ميمون أمسبريذ لحميدي
وأنا أتصفح أرشيف صحيفة "لوسوار" (المساء) البلجيكية العريقة ذات يوم رمادي من أيام الخريف البلجيكي وقع نظري على مقالة قصيرة تحمل عنوانا غريبا جعلتني غرابته لا أكتفي بقراءته ثم المرور الى غيره كما فعلت مع العناوين الأخرى...
عنوان المقالة هو «Faut-il bégayer par amour du bègue ?» (هل يجب علينا أن نُتأتئ حبا للتأتاء؟)؛ ويرجع تاريخ نشرها الى عام 1907. وما إن تجاوزتُ الجملة الأولى حتى تَبيَّنَ لي أن المقالة ذات العنوان الغريب تتعلق بما يسمى في الحَوْلِيّات البلجيكية ب"المسألة اللغوية"...
وفيما يلي ترجمة للمقالة، يَليها تحليل مقارن للخطاب "اللغوي" المهيمن – تاريخيا في بلجيكا، وحاضرا في المغرب.
هل يجب علينا أن نُتَأْتِئَ حُبّا لِلتَّأْتاء؟
لِكُلِّ بَلَدٍ فَتَّانُوه. يَشْهَدُ على هذا أَصحابُ النَّزْعَةِ الفْلامانية عِنْدَنا. فَفي البرلمان كما في التجمُّعات لا يُخفي زُعماءُ الحركة [الفلامانية] رغبتَهم في تقسيم بلجيكا إلى معسكرين.
أَلَمْ يُصَرِّحْ النائب كُرِمانْسْ (Coremans) بِوُضوحٍ في مجلس النواب بِأنه ينبغي الاقتداء بِإِمْبراطورية النَّمْسا والمَجَر؟ آهٍ! يا لها مِنْ قُدْوَةّ! تَكْفي قِراءةُ مُداوَلاتِ مجلس النواب المَجَرِيِّ لكي ندرك فَوائد الازدواجية. إنه إذا وَقَعَ الانفصالُ بين وَلُونْيا والمنطقة الفلامانية في بلجيكا فإن الفلامانيين لَنْ يَتَوانَوْا عن رَجْمِ مَنْ قاموا بهذا العمل الضَّار.
إنّه يُتَعَمَّدُ تَلْبيسُ مَسْألةٍ هي في غايةِ الوُضوح. فحَقُّ الفلامانيين في أن يكون لهم تعليمٌ وإدارةٌ وقضاءٌ بِلُغتِهم أمْرٌ لا جِدالَ فيه.
أما وقد سلَّمنا بهذا، فهاكُمْ كيف تُطرَحُ المسألة. بلجيكا بلد مزدوجُ اللغة. إحدى اللغتين المُتَكَلَّمَتَين أداةٌ مُخْتَلَّةٌ – بما هي أداة تواصل، لِيَكُنْ هذا مفهوما – والأخرى، على العكس، أداةٌ عجيبة، في رأي الإنجليز والألمان أنفسهم. نحن نفهم إذن جيدا أن يتعلم الفلامانيون الفرنسية: فتلك مصلحتُهم. لكن من سيتجرَّأُ على القول بِأنّ العكسَ صحيح أيضا، وبِأَنَّ الوالونيين لهم نفس المصلحة في تَعَلُّم الفلامانية؟
إن الفلامانيين والوالونيين أسماءٌ شخصيةٌ لأفراد نفس الأسرة، ولن يتغيرَ شيءٌ – هذا ما نرجوه – رغم أنف الفلامانكيين، لأنه مَهْما قيل ومهما فُعل، فإن الفلامانيين، ودون أن يَخْطُرَ على بال أحدٍ أن يَحْمِلَهم على ذلك، سيتكلمون جميعا الفرنسية في يوم ما. ذلك شيء لا مَناصَ منه!
يحدث أحيانا، في الأُسَر الأَشَدِّ اتِّحادا، أن يُصاب أحدُ أفرادها بعيب في النطق. فماذا تفعل الأسرة عندئذ؟ إنها تعمل على علاجه. لكنْ هل رأينا أبدا، في مِثْلِ هذه الحال، أسْرةً بِأَكْمَلِها وقد جَعَلَتْ تُتَأْتِئ لِتُعَبِّر عن حبها للتأتاء؟
ألا يُذكِّركم هذا الخطاب بشيء؟!
إن الجهاز الحِجاجي الذي تقوم عليه المقالة يشبه الى حد التماثل نظيرَه في بلاغة الخطاب المعادي للأمازيغية في المغرب. بل إن التشابه/التماثل يشمل المعجم والتعابير والصور أيضا!
لِنَسْتَعْرض الحجج المبسوطة في المقالة أعلاه، ولْنتْرك للقارئ مهمة المقارنة...
- الفتنة : " لِكُلِّ بَلَدٍ فَتَّانُوه" (« Chaque pays a des semeurs de désordre »)؛
- التقسيم : " لا يُخفي زُعماءُ الحركة [الفلامانية] رغبتَهم في تقسيم بلجيكا إلى معسكرين"؛
- التمييز، ضمن أصحاب اللغة المهَيمَن عليها، بين "الناس الطيبين" الذين يقبلون بواقع الهيمنة اللغوية كما هو وبين "النشطاء" الرافضين لذلك الواقع : "إنه إذا وَقَعَ الانفصالُ بين وَلُونْيا والمنطقة الفلامانية في بلجيكا فإن الفلامانيين لَنْ يَتَوانَوْا عن رَجْمِ مَنْ قاموا بهذا العمل الضَّار."؛
- "الكمال" و"النقص" باعتبارهما خاصيتين محايثتين للُّغتين، المُهيمِنة والمهَيمَن عليها، وليستا تَجَلٍّ لِحالةٍ سوسيو-لسانية (وإذن تاريخية وسياسية)؛
- ذريعة "الوحدة" (بمعنى الأحادية)؛
- البراغماتية (أو النفعية) : من مصلحة أهل اللغة "الناقصة" أن يتعلموا اللغة "الكاملة" خلافا لأصحاب هذه، فإنهم لا مصلحة لهم في تعلم لغة "ناقصة" ولا نفع فيها (على سبيل الإشارة، يتبنى كثير من الأمازيغيين هذا الموقف البراغماتي مع الحرص على التذكير بأصولهم الأمازيغية...)؛
- اللغة المهيمَن عليها تشكل حالة مَرَضِيَّة ينبغي علاجها لا الدفاع عنها: من هنا عنوان المقالة.
لا بد أن يكون القارئ الذي ألِفَ قراءة ما يكتب في موضوع اللغات في المغرب المعاصر قد وقف على أوجه الشبه بين الخطاب الذي يُروِّجه المَتْنُ الذي تنتمي اليه المقالة أعلاه وبين خطاب المعاداة للأمازيغية باعتباره – خطأً – شرطا للتمكين للعربية...
لقد كُتبت المقالة المترجمة هنا قبل قرن ونيف، زَمَنَ كانت الفرنسيةُ في بلجيكا، وفي العالم، في أوج مجدها، باعتبارها لغة الأنوار والرهافة والدبلوماسية... هذا ما يفسر الشعور بالتفوق لدى الناطقين بها؛ وكثيرا ما اتخذ هذا الشعور شكل الغطرسة والتحقير للغات الأخرى كما تنم عن ذلك لهجة المقالة ونبرتها فضلا عن معجمها وصورها ومعانيها...
لكنّ مِياها كثيرة سالت تحت جسور بلجيكا منذئذ؛ فتقهقرت "والونيا" الفرانكفونية اقتصاديا بعد انطفاء وَهْج الثورة الصناعية الأولى التي كانت رائدة فيها، بينما ركب الفلامانيون قطار الثورة ما بعد الصناعية، فتقدمت منطقتهم فيما تراجعت المنطقة الوالونية... وإذا كان ما تحقق للغة الفلامانية من نجاح يرجع أولا وقبل كل شيء الى نضال القوى الحية الفلامانية التي لم تذعن للأمر الواقع، وقادت نضالات لا هوادة فيها على الجبهات السياسية والثقافية واللغوية (مَعْيرَةً وتوحيدا وكتابةً وتعليما وإشاعةً...)، فإن النمو الاقتصادي للمنطقة الفلامانية وانقلاب ميزان القوى لصالحها، مع ما ترتب عنه وصاحَبه من تغير في الصورة النمطية للفلاماني الجَلْف الذي يرطن بلهجة غير مفهومة وهو يبحث عن عمل في مناجم الفحم الحجري الوالونية، قد ساهم مساهمة كبرى في ارتفاع قيمة هذه اللغة في سوق القيم اللغوية البلجيكي. ومن سخرية التاريخ ومَكْرِه أنه – خلافا لما تنبأ به صاحب المقالة أعلاه من أن " الفلامانيين، ودون أن يَخْطُرَ على بال أحدٍ أن يَحْمِلَهم على ذلك، سيتكلمون جميعا الفرنسية في يوم ما. ذلك شيء لا مَناصَ منه!" – أصبح لِزاما على الفرانكفوني الذي يريد الحصول على عمل "محترم" أن يكون على قدْر من المعرفة باللغة الفلامانية! ومسايَرةً لهذا التحول تتبارى رياضُ الأطفال والمدارسُ والمعاهدُ والجامعاتُ في جلب الراغبين في تعلم لغة كانت بالأمس القريب تُنعت تحت أقلام أجداد هؤلاء أنفسهم بكونها "تَأْتَأَةً" (bégayement) و"عيبا نُطْقيا" (« un défaut de prononciation ») ! وغَدَوْنا نسمع ونقرأ في كل وقت وحين وصلات إشهارية لها تُبَثُّ عبر مختلف وسائل الإعلام الفرانكفونية ! بل إن غلاء فواتير دروس اللغة الفلامانية، النظامي منها والخصوصي، يجعل ارْتِيادَها حكرا على ذوي القدرة الشرائية المرتفعة دون سواهم! مما غَدَت معه اللغة الفلامانية عنوانا على التميز الاجتماعي في الأوساط الفرانكفونية!...
وبينما أصبح الوالونيون يتسابقون الى "التأتأة" – لا حُبّا في "التأتاء" الفلاماني– وإنما خضوعا لمبدإ الواقع الذي جعل معرفة اللغة الفلامانية شرطا للترقي الاجتماعي والمهني، فإن الأجيال الجديدة من الفلامانيين قد هجرت "اللغة العجيبة" (الفرنسية) إلاّ قليلا منهم مِمَّن يَشْغَل وظيفةً فدراليةً أو يتخصص في دراستها لغةً وثقافةً وآداباً!
العبرة...
إن قراءة المقالة المترجمة أعلاه على ضوء الواقع اللغوي البلجيكي الراهن (وعلى خلفية الواقع اللغوي المغربي) لابد أن يخرج منها بعبرتين: إحداهما تخص ذوي اللغات المهيمنة ضمن سياقات سوسيو-تاريخية معينة (ومنهم العروبيون عندنا)؛ وفَحْواها أن التاريخ حركة لا ثبات لها، وأن ما هو في حُكم المُكتسَب زمنا قد لا يظل كذلك أبدا؛ مما يقتضي التبصرَ والتواضعَ مع المَغْبون اليومَ، فإنه قد يتسَيَّد غدا. والعبرة الثانية تنصرف إلينا نحن الأمازيغيين، ومُؤداها أن حركة التاريخ تلك لا تهم إلا من ينخرط فيها فعلا وتسريعا وتوجيها؛ وعلى المَغْبون أن يَرْكبَها وإلاّ فإنها ستتولى إيداعه في "ذاكرة النسيان"...
ملحوظة
على الرغم من نبرة التبخيس والتحقير في حق اللغة الفلامانية فإن صاحب المقالة يعتبر أن "حَقُّ الفلامانيين في أن يكون لهم تعليمٌ وإدارةٌ وقضاءٌ بِلُغتِهم أمْرٌ لا جِدالَ فيه". وهو الحق الذي لا يزال موضع جدال وأخذ ورَدّ في المغرب، رغم الاعتراف الدستوري الصوري الذي تحول الى نوع من المَتْحَفَة للغة الأمازيغية...
وأنا أتصفح أرشيف صحيفة "لوسوار" (المساء) البلجيكية العريقة ذات يوم رمادي من أيام الخريف البلجيكي وقع نظري على مقالة قصيرة تحمل عنوانا غريبا جعلتني غرابته لا أكتفي بقراءته ثم المرور الى غيره كما فعلت مع العناوين الأخرى...
عنوان المقالة هو «Faut-il bégayer par amour du bègue ?» (هل يجب علينا أن نُتأتئ حبا للتأتاء؟)؛ ويرجع تاريخ نشرها الى عام 1907. وما إن تجاوزتُ الجملة الأولى حتى تَبيَّنَ لي أن المقالة ذات العنوان الغريب تتعلق بما يسمى في الحَوْلِيّات البلجيكية ب"المسألة اللغوية"...
وفيما يلي ترجمة للمقالة، يَليها تحليل مقارن للخطاب "اللغوي" المهيمن – تاريخيا في بلجيكا، وحاضرا في المغرب.
هل يجب علينا أن نُتَأْتِئَ حُبّا لِلتَّأْتاء؟
لِكُلِّ بَلَدٍ فَتَّانُوه. يَشْهَدُ على هذا أَصحابُ النَّزْعَةِ الفْلامانية عِنْدَنا. فَفي البرلمان كما في التجمُّعات لا يُخفي زُعماءُ الحركة [الفلامانية] رغبتَهم في تقسيم بلجيكا إلى معسكرين.
أَلَمْ يُصَرِّحْ النائب كُرِمانْسْ (Coremans) بِوُضوحٍ في مجلس النواب بِأنه ينبغي الاقتداء بِإِمْبراطورية النَّمْسا والمَجَر؟ آهٍ! يا لها مِنْ قُدْوَةّ! تَكْفي قِراءةُ مُداوَلاتِ مجلس النواب المَجَرِيِّ لكي ندرك فَوائد الازدواجية. إنه إذا وَقَعَ الانفصالُ بين وَلُونْيا والمنطقة الفلامانية في بلجيكا فإن الفلامانيين لَنْ يَتَوانَوْا عن رَجْمِ مَنْ قاموا بهذا العمل الضَّار.
إنّه يُتَعَمَّدُ تَلْبيسُ مَسْألةٍ هي في غايةِ الوُضوح. فحَقُّ الفلامانيين في أن يكون لهم تعليمٌ وإدارةٌ وقضاءٌ بِلُغتِهم أمْرٌ لا جِدالَ فيه.
أما وقد سلَّمنا بهذا، فهاكُمْ كيف تُطرَحُ المسألة. بلجيكا بلد مزدوجُ اللغة. إحدى اللغتين المُتَكَلَّمَتَين أداةٌ مُخْتَلَّةٌ – بما هي أداة تواصل، لِيَكُنْ هذا مفهوما – والأخرى، على العكس، أداةٌ عجيبة، في رأي الإنجليز والألمان أنفسهم. نحن نفهم إذن جيدا أن يتعلم الفلامانيون الفرنسية: فتلك مصلحتُهم. لكن من سيتجرَّأُ على القول بِأنّ العكسَ صحيح أيضا، وبِأَنَّ الوالونيين لهم نفس المصلحة في تَعَلُّم الفلامانية؟
إن الفلامانيين والوالونيين أسماءٌ شخصيةٌ لأفراد نفس الأسرة، ولن يتغيرَ شيءٌ – هذا ما نرجوه – رغم أنف الفلامانكيين، لأنه مَهْما قيل ومهما فُعل، فإن الفلامانيين، ودون أن يَخْطُرَ على بال أحدٍ أن يَحْمِلَهم على ذلك، سيتكلمون جميعا الفرنسية في يوم ما. ذلك شيء لا مَناصَ منه!
يحدث أحيانا، في الأُسَر الأَشَدِّ اتِّحادا، أن يُصاب أحدُ أفرادها بعيب في النطق. فماذا تفعل الأسرة عندئذ؟ إنها تعمل على علاجه. لكنْ هل رأينا أبدا، في مِثْلِ هذه الحال، أسْرةً بِأَكْمَلِها وقد جَعَلَتْ تُتَأْتِئ لِتُعَبِّر عن حبها للتأتاء؟
ألا يُذكِّركم هذا الخطاب بشيء؟!
إن الجهاز الحِجاجي الذي تقوم عليه المقالة يشبه الى حد التماثل نظيرَه في بلاغة الخطاب المعادي للأمازيغية في المغرب. بل إن التشابه/التماثل يشمل المعجم والتعابير والصور أيضا!
لِنَسْتَعْرض الحجج المبسوطة في المقالة أعلاه، ولْنتْرك للقارئ مهمة المقارنة...
- الفتنة : " لِكُلِّ بَلَدٍ فَتَّانُوه" (« Chaque pays a des semeurs de désordre »)؛
- التقسيم : " لا يُخفي زُعماءُ الحركة [الفلامانية] رغبتَهم في تقسيم بلجيكا إلى معسكرين"؛
- التمييز، ضمن أصحاب اللغة المهَيمَن عليها، بين "الناس الطيبين" الذين يقبلون بواقع الهيمنة اللغوية كما هو وبين "النشطاء" الرافضين لذلك الواقع : "إنه إذا وَقَعَ الانفصالُ بين وَلُونْيا والمنطقة الفلامانية في بلجيكا فإن الفلامانيين لَنْ يَتَوانَوْا عن رَجْمِ مَنْ قاموا بهذا العمل الضَّار."؛
- "الكمال" و"النقص" باعتبارهما خاصيتين محايثتين للُّغتين، المُهيمِنة والمهَيمَن عليها، وليستا تَجَلٍّ لِحالةٍ سوسيو-لسانية (وإذن تاريخية وسياسية)؛
- ذريعة "الوحدة" (بمعنى الأحادية)؛
- البراغماتية (أو النفعية) : من مصلحة أهل اللغة "الناقصة" أن يتعلموا اللغة "الكاملة" خلافا لأصحاب هذه، فإنهم لا مصلحة لهم في تعلم لغة "ناقصة" ولا نفع فيها (على سبيل الإشارة، يتبنى كثير من الأمازيغيين هذا الموقف البراغماتي مع الحرص على التذكير بأصولهم الأمازيغية...)؛
- اللغة المهيمَن عليها تشكل حالة مَرَضِيَّة ينبغي علاجها لا الدفاع عنها: من هنا عنوان المقالة.
لا بد أن يكون القارئ الذي ألِفَ قراءة ما يكتب في موضوع اللغات في المغرب المعاصر قد وقف على أوجه الشبه بين الخطاب الذي يُروِّجه المَتْنُ الذي تنتمي اليه المقالة أعلاه وبين خطاب المعاداة للأمازيغية باعتباره – خطأً – شرطا للتمكين للعربية...
لقد كُتبت المقالة المترجمة هنا قبل قرن ونيف، زَمَنَ كانت الفرنسيةُ في بلجيكا، وفي العالم، في أوج مجدها، باعتبارها لغة الأنوار والرهافة والدبلوماسية... هذا ما يفسر الشعور بالتفوق لدى الناطقين بها؛ وكثيرا ما اتخذ هذا الشعور شكل الغطرسة والتحقير للغات الأخرى كما تنم عن ذلك لهجة المقالة ونبرتها فضلا عن معجمها وصورها ومعانيها...
لكنّ مِياها كثيرة سالت تحت جسور بلجيكا منذئذ؛ فتقهقرت "والونيا" الفرانكفونية اقتصاديا بعد انطفاء وَهْج الثورة الصناعية الأولى التي كانت رائدة فيها، بينما ركب الفلامانيون قطار الثورة ما بعد الصناعية، فتقدمت منطقتهم فيما تراجعت المنطقة الوالونية... وإذا كان ما تحقق للغة الفلامانية من نجاح يرجع أولا وقبل كل شيء الى نضال القوى الحية الفلامانية التي لم تذعن للأمر الواقع، وقادت نضالات لا هوادة فيها على الجبهات السياسية والثقافية واللغوية (مَعْيرَةً وتوحيدا وكتابةً وتعليما وإشاعةً...)، فإن النمو الاقتصادي للمنطقة الفلامانية وانقلاب ميزان القوى لصالحها، مع ما ترتب عنه وصاحَبه من تغير في الصورة النمطية للفلاماني الجَلْف الذي يرطن بلهجة غير مفهومة وهو يبحث عن عمل في مناجم الفحم الحجري الوالونية، قد ساهم مساهمة كبرى في ارتفاع قيمة هذه اللغة في سوق القيم اللغوية البلجيكي. ومن سخرية التاريخ ومَكْرِه أنه – خلافا لما تنبأ به صاحب المقالة أعلاه من أن " الفلامانيين، ودون أن يَخْطُرَ على بال أحدٍ أن يَحْمِلَهم على ذلك، سيتكلمون جميعا الفرنسية في يوم ما. ذلك شيء لا مَناصَ منه!" – أصبح لِزاما على الفرانكفوني الذي يريد الحصول على عمل "محترم" أن يكون على قدْر من المعرفة باللغة الفلامانية! ومسايَرةً لهذا التحول تتبارى رياضُ الأطفال والمدارسُ والمعاهدُ والجامعاتُ في جلب الراغبين في تعلم لغة كانت بالأمس القريب تُنعت تحت أقلام أجداد هؤلاء أنفسهم بكونها "تَأْتَأَةً" (bégayement) و"عيبا نُطْقيا" (« un défaut de prononciation ») ! وغَدَوْنا نسمع ونقرأ في كل وقت وحين وصلات إشهارية لها تُبَثُّ عبر مختلف وسائل الإعلام الفرانكفونية ! بل إن غلاء فواتير دروس اللغة الفلامانية، النظامي منها والخصوصي، يجعل ارْتِيادَها حكرا على ذوي القدرة الشرائية المرتفعة دون سواهم! مما غَدَت معه اللغة الفلامانية عنوانا على التميز الاجتماعي في الأوساط الفرانكفونية!...
وبينما أصبح الوالونيون يتسابقون الى "التأتأة" – لا حُبّا في "التأتاء" الفلاماني– وإنما خضوعا لمبدإ الواقع الذي جعل معرفة اللغة الفلامانية شرطا للترقي الاجتماعي والمهني، فإن الأجيال الجديدة من الفلامانيين قد هجرت "اللغة العجيبة" (الفرنسية) إلاّ قليلا منهم مِمَّن يَشْغَل وظيفةً فدراليةً أو يتخصص في دراستها لغةً وثقافةً وآداباً!
العبرة...
إن قراءة المقالة المترجمة أعلاه على ضوء الواقع اللغوي البلجيكي الراهن (وعلى خلفية الواقع اللغوي المغربي) لابد أن يخرج منها بعبرتين: إحداهما تخص ذوي اللغات المهيمنة ضمن سياقات سوسيو-تاريخية معينة (ومنهم العروبيون عندنا)؛ وفَحْواها أن التاريخ حركة لا ثبات لها، وأن ما هو في حُكم المُكتسَب زمنا قد لا يظل كذلك أبدا؛ مما يقتضي التبصرَ والتواضعَ مع المَغْبون اليومَ، فإنه قد يتسَيَّد غدا. والعبرة الثانية تنصرف إلينا نحن الأمازيغيين، ومُؤداها أن حركة التاريخ تلك لا تهم إلا من ينخرط فيها فعلا وتسريعا وتوجيها؛ وعلى المَغْبون أن يَرْكبَها وإلاّ فإنها ستتولى إيداعه في "ذاكرة النسيان"...
ملحوظة
على الرغم من نبرة التبخيس والتحقير في حق اللغة الفلامانية فإن صاحب المقالة يعتبر أن "حَقُّ الفلامانيين في أن يكون لهم تعليمٌ وإدارةٌ وقضاءٌ بِلُغتِهم أمْرٌ لا جِدالَ فيه". وهو الحق الذي لا يزال موضع جدال وأخذ ورَدّ في المغرب، رغم الاعتراف الدستوري الصوري الذي تحول الى نوع من المَتْحَفَة للغة الأمازيغية...