حسن الوزاني
شهدت «دار بريشة» بداية الاعتقال السري في مغرب عهد الاستقلال. الإخوة الأعداء في الحركة الوطنية راحوا يتصارعون على اقتسام الغنائم، فسالت الدماء غزيرة. هذه حكاية أعرق معتقل سري كما وردت في رسالة محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى محمد بن الحسن الوزاني، وكما رواها ناجون من جحيم الموت. والمتهم ليس سوى حزب الاستقلال الذي كان أغلبية في حكومة امبارك البكاي. دار بريشة في تطوان تم بيعها قبل خمسة أعوام لمنعش عقاري لكن أثر الذكريات المروعة، وإن اختفى كبناية، سيظل وصمة عار لا تنمحي.
قبل خمسة أعوام من اليوم، تم بيع دار بريشة لأحد المنعشين العقاريين بمدينة تطوان. كان ذلك على عهد رئيس جماعة تطوان سيدي المنظري. وظلت هذه الصفقة واحدة من تلك الصفقات المسكوت عنها، لكنها صفقة ستكلف التاريخ المغربي ثمنا غاليا، «فلا حق لأحد في أن يهدم دار بريشة أو غيرها من الأماكن التي لها علاقة بانتهاكات حقوق الإنسان. إنها ضرورية طبعا لحفظ ذاكرة المغاربة، الذين لهم الحق في الاحتفاظ بكل ما يخدم كتابة تاريخ وطنهم» يصرح الأستاذ عبد الرحيم برادة لإحدى الجرائد المغربية. لأنه مع دار بريشة (جنان بريشة) يتعلق الأمر «بأول معتقل سياسي مغربي»، والكلام هنا لبطل الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي، في رسالة وجهها من القاهرة إلى الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال محمد حسن الوزاني في يوليوز 1960. هذه الرسالة تقدم لائحة بأسماء وأماكن المعتقلات السرية وغيرها بالمغرب، وهي تناهز المائة، من دار بريشة إلى معتقل تمارة، الذي استغرب بطل الريف يومها كيف أن مقبرة هذا المعتقل ما زالت معالمها ظاهرة للعيان. كما تتناول الرسالة بالتفصيل والتدقيق عدد المعتقلين في كل مختطف أو معتقل، وعدد التصفيات، وممارسات التعذيب والاغتصاب في حق فتيات ونساء ثم قتلهن، خاصة في شمال المغرب، جهة تطوان، وجهة الحسيمة، ثم الدار البيضاء.
جنان التعذيب
أما دار بريشة، المعتقل السري الأول، فقد كان اسمها في البداية (جنان بريشة) لأنها كانت محاطة بحديقة كثيفة، شهدت مراسيم التعذيب، إضافة إلى غرف الطابق الأول والثاني والثالث من الدار، وكذا الدهليز الذي شهد أفظع الممارسات.
وبعد مبادرة محلية في تطوان من طرف فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان لتدارس وفتح ملف دار بريشة، ومبادرة جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان بتطوان، التي قامت بتصوير الدار والدهليز، بلغ العلم إلى السلطات المحلية التي أبلغت السيد الذي يستغل الدار مؤقتا بعدم السماح لأي جهة بالدخول إلى الدار، خاصة إذا كانت جمعية أو صحافة.
المعتقلات السرية بالمغرب
ما يثير في زمن التعذيب والاعتقال على عهد دار بريشة هو خصوصية أن تلك الممارسات اتهم بالتورط فيها حزب مغربي كانت له قوة داخل الحكومة الائتلافية لامبارك البكاي 1955، وما يثير أيضا هو أن تلك الممارسات كانت حسب الروايات والشهادات، أفظع وأبشع ربما من الممارسات التي مورست في فترات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكنها نفس الممارسات التي لا تزال إلى اليوم.
تشير مدونات حزب الشورى والاستقلال منذ الخمسينيات إلى وقوف حزب الاستقلال وراء سياسات التعذيب والاختطاف في حق خصومهم السياسيين الشوريين.
وتبقى دار بريشة أول فضاءات التعذيب والاختطاف تلك. فبعد الاستقلال، انفرد حزب الاستقلال بالسلطة، وعمل على وقف كل محاولات المعارضة من طرف الشوريين، حيث فرضوا الرقابة على صحافة حزب الشورى («الرأي العام» و«Démocratie») وفرضوا تفتيشا دقيقا على كل داخل إلى مقرها بشارع دانطون، بئر أنزران حاليا، بالدار البيضاء، ولم يسلم من ذلك الأمين العام للشورى والاستقلال محمد حسن الوزاني.
وحسب كتاب المهدي المومني التجكاني (دار بريشة أو قصة مختطف) فقد بدأت حملة الحزب الذي يقول «المغرب لنا لا لغيرنا» في يناير 1956 بمذبحة سوق أربعاء الغرب، ثم اغتيال الأستاذ عبد الواحد العراقي في باب الخوخة بفاس في أبريل 1956، ثم اغتيال المقاوم محمد الشرقاوي، ثم اختطاف عبد السلام الطود، وعبد القادر برادة، وإبراهيم الوزاني بتطوان في يونيو 1965، (دار بريشة، ص 9-10).
وقد طلب من الأخيرين في دار بريشة أن يقوما بحفر قبرين في حديقة الدار، وبعد ذلك تم دفنهما أحياء. ويروي أحد المختطفين بتطوان قصة اختطاف إبراهيم الوزاني وعبد السلام الطود من مقهى كونتينينتال بشارع محمد الخامس، تحت التهديد بالسلاح في واضحة النهار. بينما يؤكد المختطف الآخر، إدريس كويس المرون، أن حزب الاستقلال هو الذي كان يدبر هذه الاختطافات، وهو المسؤول عن كل الاغتيالات من 1956 إلى 1961. كما كان الملك محمد الخامس على علم بتفاصيل ما يجري في الدار، من خلال رسالة وجهها الشوريون في تطوان إلى الملك أثناء زيارته، يقول المرون. إضافة إلى الرسالة التي بعث بها الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال للملك بتاريخ 16 يناير 1956 طالب فيها بالإفراج العاجل عن جميع المعتقلين السياسيين، سواء كانوا من أعضاء حزب الشورى والاستقلال أو من المحايدين والأحرار، وإرجاع جميع المخطوفين إلى بيوتهم، ومنع الوسائل الجهنمية المستعملة في إدارة الشرطة أو في المعتقلات للانتقام ولانتزاع الاعترافات وفرضها، وتطبيق القوانين داخل السجون والكوميساريات وإصدار قوانين جديدة تحمي المواطنين وتضمن حقوقهم وحرياتهم.
ضحايا دار بريشة
وحسب تقرير أصدرته إحدى الجمعيات بمدينة تطوان، فإن المسؤولية في جنان بريشة، بحسب الشوريين، تقع على حزب الاستقلال «الحزب العتيد» الذي حصد أغلب الحقائب الوزارية المهمة في الحكومة الائتلافية برئاسة امبارك البكاي (07 دجنبر 1955). كما كانت له أغلبية مطلقة في المجلس الوطني الاستشاري، وانفرد به وزير داخلية من حزب الاستقلال. بينما كان الشوريون في وضع المعارضة. بدأ الصراع بين الطرفين على صفحات الجرائد، إلى درجة أن فرض البوليس السياسي رقابة دائمة على جريدتي حزب الشورى والاستقلال في مطبعة الأمل بالدار البيضاء (جريدة «الرأي العام» و جريدة «Démocratie»). وبعدها انتقل الصراع إلى اعتقال واختطاف واغتيال الشوريين.
كما تشير الوثائق التي أعدها الشوريون إلى أسماء المتورطين في قصة دار بريشة، منهم ابن الحاج العتابي، الذي كان عاملا سابقا بمدينة الناضور خلال الثمانينيات، والفقيه الفكيكي ومحمد السكوري والمدعو «المدني» ومحمد الريفي (حارس وسائق علال الفاسي) وأحمد واكريم، وغيرهم. كما وردت أسماؤهم في مذكرات المهدي المومني التجكاني.
كما سجل المختطفون الناجون أرقام سيارات الاختطاف، وهي المثبتة في نفس المذكرات، من بينها سيارة ابن الحاج العتابي، وكان يومها عامل شفشاون، إضافة إلى سيارة عامل العرائش، تقول المذكرات.
وتضيف في نص آخر أن «كل فرد من عصابات الاختطاف كان يحمل بطاقة خاصة من إدارة الأمن العام، وقد صرح بهذا عامل تطوان إذ ذاك الذي وظف معه مرشدهم العرفاوي رئيسا للاستعلامات بالعمالة، ولوحظ أن الخطافين كانوا يقصدون دار العامل خصوصا في الليل، ويقال إن هذه الاتصالات كانت لتدبير الاختطافات وخطة التعذيب والتنكيل. ويوم كان يعذب ضابط الجيش الملكي وهو محمد الكتاني المعروف ببوشرطة وصاحباه في مقر الخطافة بجنان بريشة كان يتفرج على التعذيب، فيما راج، يومئذ، عامل تطوان، وعبد الخالق الطريس، وعلال الفاسي، وآخرون".
إدريس كويس المرون أحد الناجين من جحيم دار بريشة يحكي ذكرياته الأليمة
هذه الشهادة/ التصريح هي لإدريس كويس المرون أحد معتقلي دار بريشة بتطوان، بعد أن قضى ثلاثة أشهر معتقلا في الدار البيضاء. شهادة تتداخل فيها الأحداث والوقائع، لأن الذي يرويها شخص متقدم في السن من جهة، كما كان يتوقف مستسلما لبكاء قاس، من جهة أخرى، وهو يتذكر بعضا من تفاصيل اختطافه واعتقاله بدار بريشة. يذكر أن هذا التصريح أدلى به كويس المرون قبل وفاته.
ثلاثة أشهر وأنا في كوميسارية سنطرال سنة 1957. كنت في حزب الشورى وسأبقى دائما، ولأنني كنت في حزب الشورى، فعندما جاء محمد الخامس إلى تطوان، سلمناه رسالة تفيد أنه في جنان بريشة يوجد 47 من المواطنين مختطفين بغير حق، وعندما غادر محمد الخامس، بعثوا إلى تطوان مجموعة لاختطافي. أول المختطفين سيدي إبراهيم الوزاني ورفيقه السي عبد السلام الطود، والسيد أحمد أشطون من كتامة ببني سدات، كلهم ماتوا في دار بريشة، هناك قتلوا 47 معتقلا. هناك لم يدفنوا أحدا، وإنما جمعوهم في حفر حفروها بأنفسهم. وأيضا السيد عبد القادر برادة رحمه الله. عندما ألقوا القبض علي، نقلوني إلى كوميسارية سنطرال. عبد السلام الطود اختطفوه من مقهى بتطوان. ألقى القبض عليهم القتال الكبير محمد السكوري، وكان زعيمهم في الاختطاف هو العتابي. وكان بنبركة في الحزب لكنه لم يكن يشارك في هذه العمليات، وكان على علم بها، وإنما قصة المهدي بنبركة أنه كان يدبر لعملية ضد الحسن الثاني، وعندما علم به الحسن الثاني وقع له ما وقع. أخذوني إلى جنان بريشة ثم إلى الدار البيضاء، وأخي أحمد كويس رحمه الله قضى شهرين في دار بريشة، والتهامي الوزاني المحامي، أحد رجال الشرطة الذين كانوا مع بنبركة، كان هنالك حارسا، وجاء الوزاني المحامي وقال لبنبركة: هل أخبرك بخبر؟ وقال له: كل شوري لا زال حيا يوجد في دهليز دار بريشة، والآن، سيلقون به في البحر غدا أو بعد غد. قال له إن ذلك الإنسان سيلقون به في البحر في عين الدياب، قال لي عمي ادريس: أنا البشري، جئت مرسولا إليك، فقل لي، لمن سأخبر بحالك، فقلت له إلى التهامي الوزاني، فتوجه إلى التهامي الوزاني وجده يتناول الغداء في منزله بالدار البيضاء مع وكيل الملك، فقال له: هو عندك. فقال له: ذهبنا به إلى وزان ليلتقي بمجموعة من الناس، لأنه ضاعت لهم بعض الخرفان. فقال له وكيل الملك: أعطيك مهلة لتسليمها وبقيت في دهليز آخر، وكان هنالك الجميع، لمدة ستة أشهر.(تتدخل زوجة إدريس كويس، وتقول: اتصلت أنا بوكيل الملك في المدينة وقلت له: حاكمه، ولا تبقه في السجن إذا كان يحمل السلاح).
قضيت عاما في سجن لعلو بدون محاكمة. والذي كان مشرفا على الاختطاف هو جماعة السكوري والعتابي، وحزب الاستقلال هو الذي كان يقود هذه العمليات. السكوري وجماعته. وفي الكوميسارية كان السكوري هو الذي يقوم بتعذيبي، ويضع رأسي في برميل الماء الملوث. كانت أشياء لا تتصور.
وفي تطوان كنا جالسين في مقهى ناسيونال، كنا نتحدث. جاء شخص من سيدي إيفني، دخل المقهى وهو يشير إلى شخص آخر يرافقه، وقال له: هذا. فوضع المسدس على رأسي، فقلت له: ماذا تريد؟ فقال له الشخص المذكور: لا، الشخص الآخر. فألقى القبض على السيد عبد السلام الطود. إن دار بريشة مقبرة جماعية، كانوا يأمرون المختطفين بحفر قبورهم، ثم يدفنونهم فيها.
شهدت «دار بريشة» بداية الاعتقال السري في مغرب عهد الاستقلال. الإخوة الأعداء في الحركة الوطنية راحوا يتصارعون على اقتسام الغنائم، فسالت الدماء غزيرة. هذه حكاية أعرق معتقل سري كما وردت في رسالة محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى محمد بن الحسن الوزاني، وكما رواها ناجون من جحيم الموت. والمتهم ليس سوى حزب الاستقلال الذي كان أغلبية في حكومة امبارك البكاي. دار بريشة في تطوان تم بيعها قبل خمسة أعوام لمنعش عقاري لكن أثر الذكريات المروعة، وإن اختفى كبناية، سيظل وصمة عار لا تنمحي.
قبل خمسة أعوام من اليوم، تم بيع دار بريشة لأحد المنعشين العقاريين بمدينة تطوان. كان ذلك على عهد رئيس جماعة تطوان سيدي المنظري. وظلت هذه الصفقة واحدة من تلك الصفقات المسكوت عنها، لكنها صفقة ستكلف التاريخ المغربي ثمنا غاليا، «فلا حق لأحد في أن يهدم دار بريشة أو غيرها من الأماكن التي لها علاقة بانتهاكات حقوق الإنسان. إنها ضرورية طبعا لحفظ ذاكرة المغاربة، الذين لهم الحق في الاحتفاظ بكل ما يخدم كتابة تاريخ وطنهم» يصرح الأستاذ عبد الرحيم برادة لإحدى الجرائد المغربية. لأنه مع دار بريشة (جنان بريشة) يتعلق الأمر «بأول معتقل سياسي مغربي»، والكلام هنا لبطل الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي، في رسالة وجهها من القاهرة إلى الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال محمد حسن الوزاني في يوليوز 1960. هذه الرسالة تقدم لائحة بأسماء وأماكن المعتقلات السرية وغيرها بالمغرب، وهي تناهز المائة، من دار بريشة إلى معتقل تمارة، الذي استغرب بطل الريف يومها كيف أن مقبرة هذا المعتقل ما زالت معالمها ظاهرة للعيان. كما تتناول الرسالة بالتفصيل والتدقيق عدد المعتقلين في كل مختطف أو معتقل، وعدد التصفيات، وممارسات التعذيب والاغتصاب في حق فتيات ونساء ثم قتلهن، خاصة في شمال المغرب، جهة تطوان، وجهة الحسيمة، ثم الدار البيضاء.
جنان التعذيب
أما دار بريشة، المعتقل السري الأول، فقد كان اسمها في البداية (جنان بريشة) لأنها كانت محاطة بحديقة كثيفة، شهدت مراسيم التعذيب، إضافة إلى غرف الطابق الأول والثاني والثالث من الدار، وكذا الدهليز الذي شهد أفظع الممارسات.
وبعد مبادرة محلية في تطوان من طرف فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان لتدارس وفتح ملف دار بريشة، ومبادرة جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان بتطوان، التي قامت بتصوير الدار والدهليز، بلغ العلم إلى السلطات المحلية التي أبلغت السيد الذي يستغل الدار مؤقتا بعدم السماح لأي جهة بالدخول إلى الدار، خاصة إذا كانت جمعية أو صحافة.
المعتقلات السرية بالمغرب
ما يثير في زمن التعذيب والاعتقال على عهد دار بريشة هو خصوصية أن تلك الممارسات اتهم بالتورط فيها حزب مغربي كانت له قوة داخل الحكومة الائتلافية لامبارك البكاي 1955، وما يثير أيضا هو أن تلك الممارسات كانت حسب الروايات والشهادات، أفظع وأبشع ربما من الممارسات التي مورست في فترات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكنها نفس الممارسات التي لا تزال إلى اليوم.
تشير مدونات حزب الشورى والاستقلال منذ الخمسينيات إلى وقوف حزب الاستقلال وراء سياسات التعذيب والاختطاف في حق خصومهم السياسيين الشوريين.
وتبقى دار بريشة أول فضاءات التعذيب والاختطاف تلك. فبعد الاستقلال، انفرد حزب الاستقلال بالسلطة، وعمل على وقف كل محاولات المعارضة من طرف الشوريين، حيث فرضوا الرقابة على صحافة حزب الشورى («الرأي العام» و«Démocratie») وفرضوا تفتيشا دقيقا على كل داخل إلى مقرها بشارع دانطون، بئر أنزران حاليا، بالدار البيضاء، ولم يسلم من ذلك الأمين العام للشورى والاستقلال محمد حسن الوزاني.
وحسب كتاب المهدي المومني التجكاني (دار بريشة أو قصة مختطف) فقد بدأت حملة الحزب الذي يقول «المغرب لنا لا لغيرنا» في يناير 1956 بمذبحة سوق أربعاء الغرب، ثم اغتيال الأستاذ عبد الواحد العراقي في باب الخوخة بفاس في أبريل 1956، ثم اغتيال المقاوم محمد الشرقاوي، ثم اختطاف عبد السلام الطود، وعبد القادر برادة، وإبراهيم الوزاني بتطوان في يونيو 1965، (دار بريشة، ص 9-10).
وقد طلب من الأخيرين في دار بريشة أن يقوما بحفر قبرين في حديقة الدار، وبعد ذلك تم دفنهما أحياء. ويروي أحد المختطفين بتطوان قصة اختطاف إبراهيم الوزاني وعبد السلام الطود من مقهى كونتينينتال بشارع محمد الخامس، تحت التهديد بالسلاح في واضحة النهار. بينما يؤكد المختطف الآخر، إدريس كويس المرون، أن حزب الاستقلال هو الذي كان يدبر هذه الاختطافات، وهو المسؤول عن كل الاغتيالات من 1956 إلى 1961. كما كان الملك محمد الخامس على علم بتفاصيل ما يجري في الدار، من خلال رسالة وجهها الشوريون في تطوان إلى الملك أثناء زيارته، يقول المرون. إضافة إلى الرسالة التي بعث بها الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال للملك بتاريخ 16 يناير 1956 طالب فيها بالإفراج العاجل عن جميع المعتقلين السياسيين، سواء كانوا من أعضاء حزب الشورى والاستقلال أو من المحايدين والأحرار، وإرجاع جميع المخطوفين إلى بيوتهم، ومنع الوسائل الجهنمية المستعملة في إدارة الشرطة أو في المعتقلات للانتقام ولانتزاع الاعترافات وفرضها، وتطبيق القوانين داخل السجون والكوميساريات وإصدار قوانين جديدة تحمي المواطنين وتضمن حقوقهم وحرياتهم.
ضحايا دار بريشة
وحسب تقرير أصدرته إحدى الجمعيات بمدينة تطوان، فإن المسؤولية في جنان بريشة، بحسب الشوريين، تقع على حزب الاستقلال «الحزب العتيد» الذي حصد أغلب الحقائب الوزارية المهمة في الحكومة الائتلافية برئاسة امبارك البكاي (07 دجنبر 1955). كما كانت له أغلبية مطلقة في المجلس الوطني الاستشاري، وانفرد به وزير داخلية من حزب الاستقلال. بينما كان الشوريون في وضع المعارضة. بدأ الصراع بين الطرفين على صفحات الجرائد، إلى درجة أن فرض البوليس السياسي رقابة دائمة على جريدتي حزب الشورى والاستقلال في مطبعة الأمل بالدار البيضاء (جريدة «الرأي العام» و جريدة «Démocratie»). وبعدها انتقل الصراع إلى اعتقال واختطاف واغتيال الشوريين.
كما تشير الوثائق التي أعدها الشوريون إلى أسماء المتورطين في قصة دار بريشة، منهم ابن الحاج العتابي، الذي كان عاملا سابقا بمدينة الناضور خلال الثمانينيات، والفقيه الفكيكي ومحمد السكوري والمدعو «المدني» ومحمد الريفي (حارس وسائق علال الفاسي) وأحمد واكريم، وغيرهم. كما وردت أسماؤهم في مذكرات المهدي المومني التجكاني.
كما سجل المختطفون الناجون أرقام سيارات الاختطاف، وهي المثبتة في نفس المذكرات، من بينها سيارة ابن الحاج العتابي، وكان يومها عامل شفشاون، إضافة إلى سيارة عامل العرائش، تقول المذكرات.
وتضيف في نص آخر أن «كل فرد من عصابات الاختطاف كان يحمل بطاقة خاصة من إدارة الأمن العام، وقد صرح بهذا عامل تطوان إذ ذاك الذي وظف معه مرشدهم العرفاوي رئيسا للاستعلامات بالعمالة، ولوحظ أن الخطافين كانوا يقصدون دار العامل خصوصا في الليل، ويقال إن هذه الاتصالات كانت لتدبير الاختطافات وخطة التعذيب والتنكيل. ويوم كان يعذب ضابط الجيش الملكي وهو محمد الكتاني المعروف ببوشرطة وصاحباه في مقر الخطافة بجنان بريشة كان يتفرج على التعذيب، فيما راج، يومئذ، عامل تطوان، وعبد الخالق الطريس، وعلال الفاسي، وآخرون".
إدريس كويس المرون أحد الناجين من جحيم دار بريشة يحكي ذكرياته الأليمة
هذه الشهادة/ التصريح هي لإدريس كويس المرون أحد معتقلي دار بريشة بتطوان، بعد أن قضى ثلاثة أشهر معتقلا في الدار البيضاء. شهادة تتداخل فيها الأحداث والوقائع، لأن الذي يرويها شخص متقدم في السن من جهة، كما كان يتوقف مستسلما لبكاء قاس، من جهة أخرى، وهو يتذكر بعضا من تفاصيل اختطافه واعتقاله بدار بريشة. يذكر أن هذا التصريح أدلى به كويس المرون قبل وفاته.
ثلاثة أشهر وأنا في كوميسارية سنطرال سنة 1957. كنت في حزب الشورى وسأبقى دائما، ولأنني كنت في حزب الشورى، فعندما جاء محمد الخامس إلى تطوان، سلمناه رسالة تفيد أنه في جنان بريشة يوجد 47 من المواطنين مختطفين بغير حق، وعندما غادر محمد الخامس، بعثوا إلى تطوان مجموعة لاختطافي. أول المختطفين سيدي إبراهيم الوزاني ورفيقه السي عبد السلام الطود، والسيد أحمد أشطون من كتامة ببني سدات، كلهم ماتوا في دار بريشة، هناك قتلوا 47 معتقلا. هناك لم يدفنوا أحدا، وإنما جمعوهم في حفر حفروها بأنفسهم. وأيضا السيد عبد القادر برادة رحمه الله. عندما ألقوا القبض علي، نقلوني إلى كوميسارية سنطرال. عبد السلام الطود اختطفوه من مقهى بتطوان. ألقى القبض عليهم القتال الكبير محمد السكوري، وكان زعيمهم في الاختطاف هو العتابي. وكان بنبركة في الحزب لكنه لم يكن يشارك في هذه العمليات، وكان على علم بها، وإنما قصة المهدي بنبركة أنه كان يدبر لعملية ضد الحسن الثاني، وعندما علم به الحسن الثاني وقع له ما وقع. أخذوني إلى جنان بريشة ثم إلى الدار البيضاء، وأخي أحمد كويس رحمه الله قضى شهرين في دار بريشة، والتهامي الوزاني المحامي، أحد رجال الشرطة الذين كانوا مع بنبركة، كان هنالك حارسا، وجاء الوزاني المحامي وقال لبنبركة: هل أخبرك بخبر؟ وقال له: كل شوري لا زال حيا يوجد في دهليز دار بريشة، والآن، سيلقون به في البحر غدا أو بعد غد. قال له إن ذلك الإنسان سيلقون به في البحر في عين الدياب، قال لي عمي ادريس: أنا البشري، جئت مرسولا إليك، فقل لي، لمن سأخبر بحالك، فقلت له إلى التهامي الوزاني، فتوجه إلى التهامي الوزاني وجده يتناول الغداء في منزله بالدار البيضاء مع وكيل الملك، فقال له: هو عندك. فقال له: ذهبنا به إلى وزان ليلتقي بمجموعة من الناس، لأنه ضاعت لهم بعض الخرفان. فقال له وكيل الملك: أعطيك مهلة لتسليمها وبقيت في دهليز آخر، وكان هنالك الجميع، لمدة ستة أشهر.(تتدخل زوجة إدريس كويس، وتقول: اتصلت أنا بوكيل الملك في المدينة وقلت له: حاكمه، ولا تبقه في السجن إذا كان يحمل السلاح).
قضيت عاما في سجن لعلو بدون محاكمة. والذي كان مشرفا على الاختطاف هو جماعة السكوري والعتابي، وحزب الاستقلال هو الذي كان يقود هذه العمليات. السكوري وجماعته. وفي الكوميسارية كان السكوري هو الذي يقوم بتعذيبي، ويضع رأسي في برميل الماء الملوث. كانت أشياء لا تتصور.
وفي تطوان كنا جالسين في مقهى ناسيونال، كنا نتحدث. جاء شخص من سيدي إيفني، دخل المقهى وهو يشير إلى شخص آخر يرافقه، وقال له: هذا. فوضع المسدس على رأسي، فقلت له: ماذا تريد؟ فقال له الشخص المذكور: لا، الشخص الآخر. فألقى القبض على السيد عبد السلام الطود. إن دار بريشة مقبرة جماعية، كانوا يأمرون المختطفين بحفر قبورهم، ثم يدفنونهم فيها.