بقلم: محمد بوزكو
الطرد لم يشكل له يوما عقدة، بل دائما كانت حالات الطرد التي يتعرض لها تشعل فيه جذوة نار تزداد اتقادا لتفرز في دواخله قوة تدفعه من حيث لا يدري نحو انطلاقة جديدة من أجل حياة أفضل. منذ أن خرج من القسم متمردا، ومنذ أن أطلق العنان لرجليه تلوك المسالك غير مكترث بالحواجز، منذ ذلك الحين قرر الانفلات من القوالب الجاهزة ومن الأفكار التي كانت تزرع في العقول كما يزرع البطيخ. هزم مدرسته ليصنع لنفسه مدرسته هو، شعارها الهزيمة سر الانتصار والقدر يصنعه الإنسان ليبرر ضعفه وهوانه. أحس سعيد بجذوة انتصار صغيرة تدغدغ دواخله، تذكر قنينة الجعة وهي تغويه ببرودتها، أذعن للغواية وأخذ جرعة أخرى أعقبها بابتسامة غير مكتملة وهو ينظر في الفراغ ليتذكر ذاك اليوم الذي طرده والده من المنزل.
كان سعيد يذهب لمتجر صديق والده الموجود داخل سوق الثلاثاء الأسبوعي ويأخذ منه، على سبيل الاقتراض، علب بسكويت "سيدي قاسم" مدعيا أن أباه هو من أرسله. كان يفعل ذلك كلما شعر بالجوع، إذ قدَّر أنه ليس عيبا في شيء إن هو التجأ لكذبة صغيرة من أجل تحقيق رغبة كبيرة؛ الرغبة في الأكل. بمثل هذا التفكير كان يتسلح من أجل إقناع نفسه لفعل الفعلة. هكذا، بذكائه الطفولي هذا استطاع سعيد أن يحارب الجوع الذي كان يستبد به عن غفلة من أمره. كان مالك المتجر يراكم الديون على السي عمار في كناش متآكل فيما سعيد كان يراكم البسكويت في معدته التي كانت تصفر وتزمجر احتجاجا على الفراغ الذي يسكنها كما ثكنة العسكر الاسباني الجاثمة على صدر بلدته. لما علم السي عمار بالأمر، قضى بحبس ابنه داخل مطمورة لمدة أسبوع وطرده من المنزل بعد ذلك. كذلك كان؛ عاش سعيد أيام الأسبوع السبعة في حفرة دائرية تحت الأرض فوق ركام من القمح ووسط ظلام دامس. لولا أمه التي كانت ترمي له، خلسة، بعضا من الطعام وقليلا من الماء لمات والقمح يغزو معدته المتهالكة. وكعادته في مثل هذه المواقف، استغل ظلمة المكان ليطلق العنان لمخيلته كي تشتغل في إطار صراعه الأبدي ضد القدر وضد الهزيمة. بالنسبة له لا يهم إن لم ينتصر، لكن المهم لديه هو ألا يُهزم. وما أن انتهت مدة الحجز، حتى كان قرار الهجرة نحو ثيطاوين (تطوان) قد حضي عنده بقوة الشيء المقضي وأصبح عنوان عريضا لمرحلة جديدة في حياته. في الصباح الموالي من خروجه من الحفرة نفذ الحكم بالطرد من المنزل في حق نفسه. خرج من الدار باكرا ثم لف خلفه ليقصد خُم الدجاج وهو يمني النفس ألا تكون أمه قد مرت منه قبله. تسلل بحذر داخل مملكة الدجاج ليجد المحصول اليومي من البيض لا زال في مكانه. جمع العشرين بيضة في قطعة قدر مكسر كان هناك ثم خرج دون أن يشكر الدجاجات على محصولهن. خطى خطوات سريعة وحذرة قبل أن يتوقف كأن شيء ما باغت إحساسه ليلتفت بسرعة نحو الحقل المغروس بأشجار اللوز. كان يعرف بأنها هناك. صوب نظراته الثاقبة نحو أمه الغير بعيدة وهي منشغلة بقطف اللوز. في موقف إنساني مثل هذا كان لزاما عليه أن يتأثر ويبكي، لكنه لم يفعل. اعتذر لنفسه وقمع الإحساس بالبكاء في دواخله. البكاء في مثل تلك الحالات لا يجدي نفعا، هكذا فكر قبل أن يعترف لنفسه أن أي قمع يبديه اتجاهها إنما هو في مصلحتهما معا. إن الأحاسيس تقتل العزيمة أحيانا، وسعيد واع الآن بذلك وواع أيضا بأنه في حاجة أكثر للفرح لا للبكاء، للأمل لا للإحباط، كيف لا وهي ذي فرصته في مواجهة الحياة؛ فرصته في التحرر من قيود أبيه وحنان أمه. كأنه خمن أن حياة قاسية تنتظره في الآتي من السنين وأن قدره في هذا العالم هو مواجهة القدر نفسه، وأن ذلك لن يتأتى له إلا باتخاذ الموقف التاريخي الذي اتخذه؛ الاتكال على نفسه وركوب دروب المغامرة لمواجهة القدر، لذلك قرر أن يهرب الهروب الأول، أو بعبارة أصح أن يعيش الطرد الأول. هكذا فعل، ودع أمه في قرار نفسه ثم انصرف دون أن يلتفت وراءه قاصدا سوق المركز ليبيع البيض قبل أن يقصد منزل الحاج بوزيان الذي كان يستكمل بناءه. اشتغل طيلة اليوم في جلب الماء من الوادي، ولم يدركه المساء إلا وهو في الناظور ينتظر كار "اللفت" كي ينطلق به نحو ثيطاوين وفي جيبه ورقة السفر وعشرة دراهم.
تحسس سعيد الهاتف الذي في يده وعاود النظر بعمق في الصورة المرسلة من إحدى بناته على الواتساب. انزلقت نظراته نحو الباب الذي يظهر خلفهن وتذكر خروجه النهائي منه، أو بمعنى أدق طرده النهائي. لم يشأ أن يتذكر من كان خلف الباب ولا لماذا طرد ومن كان وراء الفعلة. اعترف لنفسه أن ذلك لا يجدي نفعا بعد سيل من المحاولات في رتق ما تبقى من أمل قبل أن يفطن في الأخير بأنه كمن يحاول جبر قدر طين مكسور. اعترف أيضا أنه لم ينتصر مرة أخرى على القدر، وأن معارك أخرى تنتظره بلا شك، لكنه مع ذلك عقد العزم على ألا يخسر الحرب ضد قدره مهما تأجلت انتصاراته. انتشل نفسه من سطوة تفكيره وسلط عينيه لتبحثا عما هنالك وراء ابتسامة بناته. لم يتأخر كثيرا في البحث وهو يقرأ عيونهن اللواتي يشبهن عينيه، إذ سرعان ما عثر على حزن عميق غارق في يمام مقلتيهن. انتابته لفحة ضعف أمام الصورة فاغرورقت عيناه. أراد أن يبكي، لكنه فطن بالهولندية الشقراء تقترب منه وتضع أمامه صحنا من قطع الدجاج المشوي.
- آشتبليفت، قالت مبتسمة... أراك حزينا ! ، تابعت.
كي ينفلت من سلطة عينيها وهو يغالب دمعة عينيه العصية، منح لها هاتفه ليريها صورة بناته الثلاث. ابتسمت له أو لهن وهي تشاهد الصورة.
- إنهن جميلات ويشبهنك.
ابتسم ابتسامة مليمترية، وتسلم الهاتف من الهولندية الشقراء.
- لم أرك هنا من قبل؟، قالت
- هذه أول جعة أشربها عندكم... سكنت الحي هذا الأسبوع، هكذا رد دون أن ينظر إليها.
- المنازل في هذا الحي جميلة، تابعت
- لا... لا... أ أ أنا أسكن في غرفة فقط... قال بتردد وبخنق.
مسحت الشقراء وجهه بعينيها الخضراوتين وهي مصممة على متابعة الحوار
- أتسكن في غرفة مع بناتك؟ !
- لا، الغرفة صغيرة جدا... وأنا الآن وحيد جدا
أخذ الجرعة ما قبل الأخيرة ثم نهض لينصرف، دون أن يعرف لماذا، تاركا خلفه صحن الدجاج المشوي وبضعة نقود والهولندية الشقراء تتابعه بنظرات كلها أسئلة.
الطرد لم يشكل له يوما عقدة، بل دائما كانت حالات الطرد التي يتعرض لها تشعل فيه جذوة نار تزداد اتقادا لتفرز في دواخله قوة تدفعه من حيث لا يدري نحو انطلاقة جديدة من أجل حياة أفضل. منذ أن خرج من القسم متمردا، ومنذ أن أطلق العنان لرجليه تلوك المسالك غير مكترث بالحواجز، منذ ذلك الحين قرر الانفلات من القوالب الجاهزة ومن الأفكار التي كانت تزرع في العقول كما يزرع البطيخ. هزم مدرسته ليصنع لنفسه مدرسته هو، شعارها الهزيمة سر الانتصار والقدر يصنعه الإنسان ليبرر ضعفه وهوانه. أحس سعيد بجذوة انتصار صغيرة تدغدغ دواخله، تذكر قنينة الجعة وهي تغويه ببرودتها، أذعن للغواية وأخذ جرعة أخرى أعقبها بابتسامة غير مكتملة وهو ينظر في الفراغ ليتذكر ذاك اليوم الذي طرده والده من المنزل.
كان سعيد يذهب لمتجر صديق والده الموجود داخل سوق الثلاثاء الأسبوعي ويأخذ منه، على سبيل الاقتراض، علب بسكويت "سيدي قاسم" مدعيا أن أباه هو من أرسله. كان يفعل ذلك كلما شعر بالجوع، إذ قدَّر أنه ليس عيبا في شيء إن هو التجأ لكذبة صغيرة من أجل تحقيق رغبة كبيرة؛ الرغبة في الأكل. بمثل هذا التفكير كان يتسلح من أجل إقناع نفسه لفعل الفعلة. هكذا، بذكائه الطفولي هذا استطاع سعيد أن يحارب الجوع الذي كان يستبد به عن غفلة من أمره. كان مالك المتجر يراكم الديون على السي عمار في كناش متآكل فيما سعيد كان يراكم البسكويت في معدته التي كانت تصفر وتزمجر احتجاجا على الفراغ الذي يسكنها كما ثكنة العسكر الاسباني الجاثمة على صدر بلدته. لما علم السي عمار بالأمر، قضى بحبس ابنه داخل مطمورة لمدة أسبوع وطرده من المنزل بعد ذلك. كذلك كان؛ عاش سعيد أيام الأسبوع السبعة في حفرة دائرية تحت الأرض فوق ركام من القمح ووسط ظلام دامس. لولا أمه التي كانت ترمي له، خلسة، بعضا من الطعام وقليلا من الماء لمات والقمح يغزو معدته المتهالكة. وكعادته في مثل هذه المواقف، استغل ظلمة المكان ليطلق العنان لمخيلته كي تشتغل في إطار صراعه الأبدي ضد القدر وضد الهزيمة. بالنسبة له لا يهم إن لم ينتصر، لكن المهم لديه هو ألا يُهزم. وما أن انتهت مدة الحجز، حتى كان قرار الهجرة نحو ثيطاوين (تطوان) قد حضي عنده بقوة الشيء المقضي وأصبح عنوان عريضا لمرحلة جديدة في حياته. في الصباح الموالي من خروجه من الحفرة نفذ الحكم بالطرد من المنزل في حق نفسه. خرج من الدار باكرا ثم لف خلفه ليقصد خُم الدجاج وهو يمني النفس ألا تكون أمه قد مرت منه قبله. تسلل بحذر داخل مملكة الدجاج ليجد المحصول اليومي من البيض لا زال في مكانه. جمع العشرين بيضة في قطعة قدر مكسر كان هناك ثم خرج دون أن يشكر الدجاجات على محصولهن. خطى خطوات سريعة وحذرة قبل أن يتوقف كأن شيء ما باغت إحساسه ليلتفت بسرعة نحو الحقل المغروس بأشجار اللوز. كان يعرف بأنها هناك. صوب نظراته الثاقبة نحو أمه الغير بعيدة وهي منشغلة بقطف اللوز. في موقف إنساني مثل هذا كان لزاما عليه أن يتأثر ويبكي، لكنه لم يفعل. اعتذر لنفسه وقمع الإحساس بالبكاء في دواخله. البكاء في مثل تلك الحالات لا يجدي نفعا، هكذا فكر قبل أن يعترف لنفسه أن أي قمع يبديه اتجاهها إنما هو في مصلحتهما معا. إن الأحاسيس تقتل العزيمة أحيانا، وسعيد واع الآن بذلك وواع أيضا بأنه في حاجة أكثر للفرح لا للبكاء، للأمل لا للإحباط، كيف لا وهي ذي فرصته في مواجهة الحياة؛ فرصته في التحرر من قيود أبيه وحنان أمه. كأنه خمن أن حياة قاسية تنتظره في الآتي من السنين وأن قدره في هذا العالم هو مواجهة القدر نفسه، وأن ذلك لن يتأتى له إلا باتخاذ الموقف التاريخي الذي اتخذه؛ الاتكال على نفسه وركوب دروب المغامرة لمواجهة القدر، لذلك قرر أن يهرب الهروب الأول، أو بعبارة أصح أن يعيش الطرد الأول. هكذا فعل، ودع أمه في قرار نفسه ثم انصرف دون أن يلتفت وراءه قاصدا سوق المركز ليبيع البيض قبل أن يقصد منزل الحاج بوزيان الذي كان يستكمل بناءه. اشتغل طيلة اليوم في جلب الماء من الوادي، ولم يدركه المساء إلا وهو في الناظور ينتظر كار "اللفت" كي ينطلق به نحو ثيطاوين وفي جيبه ورقة السفر وعشرة دراهم.
تحسس سعيد الهاتف الذي في يده وعاود النظر بعمق في الصورة المرسلة من إحدى بناته على الواتساب. انزلقت نظراته نحو الباب الذي يظهر خلفهن وتذكر خروجه النهائي منه، أو بمعنى أدق طرده النهائي. لم يشأ أن يتذكر من كان خلف الباب ولا لماذا طرد ومن كان وراء الفعلة. اعترف لنفسه أن ذلك لا يجدي نفعا بعد سيل من المحاولات في رتق ما تبقى من أمل قبل أن يفطن في الأخير بأنه كمن يحاول جبر قدر طين مكسور. اعترف أيضا أنه لم ينتصر مرة أخرى على القدر، وأن معارك أخرى تنتظره بلا شك، لكنه مع ذلك عقد العزم على ألا يخسر الحرب ضد قدره مهما تأجلت انتصاراته. انتشل نفسه من سطوة تفكيره وسلط عينيه لتبحثا عما هنالك وراء ابتسامة بناته. لم يتأخر كثيرا في البحث وهو يقرأ عيونهن اللواتي يشبهن عينيه، إذ سرعان ما عثر على حزن عميق غارق في يمام مقلتيهن. انتابته لفحة ضعف أمام الصورة فاغرورقت عيناه. أراد أن يبكي، لكنه فطن بالهولندية الشقراء تقترب منه وتضع أمامه صحنا من قطع الدجاج المشوي.
- آشتبليفت، قالت مبتسمة... أراك حزينا ! ، تابعت.
كي ينفلت من سلطة عينيها وهو يغالب دمعة عينيه العصية، منح لها هاتفه ليريها صورة بناته الثلاث. ابتسمت له أو لهن وهي تشاهد الصورة.
- إنهن جميلات ويشبهنك.
ابتسم ابتسامة مليمترية، وتسلم الهاتف من الهولندية الشقراء.
- لم أرك هنا من قبل؟، قالت
- هذه أول جعة أشربها عندكم... سكنت الحي هذا الأسبوع، هكذا رد دون أن ينظر إليها.
- المنازل في هذا الحي جميلة، تابعت
- لا... لا... أ أ أنا أسكن في غرفة فقط... قال بتردد وبخنق.
مسحت الشقراء وجهه بعينيها الخضراوتين وهي مصممة على متابعة الحوار
- أتسكن في غرفة مع بناتك؟ !
- لا، الغرفة صغيرة جدا... وأنا الآن وحيد جدا
أخذ الجرعة ما قبل الأخيرة ثم نهض لينصرف، دون أن يعرف لماذا، تاركا خلفه صحن الدجاج المشوي وبضعة نقود والهولندية الشقراء تتابعه بنظرات كلها أسئلة.