أن تكون فارسا فكن كعلي وأن تكون شاعرا فكن كابن هاني فليس كل من حمل سيفا بمحارب ولا كل من خط بيتا بناظم
وأنا اقلب صفحات ديوان الدكتور نور الدين أعراب الطريسي الذي عنونه ب يخون سيده الورد أثار انتباهي إختياره لهذا العنوان فقرأته على صيغتين وكلاهما منحاني لغة سليمة، ومعنى مضمون لأغلب القصائد التي رجعت إليها وقد وسمها بالعنوان أعلاه على دفة الديوان
وأنا أمعن النظر في مفرداتها وجملها وبنائها الشعري أدركت أنني أمام شاعر لا يشق له غبار ، فارس للكلمة بامتياز تتسم جل قصائده بتركيبة فنية ذات دلالة في المعنى رائع، ومضمون محكم
ويجعل الواقف عليها يحتار في اختيار ما سيتناول في دراستها أولا: باعتبارها دررا لايمكن تفضيل إحداها عن الأخرى
يخون سيده الورد يأتي إعرابها بحسب الصيغة المنطوقة
فنقرأ الورد برفع الدال أو نصبه
وسنتولى شرح ذلك وإعرابه بالتفصيل ضمن هذه الدراسة .
إذ أن كل قراءة تحيلك على معنى جميل حتى وإن جاء مختلفا ، إنه لا يكون بعيدا عن مضمون القصيدة وبتدقيق النظر في لوحة الغلاف نجد أن واضعها لم يرسمها عبثا ولا ارتجالا وإنما استوعب الديوان قراءة وغاص في ثناياه وفي قصيدة يخون سيده الورد ، ولازم الشاعر في حله وترحاله ، واقترب من فكره وأدبه وكان لصيقا به التصاق الفكرة الشعرية بروحه ؛ وكلاهما يقرضان الشعر ويتذوقانه ؛ إنه كاتب هذه القراءة ، وحتى لا نشط بعيدا عن ما رسمه لنا الشاعر تعبيرا وحسن بيان، يكون لزاما علينا أن نقف على المعنى والمبنى بترو وتبصر ، لأننا أمام شاعر ليس بمبتدئ وإنما هو ثروة لغوية وأستاذ للغة العربية وكأنه يشترط على من يقتحم عالمه الشعري أن يكون شاعرا فذا أو قارئا حصيفا
فمن يكون هذا الشاعر الفذ؟ إنه الناقد والشاعر الدكتور نورالدين أعراب الطريسي. شاعر نحت اسمه بإصرار وعزيمة على خارطة المشهد الثقافي والأدبي بالمغرب بصفة عامة وفي الجهة الشرقية بصفة خاصة .
يشهد له القاصي والداني بنبوغه وتفوقه المعرفي والأدبي ولا أدل على ذلك من الإصدارات المهمة والمؤلفات التي كتبها وصنفها وقدمها في مجال النقد الأدبي الذي تخصص فيه وخبر دروبه ومسالكه الوعرة عبر إطلاعه الواسع على النظريات النقدية العربية والغربية القديمة والحديثة بدءا بمناهج ما قبل البنيوية مرورا بالبنيوية التي درسها واستوعب قواعدها وأسسها وغيرها من المناهج النصية كالأسلوبية والسيميائيات وصولا إلى النظريات ما بعد البنيوية والسيميائيات المعاصرة ، وتحليل الخطاب والتفكيكية . .وهذا ما يظهر من خلال كتبه النقدية المعروفة ؛ أضف إلى ذلك ما كتبه وأصدره في الشعر ، فقد كتب ديوانين شعريين هما قمر الغياب الذي صدر عام ألفين وسبعة ويخون سيده الورد الذي صدر عام ألفين وستة عشرة .
ومن هنا يتضح لنا أننا أمام هرم من أهرام الأدب العربي المعاصر ، يمزج بين النقد والشعر ؛ فالكتابة الشعرية عنده تنضج على نار هادئة هي رصيده الغني من النظريات والمناهج النقدية التي خبرها واكتسبها
. ولا يتوقف مقدار النبوغ عند شاعرنا وناقدنا عند هذا الحد فقط ، بل إنه يمتلك رصيدا لغويا غنيا وثريا إلى جانب مخزونه النقدي والأدبي .
ويتجلى ذلك في كونه تحفة لغوية وطاقة ابداعية بامتلاكه لعدة لغات يتقنها كتابة ونطقا وهي الفرنسية والهندية والأردية وبعضا من الإنجليزية إضافة إلى اللغتين العربية والأمازيغية
وهو خريج جامعة محمد الخامس بالرباط تعلم أصول النقد الحديث والقديم وقواعدهما على أيدي ثلة من أشهر النقاد وأجودهم على الساحتين المغربية والعربية الذين ذاع صيتهم في المشرق والمغرب وسارت بذكرهم الركبان من أمثال الدكتور أحمد أعراب الطريسي عمه ، والدكتور محمد بنيس ، والدكتور ادريس بالمليح ، والدكتور قاسم الحسيني، والدكتور نجيب العوفي والدكتور سعيد يقطين ، والدكتور عبد الحميد عقار، والدكتور مصطفى سلوي ، والدكتور محمد يحيى قاسمي ، وغيرهم .
وقد نشر قصائده الأولى في بداية التسعينيات في عدد من الجرائد مثل أنوال والإتحاد الإشتراكي وصوت الشرق لكن أغلب قصائده التي نشرها بالموازاة مع نشره لدراساته النقدية ، كانت في جريدة الميثاق الوطني حيث التقى هناك بالناقد والفنان التشكيلي العراقي فراس عبد المجيد فعمل على نشر قصائده ودراساته على صفحات هذا المنبر .
والتقى أيضا بمجموعة من الشعراء المغاربة الشباب الذين عملوا معا على تشكيل المشهد الشعري المغربي للشعراء الشباب بالرباط ونواحيها من أمثال الشاعر محمد بلمو والشاعر جواد العوفير والشاعر الطاهر الطويل والشاعر زين العابدين اليساري وغيرهم كثير .
هذا فضلا عن بداياته الشعرية التي أسسها في شرق المغرب قبل
ذلك بقليل مساهما في رسم مشهد القصيدة العربية بالمغرب الشرقي خلال التسعينيات رفقة أسماء وازنة من أمثال الطيب هلو ومصطفي قشنني وأحمد ماموني ومحمد غريب ماخوخي ومصطفى دزيري وغيرهم..
والدكتور نورالدين أعراب الطريسي عضو اتحاد كتاب المغرب وعضو شرفي لجمعية ملتقى الفن والإبداع بالناظور
ومن أجل أن نقرا شعره ونحيط به لابد أن نقف مع شرح لفضيلة الدكتور محمد أبو أسامة دخيسي في إجابته على السؤال الذي طرحه في مقاله تحت عنوان
- كيف نقرا الشعر المغربي المعاصر - ؟ ، يقول : إنه سؤال جوهري لا ينطلق من فرضية القراءة من أجل القراءة بقدر ما يحتكم إلى تحقيق الوظيفة الانفعالية التي تجلب المتعة والفائدة من القراءة كما تقر أن الشعر في بعده الإنساني مركز التواصل بين القوى الظاهرة (اللغة ، التركيب ، الدلالية ...) والقوى الباطنية ( الإيقاع، سلطة الذات ، الإشارت..)
إذاك تتحول السلطة القرائية إلى تسليط الضوء على النص المتكتم عنه ، أو قراءة ما بين السطور .[انتهى]
اشتمل ديوان الشاعر الدكتور أعراب الطريسي ؛ يخون سيده الورد
على أربع عشرة قصيدة ؛ تطرقت إلى مجموعة من القضايا الإنسانية والعاطفية والإجتماعية والوطنية والقومية من مواقف عايشها وأخرى استلهمها من تجربته وواقعه فكتبها بطريقة سلسة وإبداعية وبحس شاعر مرهف ولغة عالية البناء جميلة البيان يقول في مطلع القصيدة الأولى:
أقصى الورود الجارحة
كي يزهر الورد الذي بايعته
ملكا على عرش الفراشات الحسان
أقسى الورود الجارحة
كي ترتوي غزالة من دمع صيادها
أقصى الورد الجارحة
لا أنت من أطلقتها
رصاصة طائشة
تصيب من تصيب او قد تخيب
والوقت ينضج ما تساقط من سهام
كان لما جاء في بيانه أثر طيب على نفسي وقد حملني إلى زمن الشعر الجميل وكأني أستمع إلى أبي الطيب المتنبي في رائعته وهو يتغنى بالورد جماله وسحره وخيانة الأيادي التي زرعته له يقول :
قَد صَدَقَ الوَرْدُ في الذي زَعَمَا أنّكَ صَيّرْتَ نَثْرَهُ دِيَمَا
كأنّمَا مائِجُ الهَوَاءِ بِهِ بَحْرٌ حَوَى مِثلَ مائِهِ عَنَمَا
نَاثِرُهُ النّاثِرُ السّيُوفَ دَمَا وَكُلَّ قَوْلٍ يَقُولُهُ حِكَمَا
وَالخَيْلَ قَد فَصّلَ الضّياعَ بهَا وَالنِّعَمَ السّابِغاتِ وَالنِّقَمَا
فَلْيُرِنَا الوَرْدُ إنْ شَكَا يَدَهُ أحسَنَ منهُ من جُودِها سَلِمَا
فَقُلْ لهُ لَستَ خَيرَ ما نَثَرَتْ وَإنّمَا عَوّذَتْ بكَ الكَرَمَا
خَوْفاً منَ العَينِ أنْ يُصَابَ بهَا أصَابَ عَيْناً بها يُصَابُ عَمَى
ويقول ابن المعتز :
أتاكَ الوَردُ مَحبُوباً مَصُوناً، كمَعشوقٍ تكَنّفَهُ الصّدودُ
كأنّ بوَجهِهِ، لمّا تَوافَتْ نجُومٌ في مَطالِعِها سُعُودٌ
بَياضٌ في جَوانِبِهِ احمِرارٌ، كما احمرّتْ من الخجلِ الخدودُ
لا يعرف الشاعر التكلف بل ينمو بيته الشعري من قوة تركيبته التلقائية والعلم به حتى أن ولادة القصيدة لا تعرف عسرا كما أنه لا يجهضها عند تدفق معناها وهذا ما كان عليه العرب يقولون الشعر بالفطرة ومرتجلا لأنه يجيد قرضه ونظمه وصوره وليس كل كلام موزن بشعر فالشعر ما عرفه جهابدته؛ والشاهد عندنا بعض اقوالهم
فيعرفه أحمد شوقي
* ولولا خلالٌ سنها الشعر ما دَرى ــــــ بغاة المعالي كيف تبنى المكارمُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــوقال ابوتمام
* أرى الشعر يحيي الجود والبأس بالذي ــــــ تبقيه أرواح له عطراتُ
وما المجد لولا الشعر إلا معاهــــــــدٌ ــــــ و ما الناس إلا أعظم نخرات.
ووصفه ناصيف اليازجي
* الشعر في كل عصر مركب خشنٌ ــــــ لا يستقل عليه الراكب الوهن
ومع كل ما قيل عن الورد من جمال وروعة إلا أن الشاعر الدكتور نورالدين أعراب الطريسي لا ينظر إلى الورد على أنه وردا بل يتخذه تشبيها ومجازا واستعارة للأنثى بكل أبعادها الرمزية حيث أن كلمة الورد لا يقصد بها في هذا الديوان معناها اللغوي بل تتحول إلى مدلول عميق وأوسع على المعاناة والألم والأذى والضررالذي يمكن أن تسببه الأنثى أو المرأة الجميلة وكانه يحملنا على بساط سحري فنلج معه عوالم روعة الفن والجمال واقتبس بعضا مما قاله الفيلسوف والكاتب جان بول سارتر الفرنسي
يقول في كتابه “الفن الفلسفي” كما اشار اليها علاء العبادي.
“ما هو الفن الخالص في المفهوم الحديث؟” “هو أن تخلق سحراً متلاحقاً يحتوي الموضوع والعلة معاً والعالم الخارجي للفنان والفنان نفسه، بشكل يستطيع معه إلقاء محاضرة بعنوان ضآلة الحقيقة في العالم الخارجي” ذرائع، انعكاسات، أطر الأشياء كلها لا قيمة لها مطلقاً بذاتها وليس لها من مهمة سوى أن تعطي الفنان فرصة تأمل نفسه وهو يراها" انتهى ".
وهنا تكمن المفارقة الشعرية الحادة بين مكونيين وعنصرين متناقضين إلى حد بعيد إذ أن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هو كالتالي : كيف يمكن للورد أن يخون؟ . والجواب على ذلك هو أن ذلك ممكن فقط في حالة فهمنا للورد على أساس أنه استعارة تصريحية شاملة تدل على مقابلة المرأة الجميلة لوفاء الشاعر وطيبوبته بالشر أو بالمكر والأذى في أقل الإحتمالات وفي أحسن الأحوال، فنقرأ في القصيدة التي عنونها ب" الحديقة عطشى لوردها الذابل ":
تتجسس عين الفراغ على نملة
والجداول تحذر من مائها
العناكب قد اسدلت فمها
والفراشات ضاحكة
تتلذذ بالمصيدة
وحده الورد من يقتفي اثر العنكبوت
ياكل صيده ثم يحتسيان
كؤوس النبيذ
يجلس العنكبوت الى وردة ناضرة
فيمص رحيق شجيراتها
تنتشي بالعذاب اللذيذ
يحنط اغصانها
ثم يتركها هيكلا فارغا
تهجر ماءها وردة الفلوات
وعلى العموم يبدو لي أن الشاعر هنا يتحدث انطلاقا من تجربة ذاتية وشخصية عميقة جدا ، وطافحة بالألم والمعاناة مع الأنثى الجميلة أو ما سماه في إحدى قصائده بعبارة" وقت لفاكهة الوقت" إذ يقول:
لفاكهة الوقت وقت
لزنبقة الود
تسري كلاما بهيجا
لطفل اللقاء ..
سينبت عشبا ..
فشابا فكهلا
لزنبقة في الاقاصي
لوقت يئن اشتياقا ..
لوقت الأنين
لبدر البدور
يسامر نجما نحيل الضياء
لزهر الفلاة
يحن قطاف ثماره
لزهر يئن
إذا ما تراءى المضيئان
وجه عبير
يمد رحيق حرير البياض
ووجهك وجه
لمد وجزر أنيق التلاقي
أعتقد ان الشاعر قد تعرض هنا لتجربة عاطفية صادمة زلزلت كيانه وحطمت فؤاده وجرفت احاسيسه ومشاعره الجياشة فنطق شعرا يطفح بأبلغ العبارات الدالة على المعاناة الداخلية .
وسبب الصدمة الرهيبة التي حلت بشاعرنا ليس مردها إلا إلى هذا الإحساس بالغبن والفاجعة حينما تصبح الأنثى مصدرا للألم بدلا أن تكون رسولا للحب .
فالأبيات تصور لنا هذه المرأة وهي تتلدد في سادية مفرطة بالعذاب النفسي الذي تسببه للشاعر ؛ وكأني به يريد أن يقول لنا أنه مهما زادت جرعة الجمال إلا وزادت معها جرعة الألم ، وقديما قيل :- ومن الحب ما قتل- واجمل ما قاله في قصيدته التي عنونها ب" مطر الحبيبة" جاء فيها :
بهاء المجيدة
كطير بقلبي
يطير باقصى جناح الحبور
بهاؤه شمس
وضوء يهيم اشتياقا
يرمم جرحا عصي الهروب
تطير الفراشات منه
وتهمي
سرورا غرورا
بزهر الاماني
تخيطين أزرار حلم انيق
يليق بفارس صقر
وصخر وحيد ..
وحارس ورد
يصد ذباب التسكع
تعيدين سيرة انثى بهية
لك المجد بدرا أنيق التجلي
لك الورد يهفو بعطر التلاقي
يرش من الود أمطار جرحي
وبناء عليه تصبح لدينا هذه المعادلة التي تشرح لنا مضمون ودلالة الديوان بأكمله وبدون فهمنا لهذه المعادلة يستحيل علينا أن نفهم المعنى الحقيقي العميق الذي يقصده الشاعر الدكتور نورالدين أعراب الطريسي من هذا الديوان .
وهذه المعادلة هي التالية :الورد القاتل يساوي الجمال القاتل يساوي المرأة القاتلة رمزيا واستعاريا لأن فعل الخيانة هنا يرقى ليدل على معاني عميقة من الضرر والسادية وتعذيب الآخر نفسيا ورمزيا ونجد ذلك عند الشاعر الفرنسي شارل بودليير في ديوانه أزهار الشر كما ترجمها حنا جورجيت الطيار :
كالملائكة ذات العيون الوحشية
سأعود إلى مخدعك
وأتسلل إليك بغير جلبة مع ظلام الليل
وسأمنحك يا سمرائي
قبلاً باردة كالقمر
ومداعبات أفعوان يسعى حول وكره
وعندما يعود الصباح الكئيب
ستجدين مكاني فارغًا وسيستمر باردًا حتى المساء
وكما يحب بعضهم أن يسيطروا
بالحب على حياتك وشبابك
أنا أريد أن أسيطر بالرعب
ولربما كان الشاعر الطريسي قريبا من هذا المعنى متأثرا بالعبارة الشهيرة التي عنون بها الشاعر الفرنسي بودلير ديوانه الشهير أزهار الألم أو أزهار الشر وكلتا العبارتين صحيح وعميق يغني الدلالة الرمزية الشاملة ويجعلها تنسحب على الجمال وعلى المرأة وهذا التناص يؤكد مرة اخرى الثراء الموسوعي الذي يميز المخزون الشعري والكتابة الادبية عند الشاعر نور الدين الطريسي هذا المخزون الذي ينهل من عدة مشارب مثل الثرات الشعري الغربي الذي إطلع عليه بقراءته لمجموعة من شعرائه البارزين من أمثال بودلير ولامارتين وفيكثور هيكو وقبل ذلك الثرات الشعري العربي الذي ينتمي إليه الشاعر بمختلف اتجاهاته وتجلياته كالشعر الجاهلي والشعر العباسي والأندلسي والشعر المعاصر ...
" يخون سيده الورد " بعد قراءتنا الرمزية له بمختلف إيحاءاتها الجمالية وطاقتها التعبيرية والرمزية التي تحيل عليها ،ننتقل للحديث عن الجانب التركيبي للعنوان فقد أشرنا سابقا إلى البعد الجمالي إلى هذه الصياغة اللغوية من الناحية التركيبية فنفهمها من جهتين أو على نحوين متخالفين لكنهما ليسا متناقضين بل يكمل بعضهما الاخر وذلك بالشكل التالي :
األا: إذا نصبنا سيده ورفعنا الورد يكون الورد فاعلا مؤخرا وسيده مفعولا به مقدما
ثانيا إذا نصبناهما معا : يكون سيده مفعولا به والورد بدلا اما الفاعل في هذه الحالة يكون ضميرا مستترا .أي أن هذا الفاعل الغائب في العنوان يخون سيده المتصف بصفات الورد من جمال براءة وروعة .
ونتطرق بعد هذا إلى الإيقاع الشعري في الديوان:
إن الشاعر نور الدين أعراب الطريسي يوظف امكانات ايقاعية متنوعة ويعتمد على أوزان متعددة ، ذلك أن الشكل الموظف في جميع قصائد الديوان هو شعر ال
تفعيلة الذي أبان الشاعر عن قدرته الهائلة في تطويع الأوزان العروضية لتتسع لتجربته الشعرية الغنية ،كما ابان عن سعة اطلاعه على علم العروض ومدى تمكنه من بحور الشعر العربي وهو لا يخرج في ذلك عن نظام استعمال هذه الاوزان كما تستعمل في الشعر العربي الحديث بتفاوت عدد التفعيلات من سطر لآخر من جهة واعتماده للبحور الصافية من جهة أخرى .
فالقصيدة الأولى مثلا جاءت على الكامل ( متفاعلن متفاعل )
أقصى الورود الجارحة
كي يزهر الورد الذي بايعته
ملكا على عرش الفراشات الحسان
أما القصيدة الثانية " نار الثلوح "
فقد نظمها الشاعر على بحر المتقارب
تعودين ماء ونهرا
يفيض علي
(فعولن فعولن فعولن) الصفحة السادسة
وكذلك الأمر بالنسبة لقصيدة " وقت لفاكهة الوقت" ؛اما قصيدة "أشد وضوحا وراء الغيم"، فهي على بحر الرجز-ص 14 -
تخضر في الجدران اسماء الغيوم مستقعلن مستفعلن مستفعلن
تخضر في الحيطان عين غائبة مستفعلن مستفعل مستفعلن
وفي قصيدة" شمعة قطر الندى "الصفحة 23 ايقاع بحر المتدارك
تلك أبوابهم من هنا دخلوا
تستطيع اذن ان تعيد الفراشات
في عشها الابدي
(فاعلن فاعلن فاعلن )
وعلى هذا المنوال تسير بقية قصائد الديوان كله اذ تتارجح كلها بين المتدارك والمتقارب والكامل والرجز .
ولا يكتفي الشاعر نورالدين اعراب الطريسي بالايقاع الخارجي فحسب المتجسد في الوزن والقافية والروي بل يغني قصائد هذا الديوان أيضا باشكال أخرى متنوعة من الإيقاع الداخلي كالتكرار والجناس والتوازي والترادف والطباق والتنغيمات الصوتية
وبخصوص الصور الشعرية فإن التصوير الفني داخل هذا الديوان ،فالشاعر نورالدين الطريسي يعتمد بالأساس على الإستعارة التي تحتل موقعا مركزيا في التصوير الشعري للشعر العربي الحديث برمته، وترتبط هذه الصورة الشعرية بالتجربة العاطفية المتألمة للشاعر ، إذ تعكس حجم معاناته الداخلية وتلعب دورا كبيرا في تصوير مشاعره المتوثرة والمتغيرة تجاه الأنثى المحبوبة التي تؤدي إما دورا إيجابيا أو دورا سلبيا .
فالورد إستعارة للأنثى المرأة الجميلة على سبيل المثال. والملاحظ أن التصوير الشعري والفني داخل الديوان ( يخون سيده الورد ) يصل أقصى درجات الإيحاء والشفافية والغموض الفني وقلما تقترب الصورة الشعرية من المباشرة في إضاءة المعنى وتصوير الحالات .
ومن هذه الصور الفنية الرائعة نجد: الورد الجارح، الفراشات الحسان ، رصاصة طائشة ، جنازة الورد ، عرس الرعود الفاتنة، خد الهواء المقمر، نار الثلوج ، ورد مزيف ، يضحك غصن نحيل ، فاكهة الوقت، زنبقة الود، نحيل الضياء، هجر جميل .
إنها صور رائعة وجميلة تتجاوز ما هو حسي وملموس أساسها الإنزياح الشعري التركيبي بين المسند والمسند إليه لتدخل في عالم المجردات والإيحاءات
وخلاصة القول أرجو أن أكون قد وفقت في تقريب هذه الشخصية الادبية الفذة والقامة الشعرية الشامخة للقارئ وحاولت جاهدا أن أتسلل الى عمق ذات الشاعر آملا ان يغفر لي إذا ما كنت قد تجرأت على إبراز بعض من خصوصياته وإن كانت متجلية في نصوصه ولا يمكن الإحاطة بها إلا لمن عاشر الشاعر الناقد الدكتور أعراب الطريسي حفظه الله
........................
حرر بمصحة العرفان بمدينة وجدة
بتاريخ 17يناير 2017
بقلم الاديب والروائي : مولاي الحسن بنسيدي علي
وأنا اقلب صفحات ديوان الدكتور نور الدين أعراب الطريسي الذي عنونه ب يخون سيده الورد أثار انتباهي إختياره لهذا العنوان فقرأته على صيغتين وكلاهما منحاني لغة سليمة، ومعنى مضمون لأغلب القصائد التي رجعت إليها وقد وسمها بالعنوان أعلاه على دفة الديوان
وأنا أمعن النظر في مفرداتها وجملها وبنائها الشعري أدركت أنني أمام شاعر لا يشق له غبار ، فارس للكلمة بامتياز تتسم جل قصائده بتركيبة فنية ذات دلالة في المعنى رائع، ومضمون محكم
ويجعل الواقف عليها يحتار في اختيار ما سيتناول في دراستها أولا: باعتبارها دررا لايمكن تفضيل إحداها عن الأخرى
يخون سيده الورد يأتي إعرابها بحسب الصيغة المنطوقة
فنقرأ الورد برفع الدال أو نصبه
وسنتولى شرح ذلك وإعرابه بالتفصيل ضمن هذه الدراسة .
إذ أن كل قراءة تحيلك على معنى جميل حتى وإن جاء مختلفا ، إنه لا يكون بعيدا عن مضمون القصيدة وبتدقيق النظر في لوحة الغلاف نجد أن واضعها لم يرسمها عبثا ولا ارتجالا وإنما استوعب الديوان قراءة وغاص في ثناياه وفي قصيدة يخون سيده الورد ، ولازم الشاعر في حله وترحاله ، واقترب من فكره وأدبه وكان لصيقا به التصاق الفكرة الشعرية بروحه ؛ وكلاهما يقرضان الشعر ويتذوقانه ؛ إنه كاتب هذه القراءة ، وحتى لا نشط بعيدا عن ما رسمه لنا الشاعر تعبيرا وحسن بيان، يكون لزاما علينا أن نقف على المعنى والمبنى بترو وتبصر ، لأننا أمام شاعر ليس بمبتدئ وإنما هو ثروة لغوية وأستاذ للغة العربية وكأنه يشترط على من يقتحم عالمه الشعري أن يكون شاعرا فذا أو قارئا حصيفا
فمن يكون هذا الشاعر الفذ؟ إنه الناقد والشاعر الدكتور نورالدين أعراب الطريسي. شاعر نحت اسمه بإصرار وعزيمة على خارطة المشهد الثقافي والأدبي بالمغرب بصفة عامة وفي الجهة الشرقية بصفة خاصة .
يشهد له القاصي والداني بنبوغه وتفوقه المعرفي والأدبي ولا أدل على ذلك من الإصدارات المهمة والمؤلفات التي كتبها وصنفها وقدمها في مجال النقد الأدبي الذي تخصص فيه وخبر دروبه ومسالكه الوعرة عبر إطلاعه الواسع على النظريات النقدية العربية والغربية القديمة والحديثة بدءا بمناهج ما قبل البنيوية مرورا بالبنيوية التي درسها واستوعب قواعدها وأسسها وغيرها من المناهج النصية كالأسلوبية والسيميائيات وصولا إلى النظريات ما بعد البنيوية والسيميائيات المعاصرة ، وتحليل الخطاب والتفكيكية . .وهذا ما يظهر من خلال كتبه النقدية المعروفة ؛ أضف إلى ذلك ما كتبه وأصدره في الشعر ، فقد كتب ديوانين شعريين هما قمر الغياب الذي صدر عام ألفين وسبعة ويخون سيده الورد الذي صدر عام ألفين وستة عشرة .
ومن هنا يتضح لنا أننا أمام هرم من أهرام الأدب العربي المعاصر ، يمزج بين النقد والشعر ؛ فالكتابة الشعرية عنده تنضج على نار هادئة هي رصيده الغني من النظريات والمناهج النقدية التي خبرها واكتسبها
. ولا يتوقف مقدار النبوغ عند شاعرنا وناقدنا عند هذا الحد فقط ، بل إنه يمتلك رصيدا لغويا غنيا وثريا إلى جانب مخزونه النقدي والأدبي .
ويتجلى ذلك في كونه تحفة لغوية وطاقة ابداعية بامتلاكه لعدة لغات يتقنها كتابة ونطقا وهي الفرنسية والهندية والأردية وبعضا من الإنجليزية إضافة إلى اللغتين العربية والأمازيغية
وهو خريج جامعة محمد الخامس بالرباط تعلم أصول النقد الحديث والقديم وقواعدهما على أيدي ثلة من أشهر النقاد وأجودهم على الساحتين المغربية والعربية الذين ذاع صيتهم في المشرق والمغرب وسارت بذكرهم الركبان من أمثال الدكتور أحمد أعراب الطريسي عمه ، والدكتور محمد بنيس ، والدكتور ادريس بالمليح ، والدكتور قاسم الحسيني، والدكتور نجيب العوفي والدكتور سعيد يقطين ، والدكتور عبد الحميد عقار، والدكتور مصطفى سلوي ، والدكتور محمد يحيى قاسمي ، وغيرهم .
وقد نشر قصائده الأولى في بداية التسعينيات في عدد من الجرائد مثل أنوال والإتحاد الإشتراكي وصوت الشرق لكن أغلب قصائده التي نشرها بالموازاة مع نشره لدراساته النقدية ، كانت في جريدة الميثاق الوطني حيث التقى هناك بالناقد والفنان التشكيلي العراقي فراس عبد المجيد فعمل على نشر قصائده ودراساته على صفحات هذا المنبر .
والتقى أيضا بمجموعة من الشعراء المغاربة الشباب الذين عملوا معا على تشكيل المشهد الشعري المغربي للشعراء الشباب بالرباط ونواحيها من أمثال الشاعر محمد بلمو والشاعر جواد العوفير والشاعر الطاهر الطويل والشاعر زين العابدين اليساري وغيرهم كثير .
هذا فضلا عن بداياته الشعرية التي أسسها في شرق المغرب قبل
ذلك بقليل مساهما في رسم مشهد القصيدة العربية بالمغرب الشرقي خلال التسعينيات رفقة أسماء وازنة من أمثال الطيب هلو ومصطفي قشنني وأحمد ماموني ومحمد غريب ماخوخي ومصطفى دزيري وغيرهم..
والدكتور نورالدين أعراب الطريسي عضو اتحاد كتاب المغرب وعضو شرفي لجمعية ملتقى الفن والإبداع بالناظور
ومن أجل أن نقرا شعره ونحيط به لابد أن نقف مع شرح لفضيلة الدكتور محمد أبو أسامة دخيسي في إجابته على السؤال الذي طرحه في مقاله تحت عنوان
- كيف نقرا الشعر المغربي المعاصر - ؟ ، يقول : إنه سؤال جوهري لا ينطلق من فرضية القراءة من أجل القراءة بقدر ما يحتكم إلى تحقيق الوظيفة الانفعالية التي تجلب المتعة والفائدة من القراءة كما تقر أن الشعر في بعده الإنساني مركز التواصل بين القوى الظاهرة (اللغة ، التركيب ، الدلالية ...) والقوى الباطنية ( الإيقاع، سلطة الذات ، الإشارت..)
إذاك تتحول السلطة القرائية إلى تسليط الضوء على النص المتكتم عنه ، أو قراءة ما بين السطور .[انتهى]
اشتمل ديوان الشاعر الدكتور أعراب الطريسي ؛ يخون سيده الورد
على أربع عشرة قصيدة ؛ تطرقت إلى مجموعة من القضايا الإنسانية والعاطفية والإجتماعية والوطنية والقومية من مواقف عايشها وأخرى استلهمها من تجربته وواقعه فكتبها بطريقة سلسة وإبداعية وبحس شاعر مرهف ولغة عالية البناء جميلة البيان يقول في مطلع القصيدة الأولى:
أقصى الورود الجارحة
كي يزهر الورد الذي بايعته
ملكا على عرش الفراشات الحسان
أقسى الورود الجارحة
كي ترتوي غزالة من دمع صيادها
أقصى الورد الجارحة
لا أنت من أطلقتها
رصاصة طائشة
تصيب من تصيب او قد تخيب
والوقت ينضج ما تساقط من سهام
كان لما جاء في بيانه أثر طيب على نفسي وقد حملني إلى زمن الشعر الجميل وكأني أستمع إلى أبي الطيب المتنبي في رائعته وهو يتغنى بالورد جماله وسحره وخيانة الأيادي التي زرعته له يقول :
قَد صَدَقَ الوَرْدُ في الذي زَعَمَا أنّكَ صَيّرْتَ نَثْرَهُ دِيَمَا
كأنّمَا مائِجُ الهَوَاءِ بِهِ بَحْرٌ حَوَى مِثلَ مائِهِ عَنَمَا
نَاثِرُهُ النّاثِرُ السّيُوفَ دَمَا وَكُلَّ قَوْلٍ يَقُولُهُ حِكَمَا
وَالخَيْلَ قَد فَصّلَ الضّياعَ بهَا وَالنِّعَمَ السّابِغاتِ وَالنِّقَمَا
فَلْيُرِنَا الوَرْدُ إنْ شَكَا يَدَهُ أحسَنَ منهُ من جُودِها سَلِمَا
فَقُلْ لهُ لَستَ خَيرَ ما نَثَرَتْ وَإنّمَا عَوّذَتْ بكَ الكَرَمَا
خَوْفاً منَ العَينِ أنْ يُصَابَ بهَا أصَابَ عَيْناً بها يُصَابُ عَمَى
ويقول ابن المعتز :
أتاكَ الوَردُ مَحبُوباً مَصُوناً، كمَعشوقٍ تكَنّفَهُ الصّدودُ
كأنّ بوَجهِهِ، لمّا تَوافَتْ نجُومٌ في مَطالِعِها سُعُودٌ
بَياضٌ في جَوانِبِهِ احمِرارٌ، كما احمرّتْ من الخجلِ الخدودُ
لا يعرف الشاعر التكلف بل ينمو بيته الشعري من قوة تركيبته التلقائية والعلم به حتى أن ولادة القصيدة لا تعرف عسرا كما أنه لا يجهضها عند تدفق معناها وهذا ما كان عليه العرب يقولون الشعر بالفطرة ومرتجلا لأنه يجيد قرضه ونظمه وصوره وليس كل كلام موزن بشعر فالشعر ما عرفه جهابدته؛ والشاهد عندنا بعض اقوالهم
فيعرفه أحمد شوقي
* ولولا خلالٌ سنها الشعر ما دَرى ــــــ بغاة المعالي كيف تبنى المكارمُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــوقال ابوتمام
* أرى الشعر يحيي الجود والبأس بالذي ــــــ تبقيه أرواح له عطراتُ
وما المجد لولا الشعر إلا معاهــــــــدٌ ــــــ و ما الناس إلا أعظم نخرات.
ووصفه ناصيف اليازجي
* الشعر في كل عصر مركب خشنٌ ــــــ لا يستقل عليه الراكب الوهن
ومع كل ما قيل عن الورد من جمال وروعة إلا أن الشاعر الدكتور نورالدين أعراب الطريسي لا ينظر إلى الورد على أنه وردا بل يتخذه تشبيها ومجازا واستعارة للأنثى بكل أبعادها الرمزية حيث أن كلمة الورد لا يقصد بها في هذا الديوان معناها اللغوي بل تتحول إلى مدلول عميق وأوسع على المعاناة والألم والأذى والضررالذي يمكن أن تسببه الأنثى أو المرأة الجميلة وكانه يحملنا على بساط سحري فنلج معه عوالم روعة الفن والجمال واقتبس بعضا مما قاله الفيلسوف والكاتب جان بول سارتر الفرنسي
يقول في كتابه “الفن الفلسفي” كما اشار اليها علاء العبادي.
“ما هو الفن الخالص في المفهوم الحديث؟” “هو أن تخلق سحراً متلاحقاً يحتوي الموضوع والعلة معاً والعالم الخارجي للفنان والفنان نفسه، بشكل يستطيع معه إلقاء محاضرة بعنوان ضآلة الحقيقة في العالم الخارجي” ذرائع، انعكاسات، أطر الأشياء كلها لا قيمة لها مطلقاً بذاتها وليس لها من مهمة سوى أن تعطي الفنان فرصة تأمل نفسه وهو يراها" انتهى ".
وهنا تكمن المفارقة الشعرية الحادة بين مكونيين وعنصرين متناقضين إلى حد بعيد إذ أن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هو كالتالي : كيف يمكن للورد أن يخون؟ . والجواب على ذلك هو أن ذلك ممكن فقط في حالة فهمنا للورد على أساس أنه استعارة تصريحية شاملة تدل على مقابلة المرأة الجميلة لوفاء الشاعر وطيبوبته بالشر أو بالمكر والأذى في أقل الإحتمالات وفي أحسن الأحوال، فنقرأ في القصيدة التي عنونها ب" الحديقة عطشى لوردها الذابل ":
تتجسس عين الفراغ على نملة
والجداول تحذر من مائها
العناكب قد اسدلت فمها
والفراشات ضاحكة
تتلذذ بالمصيدة
وحده الورد من يقتفي اثر العنكبوت
ياكل صيده ثم يحتسيان
كؤوس النبيذ
يجلس العنكبوت الى وردة ناضرة
فيمص رحيق شجيراتها
تنتشي بالعذاب اللذيذ
يحنط اغصانها
ثم يتركها هيكلا فارغا
تهجر ماءها وردة الفلوات
وعلى العموم يبدو لي أن الشاعر هنا يتحدث انطلاقا من تجربة ذاتية وشخصية عميقة جدا ، وطافحة بالألم والمعاناة مع الأنثى الجميلة أو ما سماه في إحدى قصائده بعبارة" وقت لفاكهة الوقت" إذ يقول:
لفاكهة الوقت وقت
لزنبقة الود
تسري كلاما بهيجا
لطفل اللقاء ..
سينبت عشبا ..
فشابا فكهلا
لزنبقة في الاقاصي
لوقت يئن اشتياقا ..
لوقت الأنين
لبدر البدور
يسامر نجما نحيل الضياء
لزهر الفلاة
يحن قطاف ثماره
لزهر يئن
إذا ما تراءى المضيئان
وجه عبير
يمد رحيق حرير البياض
ووجهك وجه
لمد وجزر أنيق التلاقي
أعتقد ان الشاعر قد تعرض هنا لتجربة عاطفية صادمة زلزلت كيانه وحطمت فؤاده وجرفت احاسيسه ومشاعره الجياشة فنطق شعرا يطفح بأبلغ العبارات الدالة على المعاناة الداخلية .
وسبب الصدمة الرهيبة التي حلت بشاعرنا ليس مردها إلا إلى هذا الإحساس بالغبن والفاجعة حينما تصبح الأنثى مصدرا للألم بدلا أن تكون رسولا للحب .
فالأبيات تصور لنا هذه المرأة وهي تتلدد في سادية مفرطة بالعذاب النفسي الذي تسببه للشاعر ؛ وكأني به يريد أن يقول لنا أنه مهما زادت جرعة الجمال إلا وزادت معها جرعة الألم ، وقديما قيل :- ومن الحب ما قتل- واجمل ما قاله في قصيدته التي عنونها ب" مطر الحبيبة" جاء فيها :
بهاء المجيدة
كطير بقلبي
يطير باقصى جناح الحبور
بهاؤه شمس
وضوء يهيم اشتياقا
يرمم جرحا عصي الهروب
تطير الفراشات منه
وتهمي
سرورا غرورا
بزهر الاماني
تخيطين أزرار حلم انيق
يليق بفارس صقر
وصخر وحيد ..
وحارس ورد
يصد ذباب التسكع
تعيدين سيرة انثى بهية
لك المجد بدرا أنيق التجلي
لك الورد يهفو بعطر التلاقي
يرش من الود أمطار جرحي
وبناء عليه تصبح لدينا هذه المعادلة التي تشرح لنا مضمون ودلالة الديوان بأكمله وبدون فهمنا لهذه المعادلة يستحيل علينا أن نفهم المعنى الحقيقي العميق الذي يقصده الشاعر الدكتور نورالدين أعراب الطريسي من هذا الديوان .
وهذه المعادلة هي التالية :الورد القاتل يساوي الجمال القاتل يساوي المرأة القاتلة رمزيا واستعاريا لأن فعل الخيانة هنا يرقى ليدل على معاني عميقة من الضرر والسادية وتعذيب الآخر نفسيا ورمزيا ونجد ذلك عند الشاعر الفرنسي شارل بودليير في ديوانه أزهار الشر كما ترجمها حنا جورجيت الطيار :
كالملائكة ذات العيون الوحشية
سأعود إلى مخدعك
وأتسلل إليك بغير جلبة مع ظلام الليل
وسأمنحك يا سمرائي
قبلاً باردة كالقمر
ومداعبات أفعوان يسعى حول وكره
وعندما يعود الصباح الكئيب
ستجدين مكاني فارغًا وسيستمر باردًا حتى المساء
وكما يحب بعضهم أن يسيطروا
بالحب على حياتك وشبابك
أنا أريد أن أسيطر بالرعب
ولربما كان الشاعر الطريسي قريبا من هذا المعنى متأثرا بالعبارة الشهيرة التي عنون بها الشاعر الفرنسي بودلير ديوانه الشهير أزهار الألم أو أزهار الشر وكلتا العبارتين صحيح وعميق يغني الدلالة الرمزية الشاملة ويجعلها تنسحب على الجمال وعلى المرأة وهذا التناص يؤكد مرة اخرى الثراء الموسوعي الذي يميز المخزون الشعري والكتابة الادبية عند الشاعر نور الدين الطريسي هذا المخزون الذي ينهل من عدة مشارب مثل الثرات الشعري الغربي الذي إطلع عليه بقراءته لمجموعة من شعرائه البارزين من أمثال بودلير ولامارتين وفيكثور هيكو وقبل ذلك الثرات الشعري العربي الذي ينتمي إليه الشاعر بمختلف اتجاهاته وتجلياته كالشعر الجاهلي والشعر العباسي والأندلسي والشعر المعاصر ...
" يخون سيده الورد " بعد قراءتنا الرمزية له بمختلف إيحاءاتها الجمالية وطاقتها التعبيرية والرمزية التي تحيل عليها ،ننتقل للحديث عن الجانب التركيبي للعنوان فقد أشرنا سابقا إلى البعد الجمالي إلى هذه الصياغة اللغوية من الناحية التركيبية فنفهمها من جهتين أو على نحوين متخالفين لكنهما ليسا متناقضين بل يكمل بعضهما الاخر وذلك بالشكل التالي :
األا: إذا نصبنا سيده ورفعنا الورد يكون الورد فاعلا مؤخرا وسيده مفعولا به مقدما
ثانيا إذا نصبناهما معا : يكون سيده مفعولا به والورد بدلا اما الفاعل في هذه الحالة يكون ضميرا مستترا .أي أن هذا الفاعل الغائب في العنوان يخون سيده المتصف بصفات الورد من جمال براءة وروعة .
ونتطرق بعد هذا إلى الإيقاع الشعري في الديوان:
إن الشاعر نور الدين أعراب الطريسي يوظف امكانات ايقاعية متنوعة ويعتمد على أوزان متعددة ، ذلك أن الشكل الموظف في جميع قصائد الديوان هو شعر ال
تفعيلة الذي أبان الشاعر عن قدرته الهائلة في تطويع الأوزان العروضية لتتسع لتجربته الشعرية الغنية ،كما ابان عن سعة اطلاعه على علم العروض ومدى تمكنه من بحور الشعر العربي وهو لا يخرج في ذلك عن نظام استعمال هذه الاوزان كما تستعمل في الشعر العربي الحديث بتفاوت عدد التفعيلات من سطر لآخر من جهة واعتماده للبحور الصافية من جهة أخرى .
فالقصيدة الأولى مثلا جاءت على الكامل ( متفاعلن متفاعل )
أقصى الورود الجارحة
كي يزهر الورد الذي بايعته
ملكا على عرش الفراشات الحسان
أما القصيدة الثانية " نار الثلوح "
فقد نظمها الشاعر على بحر المتقارب
تعودين ماء ونهرا
يفيض علي
(فعولن فعولن فعولن) الصفحة السادسة
وكذلك الأمر بالنسبة لقصيدة " وقت لفاكهة الوقت" ؛اما قصيدة "أشد وضوحا وراء الغيم"، فهي على بحر الرجز-ص 14 -
تخضر في الجدران اسماء الغيوم مستقعلن مستفعلن مستفعلن
تخضر في الحيطان عين غائبة مستفعلن مستفعل مستفعلن
وفي قصيدة" شمعة قطر الندى "الصفحة 23 ايقاع بحر المتدارك
تلك أبوابهم من هنا دخلوا
تستطيع اذن ان تعيد الفراشات
في عشها الابدي
(فاعلن فاعلن فاعلن )
وعلى هذا المنوال تسير بقية قصائد الديوان كله اذ تتارجح كلها بين المتدارك والمتقارب والكامل والرجز .
ولا يكتفي الشاعر نورالدين اعراب الطريسي بالايقاع الخارجي فحسب المتجسد في الوزن والقافية والروي بل يغني قصائد هذا الديوان أيضا باشكال أخرى متنوعة من الإيقاع الداخلي كالتكرار والجناس والتوازي والترادف والطباق والتنغيمات الصوتية
وبخصوص الصور الشعرية فإن التصوير الفني داخل هذا الديوان ،فالشاعر نورالدين الطريسي يعتمد بالأساس على الإستعارة التي تحتل موقعا مركزيا في التصوير الشعري للشعر العربي الحديث برمته، وترتبط هذه الصورة الشعرية بالتجربة العاطفية المتألمة للشاعر ، إذ تعكس حجم معاناته الداخلية وتلعب دورا كبيرا في تصوير مشاعره المتوثرة والمتغيرة تجاه الأنثى المحبوبة التي تؤدي إما دورا إيجابيا أو دورا سلبيا .
فالورد إستعارة للأنثى المرأة الجميلة على سبيل المثال. والملاحظ أن التصوير الشعري والفني داخل الديوان ( يخون سيده الورد ) يصل أقصى درجات الإيحاء والشفافية والغموض الفني وقلما تقترب الصورة الشعرية من المباشرة في إضاءة المعنى وتصوير الحالات .
ومن هذه الصور الفنية الرائعة نجد: الورد الجارح، الفراشات الحسان ، رصاصة طائشة ، جنازة الورد ، عرس الرعود الفاتنة، خد الهواء المقمر، نار الثلوج ، ورد مزيف ، يضحك غصن نحيل ، فاكهة الوقت، زنبقة الود، نحيل الضياء، هجر جميل .
إنها صور رائعة وجميلة تتجاوز ما هو حسي وملموس أساسها الإنزياح الشعري التركيبي بين المسند والمسند إليه لتدخل في عالم المجردات والإيحاءات
وخلاصة القول أرجو أن أكون قد وفقت في تقريب هذه الشخصية الادبية الفذة والقامة الشعرية الشامخة للقارئ وحاولت جاهدا أن أتسلل الى عمق ذات الشاعر آملا ان يغفر لي إذا ما كنت قد تجرأت على إبراز بعض من خصوصياته وإن كانت متجلية في نصوصه ولا يمكن الإحاطة بها إلا لمن عاشر الشاعر الناقد الدكتور أعراب الطريسي حفظه الله
........................
حرر بمصحة العرفان بمدينة وجدة
بتاريخ 17يناير 2017
بقلم الاديب والروائي : مولاي الحسن بنسيدي علي