الطبيعي ان نكون طبيعيين. ان نكون غير طبيعيين ليس طبيعي.
منذ عدة سنوات حملنا وحمل مناضلين قبلنا مشعل الدفاع عن هويتنا وثقافتنا الأمازيغيتين، منهم من سقط كما أوراق الخريف في بحر النسيان لأنه اختار الخباء والانزواء، ومنهم من أخضعتهم الطبيعة لطبيعتها غير الطبيعية فمات، وبين ذاك وذاك هناك من هناك لا زال يسير على الدرب رغم سير السنين في حالته المدنية. كبر وكبرت معه المحنة أي القضية أي المهمة... منهم الأستاذ محمـد بودهان رضي الله عنه وأرضاه وأطال في عمره.
وفي خضم هذا المساق الذي يسمى سنة الحياة، ولدت جمعيات وتكونت لجان وكتبت مواثيق وتكونت مجالس للتنسيق الوطني وكونفديراليات وكونكريسات ودونت بيانات وفتحت نقاشات، إنها مسيرة طويلة من النضال استطاعت، بكل ما حملته من تناقضات وصراعات، أن تضغط وتساهم بشكل كبير في تسريع وثيرة الاعتراف بالأمازيغية فوق أرضها وكان ذلك في أيام لم يكن فيه لا أنتيرنيت ولا فايسبوك. ولما شاء الله أن تفتح نوافذ زرقاء تسمى فايس بوك وشيدت بداخلها حيطانا اختلط الحابل بالنابل وتحول مجال النضال لسوق كبير يدخله من هب ودب وبأسماء مستعارة. هذه الفتوحات الفايسبوكية التي شاء الله أن يفتحها الروم في إطار فتوحاتهم غير الإسلامية وجدنا فيها ضالتنا فهرولنا نحوها نحن المسلمين لنقف مصطفين ليل نهار، نساء ورجالا، أطفالا وشيوخا أمام تلك الحيطان لنحملق ونبجق أعيننا ولننفث سمومنا في خفية من أمرنا لأننا نحب الخفاء والقذف الخفي وهذا طبعا من عاداتنا السرية التي نتقنها ونوليها العناية اللازمة.
ذاك الحائط الأزرق المسمى فايس بوك أيقظني من سبات عميق. وبقرصة زنبور تفعفعت وسكتت وأنا اشمزها شمزا، لكن الزنبور صار زنابيرا والقرصة تحولت لالتهام وافتراس ولم يعد الشمز يعطي نتيجة لذلك قررت أن اكتب عوض أن اتوحوح واشمز.
تفطنت وأنا أعيد ما كتبته أني كتبت مقالين عن أحبابنا الذين فقدناهم مؤخرا المرحومين شاشا وأحمد الزياني دون أن اكتب ولو كلمة واحدة عن أحبائنا الأحياء. والحقيقة أني تأخرت في الكتابة على شخص أكن له الكثير من الاحترام والتقدير. شخص يستحق الاحتفاء به عن جدارة واستحقاق.
عاداتنا نحن الريفيون ألا نعترف ببعضنا البعض ولا نقول كلمة حق في ذوينا. نحن الريفيون نستمتع لا أقول بالنقد ولكن بالذم والشتم وتسفيه أي شيء قام به غيرنا اقصد غيرنا من الريفيين، وهذه ملاحظة يتقاسمها، لسوء الحظ، الكثير من أبناء الريف !
أريد هنا الآن واليوم، بعد اطلاعي على بعض الحيطان النتنة، أن أحاول وضع ضاضي على اليزّيم وأن اعترف بان الاعتراف تربية وخلق وحسن سيرة.
محمـد بودهان. استاذ، مفتش تعليم، كاتب، مفكر، حكيم، مدير جريدة ثاويزا، مناضل ولا يزال، قل عليه ما شئت ولن تُكفي. يوم دفن أمسرم حضر، عند خروج المعتقلين الأمازيغيين أوسايا واعضوش حضر وانتقل لكيلومترات عديدة في حر الشمس ليحضر جنازة ايزم وفي نفس الجو الحار ورغم الصوم حضر تأبين شاشا ثم تأبين احمد الزياني... ولم يستكن بل حضر وقفة ريفينوكس رغم الحر وسوء التنظيم... هل من شاب له نفسا مثله؟ هل من امغناس حطم هذا الرقم؟ أكيد قلة قليلة جدا.
محـمد بودهان ألف كتبا وكتب مقالات عديدة ساهمت في تطوير النقاش حول القضية الأمازيغية، نذر نفسه لتصحيح الكثير من المقالات الركيكة ورقنها من جديد كي ينشرها في جريدة ثاويزا. كثيرا هم من وعوا هويتهم عبر صفحات جريدته وكثيرا منهم من كون في دماغه ترسانة من المفاهيم، من معجمه الثاويزاوي، وهم الآن يستعملونها حججا في مواجهة خصوم الأمازيغية.
وها هو اليوم الحائط الأزرق يفتح ذراعيه كعاهرة ليقذف فيه من كان يصحح لهم بودهان مقالاتهم فيقذفوه قذائفا غير مطاطية، وهم بذلك لا يقذفون إلا أنفسهم. فالقذف رش والرش قذف فلا رش بودهان ولا قذف ولكن كتب وناضل وبجهد جاهد جاهد غير جهاد الناكحين. فيما خلف الأبواب الموصدة التي لا تطلع على الأفئدة يجلس الثوار الجدد ويخرجون أقلامهم غير الرصاصية ويقذفون ولكنهم لا يقذفون وإنما خيل لهم.
وحين وجد أن الايركام يسير في اتجاه غير الاتجاه الذي يوافقه سارع محمـد بودهان بالنزول تاركا وراءه مبلغا شهريا محترما، ومكتبا مكيفا وسط العاصمة. طأطأ رأسه بعد أن لفه في طربوشه وزاد مع الطريق ويديه في جيبيه تمسكان كرامته وأنفته كي لا تنفلت من حيث لا يدري. هذا هو محـمد بودهان لم يكن دَهنا سهل الذوبان، ولا انتهازيا سهل الشراء. عاد لسلوان ليستكين في بيته ويسقي أوراق جريدته.
محمـد بودهان وقف في كثير من المحطات والوقفات النضالية التي لم يقف فيها إلا من كان له أرجلا وقلبا يستحمل بغض النظر عن السن البيولوجي فالبيولوجيا أثبتت أن العضو مهما كبر لا يوحي البتة على القدرة. وفي حر تلك الوقفات كان القائمون بالأعمال يجلسون في الصالات الباردة بعد عجزهم في القذف حيث يستوجب القذف ليقذفوا حيث لا يستوجب القذف بكتابات حائطية تكسر وتخرب وتعدم كل من يبني ويشيد ويدعو للحياة. فتراهم يأخذون مزاميرهم وينفخون فيها عاليا بوجوه كسولة خائفة مختبئة طوباوية، نسبة للطوبّا، والحال أن المزامير صماء لا يسمع فيها لغوا ولا تقرقيبا. إنهم لا يكتبون ولا ينتجون ولا يحضرون ولا يسايرون ولكنهم يقفون بكل احتقار أمام الحائط الأزرق فينزلوا سروالهم كي يتبولوا وحين لا يجدوا فيهم بولا يرغدون ولا يزبدون فيبر...ن.
محـمد بودهان ليس مركزا للقذف، ليس كابوط يقيكم من هجوم الجيوش المنوية ولا حتى قرصا لمنع الحمل لمن يحمل في نفسه سلفا أجنة.
عشت أستاذ محـمد بودهان مناضل، كاتب وإنسان متواضع وطبيعي... فالطبيعي أن لا تكون غير طبيعي... في انتظار أن يأت زلزال يخلخل الفضاء الأزرق ويزعزع الحيطان النتنة.
دامت لك العزة بالنفس والسمو في الخلق والعفة عند المقدرة... وتعشير الخطوات