ناظورسيتي
أواخر السبعينات من القرن الماضي، طرأ تطور في الحركة الثقافية بالريف، حيث عرف أصواتا أكثر جدية، وعمقا، في مجال الشعر، والغناء، والمعرفة عموما، ظهرت أفكار تؤسس لثقافة جديدة ومغايرة لكل ما كان سائدا من قبل، فعاليات، أفكار، آفاق جديدة، وكان وراء هذه الصحوة شباب متخرج من الجامعات المغربية بالأساس... كانت ولادة جمعية الانطلاقة الثقافية، استطاعت أن تؤسس لثقافة ملتزمة، متميزة وبرؤية تقدمية ذات طموح ترنو إلى تغيير الواقع، وأتذكر أن أول نشاط ثقافي، وكان بدار الشباب يتعلق ب:التخلف، والهدف الذي أسست من أجله هي بالإضافة إلى الأنشطة العامة التاريخية والفنية والاجتماعية ـ الثقافة الأمازيغية ـ والنهوض باللغة الأمازيغية وعبرها الوصول إلى الإنسان الريفي الذي ظل ردحا من الزمن مغمورا يعاني الإهمال والتهميش، وكان يستحي أن ينطق لغته، ويعتبر ذلك قدرا محتوما تزكيه الإيديولوجيات التي عششت، وتعتبر جمعية الانطلاقة الثقافية أم الجمعيات في الريف، وقد سبقتها في المغرب جمعية البحث والتبادل الثقافي التي وجدت من أجل نفس الغاية، وبعدها توالت تأسيس الجمعيات الثقافية في الريف.
ومن جملة الأسماء البارزة على الساحة الثقافية مع الانطلاقة الثقافية، اسم سيكون له شأن كبير هو المرحوم الأستاذ والدكتور قاضي قدور.
قاضي قدُّور مُؤسِّس الانطلاقة الثقافية
تعرفت عليه رفقة الأستاذ مرزوق الورياشي الذي يعد من بين المؤسسين لجمعية الانطلاقة الثقافية والفاعل الجمعوي رقم واحد، لا يضاهيه أحد في هذا المجال.. وكان وقتها يحضر رسالة في فرنسا موضوعها التغيرات الاجتماعية في الريف، وقد ساعدته الانطلاقة الثقافية كثيرا في أبحاثه، واستفادت الانطلاقة الثقافية أيضا من نتائج بحثه من الناحية الاجتماعية والثقافية.
لم أكن يومها أعرف قاضي قدور لأنه كان في فرنسا، أي في سنة التأسيس 1978، بينما يعتبر مرزوق الورياشي من تلاميذ الشريف أمزيان، وكانت له علاقة بالمرحوم قاضي قدور وقد دخل على الخط لأن همه هو الأخر هي الثقافة واللغة الأمازيغية في الريف، وكان يتابع دراسته في فرنسا...كان هدف إنشاء جمعية الانطلاقة الثقافية هو بناء ثقافة جادة بالأساس، تدافع عن الإنسان الريفي، وإثارة انتباهه إلى بلورة الإمكانيات الإبداعية لأبناء الريف لأن العمل الثقافي أنجع أسلوب لخلق الإنسان المنفتح والمتحرر من عقد الخوف والانطواء على الذات بربط الثقافة بالواقع المعاش، وهي بالتالي مفتوحة ومنفتحة على كل المكونات، كانت ثقتنا في النفس لا محدودة، فلا أحد كان قادرا على مصادرة أحلامنا المشروعة لبناء مجتمع متوازن.
قاضي قدّور اللسني والمثقّف الملتزم
قاضي قدور كان بالإضافة إلى قناعته بما اتفقنا عليه، وما نسعى إلى تحقيقه، كان هو يسبر أغوار هذه اللغة التي كان يردد بخصوصها مقولة مشهورة لرولان بارط: ˝أن تسرق اللغة باسم اللغة نفسها هو بداية الجرائم المشروعة˝.
في الواقع كانت قناعتنا أن تأخذ الأمازيغية مكانها، ونهتم بالتراث الشفوي والمأثور الغير المكتوب... لكن قاضي قدور كان كل مرة يطلع علينا بمعارف جديدة/اللسانيات أو كل ما هو لسني، التركيب، المزج وتحليل الجملة فونولوجيا. كنا ننصت إليه بإمعان ونسجل ذلك في ذاكرتنا لأننا كنا في حاجة إلى هذه المعرفة، وقد أكد هذه الملاحظة رفيقه الدكتور سبيعة.
قاضي قدور شعلة متقدة، متوهجة علما، وأدبا، مضيئة لكل الفضاءات ليست الريفية فحسب وإنما في كل مكان، يعطي مثالا للمثقف الملتزم بقضايا لغوية كاختصاص، وقضايا المجتمع كأحد الفاعلين. كان ما يزال يتابع دراسته في فرنسا، وعودته في الصيف كانت أيامه معنا أعراسا ثقافية، أمسيات غناء بالمرح والثقافة في المقهى، في الطريق، في كل آن وحين...
تعرفنا عليه عن كثب، وتمكنا من معرفة خبايا وأسرار حياته الخاصة، هو ابن موظف بسيط كان في تطوان، وحفيد الشيخ زريوح الذي يسكن في مليلية، ذات يوم وحينما دخل الكتاب في تطوان جلس إلى الفقيه ليتعلم القراءة والكتابة، وهو بصدد ترديد الحروف الهجائية فوصل إلى حرف ˝ش˝، لكنه كان يعتقد بأن الأمر يتعلق ب ˝شين˝، أي أنهم أكلوا، وإثرها أكل العصا..
قاضي قدور شخصية مرحة، لن تمل من جلوسه أو حديثه، دعابته رقيقة جدا. يدخل إلى وجدانك دون استئذان، يسحرك بحديثه وتستهويك شخصيته وانفعالاته، محدثا بارعا، محللا ناجحا ولغويا متمكنا، لم أشاهده يوما متذمرا، هو بمثابة ينبوع يصب منه كل ضمان للمعرفة..علاقته كانت قوية مع أصدقائه بفضله وعلاقته تلك تمكنا من التعرف على عدة شخصيات ثقافية وفنية وعلمية وازنة، مثل د سبيعة، وأحمد بوكوس الذي حضر إلى دار الشباب بالناظور حيث ألقى عرضا حول التعدد اللغوي والثقافي في المغرب ويرجع إليه الفضل في مساعدة الفنان الوليد ميمون في تسجيل أول شريط غنائي، دشار ءينو.
قاضي قدور استمر على هذا المنوال، وبعد توقف جمعية الانطلاقة الثقافية، كان حاضرا أيضا في تأسيس جمعية الماس الثقافية التي تعتبر امتدادا لخط الانطلاقة الثقافية..إلى أن وافته المنية على اثر حادثة سير مشؤومة.. وكان يوما أسودا في تاريخ الريف والمغرب عموما، وفقدت الساحة الثقافية والجامعة المغربية صرحا كبيرا من الصعب جدا جدا أن تتكرر شخصية في مستوى قاضي قدور..
نذكر نحن رفاق المرحوم بأنه كان يردد عبارة أصبحت لصيقة به، وهي العفسة، قدور العفسة، وكان كلما تكلم مع أحد يضرب رجله أرضا.. أعفس.. وما أحوجنا إلى عفساتك أيها العزيز رحمك الله.
أواخر السبعينات من القرن الماضي، طرأ تطور في الحركة الثقافية بالريف، حيث عرف أصواتا أكثر جدية، وعمقا، في مجال الشعر، والغناء، والمعرفة عموما، ظهرت أفكار تؤسس لثقافة جديدة ومغايرة لكل ما كان سائدا من قبل، فعاليات، أفكار، آفاق جديدة، وكان وراء هذه الصحوة شباب متخرج من الجامعات المغربية بالأساس... كانت ولادة جمعية الانطلاقة الثقافية، استطاعت أن تؤسس لثقافة ملتزمة، متميزة وبرؤية تقدمية ذات طموح ترنو إلى تغيير الواقع، وأتذكر أن أول نشاط ثقافي، وكان بدار الشباب يتعلق ب:التخلف، والهدف الذي أسست من أجله هي بالإضافة إلى الأنشطة العامة التاريخية والفنية والاجتماعية ـ الثقافة الأمازيغية ـ والنهوض باللغة الأمازيغية وعبرها الوصول إلى الإنسان الريفي الذي ظل ردحا من الزمن مغمورا يعاني الإهمال والتهميش، وكان يستحي أن ينطق لغته، ويعتبر ذلك قدرا محتوما تزكيه الإيديولوجيات التي عششت، وتعتبر جمعية الانطلاقة الثقافية أم الجمعيات في الريف، وقد سبقتها في المغرب جمعية البحث والتبادل الثقافي التي وجدت من أجل نفس الغاية، وبعدها توالت تأسيس الجمعيات الثقافية في الريف.
ومن جملة الأسماء البارزة على الساحة الثقافية مع الانطلاقة الثقافية، اسم سيكون له شأن كبير هو المرحوم الأستاذ والدكتور قاضي قدور.
قاضي قدُّور مُؤسِّس الانطلاقة الثقافية
تعرفت عليه رفقة الأستاذ مرزوق الورياشي الذي يعد من بين المؤسسين لجمعية الانطلاقة الثقافية والفاعل الجمعوي رقم واحد، لا يضاهيه أحد في هذا المجال.. وكان وقتها يحضر رسالة في فرنسا موضوعها التغيرات الاجتماعية في الريف، وقد ساعدته الانطلاقة الثقافية كثيرا في أبحاثه، واستفادت الانطلاقة الثقافية أيضا من نتائج بحثه من الناحية الاجتماعية والثقافية.
لم أكن يومها أعرف قاضي قدور لأنه كان في فرنسا، أي في سنة التأسيس 1978، بينما يعتبر مرزوق الورياشي من تلاميذ الشريف أمزيان، وكانت له علاقة بالمرحوم قاضي قدور وقد دخل على الخط لأن همه هو الأخر هي الثقافة واللغة الأمازيغية في الريف، وكان يتابع دراسته في فرنسا...كان هدف إنشاء جمعية الانطلاقة الثقافية هو بناء ثقافة جادة بالأساس، تدافع عن الإنسان الريفي، وإثارة انتباهه إلى بلورة الإمكانيات الإبداعية لأبناء الريف لأن العمل الثقافي أنجع أسلوب لخلق الإنسان المنفتح والمتحرر من عقد الخوف والانطواء على الذات بربط الثقافة بالواقع المعاش، وهي بالتالي مفتوحة ومنفتحة على كل المكونات، كانت ثقتنا في النفس لا محدودة، فلا أحد كان قادرا على مصادرة أحلامنا المشروعة لبناء مجتمع متوازن.
قاضي قدّور اللسني والمثقّف الملتزم
قاضي قدور كان بالإضافة إلى قناعته بما اتفقنا عليه، وما نسعى إلى تحقيقه، كان هو يسبر أغوار هذه اللغة التي كان يردد بخصوصها مقولة مشهورة لرولان بارط: ˝أن تسرق اللغة باسم اللغة نفسها هو بداية الجرائم المشروعة˝.
في الواقع كانت قناعتنا أن تأخذ الأمازيغية مكانها، ونهتم بالتراث الشفوي والمأثور الغير المكتوب... لكن قاضي قدور كان كل مرة يطلع علينا بمعارف جديدة/اللسانيات أو كل ما هو لسني، التركيب، المزج وتحليل الجملة فونولوجيا. كنا ننصت إليه بإمعان ونسجل ذلك في ذاكرتنا لأننا كنا في حاجة إلى هذه المعرفة، وقد أكد هذه الملاحظة رفيقه الدكتور سبيعة.
قاضي قدور شعلة متقدة، متوهجة علما، وأدبا، مضيئة لكل الفضاءات ليست الريفية فحسب وإنما في كل مكان، يعطي مثالا للمثقف الملتزم بقضايا لغوية كاختصاص، وقضايا المجتمع كأحد الفاعلين. كان ما يزال يتابع دراسته في فرنسا، وعودته في الصيف كانت أيامه معنا أعراسا ثقافية، أمسيات غناء بالمرح والثقافة في المقهى، في الطريق، في كل آن وحين...
تعرفنا عليه عن كثب، وتمكنا من معرفة خبايا وأسرار حياته الخاصة، هو ابن موظف بسيط كان في تطوان، وحفيد الشيخ زريوح الذي يسكن في مليلية، ذات يوم وحينما دخل الكتاب في تطوان جلس إلى الفقيه ليتعلم القراءة والكتابة، وهو بصدد ترديد الحروف الهجائية فوصل إلى حرف ˝ش˝، لكنه كان يعتقد بأن الأمر يتعلق ب ˝شين˝، أي أنهم أكلوا، وإثرها أكل العصا..
قاضي قدور شخصية مرحة، لن تمل من جلوسه أو حديثه، دعابته رقيقة جدا. يدخل إلى وجدانك دون استئذان، يسحرك بحديثه وتستهويك شخصيته وانفعالاته، محدثا بارعا، محللا ناجحا ولغويا متمكنا، لم أشاهده يوما متذمرا، هو بمثابة ينبوع يصب منه كل ضمان للمعرفة..علاقته كانت قوية مع أصدقائه بفضله وعلاقته تلك تمكنا من التعرف على عدة شخصيات ثقافية وفنية وعلمية وازنة، مثل د سبيعة، وأحمد بوكوس الذي حضر إلى دار الشباب بالناظور حيث ألقى عرضا حول التعدد اللغوي والثقافي في المغرب ويرجع إليه الفضل في مساعدة الفنان الوليد ميمون في تسجيل أول شريط غنائي، دشار ءينو.
قاضي قدور استمر على هذا المنوال، وبعد توقف جمعية الانطلاقة الثقافية، كان حاضرا أيضا في تأسيس جمعية الماس الثقافية التي تعتبر امتدادا لخط الانطلاقة الثقافية..إلى أن وافته المنية على اثر حادثة سير مشؤومة.. وكان يوما أسودا في تاريخ الريف والمغرب عموما، وفقدت الساحة الثقافية والجامعة المغربية صرحا كبيرا من الصعب جدا جدا أن تتكرر شخصية في مستوى قاضي قدور..
نذكر نحن رفاق المرحوم بأنه كان يردد عبارة أصبحت لصيقة به، وهي العفسة، قدور العفسة، وكان كلما تكلم مع أحد يضرب رجله أرضا.. أعفس.. وما أحوجنا إلى عفساتك أيها العزيز رحمك الله.