ناظورسيتي - بورتريه
عاد اسم إبن الناظور جمال بنعمر، الدبلوماسي الريفي حاليا، والأممي سابقا، إلى البروز في الساحة الإعلامية الدولية خلال الأيام القليلة الماضية، بعدما وجه له جامع التبرعات الجمهوري إليوت برويدي، المعروف بقربه من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تهما أمام القضاء الأمريكي، تتعلق بـ»الاطلاع على بريده الإلكتروني والتجسس وتسريب فحواه للصحافة الأمريكية»، رافقتها حملة إعلامية غير مسبوقة من الجانب السعودي الإماراتي. في هذا «البورتريه» نعيد بسط مسار خارج المألوف لدبلوماسي اشتغل مع الأمم المتحدة لنحو ربع قرن في بعض أخطر مناطق النزاع في العالم.
تعود جذور جمال بنعمر إلى أسرة ريفية من قبيلة بني ورياغل، رغم أنه ولد في مدينة الناظور في أبريل من سنة 1957، وانتقل في سن الخامسة إلى تطوان. هناك، ولج الطفل النبيه المدرسة وشهد فورة الحركة التلاميذية اليسارية، ثم أصبح أحد رموزها، لينضم وهو يدرس في ثانوية الحمامة البيضاء، إلى حركة “إلى الأمام” التي كان أبراهام السرفاتي، أحد أقطابها الأساسيين. هذا النشاط السياسي المبكر لبنعمر سيكون مآله الاعتقال سنة 1976، وهو مايزال تلميذا، بتهمة المساس بالأمن الوطني ومحاولة قلب النظام وما شابه ذلك من تهم سنوات الجمر والرصاص. يقول بنعمر عن نفسه في إفادة قدمها لمحكمة نيويورك ردا على الدعوى القضائية التي رفعها إليوت برودي “أصبحت شخصًا مهتمًا بقضايا حقوق الإنسان وعملت عليها في سن مبكرة جدًا. شاركت في عدد من المظاهرات السلمية احتجاجا على قمع الحكومة المغربية، عندما كنت طالبا في المغرب. تعلمت في وقت مبكر، عندما اخترت الوقوف إلى جانب ضحايا اعتداءات الحكومة، أن الكلفة ستكون عالية”. ويضيف بنعمر “تم توقيفي واحتجازي سراً وتعرضت للتعذيب في كثير من المرات، طيلة ثماني سنوات. وتوفي والدي بينما كنت في المعتقل”.
قضى بنعمر بعض الوقت رفقة عدد من زملائه في معتقل عين برجة، قبل أن تصدر أحكام نهائية في حق مجموعته سنة 1977 ليتم إرساله إلى السجن المركزي بالقنيطرة. الوجود في السجن لم يثنه عن متابعة النضال والدراسة. فرفقة زملاء الزنازن، خاض واحدا من أطول الإضرابات عن الطعام في تاريخ المغرب (45 يوما). لكنه تابع، كذلك، تحصيله العلمي عن طريق المراسلة وحصل على شهادة الإجازة وشهادتي ماستر اثنتين من جامعة باريس، تخصص القانون الدولي.
«أول حراك»
يروي لحبيب بلكوش، أحد رفقاء بنعمر، أن أستاذه المشرف “أندريه آدم”، استغل فرصة زيارة الملك الحسن الثاني إلى فرنسا سنة 1983 فتقدم بطلب إلى المستشار الملكي، رضى كديرة، رفعه بدوره إلى الملك، ليجد بنعمر نفسه حرا دون سابق إنذار. لكن لسوء حظه، تزامن الإفراج عنه مع اندلاع انتفاضة 1984، فتم توقيفه من جديد لمدة عشرة أيام تعرض خلالها لمختلف أنواع التعذيب، كباقي من اعتقلوا. كان الاعتقال الثاني -على قصر مدته- مؤشرا على أن لا شيء تغير في السنوات الثماني التي قضاها بنعمر في السجن، فقرر الهجرة. حاول بداية الحصول على جواز سفر، لكن كل طلباته قوبلت بالرفض من قبل مصالح وزارة الداخلية. فما كان منه إلا أن طلب من مجموعة من المهربين اصطحابه في إحدى رحلاتهم الكثيرة آنذاك عبر مضيق جبل طارق في اتجاه إسبانيا.
في شبه الجزيرة الإيبيرية سيتم احتضان بنعمر من طرف فرع منظمة العفو الدولية (أمنستي)، قبل أن يواصل مسيرته إلى فرنسا لاستكمال مساره الجامعي، ثم إلى بريطانيا التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه من جامعة لندن للاقتصاد، وعلى حق اللجوء السياسي.
في لندن – يقول بنعمر-“استمريتُ في تغذية شغفي المتمثل في الوقوف بجانب ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من خلال العمل مع منظمة العفو الدولية في لندن كباحث مختص في أفريقيا وقائد فريق داخل هذه المنظمة الدولية”. وركز بنعمر اهتمامه بقضايا الانتهاكات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتواصل هذا الاهتمام حين انتقل إلى مركز كارتر للعمل كمدير ضمن برنامج حقوق الإنسان التابع لجامعة إيموري في ولاية أتلانتا الأمريكية. وخلال هذه الفترة عمل عن كثب مع الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر حول حقوق الإنسان وفض النزاعات.
الأمم المتحدة
لم يطل مقام بنعمر كثيرا في مركز كارتر، حيث سينضم في سنة 1993 إلى اﻷمم المتحدة. وخلال مسيرته المهنية في هذه المنظمة الدولية، عمل في مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وإدارة الشؤون السياسية، والمكتب التنفيذي للأمين العام. كما عمل كمدير مؤقت لمكتب دعم بناء السلام، وكذلك كمدير لوحدة سيادة القانون في مكتب الأمين العام للأمم المتحدة.
ولم تتأخر مواجهة بنعمر مع المغاربة في أروقة الأمم المتحدة، حيث سيصطدم سنة 1995 مع الوفد المغربي الحاضر في نيويورك للدفاع عن حصيلة المغرب الرسمية المتعلقة باحترام التزاماته الدولية فيما يخص حقوق الإنسان، وكان سبب المواجهة حضور أحد رجالات إدريس البصري ضمن الوفد المغربي، وهو قدور اليوسفي، المعروف بتورطه في التعذيب والتنكيل خلال عقد السبعينيات الأسود.
قطيعة بنعمر مع المغرب استمرت حتى بعد وفاة الملك الحسن الثاني سنة 1999، حيث دعا إلى التريث قبل تصديق خطابات العهد الجديد وشعارات المصالحة، وتعامل بكثير من التحفظ مع ما يتم الترويج له بخصوص حقوق الإنسان والقطيعة مع عهد الملك الراحل. حتى إن بنعمر رفض الرجوع إلى المغرب، بعد عودة أبراهام السرفاتي، رغم محاولات الراحل إدريس بنزكري، مهندس عملية الإنصاف والمصالحة، إقناعه بذلك.
لكن بنعمر سيعود اضطراريا من منفاه إلى المغرب. في سنة 2005، يقول بنعمر، “تلقيت خبر وفاة والدتي. وبعد ما يقرب من عشرين عاماً في المنفى، قررت العودة إلى المغرب لأول مرة لحضور جنازتها. وبصفتي سجينا سياسيا سابقا، عرضت علي الحكومة المغربية تعويضاً قررت أن أرفضه. مقابل ذلك، اخترت أن أركز جهودي على الاستمرار في تعزيز المساءلة والتغيير الديمقراطي السلمي”.
التخصص في فض النزاعات
في الأمم المتحدة شارك بنعمر في جهود حل النزاعات والوساطة لتيسير الانتقالات السلمية في أكثر من 40 بلدا تعصف بها الصراعات. ومن بين أهم مهامه الميدانية التي بدأها عام 2002 في أفغانستان بعد انهيار نظام طالبان، حيث قدم المشورة في شؤون الحكم وبناء المؤسسات وصياغة الدستور. وفي أوائل عام 2004، انضم إلى فريق الأمم المتحدة في العراق وقدم المشورة بشأن إنشاء الحكومة المؤقتة، ثم عمل كمبعوث للأمين العام الأممي لدعم مؤتمر الحوار الوطني في العراق، الذي انتخب برلمانًا مؤقتًا جديدًا حينها.
من هذه المهمة، يحتفظ بنعمر بذكرى خاصة تعود إلى أحد أيام صيف 2003. يقول “قُتل اثنان وعشرون من زملائي المقربين في تفجير انتحاري ضد مقر الأمم المتحدة في بغداد في 19 غشت من سنة 2003. كنت عضواً في هذا الفريق، ولكنني لم أكن حاضراً في ذلك الوقت”. ويضيف “في مناسبات أخرى عديدة، تم إطلاق النار عليّ، بما في ذلك حادث استعمل فيه سلاح “الإربجي”، الذي لم ينفجر بأعجوبة”. خطورة المهام لم تثن بنعمر عن الاستمرار في مهمته في العراق، ففي عام 2005، ساعد في إنشاء لجنة الأمم المتحدة لبناء السلام ومكتب دعم بناء السلام وخدم كأول مدير مؤقت لها، وعامي 2006 و2007، عقد العديد من جولات المحادثات الهادئة والسرية مع قادة الجماعات العراقية المتمردة ونجح في إقناع الكثيرين بالتخلي عن العنف.
مأزق اليمن
في عام 2011، سيتم تعيينه مستشارا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة بشأن اليمن. حيث ساهم في صياغة اتفاق للانتقال السياسي، ما جنب حينها البلد سقوطا وشيكا في حرب أهلية شاملة. تلقى الثناء على هذا الجهد من اليمنيين ومن مجلس الأمن، فقد كان اتفاق نقل السلطة في اليمن الوحيد الذي تم التفاوض بشأنه في سياق الربيع العربي وتم دعمه من طرف المنتظم الدولي كنموذج للانتقال السلمي في حل النزاعات، وأيضا كنموذج للأمم المتحدة في مجال الوساطات التي تقوم بها المنظمة. وكاعتراف بمجهوداته، تم إعلانه من طرف صحيفة “يمن تايمز” كرجل السنة، كما تمت ترقيته لمنصب مساعد الأمين العام الأممي في غشت من سنة 2012.
غير أن نجاحات بنعمر في اليمن لم تكن لترضي كل الأطراف. ففي إحاطته لمحكمة نيويورك، اتهم الدبلوماسي المغربي أحد أقرب حلفاء الرباط – دولة الإمارات العربية المتحدة- بالشروع منذ 2012 في الضغط على الأمين العام للأمم المتحدة لإزاحته من منصبه. وهو ما جوبه برفض الأمين العام السابق بان كي مون.
استمر بنعمر في اليمن وأشرف ما بين 2013 و2014 على مؤتمر الحوار الوطني اليمني الذي دام عشرة أشهر وأسفر في نهاية المطاف عن نظام حكم جديد، وأرسى القواعد لصياغة دستور جديد. واعتبرت مخرجات الحوار الوطني ترجمة لمطالب شباب الثورة في دولة مدنية حديثة، وتميزت بتقدمها على كثير من الصعد من قبيل الإقرار بتمثيل المرأة في البرلمان وفي مؤسسات الدولة بنسبة لا تقل عن 30 في المائة.
عندما تصاعد الوضع وسيطر المتمردون الحوثيون على العاصمة صنعاء، وعلى جميع مؤسسات الدولة، آثر بنعمر البقاء في اليمن رغم احتجاج السعوديين ومغادرة كل الدبلوماسيين.
وقاد إثر ذلك مفاوضات الفرصة الأخيرة مع الحوثيين لإنهاء الانقلاب وإعادة العملية السياسية إلى مسارها. في خضم تلك الفوضى، كان بنعمر الوحيد الذي فاوض الحوثيين لإطلاق سراح الرئيس المحتجز عبده ربه منصور هادي، ونجح في رفع الإقامة الجبرية عن رئيس الوزراء وعدد من أعضاء حكومته. كما نجح في إعادة الفرقاء اليمنيين إلى طاولة الحوار، وكان على وشك إقناعهم باتفاق سياسي عندما أطلق التحالف الذي تتزعمه السعودية حملة عسكرية مفاجئة على الحوثيين وقوات الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
تهديدات بالقتل
يقول بنعمر إن الحرب “لم تسمح بحصول اتفاق كان وشيكا بين مختلف الأطراف”، مضيفا “لقد عبرت بصراحة عن معارضتي لتدخل مختلف القوى الخارجية في السياسات اليمنية، وحذرت من العواقب المزعزعة للاستقرار لهذا التدخل العسكري غير المدروس”. موقف لم يعجب قيادة التحالف السعودية الإماراتية، ليتنحى عن منصبه كمبعوث خاص لليمن، مقدما تقريرا نهائيا في أبريل من 2015 يدعو فيه مجلس الأمن إلى اتخاذ إجراءات سريعة وقوية في اليمن، محذرا من أن جرائم حرب قد تكون ارتكبت أثناء القصف الجوي لقوات التحالف الذي تقوده السعودية، وداعيا إلى إجراء تحقيق مستقل لضمان المساءلة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي.
بسبب موقفه من الحرب في اليمن وإحاطته النهائية المقدمة لمجلس الأمن، تعرض بنعمر لحملة إعلامية شرسة من قبل وسائل الإعلام السعودية والإماراتية. وفي هذا السياق، يؤكد بنعمر “تلقيت الآلاف من رسائل الكراهية، بل حتى التهديدات بالقتل كنتيجة لتلك التعبئة”.
ورغم تنحيه من منصبه وتوليه مهام أخرى كأمين مساعد لشؤون منع النزاعات، استمر العداء السعودي الإماراتي للدبلوماسي المغربي. ويتهم بنعمر ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، بالتدخل لدى الأمين العام الحالي للأمم المتحدة لمنع تعيينه كمبعوث خاص إلى ليبيا. ربما ما يبعث على الارتياح لدى بنعمر اليوم، هو أن موقفه من التدخل في اليمن كان مبررا “لأن معظم الخبراء في مجال السياسة الخارجية يتفقون على أن التدخل العسكري الأجنبي في اليمن كان كارثيا. والنتيجة مقتل أكثر من 10 آلاف مدني وارتكاب جرائم حرب على نطاق واسع؛ والبلاد تعاني اليوم، مما يصفه العديدون بأنه أسوأ كارثة إنسانية ومجاعة عرفها العالم”، كما يوضح في إفادته.
الأزمة الخليجية
في الأول من يوليوز من سنة 2017، سيغادر جمال بنعمر الأمم المتحدة بعد أربعة وعشرين عامًا من الخدمة، لينضم إلى بعثة المغرب في نيويورك بصفة مستشار ورتبة وزير مفوض، وهي أعلى رتبة دبلوماسية تعطيها وزارة الخارجية المغربية للمسؤولين عندما لا تكون لهم صفة سفير. وعلى هذا الأساس، يقول بنعمر: “قدمت المشورة للمغرب في قضايا تهم السياسة الخارجية. وكان من بين مسؤولياتي في تمثيلي للمغرب تعزيز السلام والحوار مع الآخرين في المنطقة، في مواجهة انقسام لم يسبق له مثيل”. ويوضح بنعمر أن الأزمة الخليجية، التي اندلعت في ماي من سنة 2017 عندما قطعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وعدد من دول الخليج الأخرى علاقاتها الدبلوماسية مع قطر وفرضت عليها حصارًا، “كانت واحدة من القضايا العديدة التي عملت عليها”.
ودون أن يذكر التفاصيل، يشير بنعمر إلى أن المسؤولين المغاربة طلبوا النصيحة بخصوص الكيفية الأنجع لإنهاء الأزمة الخليجية مع قطر ووضع حد للحرب في اليمن، خاصة بعد انسحاب المغرب من التحالف الذي تقوده السعودية بداية 2016.
ويضيف “بدأت العمل مع المغرب وشركائه للترويج لحل سلمي للصراع. في ظل هذا الوضع بقيت على اتصال مع جميع الفاعلين اليمنيين الأساسيين وعدد من الفاعلين الإقليميين والدوليين، بطلب من هذه الأطراف وبالتشاور الوثيق والتعاون مع حكومة المغرب”.
ويعتبر بنعمر أن هذه الجهود هي ما يحرك الحملة الإعلامية المغرضة ضده في وسائل الإعلام السعودية والإماراتية، ومن خلال الدعوى القضائية التي رفعها حليف الرياض وأبوظبي في واشنطن إليوت برودي.
إليوت برويدي.. رجل كل الفضائح
عندما تبحث في محرك غوغل عن اسم إليوت برويدي، الشخص الذي يقاضي الدبلوماسي المغربي جمال بنعمر بتهمة تسريب محتوى بريده الإلكتروني للصحافة، يطالعك سيل من المقالات عن دعاوى قضائية ودعاوى مضادة بينه وبين نجمة الإغراء الفرنسية شيرا بيشارد التي كانت تربطه بها علاقة جنسية خارج الزواج. وقد نجم عن هذه العلاقة حمل دفع العارضة لاحقا إلى إجهاض الجنين مقابل تسوية مالية بلغت 1،6 مليون دولار، وتوقيع اتفاقية بعدم إفشاء معلومات، أشرف عليها مايكل كوهن، المحامي الشخصي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
الفضيحة التي كشفتها صحيفة وول ستريت جورنال أطاحت ببرويدي من منصبه كنائب للجنة المالية للحزب الجمهوري وأدخلته دهاليز المحاكمة بتهمة إساءة معاملة “العارضة”، التي سبق لها العمل مع مجلة “بلاي بوي” الخليعة.
رجل الإمارات في واشنطن
لكن، وتحت الكم الهائل لتفاصيل المغامرة الجنسية لبرويدي، تختفي تفاصيل أكثر خطورة عن نشاطه السياسي وعلاقاته المتشعبة، بما في ذلك علاقاته بدول الخليج.
فقد ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” في مارس 2018 أن رجل الأعمال اللبناني الأمريكي جورج نادر، الذي يعمل كمستشار لدى ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، والذي سبق له أن أدين مرتين في قضايا تحرش جنسي بالأطفال، “عمل لأكثر من سنة من أجل تحويل برويدي إلى أداة للتأثير على البيت الأبيض لصالح حكام المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة”. وقالت الصحيفة إن ما تصدر أجندة نادر وبرويدي كان دفع البيت الأبيض إلى تنحية وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ومساندة المقاربة التصادمية مع إيران وقطر، والضغط بشكل متكرر على الرئيس دونالد ترامب للقاء محمد بن زايد بشكل خاص خارج البيت الأبيض. وشارك برويدي رفقة نادر في حملات ضغط وعلاقات عامة في واشنطن مدفوعة من قبل حكومتي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لتأمين الدعم لسياسات الأخيرتين ضد قطر وإيران، ولتنحية وزير الخارجية آنذاك، ريكس تيلرسون لعدم دعمه لسياسات التصعيد الإماراتية السعودية ضد قطر. وحصل برويدي مقابل خدماته للإمارات على عقود بقيمة تفوق 200 مليون دولار لبيع برمجيات تجسس ومراقبة على الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي، بحسب نيويورك تايمز. وأكدت وكالة “الأسوشياتد بريس” أن حجم العقود التي كان يتوقعها برويدي من حكومتي الرياض وأبوظبي تتجاوز مليار دولار، حسب شهادات جمعتها ووثائق اطلعت عليها. وتهم هذه العقود إنشاء قوة إسلامية من 5000 جندي، وتقوية الحدود البرية والبحرية للسعودية، وإقامة مراكز لمكافحة الإرهاب في السعودية، فضلا عن بيع برمجيات تجسس ومراقبة للإمارات.
وذكرت “نيويورك تايمز” أنه في عام 2018، كان برويدي وجورج نادر يعتزمان القيام برحلة عمل للقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للتوقيع على عقود بقيمة 650 مليون دولار مع شركة “سيرسينوس” التي يملكها برويدي. لكن خطط الرجلين تعطلت بعدما اعترض مكتب التحقيقات الفدرالي “إف. بي. آي” على نادر واقتاده للتحقيق، على احتمال وجود محاولة إماراتية لشراء التأثير بطريقة غير شرعية في الأوساط السياسية الأمريكية.
تحقيقات بالجملة
ويحقق مكتب الـ”إف.بي.آي” مع نادر ومع شهود آخرين من أجل معرفة ما إذا كانت هنالك محاولة إماراتية لتوجيه جزء من التبرعات المالية للحملة الانتخابية الرئاسية. كما يتم التحقيق مع برويدي للاشتباه في إعطائه تقارير عن اجتماعين اثنين على الأقل، جمعاه بالرئيس دونالد ترامب في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض لنادر، مستشار ولي عهد أبوظبي. وتؤكد وكالة “الأسوشياتد بريس” أن موضوع التحقيق مع نادر يدور حول لقاءين، جرى الأول في دولة السيشل وجمع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد بأحد مستشاري الرئيس ترامب، والمستثمر الروسي كيريل ديمتريف، المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بينما جرى الاجتماع الثاني في برج ترامب بنيويوك وحضره محمد بن زايد وجورج نادر. ويحقق مكتب الـ”إف.بي.آي” فيما كان الهدف من الاجتماعين. ويخضع برويدي للتحقيق في قضايا أخرى كثيرة منها ما ذكرته “نيويورك تايمز” عن احتمال ضلوعه في مؤامرة ثلاثية الأطراف لترحيل المعارض الصيني غوو وينغى، مقابل الحصول على عوائد مالية. وحاول برويدي إقناع محمد بن زايد بأن يطلب من السلطات الأمريكية تسليم غوو بدعوى خلاف مالي مع الملياردير الصيني، الذي يدين بـ3 مليارات دولار لصندوق أبوظبي الاستثماري، على أن يتم تسليمه بعد ذلك للسلطات الصينية.
عاد اسم إبن الناظور جمال بنعمر، الدبلوماسي الريفي حاليا، والأممي سابقا، إلى البروز في الساحة الإعلامية الدولية خلال الأيام القليلة الماضية، بعدما وجه له جامع التبرعات الجمهوري إليوت برويدي، المعروف بقربه من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تهما أمام القضاء الأمريكي، تتعلق بـ»الاطلاع على بريده الإلكتروني والتجسس وتسريب فحواه للصحافة الأمريكية»، رافقتها حملة إعلامية غير مسبوقة من الجانب السعودي الإماراتي. في هذا «البورتريه» نعيد بسط مسار خارج المألوف لدبلوماسي اشتغل مع الأمم المتحدة لنحو ربع قرن في بعض أخطر مناطق النزاع في العالم.
تعود جذور جمال بنعمر إلى أسرة ريفية من قبيلة بني ورياغل، رغم أنه ولد في مدينة الناظور في أبريل من سنة 1957، وانتقل في سن الخامسة إلى تطوان. هناك، ولج الطفل النبيه المدرسة وشهد فورة الحركة التلاميذية اليسارية، ثم أصبح أحد رموزها، لينضم وهو يدرس في ثانوية الحمامة البيضاء، إلى حركة “إلى الأمام” التي كان أبراهام السرفاتي، أحد أقطابها الأساسيين. هذا النشاط السياسي المبكر لبنعمر سيكون مآله الاعتقال سنة 1976، وهو مايزال تلميذا، بتهمة المساس بالأمن الوطني ومحاولة قلب النظام وما شابه ذلك من تهم سنوات الجمر والرصاص. يقول بنعمر عن نفسه في إفادة قدمها لمحكمة نيويورك ردا على الدعوى القضائية التي رفعها إليوت برودي “أصبحت شخصًا مهتمًا بقضايا حقوق الإنسان وعملت عليها في سن مبكرة جدًا. شاركت في عدد من المظاهرات السلمية احتجاجا على قمع الحكومة المغربية، عندما كنت طالبا في المغرب. تعلمت في وقت مبكر، عندما اخترت الوقوف إلى جانب ضحايا اعتداءات الحكومة، أن الكلفة ستكون عالية”. ويضيف بنعمر “تم توقيفي واحتجازي سراً وتعرضت للتعذيب في كثير من المرات، طيلة ثماني سنوات. وتوفي والدي بينما كنت في المعتقل”.
قضى بنعمر بعض الوقت رفقة عدد من زملائه في معتقل عين برجة، قبل أن تصدر أحكام نهائية في حق مجموعته سنة 1977 ليتم إرساله إلى السجن المركزي بالقنيطرة. الوجود في السجن لم يثنه عن متابعة النضال والدراسة. فرفقة زملاء الزنازن، خاض واحدا من أطول الإضرابات عن الطعام في تاريخ المغرب (45 يوما). لكنه تابع، كذلك، تحصيله العلمي عن طريق المراسلة وحصل على شهادة الإجازة وشهادتي ماستر اثنتين من جامعة باريس، تخصص القانون الدولي.
«أول حراك»
يروي لحبيب بلكوش، أحد رفقاء بنعمر، أن أستاذه المشرف “أندريه آدم”، استغل فرصة زيارة الملك الحسن الثاني إلى فرنسا سنة 1983 فتقدم بطلب إلى المستشار الملكي، رضى كديرة، رفعه بدوره إلى الملك، ليجد بنعمر نفسه حرا دون سابق إنذار. لكن لسوء حظه، تزامن الإفراج عنه مع اندلاع انتفاضة 1984، فتم توقيفه من جديد لمدة عشرة أيام تعرض خلالها لمختلف أنواع التعذيب، كباقي من اعتقلوا. كان الاعتقال الثاني -على قصر مدته- مؤشرا على أن لا شيء تغير في السنوات الثماني التي قضاها بنعمر في السجن، فقرر الهجرة. حاول بداية الحصول على جواز سفر، لكن كل طلباته قوبلت بالرفض من قبل مصالح وزارة الداخلية. فما كان منه إلا أن طلب من مجموعة من المهربين اصطحابه في إحدى رحلاتهم الكثيرة آنذاك عبر مضيق جبل طارق في اتجاه إسبانيا.
في شبه الجزيرة الإيبيرية سيتم احتضان بنعمر من طرف فرع منظمة العفو الدولية (أمنستي)، قبل أن يواصل مسيرته إلى فرنسا لاستكمال مساره الجامعي، ثم إلى بريطانيا التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه من جامعة لندن للاقتصاد، وعلى حق اللجوء السياسي.
في لندن – يقول بنعمر-“استمريتُ في تغذية شغفي المتمثل في الوقوف بجانب ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من خلال العمل مع منظمة العفو الدولية في لندن كباحث مختص في أفريقيا وقائد فريق داخل هذه المنظمة الدولية”. وركز بنعمر اهتمامه بقضايا الانتهاكات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتواصل هذا الاهتمام حين انتقل إلى مركز كارتر للعمل كمدير ضمن برنامج حقوق الإنسان التابع لجامعة إيموري في ولاية أتلانتا الأمريكية. وخلال هذه الفترة عمل عن كثب مع الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر حول حقوق الإنسان وفض النزاعات.
الأمم المتحدة
لم يطل مقام بنعمر كثيرا في مركز كارتر، حيث سينضم في سنة 1993 إلى اﻷمم المتحدة. وخلال مسيرته المهنية في هذه المنظمة الدولية، عمل في مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وإدارة الشؤون السياسية، والمكتب التنفيذي للأمين العام. كما عمل كمدير مؤقت لمكتب دعم بناء السلام، وكذلك كمدير لوحدة سيادة القانون في مكتب الأمين العام للأمم المتحدة.
ولم تتأخر مواجهة بنعمر مع المغاربة في أروقة الأمم المتحدة، حيث سيصطدم سنة 1995 مع الوفد المغربي الحاضر في نيويورك للدفاع عن حصيلة المغرب الرسمية المتعلقة باحترام التزاماته الدولية فيما يخص حقوق الإنسان، وكان سبب المواجهة حضور أحد رجالات إدريس البصري ضمن الوفد المغربي، وهو قدور اليوسفي، المعروف بتورطه في التعذيب والتنكيل خلال عقد السبعينيات الأسود.
قطيعة بنعمر مع المغرب استمرت حتى بعد وفاة الملك الحسن الثاني سنة 1999، حيث دعا إلى التريث قبل تصديق خطابات العهد الجديد وشعارات المصالحة، وتعامل بكثير من التحفظ مع ما يتم الترويج له بخصوص حقوق الإنسان والقطيعة مع عهد الملك الراحل. حتى إن بنعمر رفض الرجوع إلى المغرب، بعد عودة أبراهام السرفاتي، رغم محاولات الراحل إدريس بنزكري، مهندس عملية الإنصاف والمصالحة، إقناعه بذلك.
لكن بنعمر سيعود اضطراريا من منفاه إلى المغرب. في سنة 2005، يقول بنعمر، “تلقيت خبر وفاة والدتي. وبعد ما يقرب من عشرين عاماً في المنفى، قررت العودة إلى المغرب لأول مرة لحضور جنازتها. وبصفتي سجينا سياسيا سابقا، عرضت علي الحكومة المغربية تعويضاً قررت أن أرفضه. مقابل ذلك، اخترت أن أركز جهودي على الاستمرار في تعزيز المساءلة والتغيير الديمقراطي السلمي”.
التخصص في فض النزاعات
في الأمم المتحدة شارك بنعمر في جهود حل النزاعات والوساطة لتيسير الانتقالات السلمية في أكثر من 40 بلدا تعصف بها الصراعات. ومن بين أهم مهامه الميدانية التي بدأها عام 2002 في أفغانستان بعد انهيار نظام طالبان، حيث قدم المشورة في شؤون الحكم وبناء المؤسسات وصياغة الدستور. وفي أوائل عام 2004، انضم إلى فريق الأمم المتحدة في العراق وقدم المشورة بشأن إنشاء الحكومة المؤقتة، ثم عمل كمبعوث للأمين العام الأممي لدعم مؤتمر الحوار الوطني في العراق، الذي انتخب برلمانًا مؤقتًا جديدًا حينها.
من هذه المهمة، يحتفظ بنعمر بذكرى خاصة تعود إلى أحد أيام صيف 2003. يقول “قُتل اثنان وعشرون من زملائي المقربين في تفجير انتحاري ضد مقر الأمم المتحدة في بغداد في 19 غشت من سنة 2003. كنت عضواً في هذا الفريق، ولكنني لم أكن حاضراً في ذلك الوقت”. ويضيف “في مناسبات أخرى عديدة، تم إطلاق النار عليّ، بما في ذلك حادث استعمل فيه سلاح “الإربجي”، الذي لم ينفجر بأعجوبة”. خطورة المهام لم تثن بنعمر عن الاستمرار في مهمته في العراق، ففي عام 2005، ساعد في إنشاء لجنة الأمم المتحدة لبناء السلام ومكتب دعم بناء السلام وخدم كأول مدير مؤقت لها، وعامي 2006 و2007، عقد العديد من جولات المحادثات الهادئة والسرية مع قادة الجماعات العراقية المتمردة ونجح في إقناع الكثيرين بالتخلي عن العنف.
مأزق اليمن
في عام 2011، سيتم تعيينه مستشارا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة بشأن اليمن. حيث ساهم في صياغة اتفاق للانتقال السياسي، ما جنب حينها البلد سقوطا وشيكا في حرب أهلية شاملة. تلقى الثناء على هذا الجهد من اليمنيين ومن مجلس الأمن، فقد كان اتفاق نقل السلطة في اليمن الوحيد الذي تم التفاوض بشأنه في سياق الربيع العربي وتم دعمه من طرف المنتظم الدولي كنموذج للانتقال السلمي في حل النزاعات، وأيضا كنموذج للأمم المتحدة في مجال الوساطات التي تقوم بها المنظمة. وكاعتراف بمجهوداته، تم إعلانه من طرف صحيفة “يمن تايمز” كرجل السنة، كما تمت ترقيته لمنصب مساعد الأمين العام الأممي في غشت من سنة 2012.
غير أن نجاحات بنعمر في اليمن لم تكن لترضي كل الأطراف. ففي إحاطته لمحكمة نيويورك، اتهم الدبلوماسي المغربي أحد أقرب حلفاء الرباط – دولة الإمارات العربية المتحدة- بالشروع منذ 2012 في الضغط على الأمين العام للأمم المتحدة لإزاحته من منصبه. وهو ما جوبه برفض الأمين العام السابق بان كي مون.
استمر بنعمر في اليمن وأشرف ما بين 2013 و2014 على مؤتمر الحوار الوطني اليمني الذي دام عشرة أشهر وأسفر في نهاية المطاف عن نظام حكم جديد، وأرسى القواعد لصياغة دستور جديد. واعتبرت مخرجات الحوار الوطني ترجمة لمطالب شباب الثورة في دولة مدنية حديثة، وتميزت بتقدمها على كثير من الصعد من قبيل الإقرار بتمثيل المرأة في البرلمان وفي مؤسسات الدولة بنسبة لا تقل عن 30 في المائة.
عندما تصاعد الوضع وسيطر المتمردون الحوثيون على العاصمة صنعاء، وعلى جميع مؤسسات الدولة، آثر بنعمر البقاء في اليمن رغم احتجاج السعوديين ومغادرة كل الدبلوماسيين.
وقاد إثر ذلك مفاوضات الفرصة الأخيرة مع الحوثيين لإنهاء الانقلاب وإعادة العملية السياسية إلى مسارها. في خضم تلك الفوضى، كان بنعمر الوحيد الذي فاوض الحوثيين لإطلاق سراح الرئيس المحتجز عبده ربه منصور هادي، ونجح في رفع الإقامة الجبرية عن رئيس الوزراء وعدد من أعضاء حكومته. كما نجح في إعادة الفرقاء اليمنيين إلى طاولة الحوار، وكان على وشك إقناعهم باتفاق سياسي عندما أطلق التحالف الذي تتزعمه السعودية حملة عسكرية مفاجئة على الحوثيين وقوات الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
تهديدات بالقتل
يقول بنعمر إن الحرب “لم تسمح بحصول اتفاق كان وشيكا بين مختلف الأطراف”، مضيفا “لقد عبرت بصراحة عن معارضتي لتدخل مختلف القوى الخارجية في السياسات اليمنية، وحذرت من العواقب المزعزعة للاستقرار لهذا التدخل العسكري غير المدروس”. موقف لم يعجب قيادة التحالف السعودية الإماراتية، ليتنحى عن منصبه كمبعوث خاص لليمن، مقدما تقريرا نهائيا في أبريل من 2015 يدعو فيه مجلس الأمن إلى اتخاذ إجراءات سريعة وقوية في اليمن، محذرا من أن جرائم حرب قد تكون ارتكبت أثناء القصف الجوي لقوات التحالف الذي تقوده السعودية، وداعيا إلى إجراء تحقيق مستقل لضمان المساءلة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي.
بسبب موقفه من الحرب في اليمن وإحاطته النهائية المقدمة لمجلس الأمن، تعرض بنعمر لحملة إعلامية شرسة من قبل وسائل الإعلام السعودية والإماراتية. وفي هذا السياق، يؤكد بنعمر “تلقيت الآلاف من رسائل الكراهية، بل حتى التهديدات بالقتل كنتيجة لتلك التعبئة”.
ورغم تنحيه من منصبه وتوليه مهام أخرى كأمين مساعد لشؤون منع النزاعات، استمر العداء السعودي الإماراتي للدبلوماسي المغربي. ويتهم بنعمر ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، بالتدخل لدى الأمين العام الحالي للأمم المتحدة لمنع تعيينه كمبعوث خاص إلى ليبيا. ربما ما يبعث على الارتياح لدى بنعمر اليوم، هو أن موقفه من التدخل في اليمن كان مبررا “لأن معظم الخبراء في مجال السياسة الخارجية يتفقون على أن التدخل العسكري الأجنبي في اليمن كان كارثيا. والنتيجة مقتل أكثر من 10 آلاف مدني وارتكاب جرائم حرب على نطاق واسع؛ والبلاد تعاني اليوم، مما يصفه العديدون بأنه أسوأ كارثة إنسانية ومجاعة عرفها العالم”، كما يوضح في إفادته.
الأزمة الخليجية
في الأول من يوليوز من سنة 2017، سيغادر جمال بنعمر الأمم المتحدة بعد أربعة وعشرين عامًا من الخدمة، لينضم إلى بعثة المغرب في نيويورك بصفة مستشار ورتبة وزير مفوض، وهي أعلى رتبة دبلوماسية تعطيها وزارة الخارجية المغربية للمسؤولين عندما لا تكون لهم صفة سفير. وعلى هذا الأساس، يقول بنعمر: “قدمت المشورة للمغرب في قضايا تهم السياسة الخارجية. وكان من بين مسؤولياتي في تمثيلي للمغرب تعزيز السلام والحوار مع الآخرين في المنطقة، في مواجهة انقسام لم يسبق له مثيل”. ويوضح بنعمر أن الأزمة الخليجية، التي اندلعت في ماي من سنة 2017 عندما قطعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وعدد من دول الخليج الأخرى علاقاتها الدبلوماسية مع قطر وفرضت عليها حصارًا، “كانت واحدة من القضايا العديدة التي عملت عليها”.
ودون أن يذكر التفاصيل، يشير بنعمر إلى أن المسؤولين المغاربة طلبوا النصيحة بخصوص الكيفية الأنجع لإنهاء الأزمة الخليجية مع قطر ووضع حد للحرب في اليمن، خاصة بعد انسحاب المغرب من التحالف الذي تقوده السعودية بداية 2016.
ويضيف “بدأت العمل مع المغرب وشركائه للترويج لحل سلمي للصراع. في ظل هذا الوضع بقيت على اتصال مع جميع الفاعلين اليمنيين الأساسيين وعدد من الفاعلين الإقليميين والدوليين، بطلب من هذه الأطراف وبالتشاور الوثيق والتعاون مع حكومة المغرب”.
ويعتبر بنعمر أن هذه الجهود هي ما يحرك الحملة الإعلامية المغرضة ضده في وسائل الإعلام السعودية والإماراتية، ومن خلال الدعوى القضائية التي رفعها حليف الرياض وأبوظبي في واشنطن إليوت برودي.
إليوت برويدي.. رجل كل الفضائح
عندما تبحث في محرك غوغل عن اسم إليوت برويدي، الشخص الذي يقاضي الدبلوماسي المغربي جمال بنعمر بتهمة تسريب محتوى بريده الإلكتروني للصحافة، يطالعك سيل من المقالات عن دعاوى قضائية ودعاوى مضادة بينه وبين نجمة الإغراء الفرنسية شيرا بيشارد التي كانت تربطه بها علاقة جنسية خارج الزواج. وقد نجم عن هذه العلاقة حمل دفع العارضة لاحقا إلى إجهاض الجنين مقابل تسوية مالية بلغت 1،6 مليون دولار، وتوقيع اتفاقية بعدم إفشاء معلومات، أشرف عليها مايكل كوهن، المحامي الشخصي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
الفضيحة التي كشفتها صحيفة وول ستريت جورنال أطاحت ببرويدي من منصبه كنائب للجنة المالية للحزب الجمهوري وأدخلته دهاليز المحاكمة بتهمة إساءة معاملة “العارضة”، التي سبق لها العمل مع مجلة “بلاي بوي” الخليعة.
رجل الإمارات في واشنطن
لكن، وتحت الكم الهائل لتفاصيل المغامرة الجنسية لبرويدي، تختفي تفاصيل أكثر خطورة عن نشاطه السياسي وعلاقاته المتشعبة، بما في ذلك علاقاته بدول الخليج.
فقد ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” في مارس 2018 أن رجل الأعمال اللبناني الأمريكي جورج نادر، الذي يعمل كمستشار لدى ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، والذي سبق له أن أدين مرتين في قضايا تحرش جنسي بالأطفال، “عمل لأكثر من سنة من أجل تحويل برويدي إلى أداة للتأثير على البيت الأبيض لصالح حكام المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة”. وقالت الصحيفة إن ما تصدر أجندة نادر وبرويدي كان دفع البيت الأبيض إلى تنحية وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ومساندة المقاربة التصادمية مع إيران وقطر، والضغط بشكل متكرر على الرئيس دونالد ترامب للقاء محمد بن زايد بشكل خاص خارج البيت الأبيض. وشارك برويدي رفقة نادر في حملات ضغط وعلاقات عامة في واشنطن مدفوعة من قبل حكومتي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لتأمين الدعم لسياسات الأخيرتين ضد قطر وإيران، ولتنحية وزير الخارجية آنذاك، ريكس تيلرسون لعدم دعمه لسياسات التصعيد الإماراتية السعودية ضد قطر. وحصل برويدي مقابل خدماته للإمارات على عقود بقيمة تفوق 200 مليون دولار لبيع برمجيات تجسس ومراقبة على الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي، بحسب نيويورك تايمز. وأكدت وكالة “الأسوشياتد بريس” أن حجم العقود التي كان يتوقعها برويدي من حكومتي الرياض وأبوظبي تتجاوز مليار دولار، حسب شهادات جمعتها ووثائق اطلعت عليها. وتهم هذه العقود إنشاء قوة إسلامية من 5000 جندي، وتقوية الحدود البرية والبحرية للسعودية، وإقامة مراكز لمكافحة الإرهاب في السعودية، فضلا عن بيع برمجيات تجسس ومراقبة للإمارات.
وذكرت “نيويورك تايمز” أنه في عام 2018، كان برويدي وجورج نادر يعتزمان القيام برحلة عمل للقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للتوقيع على عقود بقيمة 650 مليون دولار مع شركة “سيرسينوس” التي يملكها برويدي. لكن خطط الرجلين تعطلت بعدما اعترض مكتب التحقيقات الفدرالي “إف. بي. آي” على نادر واقتاده للتحقيق، على احتمال وجود محاولة إماراتية لشراء التأثير بطريقة غير شرعية في الأوساط السياسية الأمريكية.
تحقيقات بالجملة
ويحقق مكتب الـ”إف.بي.آي” مع نادر ومع شهود آخرين من أجل معرفة ما إذا كانت هنالك محاولة إماراتية لتوجيه جزء من التبرعات المالية للحملة الانتخابية الرئاسية. كما يتم التحقيق مع برويدي للاشتباه في إعطائه تقارير عن اجتماعين اثنين على الأقل، جمعاه بالرئيس دونالد ترامب في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض لنادر، مستشار ولي عهد أبوظبي. وتؤكد وكالة “الأسوشياتد بريس” أن موضوع التحقيق مع نادر يدور حول لقاءين، جرى الأول في دولة السيشل وجمع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد بأحد مستشاري الرئيس ترامب، والمستثمر الروسي كيريل ديمتريف، المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بينما جرى الاجتماع الثاني في برج ترامب بنيويوك وحضره محمد بن زايد وجورج نادر. ويحقق مكتب الـ”إف.بي.آي” فيما كان الهدف من الاجتماعين. ويخضع برويدي للتحقيق في قضايا أخرى كثيرة منها ما ذكرته “نيويورك تايمز” عن احتمال ضلوعه في مؤامرة ثلاثية الأطراف لترحيل المعارض الصيني غوو وينغى، مقابل الحصول على عوائد مالية. وحاول برويدي إقناع محمد بن زايد بأن يطلب من السلطات الأمريكية تسليم غوو بدعوى خلاف مالي مع الملياردير الصيني، الذي يدين بـ3 مليارات دولار لصندوق أبوظبي الاستثماري، على أن يتم تسليمه بعد ذلك للسلطات الصينية.