محمد أمزيان/ هولندا
... و«فار التنور». تمزقت أشلاء الأنهار طميا أحمر. كالمارد المسعور هاجت سيول مغموسة بآلام المفجوعين، جارفة في طريقها الحق في الحياة. غضب الطبيعة حينما ينزل، لا يعصمك منه برج ولا جبل. التخبط واضح والصور صادمة. لعل أكثرها وقعا على النفس صور نقل جثث الغرقى في حاوية للنفايات. فمتى صار الضحايا نفايات؟ سؤال للاستفزاز فقط؟
فوق سطح الأمواج الغاضبة، لا تكاد ترى سوى رؤوسا تطفو، ربما تستغيث. شاب ينشب ظفره في غصن شجرة معاندة تقاوم السيل العرم. هل سيصمد طويلا؟ هل ستصمد الشجرة؟ ماذا عسى يدور في تلك الرؤوس المتدحرجة نحو هاويتها؟ ما أصعبها لحظات! لحظات كالدهر تجثم على صدور أولئك الذين تواجدوا في ذلك المكان، حينما نزل غضب الطبيعة من السماء مدرارا. أمام هذا المشهد الرهيب يبقى عجز الإنسان هو العنوان.
أكثر من ثلاثين قتيلا وعشرات المفقودين هي الحصيلة المؤقتة للفيضانات التي ضربت الأقاليم الجنوبية الشرقية من المملكة. كارثة وطنية بكل معنى الكلمة. كان على الأعلام أن تنكس ويعلن الحداد الوطني. كان على الحكومة أن تعلن النفير العام وتشمر عن ساعديها لإيصال المدد. ما عايشناه من خلال ما وصلنا من شظايا أخبار، يجعلنا نتأسف، نخجل من تدني مستوى الإنسانية فينا.
في إحدى نشرات الأخبار على القناة الوطنية الأولى، تتبعت خبر الكارثة وأنا أتطلع بأسى إلى معرفة التفاصيل عن هذه المأساة الإنسانية. أليست القناة وطنية؟ بحثت عن شهادات ذوي الضحايا فلم أجد. شهود عيان غابوا وكأنهم هم من جرفهم السيل نحو مجاهل العدم. أسئلة تنتظر الجواب، مكامن الخلل، مسؤولية من؟ تمنيت أن أسمع وزيرا يهدد بالاستقالة لأن وخزة الضمير لم تعد تحتمل. لا شيء. ما قدمته النشرة من أخبار كان في حد ذاته كارثة. لغة خشبية محنطة تعود لعصر الطباشير، تقرير باهت يعيد نشر بعض صور عمليات الإنقاذ التي قامت بها القوات الملكية المسلحة. سمعنا كذلك رأي بعض المختصين في الأنواء الجوية. لم أسمع تعليقا عن البنية التحتية التي هي في الحقيقة «تحت» أي تصنيف. لم أسمع «محللا» يشرح أسباب تهاوي الجسور المقامة حديثا وكأنها راسية على أعمدة من ورق. لم نر برلمانيا يتساءل عن مصير الطرق السيارة التي تبخرت كدخان المآتم.
إنه الفساد يا عزيزي. الفساد ينخر تفاصيل الحياة عندنا، ولا من يراقب، ولا من يحاسب. إنها «السيبة» التي استوطنت تدبير الشأن العام.
في المغرب يمكن إنبات شجرة نخيل في 24 ساعة بتمرها وبلحها، بناء جسر بإشارة، شق طريق في خمسة أيام. في الصيف الماضي، شاهدت كيف استنبتوا وردا ربيعيا وعشبا أخضر يوما واحدا قبل وصول الملك للبلدة. صباغة الطريق تمت في الليل والناس نيام. ميدان مفتوح ظل مصدرا للعفونة طيلة سنة كاملة، سُحّر له في رمشة عين وأضحى ساحة منفرجة الأحضان، تستقبل الزوار في انتظار مرور عاهل البلاد.
قبل أقل من ثلاثة أسابيع توفي القيادي البارز أحمد الزايدي غرقا في ترعة تافهة تمر تحت جسر أتفه. جرفت مياه الأمطار الغزيرة والمفاجئة سيارته، لم تنقذه نداءاته اليائسة. بعض المارة من أهل القرية المجاورة هم من انتشلوه من قاع النهر القاتل. أين السلطات المحلية التي كان عليها تحذير المواطنين من مخاطر الترعة؟ صحيح أن غياب الراحل الزايدي خلف نقاشا واسعا على الساحة السياسية حول مصير الحزب والرفاق، لكن الكلام عن «البنية التحتية» التي تقنص حياة الناس في غفلة من الجميع، بقيت في منأى عن الفحص.
أرى أن هذه الأمور ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد، إذ لا يصح أن يترك المواطنون الأبرياء يتساقطون فريسة لأخطاء الآخرين. لا بد من فتح ملفات الفساد بجرأة ومسؤولية. لا بد من إعادة النظر في استراتيجية مواجهة الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية. من حق المواطن أن يعرف ما إذا كان هناك من يهتم بشأنه.
من العجب أن نرى «نينجات» تنقض على الشباب العاطل حتى قبل أن يفتح فمه للمطالبة بحقوقه في العيش الكريم، ولا نرى أثرا لسيارة إسعاف حينما تلد امرأة على قارعة الطريق، أو ينقل مريض على نعش، أو تنتحر معلمة في مدرسة نبتت كالفطر على خاصرة جبل نائي.
... و«فار التنور». تمزقت أشلاء الأنهار طميا أحمر. كالمارد المسعور هاجت سيول مغموسة بآلام المفجوعين، جارفة في طريقها الحق في الحياة. غضب الطبيعة حينما ينزل، لا يعصمك منه برج ولا جبل. التخبط واضح والصور صادمة. لعل أكثرها وقعا على النفس صور نقل جثث الغرقى في حاوية للنفايات. فمتى صار الضحايا نفايات؟ سؤال للاستفزاز فقط؟
فوق سطح الأمواج الغاضبة، لا تكاد ترى سوى رؤوسا تطفو، ربما تستغيث. شاب ينشب ظفره في غصن شجرة معاندة تقاوم السيل العرم. هل سيصمد طويلا؟ هل ستصمد الشجرة؟ ماذا عسى يدور في تلك الرؤوس المتدحرجة نحو هاويتها؟ ما أصعبها لحظات! لحظات كالدهر تجثم على صدور أولئك الذين تواجدوا في ذلك المكان، حينما نزل غضب الطبيعة من السماء مدرارا. أمام هذا المشهد الرهيب يبقى عجز الإنسان هو العنوان.
أكثر من ثلاثين قتيلا وعشرات المفقودين هي الحصيلة المؤقتة للفيضانات التي ضربت الأقاليم الجنوبية الشرقية من المملكة. كارثة وطنية بكل معنى الكلمة. كان على الأعلام أن تنكس ويعلن الحداد الوطني. كان على الحكومة أن تعلن النفير العام وتشمر عن ساعديها لإيصال المدد. ما عايشناه من خلال ما وصلنا من شظايا أخبار، يجعلنا نتأسف، نخجل من تدني مستوى الإنسانية فينا.
في إحدى نشرات الأخبار على القناة الوطنية الأولى، تتبعت خبر الكارثة وأنا أتطلع بأسى إلى معرفة التفاصيل عن هذه المأساة الإنسانية. أليست القناة وطنية؟ بحثت عن شهادات ذوي الضحايا فلم أجد. شهود عيان غابوا وكأنهم هم من جرفهم السيل نحو مجاهل العدم. أسئلة تنتظر الجواب، مكامن الخلل، مسؤولية من؟ تمنيت أن أسمع وزيرا يهدد بالاستقالة لأن وخزة الضمير لم تعد تحتمل. لا شيء. ما قدمته النشرة من أخبار كان في حد ذاته كارثة. لغة خشبية محنطة تعود لعصر الطباشير، تقرير باهت يعيد نشر بعض صور عمليات الإنقاذ التي قامت بها القوات الملكية المسلحة. سمعنا كذلك رأي بعض المختصين في الأنواء الجوية. لم أسمع تعليقا عن البنية التحتية التي هي في الحقيقة «تحت» أي تصنيف. لم أسمع «محللا» يشرح أسباب تهاوي الجسور المقامة حديثا وكأنها راسية على أعمدة من ورق. لم نر برلمانيا يتساءل عن مصير الطرق السيارة التي تبخرت كدخان المآتم.
إنه الفساد يا عزيزي. الفساد ينخر تفاصيل الحياة عندنا، ولا من يراقب، ولا من يحاسب. إنها «السيبة» التي استوطنت تدبير الشأن العام.
في المغرب يمكن إنبات شجرة نخيل في 24 ساعة بتمرها وبلحها، بناء جسر بإشارة، شق طريق في خمسة أيام. في الصيف الماضي، شاهدت كيف استنبتوا وردا ربيعيا وعشبا أخضر يوما واحدا قبل وصول الملك للبلدة. صباغة الطريق تمت في الليل والناس نيام. ميدان مفتوح ظل مصدرا للعفونة طيلة سنة كاملة، سُحّر له في رمشة عين وأضحى ساحة منفرجة الأحضان، تستقبل الزوار في انتظار مرور عاهل البلاد.
قبل أقل من ثلاثة أسابيع توفي القيادي البارز أحمد الزايدي غرقا في ترعة تافهة تمر تحت جسر أتفه. جرفت مياه الأمطار الغزيرة والمفاجئة سيارته، لم تنقذه نداءاته اليائسة. بعض المارة من أهل القرية المجاورة هم من انتشلوه من قاع النهر القاتل. أين السلطات المحلية التي كان عليها تحذير المواطنين من مخاطر الترعة؟ صحيح أن غياب الراحل الزايدي خلف نقاشا واسعا على الساحة السياسية حول مصير الحزب والرفاق، لكن الكلام عن «البنية التحتية» التي تقنص حياة الناس في غفلة من الجميع، بقيت في منأى عن الفحص.
أرى أن هذه الأمور ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد، إذ لا يصح أن يترك المواطنون الأبرياء يتساقطون فريسة لأخطاء الآخرين. لا بد من فتح ملفات الفساد بجرأة ومسؤولية. لا بد من إعادة النظر في استراتيجية مواجهة الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية. من حق المواطن أن يعرف ما إذا كان هناك من يهتم بشأنه.
من العجب أن نرى «نينجات» تنقض على الشباب العاطل حتى قبل أن يفتح فمه للمطالبة بحقوقه في العيش الكريم، ولا نرى أثرا لسيارة إسعاف حينما تلد امرأة على قارعة الطريق، أو ينقل مريض على نعش، أو تنتحر معلمة في مدرسة نبتت كالفطر على خاصرة جبل نائي.