جواد غسّال
عادة ما نتحدث عن الهدوء في النقاش، وخضوعه للعمق الفكري والطرح العلمي، كلما ابتعدنا عن ذروة الصراع ولحظة القوة في التدافع، وعادة ما يندفع إلى الواجهة متخصصون في التحليل، وأصحاب التريث في الدرس واستخراج نتائج التدافع الآنف الوقوع، لتعيد الأمور إلى نصابها وتحدد المسار الصائب والطرح القوي من الضعيف، لكننا وحدنا فقط نعيد الوقائع ذاتها، ونجبر التاريخ على تكرار نفسه، كما يقع اليوم مع النقاش المتجدد للحرف الأجدر لتكتب به اللغة الأمازيغية.
تمة خيط رفيع بين صراع اليوم وصراع الأمس، فوحدها الأقلام التي تجتر النقاش اليوم تعلم خلفيات ما وقع قبل عشر سنوات، وكيف تحول من أصله في علم اللسانيات وفقه اللغة إلى صراع إديولوجي، تطاحنت بسببه التيارات السياسية، وحولت جمعيات مدنية بوصلتها نحو ساحة معركة واحدة تروم إقرار مخططها وأهدافها في أي الحروف ستكتب به لغة "الرجال الأحرار".
1
لقد انتقد أحمد عصيد ما اعتبره توظيفا لفكر وتصور المختار السوسي في معركة الحرف الذي يجدر أن تكتب به الأمازيغية، وقدم "تبريرات" تفصل بين فكر المختار السوسي " الفقيه السلفي" والحركة الأمازيغية، معتبرا أن الحرف الذي كتب به السوسي فكره لم يكن له بديل حينذاك، وينسى عصيد أو يتناسى أنه كان مؤسسا ورئيسا لتحرير أول مجلة ثقافية تصدر موادها الأمازيغية بالحرف العربي وكان ذلك سنة 1995 (أي قبيل معركة الحرف بسنوات قليلة) وهي مجلة "تاوسنا"، والتي أدارها محمد مستاوي.
فإذا كان عصيد اعتبر أن السوسي كتب بالأمازيغية في عصر لم يكن فيه غير الحرف العربي، وتوفي أربع سنوات قبيل بروز أولى ملامح الحركات الأمازيغية، فما الذي سيقوله عن المجلة التي كان رئيسا لتحريرها وكتبت بنفس الحرف، الذي لا يؤمن بأهليته لكتابة الامازيغية، بعد ظهور الحركات الأمازيغية بعقود ؟
2
وهل ينسى عصيد تقلُّبه في مسألة الحرف في محاضرة رد فيها على عبد الكريم غلاب حول الفرنكفونية ونقلها الدكتور سعد الدين العثماني في مقال له نشر بمجلة " الفرقان"، وصرح عصيد حينها بالقول ""...ينبغي أولا أن نعلم بأن النقاش الدائر حول الحرف هو نقاش محض أيديولوجي وليس نقاشا تقنيا بين مختصين في علوم اللغة. إن الذي يختار الحرف اللاتيني لكتابة الأمازيغية داخل المغرب إنما يفعل ذلك ضدا على برنامج التعريب الذي يروم السيادة المطلقة للعربية، وهو بذلك يفصل الأمازيغية عن المجال الثقافي العربي ـ
الإسلامي ويدرجها في مجال أجنبي، أما الذي يختار الحرف العربي لكتابة الأمازيغية فهو الذي لا يخلط بين العربية وسياسة التعريب، ويعطي الأولوية للإطار الوطني الذي يجمع العربية والأمازيغية في نسيج ثقافي مشترك، ويرفض الانتقام من العربية ردا على سياسة تهميش الأمازيغية، وأما الذي يختار الحرف العريق "تيفيناغ" فهو يهدف إلى إثبات الاستقلال التام للأمازيغية كنسق لساني عن العربية وعن اللغة الأجنبية وينطلق من مبدإ "مثلما لكل لغة حرفها، فإن للأمازيغية أيضا حرفها الخاص".
وينسى عصيد أو يتناسى أنه كان من دعاة كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني إلى حدود تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لينتقل إلى الدعوة إلى كتابتها بحرف "تيفناغ" ضدا على العربية والحرف العربي وانتقاما من "سياسية التعريب".
3
إن ظروف إعادة طرح قضية الحرف الأمازيغي، يجب أن لا يكون من أجل إعادة إنتاج ذات الجدل، ومعاودة نفس النقاش العمومي، وبالتالي نفس المآلات لملف لا يهم فئة واحدة من المجتمع، أو "النخبة الأمازيغية" لوحدها، بل يهم المغاربة بدون استثناء، باعتبارها إحدى المكونات الأساسية لهويتهم وتاريخهم وحضارتهم.
ويمكن البحث في تفاصيل الملف (الحرف) بطرح الأسئلة نفسها التي طرحها المدافعون عن الحرفين "اللاتيني" و"تيفناغ"، بناء على الحقائق التالية:
1- العودة إلى تفاصيل النقاش يؤكد أن المدافعين عن حرف "تيفناغ" لا يتجاوز عناصر قليلة من "النخبة الأمازيغية" إضافة إلى الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، بينما كان أغلب الحركات الأمازيغية تدافع عن الحرف اللاتيني، باعتباره حرفا كونيا "سيحقق التطور الاقتصادي والثقافي والفكري..."
2- اللجوء إلى تبريرات غير مقنعة على المستوى الفونولوجي والمرفولجي للغة الأمازيغية، لتبرير "عدم أهلية الحرف العربي لكتابة الأمازيغية".
3- الحسم بالتصويت في البرلمان، يعد ضربا من الجنون، ذلك أن مسألة الحرف علمية وليست مسألة سياسية.
إن كتابة الأمازيغية بحرف "تيفناغ" يعد حجر عثرة في وجه انتشارها بشكل واسع، وفي نفوذها إلى أوساط المتحدثين بالدارجة المغربية لوحدها، وحدٌّ من التفاعل الذي تمكنت من رص مساره طيلة قرون من الزمن مع اللغة العربية... انتهت اليوم على أيدي المنافحين "فجأة" عن الحرف الجديد، بسياقة مبررات تجمع "المرفولوجي" و"الأركيولوجي"، والحال أنها كلها لم تخضع لدراسة معمقة.
لقد حسمنا مسألة علمية صرفة، بجدل سياسي معقد، وأنهينا ،أو بالأحرى، أكرهنا الأمازيغية للخضوع لنزواتنا الإديلوجية، وتدفع ثمن عقوقنا... ظننا أننا نخدم الأمازيغية ونعمل على إعلاء كلمتها، والحال أننا نرمي باللغة في مستنقع الجمود.
Jaouad800@gmail.com
عادة ما نتحدث عن الهدوء في النقاش، وخضوعه للعمق الفكري والطرح العلمي، كلما ابتعدنا عن ذروة الصراع ولحظة القوة في التدافع، وعادة ما يندفع إلى الواجهة متخصصون في التحليل، وأصحاب التريث في الدرس واستخراج نتائج التدافع الآنف الوقوع، لتعيد الأمور إلى نصابها وتحدد المسار الصائب والطرح القوي من الضعيف، لكننا وحدنا فقط نعيد الوقائع ذاتها، ونجبر التاريخ على تكرار نفسه، كما يقع اليوم مع النقاش المتجدد للحرف الأجدر لتكتب به اللغة الأمازيغية.
تمة خيط رفيع بين صراع اليوم وصراع الأمس، فوحدها الأقلام التي تجتر النقاش اليوم تعلم خلفيات ما وقع قبل عشر سنوات، وكيف تحول من أصله في علم اللسانيات وفقه اللغة إلى صراع إديولوجي، تطاحنت بسببه التيارات السياسية، وحولت جمعيات مدنية بوصلتها نحو ساحة معركة واحدة تروم إقرار مخططها وأهدافها في أي الحروف ستكتب به لغة "الرجال الأحرار".
1
لقد انتقد أحمد عصيد ما اعتبره توظيفا لفكر وتصور المختار السوسي في معركة الحرف الذي يجدر أن تكتب به الأمازيغية، وقدم "تبريرات" تفصل بين فكر المختار السوسي " الفقيه السلفي" والحركة الأمازيغية، معتبرا أن الحرف الذي كتب به السوسي فكره لم يكن له بديل حينذاك، وينسى عصيد أو يتناسى أنه كان مؤسسا ورئيسا لتحرير أول مجلة ثقافية تصدر موادها الأمازيغية بالحرف العربي وكان ذلك سنة 1995 (أي قبيل معركة الحرف بسنوات قليلة) وهي مجلة "تاوسنا"، والتي أدارها محمد مستاوي.
فإذا كان عصيد اعتبر أن السوسي كتب بالأمازيغية في عصر لم يكن فيه غير الحرف العربي، وتوفي أربع سنوات قبيل بروز أولى ملامح الحركات الأمازيغية، فما الذي سيقوله عن المجلة التي كان رئيسا لتحريرها وكتبت بنفس الحرف، الذي لا يؤمن بأهليته لكتابة الامازيغية، بعد ظهور الحركات الأمازيغية بعقود ؟
2
وهل ينسى عصيد تقلُّبه في مسألة الحرف في محاضرة رد فيها على عبد الكريم غلاب حول الفرنكفونية ونقلها الدكتور سعد الدين العثماني في مقال له نشر بمجلة " الفرقان"، وصرح عصيد حينها بالقول ""...ينبغي أولا أن نعلم بأن النقاش الدائر حول الحرف هو نقاش محض أيديولوجي وليس نقاشا تقنيا بين مختصين في علوم اللغة. إن الذي يختار الحرف اللاتيني لكتابة الأمازيغية داخل المغرب إنما يفعل ذلك ضدا على برنامج التعريب الذي يروم السيادة المطلقة للعربية، وهو بذلك يفصل الأمازيغية عن المجال الثقافي العربي ـ
الإسلامي ويدرجها في مجال أجنبي، أما الذي يختار الحرف العربي لكتابة الأمازيغية فهو الذي لا يخلط بين العربية وسياسة التعريب، ويعطي الأولوية للإطار الوطني الذي يجمع العربية والأمازيغية في نسيج ثقافي مشترك، ويرفض الانتقام من العربية ردا على سياسة تهميش الأمازيغية، وأما الذي يختار الحرف العريق "تيفيناغ" فهو يهدف إلى إثبات الاستقلال التام للأمازيغية كنسق لساني عن العربية وعن اللغة الأجنبية وينطلق من مبدإ "مثلما لكل لغة حرفها، فإن للأمازيغية أيضا حرفها الخاص".
وينسى عصيد أو يتناسى أنه كان من دعاة كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني إلى حدود تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لينتقل إلى الدعوة إلى كتابتها بحرف "تيفناغ" ضدا على العربية والحرف العربي وانتقاما من "سياسية التعريب".
3
إن ظروف إعادة طرح قضية الحرف الأمازيغي، يجب أن لا يكون من أجل إعادة إنتاج ذات الجدل، ومعاودة نفس النقاش العمومي، وبالتالي نفس المآلات لملف لا يهم فئة واحدة من المجتمع، أو "النخبة الأمازيغية" لوحدها، بل يهم المغاربة بدون استثناء، باعتبارها إحدى المكونات الأساسية لهويتهم وتاريخهم وحضارتهم.
ويمكن البحث في تفاصيل الملف (الحرف) بطرح الأسئلة نفسها التي طرحها المدافعون عن الحرفين "اللاتيني" و"تيفناغ"، بناء على الحقائق التالية:
1- العودة إلى تفاصيل النقاش يؤكد أن المدافعين عن حرف "تيفناغ" لا يتجاوز عناصر قليلة من "النخبة الأمازيغية" إضافة إلى الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، بينما كان أغلب الحركات الأمازيغية تدافع عن الحرف اللاتيني، باعتباره حرفا كونيا "سيحقق التطور الاقتصادي والثقافي والفكري..."
2- اللجوء إلى تبريرات غير مقنعة على المستوى الفونولوجي والمرفولجي للغة الأمازيغية، لتبرير "عدم أهلية الحرف العربي لكتابة الأمازيغية".
3- الحسم بالتصويت في البرلمان، يعد ضربا من الجنون، ذلك أن مسألة الحرف علمية وليست مسألة سياسية.
إن كتابة الأمازيغية بحرف "تيفناغ" يعد حجر عثرة في وجه انتشارها بشكل واسع، وفي نفوذها إلى أوساط المتحدثين بالدارجة المغربية لوحدها، وحدٌّ من التفاعل الذي تمكنت من رص مساره طيلة قرون من الزمن مع اللغة العربية... انتهت اليوم على أيدي المنافحين "فجأة" عن الحرف الجديد، بسياقة مبررات تجمع "المرفولوجي" و"الأركيولوجي"، والحال أنها كلها لم تخضع لدراسة معمقة.
لقد حسمنا مسألة علمية صرفة، بجدل سياسي معقد، وأنهينا ،أو بالأحرى، أكرهنا الأمازيغية للخضوع لنزواتنا الإديلوجية، وتدفع ثمن عقوقنا... ظننا أننا نخدم الأمازيغية ونعمل على إعلاء كلمتها، والحال أننا نرمي باللغة في مستنقع الجمود.
Jaouad800@gmail.com