بقلم بدر أعراب
لو بذلنا قصارى جهدنا وكتبنا عن المغرب ستين سنة أخرى، تماما كنظيرتها التي مرّت على تسليمه وثيقة استقلاله، لما تغيّر شيءٌ أيضا في هذا البلد الذي يبدو أن لا شيء فيه تغيّر، سوى خطابات "الشفوي" التي تلوكها ألسنة أشباه المحللين السياسييّن لاسيما الجُدد ومنهم الذين يطلعون علينا بين الفينة والأخرى بوجوه أقلّ ما يقال عنها أنها عديمة الحياء كوجوه أوقح المومسات، بفارق بسيط يكمُن في أن الأخيرة تلوك بثغرها العلكة باستمرار، بينما الآخرون يلوكون بالفاه الخطابات بصور ببغائية، لإقناعنا بما لم يقتنعوا به أنفسهم.
لقد أرهقت المغاربة السياسة وخطاباتها ذات البوّار، حتى دفعتهم قنواتنا التلفزية التي يصدق بالمناسبة تسميتها بقنوات الصرف الصحي، إلى تنفيذ هجراتٍ شبه جماعية نحو فضائيات أخرى لعلها تمّد في أعمارهم ولا تُعجل بالمقابل موتهم غمّا وكمدا، لأنهم أصبحوا يتبّرمون من مشاهدة ثغور أتلف حمرة شفاهها السيجار الكوبي الفاخر والمشروبات الكحولية التي تصل كلفة أرخص واحدة منها، راتب موظف في السلالم الدنيا، يضجون آذاننا بصداعهم وينفخوا لنا رؤوسنا أكثر ممّا يحشُونها بجرعات من التفاؤل، أملا بغد أفضل ومشرق مثلما يتشدقون دوما، كما لو أن رؤوسنا غدت بالنسبة إليهم جرّات فخارية مكدّسة بالخليع والسمن البلدي، هكذا ربما يعتقدون.
يا سادة، إن بلـداً تتمّلكه الرغبة الجادة في حزم حقائبه، تنفيذا لقراره الأخير في ركوب قطار التغيير للسفر بعيدا نحو آفاق أوسع وأرحب، بحثا عن حياة لائقة للإنسان، حيث يُلامس المعنى الحقيقي للديمقراطية الحقّة والعدالة الاجتماعية والقسطاس في توزيع الثروات وحقوق الإنسان والقانون والمؤسسات، يعمل أولا وقبل كلّ شيء على إزالة ما عُلق بسجلّه العدلي من سوابق و "أوساخ"، لا أن يتنكر لماضيه، حتى يتمكّن من استصدار "حسن سيرة" جديدة، مصادقٌ عليها من طرف الجميع، لكي تسري الثقة بين الكلّ، على اعتبار أن هذه الثقة من شأنها ألا تجعل أحدا يتخلف عن موعد ركوب قطار التغيير والإلتحاق بالركبان.
وهذا بالضبط ما كان يُعتقد حين شرع المغرب إبان وقت سابق، لَمّا عقد العزم من خلال ما سُميّ بالإنصاف والمصالحة، متوقعين أنه وضع قدميه على السكة الصحيحة للخطو أولى خطواته الصائبة نحو التغيير الشامل الذي لن يتأتى طبعا إلاّ بالتدّرج، قبل أن ينبري المتخلفون عن موعد إقلاع القطار، ذوو الرغبة في شدّ البلد إلى المؤخرة، ويُبقينه على حاله، غارقا في أوحاله حتى الذقن، مخافةً على مصالحهم وأرصدتهم البنكية التي تسمن بعلف "الريع" في ظل واقع فاسد تتزايد هزائمه أكثر فأكثر، ويفلحون في وضع العصي وسط عجلة الإقلاع لكي لا تتحرك البلاد قيد أنملة إلى الأمام.
لذلك فوّت المغرب فرصة تاريخية في غاية الأهمية، حين توافرت له بالتوازي مع الشروط التاريخية التي كانت متاحة أمامه، تمهيدا لميلاد مشروع انتقالٍ ديمقراطي حقيقي، يكرس ثقافة دولة القانون والمؤسسات، ولم يستغلها أيما استغلال.
وقد يمتد بنا الحديث في هذا الصدد إلى طرح تساؤل ما الذي تغيّر فعلاً في المغرب إنْ على صعيده السياسي، وهل الحصيلة المصطلح عليها بالمكتسبات، على ضآلتها وهزالتها، تحققت بفضل حكامة الممارسة السياسية رغما عن ديمومة تأرجحها بين الضحالة وسوء التدبير وموتها السريري أحيانا، ممّا يستلزم إنعاشها عبر ضخّ دماء جديدة في شرايينها مرّات عديدة، وبعبارة أخرى لعلها أكثر سداداً، هل المكتسبات صنيعة التدبير السياسي عندنا، أم إنها في العمق ضرورات حتمية تبلورت وفقاً لصيرورة تاريخية تمخضت عنها عوامل وظروف سنحت بصياغة واقع مغربي لا دخل للطبقة السياسية فيه لا تأثيراً ولا إسهاما إلـاّ بما واكبت به سياسيا من قراءات تشريحية جرى تحويرها وتحريفها على الأرجح عمداً، عن مسار "شرح وتأويل" حقيقة "المكتسبات"، هذا إذا سلمنا جدلا باعتبارها معيارا لقياس حجم التغيير ولم نتخذها هزءا من الأصـل.
يذكرني هذا الطرح بالقول الذي يفيد بأن المغرب بلدٌ مصدرٌ بامتياز، لا يستورد فحسب، وأن بعض منتجاته التي يعمل على تصديرها إلى الخارج، يعّد في قائمتها الأول والرائد عالميا، بينما حين يتلون على مسامعك الجملة الإعتراضية كاملة دونما الوقوف وليس التوقف، عند عبارة "ويل للمصلين"، تكتشف بالكاد أن هذه المنتوجات هي في الأصل مواد طبيعية حَبَا بها اللـه أرض المغاربة، كالفوسفاط والصبّار والغاسول وزيت أركان وما إلى ذلك من مواد طبيعية أخرى مثلها، تجود بها التربة المغربية ولا دخل لبشر في صنعها، ومع ذلك تجد بعض مسؤولينا يرهفون بزهـوٍ عن كون المغرب يحتل المركز الأول عالميا في تصدير الهندية والحمير وغيرهما بلا حياء ولا حشمة.
حاصل القول، والحاصول بالعربية تاعرابت، ألم يحن الوقت بعد على أولئك الذين كتبوا عن المغرب وأرّخوا لمنجزاته منذ انسحاب آخر فيلق إسباني في هدوء من تخوم الصحراء، حيث آخر قِـلاع المستعمر الاسباني بالمغرب، محللون ساسة وكتاب وصحفيون وخبراء ممّن أكلوا الغلّة وسبّوا الملّة، أن يعوا جيدا أنهم لم يخدموا بلدهم على الإطلاق كمواطنين نوعيين، حين اشتغلوا على تجميل وجه المغرب وإخفاء بثوره بأجود المساحيق، بدل جعل كتاباتهم بمثابة المرايا العاكسة للرائي من كل جانب، حتى إذا التفت مغرب نصف القرن الماضي بكل مكوّناته، ذات يمينه وشماله، حاصرته الحقيقة من كل زاوية وركن، كأمر واقع يُلزمه ميكانيكياً بتغيير إستراتيجيته في تعامل آخر، سِمته الأساسية الجدّ ولا شيء سوى الجدّ.
لذا لا غرو في الزعم أن هؤلاء الساسة القدامى ومن سرى في فلكهم من نظرائهم الجدد الذين اتخذوا مسلك الأولين نهجاً وإسوةً، يتحملون قسطا وافرا من المسؤولية التاريخية إزاء تحديات وإكراهات راهن مغرب الألفية الثالثة.
لو بذلنا قصارى جهدنا وكتبنا عن المغرب ستين سنة أخرى، تماما كنظيرتها التي مرّت على تسليمه وثيقة استقلاله، لما تغيّر شيءٌ أيضا في هذا البلد الذي يبدو أن لا شيء فيه تغيّر، سوى خطابات "الشفوي" التي تلوكها ألسنة أشباه المحللين السياسييّن لاسيما الجُدد ومنهم الذين يطلعون علينا بين الفينة والأخرى بوجوه أقلّ ما يقال عنها أنها عديمة الحياء كوجوه أوقح المومسات، بفارق بسيط يكمُن في أن الأخيرة تلوك بثغرها العلكة باستمرار، بينما الآخرون يلوكون بالفاه الخطابات بصور ببغائية، لإقناعنا بما لم يقتنعوا به أنفسهم.
لقد أرهقت المغاربة السياسة وخطاباتها ذات البوّار، حتى دفعتهم قنواتنا التلفزية التي يصدق بالمناسبة تسميتها بقنوات الصرف الصحي، إلى تنفيذ هجراتٍ شبه جماعية نحو فضائيات أخرى لعلها تمّد في أعمارهم ولا تُعجل بالمقابل موتهم غمّا وكمدا، لأنهم أصبحوا يتبّرمون من مشاهدة ثغور أتلف حمرة شفاهها السيجار الكوبي الفاخر والمشروبات الكحولية التي تصل كلفة أرخص واحدة منها، راتب موظف في السلالم الدنيا، يضجون آذاننا بصداعهم وينفخوا لنا رؤوسنا أكثر ممّا يحشُونها بجرعات من التفاؤل، أملا بغد أفضل ومشرق مثلما يتشدقون دوما، كما لو أن رؤوسنا غدت بالنسبة إليهم جرّات فخارية مكدّسة بالخليع والسمن البلدي، هكذا ربما يعتقدون.
يا سادة، إن بلـداً تتمّلكه الرغبة الجادة في حزم حقائبه، تنفيذا لقراره الأخير في ركوب قطار التغيير للسفر بعيدا نحو آفاق أوسع وأرحب، بحثا عن حياة لائقة للإنسان، حيث يُلامس المعنى الحقيقي للديمقراطية الحقّة والعدالة الاجتماعية والقسطاس في توزيع الثروات وحقوق الإنسان والقانون والمؤسسات، يعمل أولا وقبل كلّ شيء على إزالة ما عُلق بسجلّه العدلي من سوابق و "أوساخ"، لا أن يتنكر لماضيه، حتى يتمكّن من استصدار "حسن سيرة" جديدة، مصادقٌ عليها من طرف الجميع، لكي تسري الثقة بين الكلّ، على اعتبار أن هذه الثقة من شأنها ألا تجعل أحدا يتخلف عن موعد ركوب قطار التغيير والإلتحاق بالركبان.
وهذا بالضبط ما كان يُعتقد حين شرع المغرب إبان وقت سابق، لَمّا عقد العزم من خلال ما سُميّ بالإنصاف والمصالحة، متوقعين أنه وضع قدميه على السكة الصحيحة للخطو أولى خطواته الصائبة نحو التغيير الشامل الذي لن يتأتى طبعا إلاّ بالتدّرج، قبل أن ينبري المتخلفون عن موعد إقلاع القطار، ذوو الرغبة في شدّ البلد إلى المؤخرة، ويُبقينه على حاله، غارقا في أوحاله حتى الذقن، مخافةً على مصالحهم وأرصدتهم البنكية التي تسمن بعلف "الريع" في ظل واقع فاسد تتزايد هزائمه أكثر فأكثر، ويفلحون في وضع العصي وسط عجلة الإقلاع لكي لا تتحرك البلاد قيد أنملة إلى الأمام.
لذلك فوّت المغرب فرصة تاريخية في غاية الأهمية، حين توافرت له بالتوازي مع الشروط التاريخية التي كانت متاحة أمامه، تمهيدا لميلاد مشروع انتقالٍ ديمقراطي حقيقي، يكرس ثقافة دولة القانون والمؤسسات، ولم يستغلها أيما استغلال.
وقد يمتد بنا الحديث في هذا الصدد إلى طرح تساؤل ما الذي تغيّر فعلاً في المغرب إنْ على صعيده السياسي، وهل الحصيلة المصطلح عليها بالمكتسبات، على ضآلتها وهزالتها، تحققت بفضل حكامة الممارسة السياسية رغما عن ديمومة تأرجحها بين الضحالة وسوء التدبير وموتها السريري أحيانا، ممّا يستلزم إنعاشها عبر ضخّ دماء جديدة في شرايينها مرّات عديدة، وبعبارة أخرى لعلها أكثر سداداً، هل المكتسبات صنيعة التدبير السياسي عندنا، أم إنها في العمق ضرورات حتمية تبلورت وفقاً لصيرورة تاريخية تمخضت عنها عوامل وظروف سنحت بصياغة واقع مغربي لا دخل للطبقة السياسية فيه لا تأثيراً ولا إسهاما إلـاّ بما واكبت به سياسيا من قراءات تشريحية جرى تحويرها وتحريفها على الأرجح عمداً، عن مسار "شرح وتأويل" حقيقة "المكتسبات"، هذا إذا سلمنا جدلا باعتبارها معيارا لقياس حجم التغيير ولم نتخذها هزءا من الأصـل.
يذكرني هذا الطرح بالقول الذي يفيد بأن المغرب بلدٌ مصدرٌ بامتياز، لا يستورد فحسب، وأن بعض منتجاته التي يعمل على تصديرها إلى الخارج، يعّد في قائمتها الأول والرائد عالميا، بينما حين يتلون على مسامعك الجملة الإعتراضية كاملة دونما الوقوف وليس التوقف، عند عبارة "ويل للمصلين"، تكتشف بالكاد أن هذه المنتوجات هي في الأصل مواد طبيعية حَبَا بها اللـه أرض المغاربة، كالفوسفاط والصبّار والغاسول وزيت أركان وما إلى ذلك من مواد طبيعية أخرى مثلها، تجود بها التربة المغربية ولا دخل لبشر في صنعها، ومع ذلك تجد بعض مسؤولينا يرهفون بزهـوٍ عن كون المغرب يحتل المركز الأول عالميا في تصدير الهندية والحمير وغيرهما بلا حياء ولا حشمة.
حاصل القول، والحاصول بالعربية تاعرابت، ألم يحن الوقت بعد على أولئك الذين كتبوا عن المغرب وأرّخوا لمنجزاته منذ انسحاب آخر فيلق إسباني في هدوء من تخوم الصحراء، حيث آخر قِـلاع المستعمر الاسباني بالمغرب، محللون ساسة وكتاب وصحفيون وخبراء ممّن أكلوا الغلّة وسبّوا الملّة، أن يعوا جيدا أنهم لم يخدموا بلدهم على الإطلاق كمواطنين نوعيين، حين اشتغلوا على تجميل وجه المغرب وإخفاء بثوره بأجود المساحيق، بدل جعل كتاباتهم بمثابة المرايا العاكسة للرائي من كل جانب، حتى إذا التفت مغرب نصف القرن الماضي بكل مكوّناته، ذات يمينه وشماله، حاصرته الحقيقة من كل زاوية وركن، كأمر واقع يُلزمه ميكانيكياً بتغيير إستراتيجيته في تعامل آخر، سِمته الأساسية الجدّ ولا شيء سوى الجدّ.
لذا لا غرو في الزعم أن هؤلاء الساسة القدامى ومن سرى في فلكهم من نظرائهم الجدد الذين اتخذوا مسلك الأولين نهجاً وإسوةً، يتحملون قسطا وافرا من المسؤولية التاريخية إزاء تحديات وإكراهات راهن مغرب الألفية الثالثة.