د.علي الإدريسي*
كان الخطأ القاتل للإدارة المغربية التي حلت محل الإدارة الإسبانية بشمال المغرب غداة "استقلال" أو احتقلال المغرب، هو أن هذه الإدارة تصرفت مع الساكنة إما بجهلها بثقافة المنطقة وبسيكولوجية سكانها، وبقيم العزة لديهم، التي عجزت الغزوات الاستعمارية عبر التاريخ من الانتصار عليها، وإما أن تلك الإدارة لبست قشرة المغربة أما عقيدتها فاستعمارية، ربما جاءت، تلك الإدارة، إلى منطقة الشمال لتنفيذ مشروع لم تستطع القوى الاستعمارية إنجازه دون أن تعلن ذلك.غير أن ممارساتها، منذ الأيام الأولى لـلاحتقلال (لاستقلال) هي التي توحي بذلك.
ونعتقد بأن ما قام به الحسن الثاني (حين كان وليا للعهد) إلى جانب ضابط الجيش الفرنسي أوفقّير ضد ساكنة الريف بدعوى "تربيتهم"، حسب تعبير ولي العهد، في ندوة صحافية في أوائل شهر فبراير 1959، هو المرجع الأكثر حضورا في منهجية الإدارة المحلية، وفي ذاكرة أهل الريف والشمال بصفة عامة كذلك، ثم أضيف إليه ما جاء في خطابه المشهور، وهو ملك، في يناير 1984، حين وصف الشماليين بالأوباش وبأنهم يعيشون على التهريب والسرقة، وأنهم "عرفوا ولي العهد وأحسن ليهم مايعرفوش الحسن الثاني في هاذ البلاد".
ألم تكن هذه الآراء للملك الراحل بمثابة إطلاق يد الإدارة لتواصل ما اعتبره "تربية" للساكنة؟
والواقع، هذا شعور يحاصرني كلما وطئت قدماي تراب الريف والشمال بصفة عامة. قد لا تكون الأشياء مختلفة في جهات أخرى في المغرب، لكن زياراتي تتعدد إلى منطقة الريف أكثر من غيرها. ولذلك تكون ملاحظاتي لسلوك المنتسبين إلى الإدارة أكثر من غيرها كذلك. ودون إرادة مني أجدني أربط كل ما لحظته من تجاوز موظفي مختلف السلطات للقانون في تعاملها مع الساكنة برؤية الملك الراحل إلى هذه الجهة من مملكته
من يتولى صب الزيت على النار؟
تم حرمان ساكنة الشمال والريف والشرق من وسائل العيش الكريم، كي تلتصق بهم صفات المهربين والسراق وتجار المخدرات والأوباش. وقد حاول الملك محمد السادس إصلاح أعطاب هذه السياسة وهذه التوجهات نحو هذه المنطقة.
لكن، يبدو أن توجه الملك محمد السادس الذي أطلق عليه "الملكية المواطنة" لم ترق المرتزقة، ،القدامى والجدد، الممتهنين لكتابة التقارير المبنية على التشكيك والطعن في وطنية الريفيين. ولا تخلو لغة الإدارة وثقافة الأحزاب حتى الآن، من الانتقاد الصريح والمبطن من توجه الملك نحو تنمية أقاليم الشمال والشرق.
وتتولى وسائل إعلام "مغربية" وبروباغاندا Propagandaحزبية بوصف كل تحرك أو مطلب شرعي لساكنة الريف والشمال بأنه "مؤامرة إسبانية" على الوحدة الوطنية، ولم تختلف هذه الديماغوجيات عما كان يقال وينشر في سنتي 1958 و 1959 في وسائل إعلام ذلك الزمان
أما السكان فيتساءلون بحسرة: هل المطالبة بحقوقنا في وطننا تكون سببا في نزع جنسيتنا وهويتنا المغربية وفي إلحاقنا بدولة إسبانيا، مثل ما فعل بعض الموتورين في تقييمهم لحركة تحرير الريف من إسبانيا؟ (أمثال بوعبيد وجيرمان عياش على سبيل المثل).
إن ما تنشره وسائل إعلام "مغربية" وما تروج له دعايات أحزاب بعينها عن اتهام ساكنة جزء من ساكنة المغرب بالولاء لدولة أخرى بدلا عن دولتهم، في غياب موقف ورد فعل رسمي من الدولة، هو بمثابة تأييد لسياسات قديمة، ولما كان تعتمده الإدارة ولواحقها في التعامل مع الساكنة، قبل العهد الجديد.
ونستخلص مما تقدم، استمرار تغوُّل الإدارة في أقاليم الريف الكبير، بصفة خاصة، لأسباب كثيرة، بعضها تاريخي يعرفه مؤيدو الاستعمار ومستقبلوه بنشيد "طلعت الحضارة علينا"، وبعضها استغلالي لما جاء في خطاب الحسن الثاني في يناير 1984، حين وصف الشماليين بما وصفهم، وحين ذكرهم بأنهم "عرفوا ولي العهد وأحسن ليهم مايعرفوش الحسن الثاني في هاذ البلاد".
وكيف الخروج من المأزق القاتل؟
ونعتقد بأن إحدى الحلول الناجعة لتجاور الوضع الراهن هو تقديم خطاب ملكي يقدم فيه تعليمات صارمة إلى الإدارة المغربية يأمرها فيها بتعامل مختلف المصالح الإدارية والقضائية، والأجهزة الأمنية، والمرافق العمومية مع المواطنين، كل المواطنين، بطرق قانونية وفقط، ويطمئن المغاربة بأنه سيتابع بنفسه تطبيق مضمون خطابه وتعليماته، مثلما يفعل في متابعة إنجاز بعض الورشات الكبرى، لأن حماية حقوق المغاربة وكرامتهم هو أكبر ورشة ومشروع لبناء المغرب لكل المغاربة، بل هو أعز مطلب لتحقيق المواطنة.
أما بالنسبة إلى فاجعة الحسيمة الحالية فنتمنى أن يذهب التحقيق، الذي أمر به عاهل البلاد، إلى غايته ومنتهاه. لكن، نرجو ألا يكون مثل سابقه الخاص بالشبان الخمسة الذين ماتوا أو قتلوا ليلة 20 / 21 فبراير 2011، فكل اعتقاد بأن انفعالات الناس سرعان ما تهدا وتخبو، وتعود الأمور إلى سابق عهدها سيكون اعتقادا فاسدا. إذ قد تهدا الانفعالات وتخبو الاحتجاجات، ويعود الناس إلى مطحنة أخرى هي مطحنة الحياة المعقدة. إلا أن تراكم الوقائع السلبية لم ولن يكون أبدا لصالح الدولة في الزمن السياسي المعاصر، أو لصالح الحكومة، التي تعتقد أن دوامة الحياة ستجعل الناس ينسون يومهم قبل أمسهم، وإصلاح الإدارة أهم من إصلاح المقاصة، وإصلاح العدالة أهم من أي إصلاح آخر الذي تتعالى بشأنه الأصوات وتتشنج في غرفتي البرلمان، فقديما قال ابن خلدون في الفصل 43 من مقدمته" إن الظلم مؤذن بخراب العمران". فهل هناك من يهمه أمر محاربة الظلم في هذا الوطن؟
*أكاديمي مغربي مقيم بكندا
كان الخطأ القاتل للإدارة المغربية التي حلت محل الإدارة الإسبانية بشمال المغرب غداة "استقلال" أو احتقلال المغرب، هو أن هذه الإدارة تصرفت مع الساكنة إما بجهلها بثقافة المنطقة وبسيكولوجية سكانها، وبقيم العزة لديهم، التي عجزت الغزوات الاستعمارية عبر التاريخ من الانتصار عليها، وإما أن تلك الإدارة لبست قشرة المغربة أما عقيدتها فاستعمارية، ربما جاءت، تلك الإدارة، إلى منطقة الشمال لتنفيذ مشروع لم تستطع القوى الاستعمارية إنجازه دون أن تعلن ذلك.غير أن ممارساتها، منذ الأيام الأولى لـلاحتقلال (لاستقلال) هي التي توحي بذلك.
ونعتقد بأن ما قام به الحسن الثاني (حين كان وليا للعهد) إلى جانب ضابط الجيش الفرنسي أوفقّير ضد ساكنة الريف بدعوى "تربيتهم"، حسب تعبير ولي العهد، في ندوة صحافية في أوائل شهر فبراير 1959، هو المرجع الأكثر حضورا في منهجية الإدارة المحلية، وفي ذاكرة أهل الريف والشمال بصفة عامة كذلك، ثم أضيف إليه ما جاء في خطابه المشهور، وهو ملك، في يناير 1984، حين وصف الشماليين بالأوباش وبأنهم يعيشون على التهريب والسرقة، وأنهم "عرفوا ولي العهد وأحسن ليهم مايعرفوش الحسن الثاني في هاذ البلاد".
ألم تكن هذه الآراء للملك الراحل بمثابة إطلاق يد الإدارة لتواصل ما اعتبره "تربية" للساكنة؟
والواقع، هذا شعور يحاصرني كلما وطئت قدماي تراب الريف والشمال بصفة عامة. قد لا تكون الأشياء مختلفة في جهات أخرى في المغرب، لكن زياراتي تتعدد إلى منطقة الريف أكثر من غيرها. ولذلك تكون ملاحظاتي لسلوك المنتسبين إلى الإدارة أكثر من غيرها كذلك. ودون إرادة مني أجدني أربط كل ما لحظته من تجاوز موظفي مختلف السلطات للقانون في تعاملها مع الساكنة برؤية الملك الراحل إلى هذه الجهة من مملكته
من يتولى صب الزيت على النار؟
تم حرمان ساكنة الشمال والريف والشرق من وسائل العيش الكريم، كي تلتصق بهم صفات المهربين والسراق وتجار المخدرات والأوباش. وقد حاول الملك محمد السادس إصلاح أعطاب هذه السياسة وهذه التوجهات نحو هذه المنطقة.
لكن، يبدو أن توجه الملك محمد السادس الذي أطلق عليه "الملكية المواطنة" لم ترق المرتزقة، ،القدامى والجدد، الممتهنين لكتابة التقارير المبنية على التشكيك والطعن في وطنية الريفيين. ولا تخلو لغة الإدارة وثقافة الأحزاب حتى الآن، من الانتقاد الصريح والمبطن من توجه الملك نحو تنمية أقاليم الشمال والشرق.
وتتولى وسائل إعلام "مغربية" وبروباغاندا Propagandaحزبية بوصف كل تحرك أو مطلب شرعي لساكنة الريف والشمال بأنه "مؤامرة إسبانية" على الوحدة الوطنية، ولم تختلف هذه الديماغوجيات عما كان يقال وينشر في سنتي 1958 و 1959 في وسائل إعلام ذلك الزمان
أما السكان فيتساءلون بحسرة: هل المطالبة بحقوقنا في وطننا تكون سببا في نزع جنسيتنا وهويتنا المغربية وفي إلحاقنا بدولة إسبانيا، مثل ما فعل بعض الموتورين في تقييمهم لحركة تحرير الريف من إسبانيا؟ (أمثال بوعبيد وجيرمان عياش على سبيل المثل).
إن ما تنشره وسائل إعلام "مغربية" وما تروج له دعايات أحزاب بعينها عن اتهام ساكنة جزء من ساكنة المغرب بالولاء لدولة أخرى بدلا عن دولتهم، في غياب موقف ورد فعل رسمي من الدولة، هو بمثابة تأييد لسياسات قديمة، ولما كان تعتمده الإدارة ولواحقها في التعامل مع الساكنة، قبل العهد الجديد.
ونستخلص مما تقدم، استمرار تغوُّل الإدارة في أقاليم الريف الكبير، بصفة خاصة، لأسباب كثيرة، بعضها تاريخي يعرفه مؤيدو الاستعمار ومستقبلوه بنشيد "طلعت الحضارة علينا"، وبعضها استغلالي لما جاء في خطاب الحسن الثاني في يناير 1984، حين وصف الشماليين بما وصفهم، وحين ذكرهم بأنهم "عرفوا ولي العهد وأحسن ليهم مايعرفوش الحسن الثاني في هاذ البلاد".
وكيف الخروج من المأزق القاتل؟
ونعتقد بأن إحدى الحلول الناجعة لتجاور الوضع الراهن هو تقديم خطاب ملكي يقدم فيه تعليمات صارمة إلى الإدارة المغربية يأمرها فيها بتعامل مختلف المصالح الإدارية والقضائية، والأجهزة الأمنية، والمرافق العمومية مع المواطنين، كل المواطنين، بطرق قانونية وفقط، ويطمئن المغاربة بأنه سيتابع بنفسه تطبيق مضمون خطابه وتعليماته، مثلما يفعل في متابعة إنجاز بعض الورشات الكبرى، لأن حماية حقوق المغاربة وكرامتهم هو أكبر ورشة ومشروع لبناء المغرب لكل المغاربة، بل هو أعز مطلب لتحقيق المواطنة.
أما بالنسبة إلى فاجعة الحسيمة الحالية فنتمنى أن يذهب التحقيق، الذي أمر به عاهل البلاد، إلى غايته ومنتهاه. لكن، نرجو ألا يكون مثل سابقه الخاص بالشبان الخمسة الذين ماتوا أو قتلوا ليلة 20 / 21 فبراير 2011، فكل اعتقاد بأن انفعالات الناس سرعان ما تهدا وتخبو، وتعود الأمور إلى سابق عهدها سيكون اعتقادا فاسدا. إذ قد تهدا الانفعالات وتخبو الاحتجاجات، ويعود الناس إلى مطحنة أخرى هي مطحنة الحياة المعقدة. إلا أن تراكم الوقائع السلبية لم ولن يكون أبدا لصالح الدولة في الزمن السياسي المعاصر، أو لصالح الحكومة، التي تعتقد أن دوامة الحياة ستجعل الناس ينسون يومهم قبل أمسهم، وإصلاح الإدارة أهم من إصلاح المقاصة، وإصلاح العدالة أهم من أي إصلاح آخر الذي تتعالى بشأنه الأصوات وتتشنج في غرفتي البرلمان، فقديما قال ابن خلدون في الفصل 43 من مقدمته" إن الظلم مؤذن بخراب العمران". فهل هناك من يهمه أمر محاربة الظلم في هذا الوطن؟
*أكاديمي مغربي مقيم بكندا