محمد أحداد
في كتاب من ديوان السياسة للمفكر المغربي عبد الله العروي إشارات بليغة حول الجهوية الموسعة، وهي خلاصات لم يأنس بها الفاعل السياسي المغربي، بل إن الطريقة التي يناقش بها موضوع كبير من حجم الجهوية الموسعة تثبت إلى أي مدى أن الفاعل السياسي غافل عن نقاش آخر أكثر عمقا من الهواجس الانتخابية الظرفية. العروي قال إن استحضار التجذر التاريخي في التقسيم الجهوي ضروري جدا لضمان الانسجام، وفي موضع آخر يقول إن مشكلة «تنزيل» الجهوية هي في الأساس مشكلة نفسية، حيث لا يقدر المركز على التخلي عن جزء من صلاحياته التي ألفها منذ أكثر ستين سنة.
ما لم يفهمه غالبية الذين يناقشون، يتحفظون، يغضبون من المرسوم الحالي الذي أعدته الحكومة حول التقطيع الانتخابي كونهم لا يعرفون أن الجهوية الموسعة ليست أداة لكسب المغانم الانتخابية أو التدافع السياسي وإنما تحول جوهري في التدبير الإداري للدولة. معنى ذلك أن الجهوية الموسعة لو طبقت بمضمونها الحقيقي وفوضت لها صلاحيات متماسكة، فإن الدولة ستنتقل من تدبير «يعقوبي» ورثته من عهد الاستعمار الفرنسي إلى نظام جديد في تسيير نظام الدولة يقوم على لامركزية إدارية، وهي مقدمة أولى نحو إنشاء جهات قوية قادرة على تسيير نفسها بنفسها.
مهما يكن النقاش الحاصل الآن على جميع الجبهات، فإن الثابت أن اختيار الجهوية ليس خيارا سهلا، بالنظر إلى أن شكل الدولة سيتغير وستصبح الجهة أقوى من المركز، الشيء الذي يفرض على الجميع الآن استحضار نقاش جديد حول ماهية الاختصاصات التي ستخول إلى رؤساء الجهات وحول قدرة النخب على تسيير الجهة ومدى توفر الدولة على الإرادة السياسية لإنجاح هذا المشروع.
ويطرح مشروع الجهوية الموسعة تحديات أخرى من قبيل قدرة الأحزاب السياسية، بوضعيتها الحالية، على حمل المشروع وتنزيله وعلى استعداد المركز لـ»تفويت» جزء من صلاحياته إلى الجهات بطريقة سلسة. في المرحلة الراهنة يبدو النقاش خافتا حول هذه المواضيع وعدا بعض الأصوات القليلة التي لامست جوهر السجال الذي من المفترض أن ينهض بخصوص الجهوية الموسعة، بقي السياسيون حبيسي نقاشات «تافهة» تحكمها هواجس انتخابية. على هذا الأساس قد نفهم «حيص بيص» التي أثيرت غداة إعلان الحكومة عن المرسوم المتعلق بالتقطيع الانتخابي للجهات الذي بموجبه يتقلص من 16 إلى 12، ففي الوقت الذي كان من المفروض أن يتجه النقاش نحو اختصاصات هذه الجهات وصلاحيات رؤسائها، لاسيما أن الملك دعا في كل الخطابات التي تحدث فيها عن الجهوية الموسعة إلى إرساء مشروع قوي، انصرف الفرقاء السياسيون إلى تصفية حساباتهم السياسية الضيقة، وتحول موضوع التقطيع الجهوي إلى إشكال جهوي رغم أنه إذا أفرغ من مضمونه سيكون التقطيع مجرد»هرج سياسي».
المواجهة التي اشتعلت بين الأحزاب السياسية حول التقطيع الجهوي تحمل في طياتها علامات استفهام كثيرة حول من له نية مقصودة أو غير مقصودة لتقزيم مشروع كبير اسمه الجهوية الموسعة. قبل هذا النقاش عبرت فعاليات سياسية كثيرة عن تحفظها من الخلاصات التي توصل إليها عمر عزيمان، رئيس اللجنة الاستشارية للجهوية، لاسيما ما يتصل بالتقطيع الترابي، ولم نسمع عن أحد يناقش طبيعة الجهوية التي يريد المغرب أن ينخرط فيها.
الثابت أن الدولة تريد تدبيرا جديدا لنظامها الإداري الذي لم يتبدل منذ الاستقلال أي أن الجهات أصبحت مدعوة لاستنفار كل إمكانياتها من أجل إعلان الطلاق مع تدبير مركزي يوصف بالبيروقراطي وغير الناجع. في الجارة الشمالية إسبانيا كان هناك نقاش حاد احتضنته وسائل الإعلام الخاصة والعمومية والجامعات وكان هناك سؤال واحد حاول الجميع الإجابة عنه: هل سيفضي النظام الجهوي إلى خلق نخب جديدة، أم أن النخب هي القادرة على تأسيس جهوية قوية؟
الأكيد أن الإجابة عن السؤال شبيهة جدا بالسؤال البسيط: من سبق الدجاجة أم البيضة؟، والحال أن إسبانيا ذهبت بعيدا في منح صلاحيات واسعة للجهات وأرسى الباحثون الإسبان مبدأ جديدا أطلق عليه «الثقة في الجهات» قوامه إعطاء فرص متساوية لجميع الجهات لتتنافس ولم يسبق لأي مسؤول إسباني أن قال إن الجهات لا تستطيع أن تسير نفسها.
أمام المغرب فرصة تاريخية لتبني نموذج جديد للتنمية أثبت نجاعته في الكثير من بلدان العالم، شريطة أن يبتعد النقاش عن الجهوية بمفهوم انتخابي ضيق تتصارع فيه المصالح لا الأفكار، التي يمكن أن تشكل نواة لجهوية صلبة يتوفر فيها رئيس الجهة على صلاحيات قوية، ويملك فيها المواطنون القدرة على اتخاذ القرار دون الرجوع إلى »وصاية المركز».
ينبغي أن يتركز السجال حول الإمكانيات التي يتيحها المشروع الجديد، بما فيها تذليل الفوارق الطبقية وإيجاد حلول لمشاكل البطالة والصحة والتعليم، وفوق ذلك على السياسيين المغاربة أن يطرحوا نقاشا أكثر جرأة يتعلق بخطوط التماس بين صلاحيات الولاة والعمال وبين صلاحية رؤساء الجهات في ظل المشروع الحالي..هذا هو النقاش الحقيقي أما تصريف «الأحقاد القبلية» و»النعرات السياسية» فسيعيد العجلة السياسية المغربية إلى الرباط مرة أخرى.
في كتاب من ديوان السياسة للمفكر المغربي عبد الله العروي إشارات بليغة حول الجهوية الموسعة، وهي خلاصات لم يأنس بها الفاعل السياسي المغربي، بل إن الطريقة التي يناقش بها موضوع كبير من حجم الجهوية الموسعة تثبت إلى أي مدى أن الفاعل السياسي غافل عن نقاش آخر أكثر عمقا من الهواجس الانتخابية الظرفية. العروي قال إن استحضار التجذر التاريخي في التقسيم الجهوي ضروري جدا لضمان الانسجام، وفي موضع آخر يقول إن مشكلة «تنزيل» الجهوية هي في الأساس مشكلة نفسية، حيث لا يقدر المركز على التخلي عن جزء من صلاحياته التي ألفها منذ أكثر ستين سنة.
ما لم يفهمه غالبية الذين يناقشون، يتحفظون، يغضبون من المرسوم الحالي الذي أعدته الحكومة حول التقطيع الانتخابي كونهم لا يعرفون أن الجهوية الموسعة ليست أداة لكسب المغانم الانتخابية أو التدافع السياسي وإنما تحول جوهري في التدبير الإداري للدولة. معنى ذلك أن الجهوية الموسعة لو طبقت بمضمونها الحقيقي وفوضت لها صلاحيات متماسكة، فإن الدولة ستنتقل من تدبير «يعقوبي» ورثته من عهد الاستعمار الفرنسي إلى نظام جديد في تسيير نظام الدولة يقوم على لامركزية إدارية، وهي مقدمة أولى نحو إنشاء جهات قوية قادرة على تسيير نفسها بنفسها.
مهما يكن النقاش الحاصل الآن على جميع الجبهات، فإن الثابت أن اختيار الجهوية ليس خيارا سهلا، بالنظر إلى أن شكل الدولة سيتغير وستصبح الجهة أقوى من المركز، الشيء الذي يفرض على الجميع الآن استحضار نقاش جديد حول ماهية الاختصاصات التي ستخول إلى رؤساء الجهات وحول قدرة النخب على تسيير الجهة ومدى توفر الدولة على الإرادة السياسية لإنجاح هذا المشروع.
ويطرح مشروع الجهوية الموسعة تحديات أخرى من قبيل قدرة الأحزاب السياسية، بوضعيتها الحالية، على حمل المشروع وتنزيله وعلى استعداد المركز لـ»تفويت» جزء من صلاحياته إلى الجهات بطريقة سلسة. في المرحلة الراهنة يبدو النقاش خافتا حول هذه المواضيع وعدا بعض الأصوات القليلة التي لامست جوهر السجال الذي من المفترض أن ينهض بخصوص الجهوية الموسعة، بقي السياسيون حبيسي نقاشات «تافهة» تحكمها هواجس انتخابية. على هذا الأساس قد نفهم «حيص بيص» التي أثيرت غداة إعلان الحكومة عن المرسوم المتعلق بالتقطيع الانتخابي للجهات الذي بموجبه يتقلص من 16 إلى 12، ففي الوقت الذي كان من المفروض أن يتجه النقاش نحو اختصاصات هذه الجهات وصلاحيات رؤسائها، لاسيما أن الملك دعا في كل الخطابات التي تحدث فيها عن الجهوية الموسعة إلى إرساء مشروع قوي، انصرف الفرقاء السياسيون إلى تصفية حساباتهم السياسية الضيقة، وتحول موضوع التقطيع الجهوي إلى إشكال جهوي رغم أنه إذا أفرغ من مضمونه سيكون التقطيع مجرد»هرج سياسي».
المواجهة التي اشتعلت بين الأحزاب السياسية حول التقطيع الجهوي تحمل في طياتها علامات استفهام كثيرة حول من له نية مقصودة أو غير مقصودة لتقزيم مشروع كبير اسمه الجهوية الموسعة. قبل هذا النقاش عبرت فعاليات سياسية كثيرة عن تحفظها من الخلاصات التي توصل إليها عمر عزيمان، رئيس اللجنة الاستشارية للجهوية، لاسيما ما يتصل بالتقطيع الترابي، ولم نسمع عن أحد يناقش طبيعة الجهوية التي يريد المغرب أن ينخرط فيها.
الثابت أن الدولة تريد تدبيرا جديدا لنظامها الإداري الذي لم يتبدل منذ الاستقلال أي أن الجهات أصبحت مدعوة لاستنفار كل إمكانياتها من أجل إعلان الطلاق مع تدبير مركزي يوصف بالبيروقراطي وغير الناجع. في الجارة الشمالية إسبانيا كان هناك نقاش حاد احتضنته وسائل الإعلام الخاصة والعمومية والجامعات وكان هناك سؤال واحد حاول الجميع الإجابة عنه: هل سيفضي النظام الجهوي إلى خلق نخب جديدة، أم أن النخب هي القادرة على تأسيس جهوية قوية؟
الأكيد أن الإجابة عن السؤال شبيهة جدا بالسؤال البسيط: من سبق الدجاجة أم البيضة؟، والحال أن إسبانيا ذهبت بعيدا في منح صلاحيات واسعة للجهات وأرسى الباحثون الإسبان مبدأ جديدا أطلق عليه «الثقة في الجهات» قوامه إعطاء فرص متساوية لجميع الجهات لتتنافس ولم يسبق لأي مسؤول إسباني أن قال إن الجهات لا تستطيع أن تسير نفسها.
أمام المغرب فرصة تاريخية لتبني نموذج جديد للتنمية أثبت نجاعته في الكثير من بلدان العالم، شريطة أن يبتعد النقاش عن الجهوية بمفهوم انتخابي ضيق تتصارع فيه المصالح لا الأفكار، التي يمكن أن تشكل نواة لجهوية صلبة يتوفر فيها رئيس الجهة على صلاحيات قوية، ويملك فيها المواطنون القدرة على اتخاذ القرار دون الرجوع إلى »وصاية المركز».
ينبغي أن يتركز السجال حول الإمكانيات التي يتيحها المشروع الجديد، بما فيها تذليل الفوارق الطبقية وإيجاد حلول لمشاكل البطالة والصحة والتعليم، وفوق ذلك على السياسيين المغاربة أن يطرحوا نقاشا أكثر جرأة يتعلق بخطوط التماس بين صلاحيات الولاة والعمال وبين صلاحية رؤساء الجهات في ظل المشروع الحالي..هذا هو النقاش الحقيقي أما تصريف «الأحقاد القبلية» و»النعرات السياسية» فسيعيد العجلة السياسية المغربية إلى الرباط مرة أخرى.