الحلقة الثانية
بقلم: محمد بوزكو
يكن يعرف من هو، ولم يطرح يوما سؤالا من هذا النوع، ولا فكر فيه حتى. كان فقط يعرف كيف يجري حافي القدمين وراء عجلة دراجة هوائية يدفعها بين الفينة والأخرى بيديه كي تستمر في الدوران. كان يتقن الجري، ويتفنن في مراوغة الأحجار الحادة والتائهة وسط المسالك الطرقية غير المعبدة. سعيد يعرف أيضا كيف يصنع الفخاخ وينصبها وكيف يحول نعالا بلاستيكية لعجلات يضعها لسيارات جميلة، يفبركها بنفسه، من علب قصديرية لزيت الزيوت التي كانت تمنح لهم كإعانة من طرف السلطة. ألعابه يصنعها بيديه ليشبع بها رغباته الطفولية وفي بعض الأحيان يبيع منها لأصدقائه. منذ أن دخن سجائر معلمه، أصبح التدخين بالنسبة له صديق حميم، لا يفارقه إلا ليعاوده اللقاء مع أول فرنك يناله. عمق الصداقة تلك، جعلته يحجز للتدخين مكانا عميقا ودافئا في رئتيه.
لولا الوشم المنقوش على جبينها وذقنها، لبدت أمه ميمونة، القصيرة وذات البشرة المتوسطية، كمثل غجرية تتمايل في مشيتها وهي تتفادى الأحجار النابتة في وسط المنزل المكشوف على السماء. كانت بالنسبة له صمام أمان وعلى ظهرها يكسر حماقاته التي تزداد كلما ازداد كبره. أباه عمار كان حافظا للقرآن، رزينا، جديا وذا سمعة لا شك فيها ومثله كانوا كل إخوانه. عائلة قروية تحب العمل والدراسة في فضاء تنعدم فيه أدنى شروط تحقيق ذلك. سعيد كان آخر الذكور وكأنه جاء ليشكل الوجه الآخر لعائلة عمار القروي أو ليثبت المقولة الماركسية حول الشيء ونقيضه كأساس للتطور والحركة وكأن الوضع كان راكدا قبل ازدياده. وضع ميمونة في الأسرة، باعتبارها مسالمة ولا رأي لها خارج قرارات أبيه، ساعداه كي لا يعير لها كثير الاهتمام.
- أين كنت؟
- كنت هنا فقط.
- اقترب، واخرج نفسا من فمك.
يقترب منها سعيد، لكن عوض أن يخرج أنفاسه من فمه كما طلبت منه، أستنشق أكبر كمية من الهواء عبر فمه، وبحركة سريعة دار خلفه بسرعة وتخلص من الدخان الذي في فمه ثم التفت إليها من جديد كأن شيئا لم يقع. سواء أن انطلت الحيلة على أمه، أم فقط أوهمت نفسها حتى يرتاح ضميرها، انصرفت كالعادة تاركة وراءها سرابا من الكلمات تلاعب الفراغ وهي تشكل وعيدا :
- كنت تلعب كعادتك يا ابن الحرام !... سيذبحك أبوك حين سيأتي.
هي ذي كلمات الوعيد الذي سرعان ما تبخرت قبل أن تختفي هي. لم يولي للوعيد أي اهتمام. كل تركيزه احتفظ به ليساعده على افتراس ما تبقى من الأكل اللاصق في قاع القدر.
سعيد يعرف أمه جيدا، يعرف بأنها تخاف كثيرا من أبيه، ولكن يعرف أيضا بأنها تحبه، وهي معادلة دائما ما تكون حصيلتها لصالحه. معرفته لنقط ضعف أمه كانت كافية ليؤمن لنفسه هامشا مهما من الحرية. وحتى يزيد من الهامش ذاك، يسارع ليطمئن أباه ويكسب رضاه حين تراه يبدأ الصلاة جهرا في اللحظة التي يدخل فيها والده للمنزل. بالنسبة له، لا يهم إن كان على وضوء أم لا، بقدر ما أن المهم لديه هو مدى تأثير مسرحيته تلك على أبيه. لم يعد يتذكر ولو سورة واحدة من تلك السور القرآنية التي كان يحفظها في المسجد على يد الفقيه السي محند، بالرغم من أنه نال حظا وفيرا من الفلقة والضرب المبرح حد التبول. ومع ذلك كان يصلي متمتما بسور قرآنية متداخلة فيما بينها تارة، وتارة أخرى غير مكتملة، فيما أن أغلب الكلمات ينطقها بطريقة خاطئة، ممزوجة بين العربية لغة القرآن والأمازيغية لغته هو فتفقد معناها الأصلي. بالنسبة له الأمر ليس فيه أدنى غرابة، بل وفيه من البداهة الشيء الكثير. فأمه وكذا نساء البلدة وحتى رجالها، لم يلجوا المدرسة قط ولم يتعلموا حرفا من سور القرآن وآياته، ومع ذلك كانوا يصلون. يصلون بالممكن من الخشوع. يتلون السور وفقا لما يستسيغه النطق، وطبقا لما تبيحه اللكنة. لا يعرفون صحيح البخاري ولا مذهب ابن مالك ومسلم، ولا انشغلوا يوما بمعنى البدعة والتقية والناسخ والمنسوخ، كانوا يصلون وكفى. هو أيضا صلى، ولكن ليس وكفى. لم يكن يفعل الأشياء سداً. يرتب الأمور في دماغه الصغير بعناية، يحبك سيناريوهات متداخلة ومختلفة، مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة عند كل مستجد قد يقوض كل شيء، ثم ينطلق مباشرة ودون تردد نحو التطبيق. هكذا فعل يوم رأى حميد وهو يتمايل في قيادة الدراجة الهوائية الجديدة التي اشتراها له أبوه من الخارج. سيناريو ذلك اليوم أعده سلفا وبحبكة لن تتمكن أشطر تعويذة لأشطر مشعوذة في العالم من إبطالها. منذ اليوم الذي رأى فيه سعيد أب حميد وهو ينزل الدراجة الهوائية، من على سطح سيارته، لم يتوقف لعابه عن السيلان.
بقلم: محمد بوزكو
يكن يعرف من هو، ولم يطرح يوما سؤالا من هذا النوع، ولا فكر فيه حتى. كان فقط يعرف كيف يجري حافي القدمين وراء عجلة دراجة هوائية يدفعها بين الفينة والأخرى بيديه كي تستمر في الدوران. كان يتقن الجري، ويتفنن في مراوغة الأحجار الحادة والتائهة وسط المسالك الطرقية غير المعبدة. سعيد يعرف أيضا كيف يصنع الفخاخ وينصبها وكيف يحول نعالا بلاستيكية لعجلات يضعها لسيارات جميلة، يفبركها بنفسه، من علب قصديرية لزيت الزيوت التي كانت تمنح لهم كإعانة من طرف السلطة. ألعابه يصنعها بيديه ليشبع بها رغباته الطفولية وفي بعض الأحيان يبيع منها لأصدقائه. منذ أن دخن سجائر معلمه، أصبح التدخين بالنسبة له صديق حميم، لا يفارقه إلا ليعاوده اللقاء مع أول فرنك يناله. عمق الصداقة تلك، جعلته يحجز للتدخين مكانا عميقا ودافئا في رئتيه.
لولا الوشم المنقوش على جبينها وذقنها، لبدت أمه ميمونة، القصيرة وذات البشرة المتوسطية، كمثل غجرية تتمايل في مشيتها وهي تتفادى الأحجار النابتة في وسط المنزل المكشوف على السماء. كانت بالنسبة له صمام أمان وعلى ظهرها يكسر حماقاته التي تزداد كلما ازداد كبره. أباه عمار كان حافظا للقرآن، رزينا، جديا وذا سمعة لا شك فيها ومثله كانوا كل إخوانه. عائلة قروية تحب العمل والدراسة في فضاء تنعدم فيه أدنى شروط تحقيق ذلك. سعيد كان آخر الذكور وكأنه جاء ليشكل الوجه الآخر لعائلة عمار القروي أو ليثبت المقولة الماركسية حول الشيء ونقيضه كأساس للتطور والحركة وكأن الوضع كان راكدا قبل ازدياده. وضع ميمونة في الأسرة، باعتبارها مسالمة ولا رأي لها خارج قرارات أبيه، ساعداه كي لا يعير لها كثير الاهتمام.
- أين كنت؟
- كنت هنا فقط.
- اقترب، واخرج نفسا من فمك.
يقترب منها سعيد، لكن عوض أن يخرج أنفاسه من فمه كما طلبت منه، أستنشق أكبر كمية من الهواء عبر فمه، وبحركة سريعة دار خلفه بسرعة وتخلص من الدخان الذي في فمه ثم التفت إليها من جديد كأن شيئا لم يقع. سواء أن انطلت الحيلة على أمه، أم فقط أوهمت نفسها حتى يرتاح ضميرها، انصرفت كالعادة تاركة وراءها سرابا من الكلمات تلاعب الفراغ وهي تشكل وعيدا :
- كنت تلعب كعادتك يا ابن الحرام !... سيذبحك أبوك حين سيأتي.
هي ذي كلمات الوعيد الذي سرعان ما تبخرت قبل أن تختفي هي. لم يولي للوعيد أي اهتمام. كل تركيزه احتفظ به ليساعده على افتراس ما تبقى من الأكل اللاصق في قاع القدر.
سعيد يعرف أمه جيدا، يعرف بأنها تخاف كثيرا من أبيه، ولكن يعرف أيضا بأنها تحبه، وهي معادلة دائما ما تكون حصيلتها لصالحه. معرفته لنقط ضعف أمه كانت كافية ليؤمن لنفسه هامشا مهما من الحرية. وحتى يزيد من الهامش ذاك، يسارع ليطمئن أباه ويكسب رضاه حين تراه يبدأ الصلاة جهرا في اللحظة التي يدخل فيها والده للمنزل. بالنسبة له، لا يهم إن كان على وضوء أم لا، بقدر ما أن المهم لديه هو مدى تأثير مسرحيته تلك على أبيه. لم يعد يتذكر ولو سورة واحدة من تلك السور القرآنية التي كان يحفظها في المسجد على يد الفقيه السي محند، بالرغم من أنه نال حظا وفيرا من الفلقة والضرب المبرح حد التبول. ومع ذلك كان يصلي متمتما بسور قرآنية متداخلة فيما بينها تارة، وتارة أخرى غير مكتملة، فيما أن أغلب الكلمات ينطقها بطريقة خاطئة، ممزوجة بين العربية لغة القرآن والأمازيغية لغته هو فتفقد معناها الأصلي. بالنسبة له الأمر ليس فيه أدنى غرابة، بل وفيه من البداهة الشيء الكثير. فأمه وكذا نساء البلدة وحتى رجالها، لم يلجوا المدرسة قط ولم يتعلموا حرفا من سور القرآن وآياته، ومع ذلك كانوا يصلون. يصلون بالممكن من الخشوع. يتلون السور وفقا لما يستسيغه النطق، وطبقا لما تبيحه اللكنة. لا يعرفون صحيح البخاري ولا مذهب ابن مالك ومسلم، ولا انشغلوا يوما بمعنى البدعة والتقية والناسخ والمنسوخ، كانوا يصلون وكفى. هو أيضا صلى، ولكن ليس وكفى. لم يكن يفعل الأشياء سداً. يرتب الأمور في دماغه الصغير بعناية، يحبك سيناريوهات متداخلة ومختلفة، مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة عند كل مستجد قد يقوض كل شيء، ثم ينطلق مباشرة ودون تردد نحو التطبيق. هكذا فعل يوم رأى حميد وهو يتمايل في قيادة الدراجة الهوائية الجديدة التي اشتراها له أبوه من الخارج. سيناريو ذلك اليوم أعده سلفا وبحبكة لن تتمكن أشطر تعويذة لأشطر مشعوذة في العالم من إبطالها. منذ اليوم الذي رأى فيه سعيد أب حميد وهو ينزل الدراجة الهوائية، من على سطح سيارته، لم يتوقف لعابه عن السيلان.