المغربية لعلم الاجتماع السياسي، صص : 24 ـ 25.
[1] “إن يقظتنا الوطنية المعاصرة وقعت بالذات ردا على الاستعمار الفرنسي للتمييز بين العرب والبربر. ففي 16 ماي 1930 حينما صدر (المرسوم) البربري الذي يفرض انفصال المغرب عن الكيان العربي الإسلامي للمغرب انتفض الشعب المغربي بقوة ضد ذلك القانون (…) وبذلك فإن يقظة الشعب المغربي كانت في الأساس غيرة على انتمائه العربي. ومنذ سنة 1930 تأججت الحركة في الشارع، وصهرت الشعب كله، وضحى كثير من الشهداء، رحمة الله عليهم، إلى أن توج ذلك الكفاح بإسقاط النظام الاستعماري. وقد أصبح مستقرا في الأذهان أن الاستعمار الفرنسي كتب وثيقة وفاته يوم نشر الظهير البربري”). ويزيد قائلا “وفي كل مرة كان خطاب الحركة الوطنية متميزا بشيئين: الأول أن الهاجس العربي الإسلامي ظل قويا. وفي الجوهر احتفظت الوطنية المغربية بمفهوم ثابت لا يفصل العروبة عن الإسلام”.
محمد العربي المساري، “المغرب بأصوات متعددة”، سلسلة شراع 2، أبريل 1996، ص48-49: .
[1] أبو عباس أحمد بين خالد الناصري، كتاب الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، الجزء 9، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1956
[1] Jeronimo Becker, Historia de Marruecos, Madrid, 1915, p. 382
[1] محمد معروف الدفالي، القرويين والصراعات السياسية في مغرب الحماية، مجلة أمل، العدد 2، 1992، ص: 83-84
[1] Sebastian Balfour, Deadly embrace Morocco and the Road to the Spanish Civil War, oxford university
press, New York, first bublished, 2002, p. 110.
[1] يوم 6 شتنبر 1926، خلال الإنزال البحري بخليج النكور كانت القوات تتكون من: بارجتين، وأربع سفن طرادة، وثمانية مراب ناسفة، وسفينتين مطاردتين وستة مراكب مدمرة، وسبعة عشر سفينة خافرة، وأربعة وستون سفينة للنقل، وسفينتين جرارتين، ومركبين بصهريج، ومركبين للعلاج الطبي، وستة عشر زورقا من نوع “ك”. وكانت هذه البواخر تحمل على ظهرها القوات التالية: 14.482 جندي من فرقة المشاة. 1442 جندي من فرقة المدفعية. 1452 جندي من فرقة الهندسة. 379 جندي من فرقة التموين. 759 جندي من فرقة الصحة. زيادة على 4028 بغل، وعلى الأسلحة والمعدات التالية: عشرون ألف بندقية عادية. ألفا بندقية رشاشة. عشر دبابات. أربع بطاريات مدفعية جبلية. بطاريتان مقنبلتان. سبعة عشر محطة لاسلكية، ست محطات للبرق. اثنان وعشرون ألف قذيفة للطيران. مليون وخمسون ألف قذيفة مدفعية. مائتان وعشرة آلاف قنبلة يدوية. مليونان وتسعمائة واثنان وخمسون ألف رصاصة للبنادق الرشاشة. وكان الأسطول معززا بقوات الطيران التالية: ثمانية وثمانون طائرة حربية. اثنتي عشر طائرة مائية كبيرة. أربعة وعشرون طائرة مائية صغيرة. ست مناطيد عادية. منطادان مسيران. وأما الأسطول الفرنسي فكان يتكون من: بارجة واحدة. سفينتين طرادتين. سفينتين ناسفتين. سفينة جرارة واحدة. مركبين للإرشاد.
محمد بن عزوز حكيم، معارك الثورة الريفية، مطبعة الساحل، الرباط، صص 216- 218.
[1]خلال مرحلة التحالف الفرنسي-الاسباني تم استعمال مكثف لجميع أنواع الأسلحة من قصف جوي ومدفعية وبوارج حربية. بلغ عدد القوات الفرنسية في البداية مائة ألف رجل، ثم مائة وستين ألف رجل. فأحد عشر كتيبة ثم إلى اثنين وأربعين جنرالا. وفي سنة 1925، استخدم الفرنسيون ثلاثمائة وخمسة وعشرين ألف جندي نظامي، وأربعين ألف جندي ملحق، أي اثنتان وثلاثون كتيبة، مع ستين جنرالا، على رأسهم الماريشال بيتان Pétain. كانت المدفعية كبيرة العدد، مع أربعة وأربعين وحدة طيران.
جميع هذه الأرقام قدمت في فاتح يونيو 1926 على منبر البرلمان الفرنسي، ولم يتم تكذيبها.
أنظر: فنسان مونتاي، “الحرب الثورية”. ضمن : الخطابي وجمهورية الريف،) أعمال ندوة(، نقل إلى العربية بإشراف: صالح بشير، ط. 1، دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1980.، ص، 120.
منذ أن تعرّض شهيد الحڭرة محسن فكري للطحن في حاوية للأزبال يوم 28 أكتوبر من سنة 2016، والريف يتوهج وينبعث من رماده كما يفعل طائر الفينيق في الأسطورة الإغريقية. فقد أعقبت ليلة طحن الشهيد مجموعة من المسيرات والمظاهرات، سرعان ما ستتحوّل إلى حِراك شعبي سلميّ أبان عن مستوى عالٍ من التنظيم وحس رفيع بالمسؤولية المشتركة لحماية الريف من أي انزلاق ممكن. حِراكٌ يقوده شباب غيورعلى وطنه، جعلتهم غيرتهم ينهضون ضد الحڭرة ويطالبون بالكرامة والعدالة.
لقد استطاعوا جلب اهتمام العالم بحضاريتهم، فقد نظّموا مظاهراتهم وشكّلوا سلاسل بشرية تقوم بحماية الممتلكات العامة والخاصة، بل إنهم قاموا بحماية الإدارة العمومية ومفوضية الشرطة وقوات الأمن نفسها. ليصل إلى العالم، وليس إلى المغرب فقط، بأن الريفيين والريفيات وصلوا إلى مستوى عالي من النضج، جعلهم مدرسة رائدة قدّمت الدروس للعالم في معنى التنظيم والمسؤولية.
كانت مدينة الحسيمة منطلق الشرارة الأولى لهذا الحِراك، وبعد الحسيمة سوف تنهض المناطق المجاورة، أيت حذيفة، أيت بوفراح، تروڭوت، الخ. ليمتد بعد ذلك إلى الناظور، ميضار، تفرسيت، دار الكبداني، بركان إلخ. بحيث صرخ أهلها ضد نفس سياسات الحڭرة والتهميش التي يتقاسمها الجميع بدرجات متفاوتة. هذه الوقفات لم تبقى محصورة في الريف بل امتدت إلى إسبانيا، فرنسا، بلجيكا، هولاندا، ألمانيا، النرويج وغيرها. القاسم المشترك بين جميع المحتجين ليس انتمائهم فقط إلى رقعة جغرافية اسمها الريف، بل أكثر من ذلك، إلى حساسية ونفسية ووجدان جماعي ينهل من تاريخ شامخ شموخ جبال الريف ومن قيم timmuzɣa وtirrugza ، وقيم الشرف. هذه القيم تبقى منغرسة في تربة الريف، لا يفهمها إلا أهل الريف ومن عاشر واندمج مع أهله.
لقد نجح هؤلاء الشباب المتنور في تصدير هذا الحراك لبقية مناطق المغرب، فخرجت مظاهرات منددة بالمصير لذي لقيه محسن فكري في كلٍ من طنجة، الدار البيضاء، آسفي، الصويرة، أگادير، كلميم والعيون، كما وجدة، فاس، الرشيدية، مراكش، ورزازات وطاطا، إلخ. لتكون بذلك قد جمعت شمل المغاربة ووحّدتهم تحت راية المطالبة بالكرامة وإيقاف الحگرة من الشمال إلى الجنوب.
كانت اللغة الأمازيغية لغة الحِراك الرئيسية، ذلك أن من العناصر الرئيسية المحددة للريف هو انتمائه الأمازيغي، إنها اللغة التي يتحدث بها، فالجميع يفخر بقوله: "ssawareɣ tmaziɣt". هي ليست لغة فقط وإنما هي أيضا منبع لقيم منغرسة في الوعي الجماعي والتي تجعل الريفي يحسّ بتميز نسبي عن غيره، لا يرضى بالذل، مستعد للموت من أجل شرفه، إلخ. قد يقول قائل بأن هذه الصفات موجودة لدى كل إنسان، وإذ لا ننفي ذلك، فإننا نقول بأن بروزها لدى الريفي تعكسها مقولات وتمثلات عند الكثير من المغاربة تدور حول أن: "ريافة رجال"، "ريافة العز"، "نتوما رياف "، إلخ وقد عشت هذه التمثلات حيث كان يرددها على مسامعي الكثيرمن زملاء، أصدقاء وحتى بعد الأساتذة حينما كنت أتابع دراستي بمدينة فاس أواخر التسعينات لأن منطقة دار الكبداني لا تتوفر على ثانوية آنذاك.
وأعتقد أنها ترسّخت الآن أكثر من أي وقت مضى بعد الإنزال الأمني الرهيب الذي أريدَ له أن يُرهبهم دون أن ينجح في ذلك يوم الخميس 18-06-2017 يوم المسيرة التاريخية التي ضمّت أكثر من 100 ألف متظاهر.
إن أهمّ ما يميز الحراك الشعبي الريفي، إضافة إلى تنظيمه، هو انخراط أغلبية شرائح المجتمع فيه. بحيث لم يكن نخبويا ولا محصورا على فئة الطلبة والتلاميذ كما هو الشأن لبعض الحركات الاحتجاجية، لقد ضمّ الفلاحين والصيّادين والتجار والطلبة والتلاميذ والآباء والأمهات وكل فئات المجتمع.
الإضافة التاريخية الأخرى لهذا الحراك، هو انخراط النساء الكبير فيه، خاصة بمدينة الحسيمة. هذا الأمر هو إنجاز تاريخي يُحسب للحراك، خصوصا إذا عرفنا بأن المرأة الريفية تعاني من هيمنة العقلية الذكورية. وبالتالي فمن حسنات الحراك أنه، إضافة إلى تحرير الشباب من هالة الخوف، فقد حرّر النساء كذلك، ولن تستطيع أية مناسبة أخرى فعل ذلك باستثناء الحراك الذي فعلها بشكل لافت للنظر. وهذا ما يبرز بأن الجيل الجديد من الشباب المتنوّر له رأي آخر.
الانخراط امتد كذلك إلى الأطفال، بمعنى أن الحراك امتد إلى صميم الحياة اليومية للريفيين والريفيات، فقد أصبح الأطفال الصغار يردّدون شعارات المظاهرات المُطالِبة بالحرية والكرامة ورفض العسكرة في ألعابهم وبدأوا يتغنون بها. الملاحِظ اللبيب سيلاحظ مدى انغراس حراك الريف في النفوس ويعكس مدى رفضها بالذل والمهانة، لهذا لم تنل منهم هجمات الكثيرين من ذوي النفوس المنغرسة في العبودية والتي تسعى جاهدة لوأد هذه النهضة السلمية.
هذه الهجمات لم تقتصر فقط على تشويه صورة المناضلين أو النيل من عزيمتهم بتخويفهم، بل كانت أيضا هجمات مادية، صدرت عن مجموعة من ذوي السوابق العدلية الذين تمّ تسخيرهم لذات الغرض، كما كان الشأن بالناظور، وقد نتج عن هجماتهم جرح العديد من المحتجين والمناضلين. هؤلاء المعتدين كانوا يحملون أعلاما رسمية للدولة المغربية ويحملون صورا الملك ويرددون شعارات مناوئة للمحتجين مهدّدين لهم أمام قوى الأمن التي لم تتدخل لثنيهم عن الاعتداء الوحشي على المحتجّين الذين لم يجابهوهم بنفس الأسلوب الدنيء.
بعد أن فشلت هذه الاستراتيجية في قمع الشباب المتنور الحاملين لفكرة الحراك، تمّ استعمال وسائل أخرى كالإشاعة. حيث تم الترويج لمجموعة من الإشاعات الكاذبة والمُغرضة تناهض المظاهرات وتقول بأنها ضد الملك، بالتالي فقد حاولت تشويه الهدف من تلك المظاهرات في سبيل شرعنة التدخل ضدها وحصر المناضلين لكي لا يحصلوا على الدعم الشعبي، وقد حصل هذا في كل من العروي مثلا ودار الكبداني ومجموعة أخرى من المناطق.
لم تُجدي هذه الأساليب نفعا، إذ سرعان ما ستتداعى أمام يقظة الشباب وعزمهم على تحقيق ملفّهم المطلبي. فقد قام هؤلاء بردود فعل حضارية جعلت أولئك المعتدين أنفسهم يعتذرون أمام الكاميرات ويُبدون الندم عمّا صدر منهم، وصرّحوا أنهم لم يكونوا على علم بما يقع، بل تمّ التغرير بهم من قبل جهات مسؤولة، وعبّروا عن مساندتهم لإخوانهم، وقالوا بأن الدماء الأمازيغية تجري في عروقهم.
تساءل الكثير من الملاحظين عن سبب استمرار الحراك وطول نفسه أمام هذه الاستراتيجيات التي استهدفته واستهدفت الشباب المناضلين. ولن يعلم حقيقته إلا الراسخون في علم الريف، الذين يدركون بأن الحراك صار جزءً من يومهم ومعيشهم، الأمر الذي أوقع المسؤولون في ورطة، خصوصا بعد أن اكتشف الجميع بأنهم همُ الواقفون وراء تلك الهجمات.
أما الطامة الكبرى التي أفاضت كأس الجهات الرسمية ستكون حين تفتقت قريحة بعض المسؤولين السياسيين الذين خرجوا في خرجة إعلامية وقاموا باستنكار ما اعتبروه "أعمالا تخريبية" رافقت حراك الريف، وأن هذه الاحتجاجات تجاوزت ما اعتبروه كذلك "خطوطا حمراء"، وأن الحراك ما هو إلا "خرافة" لها طابع "انفصالي" وغيرها من التهم الجاهزة التي فضحت جهلهم وانفصالهم عن القضايا الحقيقة للشعب والمجتمع.
هذه التصريحات استنكرها أحرار هذا الوطن، وقدمت شحنة إضافية لأهل الريف، أو هذا الريف العصي عن الفهم بتعبير الأستاذ مرزوق الورياشي. تصريحات أولئك المتحزبين أبانت عن عقدتهم تجاه الريف، عن خنوعهم وانفصالهم عن هذا الريف الذين يريدونه أن يبتلع لسانه وألا يزعجهم لأنهم لا يقدرون عليه.
تهمة الانفصال مرادفة لتهمة التفرقة التي يوزعها العديد من المتحزبين والنخب "المدينية"، وهي ليست وليدة اليوم في الحقيقة، بل إن أبرزها –إضافة إلى تهمة اليوم- يمكن إرجاعها إلى سنة 1930، لأنه بعد صدور ظهير 16 ماي 1930 الذي أُلصق به نعت "البربري" من قبل بعض نخب محور فاس الرباط وسلا، تبين بوضوح بأن نفس العقلية، عقلية المركز والهامش لا زالت متحكمة في لا شعور كل من يزال يردد هذه الأسطوانة. بعد ترديد: "يا لطيف يا لطيف اللهم لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر" سوف تظهر أولى بوادر تأسيس "تنظيم حزبي" في 23 غشت 1930 من عشرة أعضاء، بينهم محميون. هؤلاء اتخذوا القابا تيمنا بالعشرات المبشرين بالجنة، ولجوؤهم لهذا الأسلوب كان من أجل حشد أكبر عدد ممكن من الأنصار . هذه الجماعة سوف تقدم عريضة مطلبية يوم 24 غشت والتي لا تتضمن أية إشارة إلى الاستقلال. بعد ذلك سوف تتأسس كتلة العمل الوطني، وفي 18 دجنبر 1936 تأسس حزب الاصلاح الوطني بالمنطقة الشمالية.
لكن ما أصبو الوصول إليه هو أن هذه الأحزاب كانت تكن عداء واضحا لكل ما هو أمازيغي. إذ أصبح مفهوم "الوطنية" بالنسبة إليهم محصورا في العروبة والاسلام . أما الأمازيغي فقد بقي دائما في لاشعور "الحركة الوطنية" باعتباره ذلك الذي في "الهامش، في البادية، في الجبال، والمنفصل عن المركز وعن المدينة". هامش له لغته وعقليته وكبرياؤه، هامش يأبى الخضوع. مقابل مركز يحيل على عقلية أخرى، عقلية الحضارة والذكاء والدهاء بالنسبة إليهم، لكنه المرادف لعقلية العبودية والخنوع والخبث بالنسبة لذلك الذي في "الهامش". مركز يحاول دائما السيطرة وكسر شوكة ما يعتبر في ذهنه هامشا. لكنه في الريف يعتبر عيبا من يقبل الخنوع أو كما يقول أهله: "neccin wer nrebbu txancet" التي تلخص قيمة الحرية لدى الريفي.
أستحضر هذا التاريخ وهذه المعطيات الأنثروبولوجية، لأن ما يحصل اليوم له ماضيه، ولا يمكن فهم الحاضر بالحاضر فقط، مادام الحاضر عبارة عن تراكم للماضي. فلا يخفى على العُقلاء بأن مقاومة الريف للاستعمار الاسباني كانت قبل حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي بسنوات. إذ منذ احتلال مليلية، عرفت المنطقة من حين إلى آخر مواجهات بين السكان والسلطات الاسبانية. وعلى سبيل المثال، معركة سيدي ورياش سنة 1893 حيث كان من تداعياتها معاقبة الريفيين من قبل المخزن عن طريق استخدام القوة لتأديب القبائل حسب ما جاء في اتفاقية "واد راس" وتعويض إسبانيا التي منيت بها .
الحراك أعاد النقاش حول مقاومة المنطقة تحت قيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث قام هذا الأخير بمراسلة العديد من فقهاء جامع القرويين لمساندته "في موضوع الجهاد وضرورة الدعوة له ومساندة حركة الريف من أجل طرد الفرنسيين والاسبان. غير أن دعوته لم تجِد صدى فعليا لدى هؤلاء، بل قام أحدهم وهو أحمد بن الجيلالي بتسليم الرسالة التي توصل بها من ابن عبد الكريم إلى ممثل المقيم العام ليوطي بفاس" . في مقابل ذلك وبعد التحالف الفرنسي ـ الاسباني 1925، قام بقصف أجدير باستخدام 76 طائرة مع غاز TNT وغاز moutarde إضافة الى سلاح المدفعية. بعد هذا التحالف والذي استخدمت فيه أسلحة وعتاد عسكري رهيب احتفل هؤلاء بتدمير الريفيين ولا أدري هل قرأوا اللطيف على إخوانهم البرابر كما قرأوه سنة 1930؟ بالرغم من كل هذه الاسلحة التي أتت على الأخضر واليابس، بقي الريف موشوما في ذاكرة الجنود الفرنسيين والإسبان الذين لقنوا درسا لن ينسوه من قبل من كان يعتبرونهم مجرد فلاحين بؤساء . وها هو يرسم وشما في ذاكرة القرن الواحد والعشرين من جديد.
استحضار هذا الماضي يتيح للمناضلين فهم ومعرفة إن كان هناك تغير في علاقة المخزن مع الريف أم لا. قد يقول قائل، أنه فيما مضى لم يكن هناك استقرار سياسي، عكس اليوم الذي ينعم فيها بلدنا والحمد لله بنعمة الاستقرار. لكن هذا ينفيه واقع الريف، فالآلاف من العساكر والدرك الحربي الذين أرسلوا لمجابهة المحتجّين الذين يطالبون فقط بالمستشفيات والجامعة وفرص العمل والكرامة والعدالة الاجتماعية بعد سبعة أشهر من الحراك السلمي يفنّد ذلك. لقد تم شحذ السكاكين وتجهيز الدرك والشرطة والدرك الحربي باسم الوحدة الترابية كمحاولة لوأد ملحمة الريفيين، كما تمّ أيضا شحذ الأقلام من قبل بعد المنابر الإعلامية الورقية والإلكترونية. فأي وطنية هذه؟ ما هي أسسها وملامحها؟
الحراك ليس مطلبيا فقط، وإنما هو فرصة لفتح أوراش فكرية عظمى أمام العقل الجمعي للمغاربة، أوراش تهم النقاش العمومي حول "الوطنية" وحول طبيعة "الدولة" التي يريدونها، لإنشاء تعاقد جديد وبأسس جديدة. فإن كان يتم الحديث الآن عن صفة "الانفصال" ككلمة فقد فُرض على الجميع تصوّر معناها دون الاتفاق مسبقا عليه أو الإجماع على ذلك المعنى. إن "الانفصال" صفة ملازمة لفكرة "الوحدة"، إذ لا يمكن للانفصال أن يكون إلا إذا كانت العلاقات بين العناصر والأجزاء متناغمة ومنسجمة وتشكل وحدة، بحيث تذوب العناصر والأجزاء كلها في كلٍّ وفي واحدٍ. فأين هذا "الكل" وهذا "الواحد" الذي قد ينفصل وينشقّ عنه "الجزء"؟
ما أريدَ لنا أن نفهمه هو أن الدولة المغربية تمثل هذا الكل وهذا الواحد، وقد يكون هذا صحيحا من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية فنشوء الدولة في المغرب لم يعبّر بتاتا عن نشأة مجتمع سياسي تعاقدي، وإنما أملته شروط تاريخية ارتبطت بالاحتلال (الفرنسي أساسا). لهذا فهي لم تشكل كُلاّ نشأ بفعل إرادة أجزائه، بل قد لا يجد الأجزاء أي رابط يربطهم بهذا الكل غير هذا الشرط التاريخي الخارج عن إرادة الجميع. وإذا لم يعثر الأجزاء على ذواتهم في هذا الكل فهو يفقد معناه، وبالتالي سيتخذ شكل مظهر عام فقط.
إن الدولة تعاقد يجمع كل العناصر لتُجسد الروح الموضوعية لهم، وإذا لم تستطع أن تترجم هذه الروح فهي تفقد خاصيتها كدولة تسع الجميع، بالتالي بإمكان الأجزاء المطالبة بفسخ ذلك التعاقد ما دامت الدولة لم تحقق مصالحهم، فلماذا علينا أن نعيش في دولة لا تحقق لنا الغايات التي أسسناها من أجلها؟
صحيح أن الشرط التاريخي يتجاوزنا، بالتالي لم نشارك في تأسيسها، إلا أن الحاضر بين أيدينا، بالتالي فالدولة عنصر من حاضرنا ونحن أيضا واقع لن تستطيع تجاوزه، وعلى النقاش أن يُفتح عن ماهيتها وإلا صارت ذلك الوحش الذي يقلتنا باسم "الوحدة" التي لا وجود لها إلا بالنسبة لمن تحمي الدولة مصالحهم دون غيرهم.
فهل بإمكان المفكرين المغاربة فتح هذه الأوراش الفكرية لنقل المغاربة إلى عصر أنوار جديد في القرن الواحد والعشرين؟ أشك في ذلك، وما أنا على يقين به هو أن مسيرة 18 ماي2017 هي ملحمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنها تقدّم للعالم درسا حول عظمة بنات وأبناء هذه المنطقة التواقين للعيش بكرامة وعدالة اجتماعية مع احترام تاريخهم وثقافتهم، وتوزيع عادل للثروات وبناء دولة عادلة ووطن يتسع لجميع أبنائه.
الهوامش
[1] علال الفاسي (عمر)، حمزة الطاهري (أبو بكر)، محمد بلحسن الوزاني (عثمان)، العربي بوعياد (علي)، أحمد بوعياد (سعد)، الحسن بوعياد (سعيد)، عبد القادر التازي (طلحة)، محمد الديوري (الزبير)، إدريس بنعبد الرحمان برادة (عبد الرحمان بن عوف)، أحمد مكوار (أبو عبيدة ). انظر: محمد ضريف، “الأحزاب السياسية المغربية 1934″، منشورات الجمعية المغربية لعلم الاجتماع السياسي، صص : 24 ـ 25.
[1] “إن يقظتنا الوطنية المعاصرة وقعت بالذات ردا على الاستعمار الفرنسي للتمييز بين العرب والبربر. ففي 16 ماي 1930 حينما صدر (المرسوم) البربري الذي يفرض انفصال المغرب عن الكيان العربي الإسلامي للمغرب انتفض الشعب المغربي بقوة ضد ذلك القانون (…) وبذلك فإن يقظة الشعب المغربي كانت في الأساس غيرة على انتمائه العربي. ومنذ سنة 1930 تأججت الحركة في الشارع، وصهرت الشعب كله، وضحى كثير من الشهداء، رحمة الله عليهم، إلى أن توج ذلك الكفاح بإسقاط النظام الاستعماري. وقد أصبح مستقرا في الأذهان أن الاستعمار الفرنسي كتب وثيقة وفاته يوم نشر الظهير البربري”). ويزيد قائلا “وفي كل مرة كان خطاب الحركة الوطنية متميزا بشيئين: الأول أن الهاجس العربي الإسلامي ظل قويا. وفي الجوهر احتفظت الوطنية المغربية بمفهوم ثابت لا يفصل العروبة عن الإسلام”.
محمد العربي المساري، “المغرب بأصوات متعددة”، سلسلة شراع 2، أبريل 1996، ص48-49: .
[1] أبو عباس أحمد بين خالد الناصري، كتاب الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، الجزء 9، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1956
[1] Jeronimo Becker, Historia de Marruecos, Madrid, 1915, p. 382
[1] محمد معروف الدفالي، القرويين والصراعات السياسية في مغرب الحماية، مجلة أمل، العدد 2، 1992، ص: 83-84
[1] Sebastian Balfour, Deadly embrace Morocco and the Road to the Spanish Civil War, oxford university
press, New York, first bublished, 2002, p. 110.
[1] يوم 6 شتنبر 1926، خلال الإنزال البحري بخليج النكور كانت القوات تتكون من: بارجتين، وأربع سفن طرادة، وثمانية مراب ناسفة، وسفينتين مطاردتين وستة مراكب مدمرة، وسبعة عشر سفينة خافرة، وأربعة وستون سفينة للنقل، وسفينتين جرارتين، ومركبين بصهريج، ومركبين للعلاج الطبي، وستة عشر زورقا من نوع “ك”. وكانت هذه البواخر تحمل على ظهرها القوات التالية: 14.482 جندي من فرقة المشاة. 1442 جندي من فرقة المدفعية. 1452 جندي من فرقة الهندسة. 379 جندي من فرقة التموين. 759 جندي من فرقة الصحة. زيادة على 4028 بغل، وعلى الأسلحة والمعدات التالية: عشرون ألف بندقية عادية. ألفا بندقية رشاشة. عشر دبابات. أربع بطاريات مدفعية جبلية. بطاريتان مقنبلتان. سبعة عشر محطة لاسلكية، ست محطات للبرق. اثنان وعشرون ألف قذيفة للطيران. مليون وخمسون ألف قذيفة مدفعية. مائتان وعشرة آلاف قنبلة يدوية. مليونان وتسعمائة واثنان وخمسون ألف رصاصة للبنادق الرشاشة. وكان الأسطول معززا بقوات الطيران التالية: ثمانية وثمانون طائرة حربية. اثنتي عشر طائرة مائية كبيرة. أربعة وعشرون طائرة مائية صغيرة. ست مناطيد عادية. منطادان مسيران. وأما الأسطول الفرنسي فكان يتكون من: بارجة واحدة. سفينتين طرادتين. سفينتين ناسفتين. سفينة جرارة واحدة. مركبين للإرشاد.
محمد بن عزوز حكيم، معارك الثورة الريفية، مطبعة الساحل، الرباط، صص 216- 218.
[1]خلال مرحلة التحالف الفرنسي-الاسباني تم استعمال مكثف لجميع أنواع الأسلحة من قصف جوي ومدفعية وبوارج حربية. بلغ عدد القوات الفرنسية في البداية مائة ألف رجل، ثم مائة وستين ألف رجل. فأحد عشر كتيبة ثم إلى اثنين وأربعين جنرالا. وفي سنة 1925، استخدم الفرنسيون ثلاثمائة وخمسة وعشرين ألف جندي نظامي، وأربعين ألف جندي ملحق، أي اثنتان وثلاثون كتيبة، مع ستين جنرالا، على رأسهم الماريشال بيتان Pétain. كانت المدفعية كبيرة العدد، مع أربعة وأربعين وحدة طيران.
جميع هذه الأرقام قدمت في فاتح يونيو 1926 على منبر البرلمان الفرنسي، ولم يتم تكذيبها.
أنظر: فنسان مونتاي، “الحرب الثورية”. ضمن : الخطابي وجمهورية الريف،) أعمال ندوة(، نقل إلى العربية بإشراف: صالح بشير، ط. 1، دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1980.، ص، 120.