عبد الله بوصوف:
أتابع بشكل كبير كل ردود الفعل والتعليقات حول موائد استقبال النظام العسكري الجزائري لضيوفه ومحتويات تلك الموائد؛ وبعيدا عن طابع السخرية من تلك الموائد التي تغزو شبكات التواصل الاجتماعي وعن طابع السطحية التي يحاول البعض إلصاقها بكل تلك الانتقادات اللاذعة، فإنها تحمل إشارات قوية عن إدراك أولئك المعلقين والمنتقدين لدور المطبخ في السياسة، حتى إن بعض الباحثين علق على أن السياسة تصنع حول مائدة الطعام.
لقد اعتبر العديد من الباحثين أن مكونات مأدبة الطعام هي لغة تواصل سياسية، إذ لا تتم برمجة غداء أو عشاء أو إفطار لجميع الضيوف. وبالمعنى المخالف، فإنه عندما تنظم تلك المأدبات فهي علامة على قوة العلاقة ومتانة المصالح السياسية والاقتصادية؛ لأن مائدة الطعام تعني أيضا المشاركة والإشراك وتقاسم الأطباق والأذواق نفسها. كما أن مكونات تلك المائدة عادة تعبر عن الغنى الثقافي والحضاري لذلك البلد حتى أصبح “فن الطهو” أحد التعابير السياسية والاجتماعية والثقافية عن أصالة ذلك البلد وهويته الوطنية (gastronationalism)، ويمكن من جانبنا وصفه بأحد تعابير “تمغرابيت”.
التاريخ يخبرنا عن لقاءات سياسية مفصلية حول مائدة الطعام، منها لقاء هتلر وموسوليني سنة 1938، ولقاء الأمريكي نيكسون والوزير الأول الصيني زو إنلاي سنة 1972، ولقاء الفرنسي ميتران والبريطانية مارغريت تاتشر، ولقاء الرئيس شراك مع الألماني شولدرز، والعشاء الخاص الذي نظمه ايمانويل ماكرون يوم 2 ماي 2024 بمطعم برج إيفل على شرف الألماني شولز وفسره المعلقون بأنه من أجل التنسيق في أفق استقبال ماكرون الرئيس الصيني في بحر ذلك الأسبوع من شهر ماي، مع التذكير بأن الألماني شولز كان في بيكين شهرا قبل ذلك، وهو الجانب الذي أثار شهية البحث لدى العديد من الكتاب، سواء في أمريكا أو فرنسا أو إيطاليا أو بريطانيا، وخصصوا له مصطلحا خاصا يدخل في إطار الدبلوماسية الناعمة أي “La gastrodiplomacy”.
ليس هذا فحسب، بل هناك دول استثمرت موروثها من الوصفات الغذائية في تحسين صورتها بالخارج، كدولة تايلاند مثلا التي خصصت سنة 2002 برنامجا عالميا لتصدير أطباقها إلى الخارج، وكان الهدف هو رفع عدد المطاعم التايلاندية من 5 آلاف إلى 500 ألف. النتيجة هي أنه سنة 2011 وصل عدد مطاعم تايلاند في الخارج إلى 10 آلاف و15 ألفا سنة 2018، نصفها في الولايات المتحدة الأمريكية. ورافق ذلك ارتفاع الطلب على المواد الأولية لصناعة تلك الأطباق خارج تايلاند مع خلق علامة خاصة والرفع من عدد السياح إلى تايلاند إلى 30 مليون سائح سنة 2023.
الشيء نفسه يقال عن كوريا الجنوبية المشهورة بصناعة السيارات والتكنولوجيا، لكنها استثمرت في موروث أطباقها الغذائية ورفعت من عدد المطاعم خارج كوريا الجنوبية من 10 آلاف مطعم سنة 2007 إلى 40 ألف مطعم سنة 2017.
فأهمية موائد الطعام والأطباق الأصيلة في حفظ الهوية الوطنية والحضارية ودورها في جذب السياح والاستثمارات الأجنبية، وقوتها في مجال التواصل السياسي والدبلوماسية الناعمة، جعلها تحظى بمسابقات عالمية وترتيبات الإقبال عليها سنويا، ومضمونا لسياسات عمومية للدول في مجال حفظ التراث وتسجيل كل ما يتعلق بالأطباق الأصيلة في اليونيسكو كتراث إنساني عالمي، وهو ما جعل الدول ترتبط بأنواع أطباقها التاريخية، كالبيتزا الإيطالية والكباب التركي والسوشي الياباني والبايلا الإسبانية والكيمشي الجنوب كوري وهامبرغر الأمريكي والخبز الباريسي، والكسكس والطاجين المغربيين… وغيرها.
لكل ذلك، فعندما نجد تعليقات ساخرة من موائد النظام العسكري الجزائري أثناء استقبال ضيوف النظام، فلأن الذاكرة الجماعية المغربية تحتفظ بموائد تاريخية لملوك المغرب، وما تتميز به من غنى وتنوع وطقوس خاصة. فمن كان يتصور مثلا أن الملكة إليزابيت الثانية ستأكل بيدها وحسب الطقوس المغربية، وليس بالشوكة والسكين، ومن طبق واحد، وقد فعلتها على مائدة الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1980؟
أو موائد الملك محمد السادس، نصره الله، على شرف ضيوفه الكبار وما يميزها من أصالة وعراقة ليس في الأكل المغربي فحسب، بل وما تقدمه من صور جميلة عن تنوع وغنى الصناعة التقليدية، سواء على مستوى مائدة الطعام أو الطقوس التي ترافق تقديم الطعام بالجلباب المغربي التقليدي، وهو ما جعل الأطباق المغربية الأصيلة تثير اهتمام أعرق الجرائد العالمية وسهلت تسجيلها في لائحة التراث العالمي باليونسكو.
أتابع بشكل كبير كل ردود الفعل والتعليقات حول موائد استقبال النظام العسكري الجزائري لضيوفه ومحتويات تلك الموائد؛ وبعيدا عن طابع السخرية من تلك الموائد التي تغزو شبكات التواصل الاجتماعي وعن طابع السطحية التي يحاول البعض إلصاقها بكل تلك الانتقادات اللاذعة، فإنها تحمل إشارات قوية عن إدراك أولئك المعلقين والمنتقدين لدور المطبخ في السياسة، حتى إن بعض الباحثين علق على أن السياسة تصنع حول مائدة الطعام.
لقد اعتبر العديد من الباحثين أن مكونات مأدبة الطعام هي لغة تواصل سياسية، إذ لا تتم برمجة غداء أو عشاء أو إفطار لجميع الضيوف. وبالمعنى المخالف، فإنه عندما تنظم تلك المأدبات فهي علامة على قوة العلاقة ومتانة المصالح السياسية والاقتصادية؛ لأن مائدة الطعام تعني أيضا المشاركة والإشراك وتقاسم الأطباق والأذواق نفسها. كما أن مكونات تلك المائدة عادة تعبر عن الغنى الثقافي والحضاري لذلك البلد حتى أصبح “فن الطهو” أحد التعابير السياسية والاجتماعية والثقافية عن أصالة ذلك البلد وهويته الوطنية (gastronationalism)، ويمكن من جانبنا وصفه بأحد تعابير “تمغرابيت”.
التاريخ يخبرنا عن لقاءات سياسية مفصلية حول مائدة الطعام، منها لقاء هتلر وموسوليني سنة 1938، ولقاء الأمريكي نيكسون والوزير الأول الصيني زو إنلاي سنة 1972، ولقاء الفرنسي ميتران والبريطانية مارغريت تاتشر، ولقاء الرئيس شراك مع الألماني شولدرز، والعشاء الخاص الذي نظمه ايمانويل ماكرون يوم 2 ماي 2024 بمطعم برج إيفل على شرف الألماني شولز وفسره المعلقون بأنه من أجل التنسيق في أفق استقبال ماكرون الرئيس الصيني في بحر ذلك الأسبوع من شهر ماي، مع التذكير بأن الألماني شولز كان في بيكين شهرا قبل ذلك، وهو الجانب الذي أثار شهية البحث لدى العديد من الكتاب، سواء في أمريكا أو فرنسا أو إيطاليا أو بريطانيا، وخصصوا له مصطلحا خاصا يدخل في إطار الدبلوماسية الناعمة أي “La gastrodiplomacy”.
ليس هذا فحسب، بل هناك دول استثمرت موروثها من الوصفات الغذائية في تحسين صورتها بالخارج، كدولة تايلاند مثلا التي خصصت سنة 2002 برنامجا عالميا لتصدير أطباقها إلى الخارج، وكان الهدف هو رفع عدد المطاعم التايلاندية من 5 آلاف إلى 500 ألف. النتيجة هي أنه سنة 2011 وصل عدد مطاعم تايلاند في الخارج إلى 10 آلاف و15 ألفا سنة 2018، نصفها في الولايات المتحدة الأمريكية. ورافق ذلك ارتفاع الطلب على المواد الأولية لصناعة تلك الأطباق خارج تايلاند مع خلق علامة خاصة والرفع من عدد السياح إلى تايلاند إلى 30 مليون سائح سنة 2023.
الشيء نفسه يقال عن كوريا الجنوبية المشهورة بصناعة السيارات والتكنولوجيا، لكنها استثمرت في موروث أطباقها الغذائية ورفعت من عدد المطاعم خارج كوريا الجنوبية من 10 آلاف مطعم سنة 2007 إلى 40 ألف مطعم سنة 2017.
فأهمية موائد الطعام والأطباق الأصيلة في حفظ الهوية الوطنية والحضارية ودورها في جذب السياح والاستثمارات الأجنبية، وقوتها في مجال التواصل السياسي والدبلوماسية الناعمة، جعلها تحظى بمسابقات عالمية وترتيبات الإقبال عليها سنويا، ومضمونا لسياسات عمومية للدول في مجال حفظ التراث وتسجيل كل ما يتعلق بالأطباق الأصيلة في اليونيسكو كتراث إنساني عالمي، وهو ما جعل الدول ترتبط بأنواع أطباقها التاريخية، كالبيتزا الإيطالية والكباب التركي والسوشي الياباني والبايلا الإسبانية والكيمشي الجنوب كوري وهامبرغر الأمريكي والخبز الباريسي، والكسكس والطاجين المغربيين… وغيرها.
لكل ذلك، فعندما نجد تعليقات ساخرة من موائد النظام العسكري الجزائري أثناء استقبال ضيوف النظام، فلأن الذاكرة الجماعية المغربية تحتفظ بموائد تاريخية لملوك المغرب، وما تتميز به من غنى وتنوع وطقوس خاصة. فمن كان يتصور مثلا أن الملكة إليزابيت الثانية ستأكل بيدها وحسب الطقوس المغربية، وليس بالشوكة والسكين، ومن طبق واحد، وقد فعلتها على مائدة الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1980؟
أو موائد الملك محمد السادس، نصره الله، على شرف ضيوفه الكبار وما يميزها من أصالة وعراقة ليس في الأكل المغربي فحسب، بل وما تقدمه من صور جميلة عن تنوع وغنى الصناعة التقليدية، سواء على مستوى مائدة الطعام أو الطقوس التي ترافق تقديم الطعام بالجلباب المغربي التقليدي، وهو ما جعل الأطباق المغربية الأصيلة تثير اهتمام أعرق الجرائد العالمية وسهلت تسجيلها في لائحة التراث العالمي باليونسكو.