المصطفى المريزق
إن التجارب التي عاشتها منطقة الريف وجبالة، لم تكتب بعد بالشكل المطلوب، ولا زالت لا تدرس في المدارس والجامعات، مما يجعلنا نحاول اليوم مضطرين للنبش في هذا الماضي المنسي، ليس حبا في الإطلاع أو نزوة فكرية عابرة، بل لاستحضار ذلك التاريخ الذي يدل على أشياء ووقائع أقوى وأعمق من ذلك بكثير. ولهذا بعد الفحص والنبش والتروي، تراءى لي أن أتقاسم معكم (في هذه الحلقة) جزءً ممَّا حصل منذ الاستقلال إلى سنة 1958.
قلت فيما سبق، بعد تخوين محمد بن عبد الكريم وحركته، وقطع جذور شجرة الانتماء الوطني، وعرقلة إرادة التحرر من الاستعمار بسواعد جيش التحرير في جبال الريف، عاش المغرب قصصا وروايات بدأت مع ميلاد "الحزب الوطني" سنة 1937، وانتخاب علال الفاسي أمينا عاما للحزب، وهذا ما فجر الحزب منذ البداية، ليعلن محمد بن الحسن الوزاني انفصاله ويؤسس “الحركة القومية” التي ستكون النواة الأولى لحزب الشورى والاستقلال الذي تأسس بعد عودة بن الحسن الوزاني من منفاه سنة 1946.
هكذا كانت بداية الصراع، قبل تأسيس حزب الاستقلال سنة 1944.. ليصل مداه إلى تهميش الريف، الذي وجد نفسه أمام قيادات إدارية وحزبية جديدة، قادمة من المنطقة السلطانية الخليفية، ومن أحضان السلطة "القيدية" الحاقدة على التوجه السياسي الخطابي وأنصاره. إنها الصدمة الثانية بعد نفي زعيم حركة التحرير بن عبد الكريم، التي تلقاها الريفيون، والذين تم نعتهم وقتذاك بـ "أولاد الصبنيول".
ومعلوم أن الحزب المعلوم، وجدها فرصة، ليستولي على إرث وتراث المقاومة، بمعية أعوان السلة المخزنية، من دون أدنى اعتبار للمنطقة وتضحياتها وأبناءها ونخبها، وهو ما نتج عنه علاقة عدائية بين سكان الريف وجبالة والسلطة الجديدة، توجت بانتفاضة 1958/1959.
نعم، وكما تحكي المراجع والدراسات والوقائع التاريخية، لقد كان لمحمد بن عبد الكريم الخطابي رأي آخر، عبر عنه من خلال “لجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة” والحامل لمطلب انسحاب فرنسا من شمال إفريقيا وإجبار فرنسا على اعتماد التفاوض الجماعي على الاستقلال عن طريق الكفاح المسلح من أجل التحرير، بينما ظل علال الفاسي يطالب بحماية واسترجاع أمن الدولة.
على أي، فالمهم من كل هذا هو احتكار الحزب الجديد للاستقلال والوطنية والسياسة والإدارة، وتحالف غالبيته مع القصر، ما جعله ينفجر من جديد لينشق عنه “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”. طبعا، كل هذه التحولات خلفت جراحا وآلامَ ومآسيَ، خاصة بعدما تم من جديد احتكار الفكر الثوري من طرف الثوريين الجدد، وتهميش النخب العسكرية والسياسية الريفية، وتخوينها من جديد واتهامها بالعمالة والانفصالية المدسوسة في الحزب “الثوري” الجديد. وكانت هذه صدمة ثالثة، خصوصا حينما شكل السلطان حكومة ثانية في 1957، بقيادة مبارك البكاي (للمرة الثانية)، وكان معظم وزراء هذه الحكومة من حزب الاستقلال. هذا الحزب الذي خاض معركة حامية الوطيس من أجل الانفراد بالسلطة من دون الشوريين وما كان يسمى بالأحرار، لضرب التعددية للحزبية في مغرب ما بعد الاستقلال. وهو ما نتج عنه حراك شعبي في الريف الأوسط والشرقي وفي الأطلس (حركة تمرد بعض القواد).
هذه هي المرحلة التي لا يعرف عنها بنات وأبناء المغرب أي شيء، والتي من دونها لا يمكن فهم ما يجري اليوم في حراك الريف. إنها مرحلة ضرب ما تبقى من حلم الحركة الخطابية ومشروعها السياسي، ونضالها من أجل الاستقلال الحر والشامل وتحقيق العدالة الاجتماعية. إنها مرحلة الصدام المباشر بين حزب الاستقلال وحزب الشورى وجيش التحرير. وخاصة لما تمت تصفية أحد أبرز مؤسسي جيش التحرير المغربي، عباس المساعدي، في 27 يونيو 1956، وأحد أبرز وجوه المدرسة الخطابية، بتهمة “الاستعداد للثورة على الأوضاع”. لتبقى قصة تصفيته، لغزا محيرا، وجرحا لم يندمل لدى عموم الريفيين.
ويرى المؤرخون أن مقتل عباس المسعدي، أهم محطة في تاريخ الريف قبل أحداث خريف الريف 1958، التي فجرت انتفاضة الريف التي تم إخمادها بالقوة بداية 1959.
ومن جديد، وكما أشرت منذ الحلقة الأولى، أستحضر هذه النتف من هنا وهناك، للتأكيد على أن قضية الريف وجبالة، قضية لها خصوصيتها التاريخية، مثل باقي المناطق المغربية، لكننا، وبشكل خاص، نسلط الضوء على الريف لمحاولة فهم ما يجري هناك اليوم، وللتأكيد على أن أوضاع الريف هي موروث تاريخي يبلغ عمره 100 سنة، من الكفاح والتهميش والحكرة والاستبعاد السياسي والثقافي والاجتماعي، ولنقول للجهلة والعطاشة السياسويين والنكوصيين، أن من يتهم إلياس العمري أو البام أو غيره، فهو غافل وجاهل ومريض..
وفي نهاية هذه الحلقات سننشر لائحة من المراجع والوثائق التي نتوفر عليها، قصد تعميق البحث.. لنواصل معا.
إن التجارب التي عاشتها منطقة الريف وجبالة، لم تكتب بعد بالشكل المطلوب، ولا زالت لا تدرس في المدارس والجامعات، مما يجعلنا نحاول اليوم مضطرين للنبش في هذا الماضي المنسي، ليس حبا في الإطلاع أو نزوة فكرية عابرة، بل لاستحضار ذلك التاريخ الذي يدل على أشياء ووقائع أقوى وأعمق من ذلك بكثير. ولهذا بعد الفحص والنبش والتروي، تراءى لي أن أتقاسم معكم (في هذه الحلقة) جزءً ممَّا حصل منذ الاستقلال إلى سنة 1958.
قلت فيما سبق، بعد تخوين محمد بن عبد الكريم وحركته، وقطع جذور شجرة الانتماء الوطني، وعرقلة إرادة التحرر من الاستعمار بسواعد جيش التحرير في جبال الريف، عاش المغرب قصصا وروايات بدأت مع ميلاد "الحزب الوطني" سنة 1937، وانتخاب علال الفاسي أمينا عاما للحزب، وهذا ما فجر الحزب منذ البداية، ليعلن محمد بن الحسن الوزاني انفصاله ويؤسس “الحركة القومية” التي ستكون النواة الأولى لحزب الشورى والاستقلال الذي تأسس بعد عودة بن الحسن الوزاني من منفاه سنة 1946.
هكذا كانت بداية الصراع، قبل تأسيس حزب الاستقلال سنة 1944.. ليصل مداه إلى تهميش الريف، الذي وجد نفسه أمام قيادات إدارية وحزبية جديدة، قادمة من المنطقة السلطانية الخليفية، ومن أحضان السلطة "القيدية" الحاقدة على التوجه السياسي الخطابي وأنصاره. إنها الصدمة الثانية بعد نفي زعيم حركة التحرير بن عبد الكريم، التي تلقاها الريفيون، والذين تم نعتهم وقتذاك بـ "أولاد الصبنيول".
ومعلوم أن الحزب المعلوم، وجدها فرصة، ليستولي على إرث وتراث المقاومة، بمعية أعوان السلة المخزنية، من دون أدنى اعتبار للمنطقة وتضحياتها وأبناءها ونخبها، وهو ما نتج عنه علاقة عدائية بين سكان الريف وجبالة والسلطة الجديدة، توجت بانتفاضة 1958/1959.
نعم، وكما تحكي المراجع والدراسات والوقائع التاريخية، لقد كان لمحمد بن عبد الكريم الخطابي رأي آخر، عبر عنه من خلال “لجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة” والحامل لمطلب انسحاب فرنسا من شمال إفريقيا وإجبار فرنسا على اعتماد التفاوض الجماعي على الاستقلال عن طريق الكفاح المسلح من أجل التحرير، بينما ظل علال الفاسي يطالب بحماية واسترجاع أمن الدولة.
على أي، فالمهم من كل هذا هو احتكار الحزب الجديد للاستقلال والوطنية والسياسة والإدارة، وتحالف غالبيته مع القصر، ما جعله ينفجر من جديد لينشق عنه “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”. طبعا، كل هذه التحولات خلفت جراحا وآلامَ ومآسيَ، خاصة بعدما تم من جديد احتكار الفكر الثوري من طرف الثوريين الجدد، وتهميش النخب العسكرية والسياسية الريفية، وتخوينها من جديد واتهامها بالعمالة والانفصالية المدسوسة في الحزب “الثوري” الجديد. وكانت هذه صدمة ثالثة، خصوصا حينما شكل السلطان حكومة ثانية في 1957، بقيادة مبارك البكاي (للمرة الثانية)، وكان معظم وزراء هذه الحكومة من حزب الاستقلال. هذا الحزب الذي خاض معركة حامية الوطيس من أجل الانفراد بالسلطة من دون الشوريين وما كان يسمى بالأحرار، لضرب التعددية للحزبية في مغرب ما بعد الاستقلال. وهو ما نتج عنه حراك شعبي في الريف الأوسط والشرقي وفي الأطلس (حركة تمرد بعض القواد).
هذه هي المرحلة التي لا يعرف عنها بنات وأبناء المغرب أي شيء، والتي من دونها لا يمكن فهم ما يجري اليوم في حراك الريف. إنها مرحلة ضرب ما تبقى من حلم الحركة الخطابية ومشروعها السياسي، ونضالها من أجل الاستقلال الحر والشامل وتحقيق العدالة الاجتماعية. إنها مرحلة الصدام المباشر بين حزب الاستقلال وحزب الشورى وجيش التحرير. وخاصة لما تمت تصفية أحد أبرز مؤسسي جيش التحرير المغربي، عباس المساعدي، في 27 يونيو 1956، وأحد أبرز وجوه المدرسة الخطابية، بتهمة “الاستعداد للثورة على الأوضاع”. لتبقى قصة تصفيته، لغزا محيرا، وجرحا لم يندمل لدى عموم الريفيين.
ويرى المؤرخون أن مقتل عباس المسعدي، أهم محطة في تاريخ الريف قبل أحداث خريف الريف 1958، التي فجرت انتفاضة الريف التي تم إخمادها بالقوة بداية 1959.
ومن جديد، وكما أشرت منذ الحلقة الأولى، أستحضر هذه النتف من هنا وهناك، للتأكيد على أن قضية الريف وجبالة، قضية لها خصوصيتها التاريخية، مثل باقي المناطق المغربية، لكننا، وبشكل خاص، نسلط الضوء على الريف لمحاولة فهم ما يجري هناك اليوم، وللتأكيد على أن أوضاع الريف هي موروث تاريخي يبلغ عمره 100 سنة، من الكفاح والتهميش والحكرة والاستبعاد السياسي والثقافي والاجتماعي، ولنقول للجهلة والعطاشة السياسويين والنكوصيين، أن من يتهم إلياس العمري أو البام أو غيره، فهو غافل وجاهل ومريض..
وفي نهاية هذه الحلقات سننشر لائحة من المراجع والوثائق التي نتوفر عليها، قصد تعميق البحث.. لنواصل معا.