رواية في حلقات
الحلقة 1
بقلم: محمد بوزكو
أكيد كان سيرفض. كان سيرفض بلا شك، لو تمت استشارته قبل الواقعة. لم يكن ليقبل أن يكون حصيلة جماع لم يرخص له هو. ليس ضدا لأبيه، المستفيد الأول والأخير من نكهة عملية لذيذة، في غياب أمه شبه التام بين ثنايا غيبوبة لا دخل لها هي فيها، ولا رفضا منه الخروج ضمن القطيع، يوم كان حيوانا منويا تائها في دهاليز جهاز لا يعرف له قرار، لا. هو لم يكن أبدا عدمي. لم يكن ليرفض الخروج وسط الزحمة، يتسابق منفلتا من زحمة المكان نحو رحابة رحم هادئ ورحيم، لولا المنتهى. منتهاه سبب رفضه. ومع ذلك. وبالرغم من رفضه الذي كان سيكون لو تم استئذانه، وقعت الواقعة. كان هو الحيوان السريع من بين باقي الحيوانات. خفته، مرونته ولزوجته مكنتاه من التزلج بسرعة، ليستوطن رحم أمه أولا. فكانت واقعة سقوطه. لم يسقط رأسه في المكان حيث ولد. كمن خمن الوضع، دفع برجليه نحو أسفل أمه، ثم تسلل بهما رويدا رويدا، عبر فج يفضي لفضاء لم يكن أبدا سيوافق أن يضع قدميه فيه، لو تمت استشارته. ذكاءه ما قبل الجنيني، سرعة بديهيته رافقتاه أثناء عملية أنسنة حيوانيته ليحط الرحال حيث لم يشأ.
لا شيء يغري الإنسان كي يولد في هذه الرقعة المعزولة في الجغرافيا والمنسية في التاريخ. لا شيء يغري بالحياة ولا شيء يعطي للأشياء معنى آخر غير معنى الهروب. أن تلد وترى النورفي هذه البلدة، معناه أنك على موعد مع الهروب كي تعيش، فالنور هنا مجرد إغراء من أجل البدء. للبدايات سحر وانبهار. مع كل بداية يبدأ الإحساس، ومن الإحساس تتفتق الرغبة، والرغبة تكبر جموحا، ومع الكبر يتشكل الوعي ويعطي تعليماته الصارمة كي تبدأ الخطوات أولى خطواتها نحو الهروب. الهروب يبدو دائما كما لو كان هو البداية، أو بداية البداية على الأقل. ولكن، ما أن تعلن البداية بدايتها سرعان ما تتغير المفاهيم بالتوازي مع تغير الرغبة. أليست الرغبة هي التي حولت البداية لمشروع نهاية!. البداية في آخر المطاف ليست سوى نهاية قبل الأوان.
حين وقف على رجليه وسط الريف الأوسط في المغرب الأقصى، وجد سعيد نفسه وحيدا أمام طريق طويل مطرز بسلاسل هضابية تشكل امتدادا لجبال الريف، تتخللها فجاج مغروزة بعناية إلهية على ذلك الجسد الجغرافي المنهك. في الريف دائما يستأسد الخريف على باقي الفصول، فتنطوي الأرض على نفسها وتتصلب، ولا تسمح بغير أشجار اللوز والصبار والشوك لتنبت فوقها، وتدخل الأنهار في حالة اكتئاب حادة، لن تخرجها منه أنبل الحناجر المرفوعة للأعلى، طالبة غيث السماء. السماء !. السماء هي الأخرى في حاجة لمن يرويها، ناشفة، يابسة، وكأنها فصلت خصيصا لتجثم ككابوس لا يزاح، فوق بلدة آيث سعيذ.
وسط هذا الأكواريوم المكفهر، خط سعيد، أولى رؤوس أقلام لحياة لم يردها هنا، ولن يكتشف معناها إلا مع اكتمال تشكل جزئياتها عبر الأزمنة والأمكنة. جسده الطري الأبيض النحيف، ينتهي بجمجمة صغيرة تخفي ذكاء فطريا وملامح وجهه بلا ملامح. عيناه الصغيرتان المحميتان بحاجبين لا تقل عنهما صغرا تزيدانه رونقا وغموضا. أنفه النحيف بالكاد يضمن له استنشاق القدر الكافي من الهواء كي يتنفس. فمه ذو الشفتان الرقيقتان، تعلوه صرامة العسكر، قليل الابتسام وكثير التجهم. في الأسفل ذقن مرصوص، مثل هرم أبي الهول، تعبيرا عن العزة بالنفس. أذنان منحوتتان بحكمة، كي تلعبا دور الناقل الأمين والحارس الذي لا ينام لكل تلك الملامح، خوفا من أي إغراء أو زيف قد ينهار أمامهما كبرياءه.
كره المدرسة في أول يوم ولج فيه القسم، هناك، وفي تلك اللحظة وبدون عناء تفكير، قرر سعيد ألا يكون له مكان وسط ذلك الزخم من الكلمات التي لا يفهمها ولم يسمعها يوما، وعليه اليوم، أن يتعلمها بقوة العصا الممدودة فوق رأسه. في القسم رائحة مزورة، شعور رهيب ممزوج بالخوف والغموض وتيه يجر، بكل قسوة، حيرة حائرة نحو الضلال. أطلق العنان لعينيه كي تستطلع عيون باقي أطفال القسم، فلم يجد لدى الأطفال عيونا، لم يجد سوى وجوها لفت شحوبها انتباهه، وأفواها ضالة لا تعكس شعورا معينا. على عكس التلاميذ، يقف المعلم في زاوية القسم مزهوا بعلمه. في يده يمسك عصا مشكل من بقايا مقعد، على رأسه وضع قلنسوة حمراء، اختزل فيها وطنيته بكل كبرياء. كان المعلم بين كلمة وأخرى يتحسس القلنسوة الحمراء، ذات خيوط سوداء منسدلة خلفه، كما لو أنه يستمد منها القوة اللازمة، لتشكيل جمل سرعان ما ينثرها في وجوه تلاميذ ضائعين وصامتين. الفهم غائب دائما وأبدا عن القسم. وحده المعلم بالكاد، يفهم معنى الجمل التي كان ينطقها بصعوبة. بين كل جملة وجملة، كان سعيد يتفحص تقاسيم وجه "السي عبد الله"، ويتابع كيف تنزلق شفتاه بين الأحرف الغريبة وهي ممزوجة باللعاب، وكيف تتشتت أمامه كزئبق يترجرج خوفا من الإدراك. صعب عليه أن يدرك شيء لا يدرك. تعب من اقتفاء أثر كلام غامض. رمش كثيرا محاولا السيطرة على نظراته دون جدوى. شعر بالرغبة في النوم. وأثناء آخر رمشة قبل الإغلاق النهائي لعينيه، انتبه للمعلم يشير نحو كي يقترب منه. بسرعة البرق، تبخرت رغبته في النوم. نهض وتقدم خطوات نحو معلمه الذي أخرج قطعتين نقديتين، ومنحهما وهو يأمره بأن يذهب ليحضر له علبة سجائر وعلبة كبريت. كما لو أنه استيقظ من كابوس لم يبدأ بعد، وبلهفة، انصرف سعيد خارجا. خرج يركض بما أوتي من سرعة. طلق عنانه للنسيم الآتي من بحر "اشعابي" ليدغدغ وجهه. توقف. لف المكان بعينيه، ثم دخل في نوبة ضحك وهو يردد بصعوبة "بابٌ، بوبي، ببابي". وكي لا ينسى تلك اللحظات التاريخية التي قضاها في القسم بعد تخرجه منه دون ميزة غير ميزة الرفض، تذكر وجوه باقي التلاميذ كيف كانت مشدودة للأمام تائهة في سواد السبورة حيث تذوب الكلمات المكتوبة بالطباشير الأبيض كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس. اشترى علبة سجائر وعلبة كبريت كما أوصاه المعلم. أوقد سعيد السيجارة، أخذ منها نفسا ولم يعد للقسم.
الحلقة 1
بقلم: محمد بوزكو
أكيد كان سيرفض. كان سيرفض بلا شك، لو تمت استشارته قبل الواقعة. لم يكن ليقبل أن يكون حصيلة جماع لم يرخص له هو. ليس ضدا لأبيه، المستفيد الأول والأخير من نكهة عملية لذيذة، في غياب أمه شبه التام بين ثنايا غيبوبة لا دخل لها هي فيها، ولا رفضا منه الخروج ضمن القطيع، يوم كان حيوانا منويا تائها في دهاليز جهاز لا يعرف له قرار، لا. هو لم يكن أبدا عدمي. لم يكن ليرفض الخروج وسط الزحمة، يتسابق منفلتا من زحمة المكان نحو رحابة رحم هادئ ورحيم، لولا المنتهى. منتهاه سبب رفضه. ومع ذلك. وبالرغم من رفضه الذي كان سيكون لو تم استئذانه، وقعت الواقعة. كان هو الحيوان السريع من بين باقي الحيوانات. خفته، مرونته ولزوجته مكنتاه من التزلج بسرعة، ليستوطن رحم أمه أولا. فكانت واقعة سقوطه. لم يسقط رأسه في المكان حيث ولد. كمن خمن الوضع، دفع برجليه نحو أسفل أمه، ثم تسلل بهما رويدا رويدا، عبر فج يفضي لفضاء لم يكن أبدا سيوافق أن يضع قدميه فيه، لو تمت استشارته. ذكاءه ما قبل الجنيني، سرعة بديهيته رافقتاه أثناء عملية أنسنة حيوانيته ليحط الرحال حيث لم يشأ.
لا شيء يغري الإنسان كي يولد في هذه الرقعة المعزولة في الجغرافيا والمنسية في التاريخ. لا شيء يغري بالحياة ولا شيء يعطي للأشياء معنى آخر غير معنى الهروب. أن تلد وترى النورفي هذه البلدة، معناه أنك على موعد مع الهروب كي تعيش، فالنور هنا مجرد إغراء من أجل البدء. للبدايات سحر وانبهار. مع كل بداية يبدأ الإحساس، ومن الإحساس تتفتق الرغبة، والرغبة تكبر جموحا، ومع الكبر يتشكل الوعي ويعطي تعليماته الصارمة كي تبدأ الخطوات أولى خطواتها نحو الهروب. الهروب يبدو دائما كما لو كان هو البداية، أو بداية البداية على الأقل. ولكن، ما أن تعلن البداية بدايتها سرعان ما تتغير المفاهيم بالتوازي مع تغير الرغبة. أليست الرغبة هي التي حولت البداية لمشروع نهاية!. البداية في آخر المطاف ليست سوى نهاية قبل الأوان.
حين وقف على رجليه وسط الريف الأوسط في المغرب الأقصى، وجد سعيد نفسه وحيدا أمام طريق طويل مطرز بسلاسل هضابية تشكل امتدادا لجبال الريف، تتخللها فجاج مغروزة بعناية إلهية على ذلك الجسد الجغرافي المنهك. في الريف دائما يستأسد الخريف على باقي الفصول، فتنطوي الأرض على نفسها وتتصلب، ولا تسمح بغير أشجار اللوز والصبار والشوك لتنبت فوقها، وتدخل الأنهار في حالة اكتئاب حادة، لن تخرجها منه أنبل الحناجر المرفوعة للأعلى، طالبة غيث السماء. السماء !. السماء هي الأخرى في حاجة لمن يرويها، ناشفة، يابسة، وكأنها فصلت خصيصا لتجثم ككابوس لا يزاح، فوق بلدة آيث سعيذ.
وسط هذا الأكواريوم المكفهر، خط سعيد، أولى رؤوس أقلام لحياة لم يردها هنا، ولن يكتشف معناها إلا مع اكتمال تشكل جزئياتها عبر الأزمنة والأمكنة. جسده الطري الأبيض النحيف، ينتهي بجمجمة صغيرة تخفي ذكاء فطريا وملامح وجهه بلا ملامح. عيناه الصغيرتان المحميتان بحاجبين لا تقل عنهما صغرا تزيدانه رونقا وغموضا. أنفه النحيف بالكاد يضمن له استنشاق القدر الكافي من الهواء كي يتنفس. فمه ذو الشفتان الرقيقتان، تعلوه صرامة العسكر، قليل الابتسام وكثير التجهم. في الأسفل ذقن مرصوص، مثل هرم أبي الهول، تعبيرا عن العزة بالنفس. أذنان منحوتتان بحكمة، كي تلعبا دور الناقل الأمين والحارس الذي لا ينام لكل تلك الملامح، خوفا من أي إغراء أو زيف قد ينهار أمامهما كبرياءه.
كره المدرسة في أول يوم ولج فيه القسم، هناك، وفي تلك اللحظة وبدون عناء تفكير، قرر سعيد ألا يكون له مكان وسط ذلك الزخم من الكلمات التي لا يفهمها ولم يسمعها يوما، وعليه اليوم، أن يتعلمها بقوة العصا الممدودة فوق رأسه. في القسم رائحة مزورة، شعور رهيب ممزوج بالخوف والغموض وتيه يجر، بكل قسوة، حيرة حائرة نحو الضلال. أطلق العنان لعينيه كي تستطلع عيون باقي أطفال القسم، فلم يجد لدى الأطفال عيونا، لم يجد سوى وجوها لفت شحوبها انتباهه، وأفواها ضالة لا تعكس شعورا معينا. على عكس التلاميذ، يقف المعلم في زاوية القسم مزهوا بعلمه. في يده يمسك عصا مشكل من بقايا مقعد، على رأسه وضع قلنسوة حمراء، اختزل فيها وطنيته بكل كبرياء. كان المعلم بين كلمة وأخرى يتحسس القلنسوة الحمراء، ذات خيوط سوداء منسدلة خلفه، كما لو أنه يستمد منها القوة اللازمة، لتشكيل جمل سرعان ما ينثرها في وجوه تلاميذ ضائعين وصامتين. الفهم غائب دائما وأبدا عن القسم. وحده المعلم بالكاد، يفهم معنى الجمل التي كان ينطقها بصعوبة. بين كل جملة وجملة، كان سعيد يتفحص تقاسيم وجه "السي عبد الله"، ويتابع كيف تنزلق شفتاه بين الأحرف الغريبة وهي ممزوجة باللعاب، وكيف تتشتت أمامه كزئبق يترجرج خوفا من الإدراك. صعب عليه أن يدرك شيء لا يدرك. تعب من اقتفاء أثر كلام غامض. رمش كثيرا محاولا السيطرة على نظراته دون جدوى. شعر بالرغبة في النوم. وأثناء آخر رمشة قبل الإغلاق النهائي لعينيه، انتبه للمعلم يشير نحو كي يقترب منه. بسرعة البرق، تبخرت رغبته في النوم. نهض وتقدم خطوات نحو معلمه الذي أخرج قطعتين نقديتين، ومنحهما وهو يأمره بأن يذهب ليحضر له علبة سجائر وعلبة كبريت. كما لو أنه استيقظ من كابوس لم يبدأ بعد، وبلهفة، انصرف سعيد خارجا. خرج يركض بما أوتي من سرعة. طلق عنانه للنسيم الآتي من بحر "اشعابي" ليدغدغ وجهه. توقف. لف المكان بعينيه، ثم دخل في نوبة ضحك وهو يردد بصعوبة "بابٌ، بوبي، ببابي". وكي لا ينسى تلك اللحظات التاريخية التي قضاها في القسم بعد تخرجه منه دون ميزة غير ميزة الرفض، تذكر وجوه باقي التلاميذ كيف كانت مشدودة للأمام تائهة في سواد السبورة حيث تذوب الكلمات المكتوبة بالطباشير الأبيض كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس. اشترى علبة سجائر وعلبة كبريت كما أوصاه المعلم. أوقد سعيد السيجارة، أخذ منها نفسا ولم يعد للقسم.