عماد شقيري
صرح الحسين الوردي وزير الصحة، قبل نحو شهر من الآن، أنه «ليس هناك أي دراسة علمية تؤكد ارتفاع عدد الإصابات بالسرطان في الريف مقارنة مع مناطق أخرى في المغرب»، قبل أن يضيف أن «الكلام ليس نهائيا في الموضوع، ولا يعني نفي ما يروج عن كون الغازات السامة التي قصفت بها المنطقة من مسببات ارتفاع عدد المصابين بالسرطان»، كلام الوزير يحتمل أكثر من تأويل، فالوزير نفى وجود أدلة «مادية» علمية تثبت وجود علاقة سببية بين الغازات السامة وانتشار مرض السرطان في الريف، ورفع تحديا واضحا «من يتوفر عليها فليأتيني بها»، في المقابل لم يغلق الوردي الباب بشكل كلي أمام فرضية وجود هذه العلاقة السببية، بمعنى آخر الوزير لم يقدم جوابا، ووعد بالكشف قريبا عن نتائج دراسة في الموضوع.
عموما، هو فصل آخر من فصول الجدل الذي يثيره ملف الغازات السامة، الفعاليات المدنية وجزء واسع من سكان المنطقة، تكونت لديهم قناعة راسخة بأن منطقتهم «منكوبة» وتعرف أكبر نسبة للإصابة بهذا الداء الفتاك، وهي قناعة مقبولة للغاية، في ظل غياب أدلة مقنعة تقول العكس، أيضا المعطيات التي توصلت إليها «المساء» تظهر أن الكثير من مناطق الظل تغطي موضوع السرطان، مثلا جل حالات الوفيات التي تعرفها المنطقة، لا يتم إنجاز تقارير دقيقة حول أسبابها، ولا تجرى تشريحات طبية على الموتى لحسم الشك، ويسود اعتقاد عام في مناطق الريف والشمال، بكون الموتى نتيجة الإصابة بالسرطان «مغضوب عليهم»، فيما يشبه غضبا «إلهيا»، أضف إلى ذلك، أن الأرقام لا تعكس بالضرورة حقيقة الواقع، وهنا تحديدا كان وزير الصحة محقا، حيث تغيب إحصائيات دقيقة وذات مصداقية، لكن القول بعدم وجود علاقة بين انتشار السرطان، مهما كانت أرقام ضحايا هذا المرض، منخفضة أو مرتفعة، وبين الغازات السامة لمجرد غياب دراسات وإحصاءات، أمر مختل منهجيا، لأن غياب معطيات ميدانية، لا يعني بالضرورة عدم انتشار السرطان في الريف بأرقام أكبر من باقي مناطق المغرب، بل يمكن قول العكس، غياب أرقام وإحصاءات دقيقة، ألا يعني أن هذه الأرقام كبيرة وتتجنب الجهات الرسمية كشفها؟
على أي، هذا جدل يصعب حسمه، لكن العلم وتحديدات مختبرات البيولوجيا والطب، تقدم إجابات مبنية على تجارب، ويمكن مقارنة نتائج هذه التجارب بحالة الريف، لننتهي إلى خلاصات قريبة جدا من الحقيقة، ولا تحتاج إلا التأكيد العلمي الميداني، لذلك عندما نقارن حالة حرب الفيتنام، التي استخدمت فيها الولايات المتحدة غاز الخردل، وهو الغاز ذاته الذي استخدمته إسبانيا في حرب الريف، وأيضا الدراسة الميدانية التي أجرتها باحثة بريطانية وتبنتها الأمم المتحدة، بحلبجة العراقية، التي قصفها صدام حسين سنة 1988، بغاز الخردل، نصل إلى نتيجة واحدة، غاز الخردل إذا استخدم بنسب تركيز عالية، وكميات كبيرة، يؤدي إلى السرطان، وخاصة في حرب تشير جل الوثائق والشهادات التاريخية، إلى أن إسبانيا استخدمت الغاز السام بكميات ضخمة، مستخدمة الطيران الحربي لأول مرة في تاريخ الحروب الكيماوية والبيولوجية.
المؤرخة الإسبانية الشهيرة، ماريا روزا دي مادرياغا، ذكرت في مؤلفاتها حول حرب الريف، وفي مقالاتها والندوات التي تشارك فيها، أن إسبانيا استخدمت الغازات السامة في حرب الريف، ووثائق كثيرة من الأرشيف العسكري الفرنسي، مراسلات قيادات الجيش الإسباني، ووزير الحربية البريطاني في تلك الفترة (حرب الريف)، كلها شواهد على استخدام إسبانيا للغازات السامة بهدف «الانتقام من الريفيين»، بعد سلسلة الهزائم المذلة التي عاناها الجيش الإسباني، والمثير أن ريفيا مغربيا، هو والد المارشال أمزيان، كان من أكثر المطالبين بتدمير الريفيين وإبادتهم بالغازات السامة، إضافة إلى الماريشال ذاته، الذي شارك في الحرب، وساهم بعد الاستقلال في قمع «انتفاضة 58/59» التي عاشها الريف والمعروفة «بعام الجبل»، وهذه كلها مؤشرات قوية على أن إسبانيا استخدمت ما يكفي من الغازات السامة، لتتسبب في سرطنة الخلايا البشرية، وبالتالي انتقال السرطان عبر المورثات الجينية عبر الأجيال، ليصل إلينا اليوم.
في هذا التحقيق، تنقل لكم «المساء»، كيف ينتقل السرطان وراثيا، من جيل إلى آخر، وكيف تبين النتائج المخبرية أن الغازات التي استخدمتها إسبانيا في حربها على المقاومة الريفية، بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي، تسبب السرطان.
"الطاعون الأصفر" الذي مازال يفتك بسكان الريف
هل هناك علاقة سببية بين استخدام الغازات السامة وانتشار مرض السرطان؟ هذا هو السؤال الأساس الذي طرحته الجريدة على باحثين متخصصين في علم الأحياء والبيولوجيا الكيماوية، كان دقيقا، وكانت الأجوبة متقاربة إلى درجة التطابق، فالدكتور النعمان السعلاوي لم ينف غياب هذه العلاقة، ولم يؤكدها أيضا، لأن أجوبة رجال العلم تحددها مختبرات البحث الدقيق، على عكس أجوبة المؤرخين التي تحددها معطيات ووقائع تاريخية، ومن السهل تلقي أجوبة حاسمة «وحماسية» من المؤرخين، لكن من الصعب للغاية أن تحصل على جواب شاف من رجال العلم، لكن رغم ذلك للعلم قواعد «مجربة»، مثلا إذا تعرضت خلية في جسم الإنسان إلى إصابة بفيروس معين نتيجة التعرض لمواد كيماوية أو مواد سامة فإنها تصاب بخلل في أداء وظيفتها في الحفاظ على الانقسام العادي، وبالتالي تكون النتيجة الإصابة بمرض السرطان، أمر يؤكده الدكتور محمد بلاوي الأستاذ بكلية الطب والصيدلة بجامعة محمد الأول بوجدة، الذي يقول إن «ارتفاع عدد المتغيرات التي تتعرض لها الخلية، يفقدها القدرة على السيطرة على الانقسام الطبيعي، وفقدان السيطرة يؤدي إلى السرطان»، ويضيف بلاوي، الذي كشف لـ«المساء» أنه يشتغل منذ ثلاث سنوات، رفقة فريق علمي على دراسة ميدانية حول المتغيرات الجينية التي قد تكون الغازات السامة قد تسببت فيها لدى سكان الريف، أن التعرض لغاز الخردل بنسبة تركيز كبيرة، يتسبب في خلل وظيفي يصيب خلايا الجسم، لكن الدراسات التي أنجزها لم تكشف عن نتائج حاسمة إلى حدود اللحظة.
الدكتور بلاوي المتخصص في البيولوجيا الكيماوية، وعلم الجينات، يشرف على أطروحتين لنيل الدكتوراه في موضوع علاقة الغازات السامة بالإصابة بمرض السرطان، ويشتغل بشكل مكثف لحل هذا «اللغز» العالق، بالتعاون مع الدكتور السعلاوي منسق قسم البيولوجيا الكيماوية بمختبر البحوث العلمية بوجدة، حيث أجرى الباحثان تجارب مخبرية دون أن يتوصلا إلى نتائج قطعية، لكنهما أكدا معا أن السرطان بالفعل ينتقل وراثيا من خلال الجينات المنقولة من الآباء إلى أبنائهم، ومع توالي عملية الوراثة تصبح هذه الجينات «المرضية» المسؤولة عن السرطان، جزءا من الخريطة الصبغية الوراثية للسلالة.
غياب إجابة علمية مباشرة، بمعنى آخر غياب دراسة ميدانية مبنية على تجارب مخبرية، تمكننا من الربط بين هذه المواد الكيماوية، وكيفية تأثيرها على الخلايا البشرية، لتسبب طفرات جينية على مستوى هذه الأخيرة، وبالتالي ظهور خلايا سرطانية، وكذا على مستوى المحيط الإيكولوجي ومكوناته من نباتات ومياه وأتربة، لا يعني بالمرة عدم وجود علاقة بين الأسلحة الكيماوية وانتشار السرطان، بل العكس تماما، فالعلوم البيولوجية والكيميائية، التي تطورت بشكل لافت للغاية، تؤكد بشكل حاسم أن غاز الخردل يتسبب بشكل مباشر في مرض السرطان، في حال تعرض المصابون لمستوى مرتفع من الغاز المذكور، وفي الريف تثبت المراجع التاريخية، أن إسبانيا استخدمت بشكل مكثف، هذا النوع من الغازات، التي تصنف وفق المواثيق والمعاهدات الدولية، كأسلحة دمار شامل محظورة دوليا (اتفاقية لاهاي 1899، 1907 و1954، اتفاقية جنيف 1864، بروتوكول جنيف 1925 و1926، اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية 1972، اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية 1973…)، وكانت نتائجها كارثية وقت استخدامها، ما يعني أن فرضية تسبب غاز الخردل في طفرات جينية حولت الخلايا البشرية إلى خلايا مسرطنة-مرضية، فرضية قوية في غياب العكس.
هل ينجح المختبر في إنهاء الجدل؟
الفرق بين المؤرخ والسياسي، وبين رجل العلم، هو أن الأولين يعتمدان الأحداث والوقائع، لإنتاج الموقف والجواب، بينما الثاني، يعتمد نتائج التجارب العلمية الدقيقة، التي يجريها داخل المختبر، لذلك كان من الصعب جدا إقناع الباحثين في مجال البيولوجيا (علم الأحياء)، بالحديث في موضوع علاقة السرطان باستخدام الغازات السامة في الريف، في ظل غياب دراسة ميدانية مختبرية، لكن الفرضيات العلمية، تقول بأن غاز الخردل، إذا استخدم بنسبة تركيز عالية، فإنه يؤدي بشكل مباشر، إلى حدوث طفرة جينية (mutation génétique)، تصيب الخلية بخلل في أداء وظيفتها بالحفاظ على انتظام تطورها، ويقول الدكتور النعمان السعلاوي، إن الخلية عندما تصاب بخلل في وظيفتها فإنها تؤدي إلى السرطان، وهذا الخلل يحدث طفرة في الخريطة الجينية للإنسان، وينتقل هذا الخلل الجيني وراثيا إلى الأجيال اللاحقة، ما يجعل فرضية انتقال السرطان وراثيا أمرا واردا من وجهة النظر العلمية المختبرية، لكن مع ذلك هناك أسباب كثيرة للإصابة بالسرطان.
الدكتور السعلاوي مدير مختبر البيولوجيا الكيماوية بجامعة محمد الأول بوجدة، أكد أنه لا توجد إلى حدود اليوم أية دراسة علمية، سواء إحصائية أو من خلال إجراء تجارب على حالات بعينها، للقول بوجود علاقة سببية بين الغازات السامة التي استخدمتها إسبانيا في الشمال المغربي ما بين 1921 و1926، ومرض السرطان بالشمال، السعلاوي الذي يشتغل على بحث بيولوجي حول مرض السرطان والمواد المسرطنة والعلاجات الممكنة لهذا الداء الفتاك، وسبق له أن نشر مقالات علمية في الموضوع بمجلات علمية معروفة بالولايات المتحدة الأمريكية، كشف لـ«المساء» أن فرضية وجود علاقة بين مرض السرطان والغازات السامة، خاصة غاز الخردل، فرضية ممكنة، لكن من الممكن أن تكون هناك أسباب أخرى لانتشار المرض، وبالتالي فالأمر يبقى مجرد فرضيات مبنية على دراسات بيولوجية-جينية، لكن يصعب الحسم بالقول إن انتشار السرطان بمناطق الشمال والريف يعود بشكل مباشر لاستخدام الغازات السامة، حسب السعلاوي.
داخل مختبره بكلية العلوم بجماعة محمد الأول بوجدة، يشتغل السعلاوي بشكل مكثف على مرض السرطان، يقول الباحث في هذا الصدد، إن البحث العلمي بالجامعات المغربية يعاني من نقائص عديدة، أبرزها غياب معدات ومختبرات متطورة تستجيب للتطورات التي يعرفها البحث العلمي، وبالتالي لا يمكن القول علميا بوجود علاقة بين السرطان واستخدام الغازات الكيماوية، ولا يمكن نفي هذه العلاقة أيضا، ليبقى السؤال عالقا مادامت الدولة المغربية لم تقرر إنجاز دراسة ميدانية علمية حول الموضوع، علما أن الحالات المشابهة لحالة المغرب، مثل حرب الفيتنام التي استخدمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية غاز الخردل بكثافة، والحرب العالمية الثانية، وحالة العراق الخاصة بحلبجة، وحالات أخرى أثبتت علميا وجود علاقة مباشرة بين غاز الخردل ومرض السرطان، ما يعني أن مقارنة هذه الحالات بالحالة المغربية، يقربنا كثيرا من فرضية وجود علاقة سببية، بعيدا عن المعطيات التاريخية التي ركزت بشكل كبير على الجوانب القانونية، ومدى تورط إسبانيا وفرنسا في استخدام أسلحة محظورة دوليا، فجميع المعطيات التي تداولها المؤرخون، والأدلة التي يحتفظ بها الأرشيف العسكري الفرنسي، تؤكد استخدام هذه الأسلحة، والمناطق التي شملها قصف الطيران الإسباني، إضافة إلى شهادات من عاشوا مرحلة الحرب (1921-1926)، ما يعني أن الجبهة القانونية والتاريخية أصبحت أقرب إلى النقاش الروتيني، لكن الحلقة الأساسية في الموضوع لم تتم الإجابة عنها إلى حدود اليوم، هل تسببت الأسلحة الكيماوية في إصابة الضحايا بمرض السرطان؟ وهل أصبح انتقال هذا الداء الفتاك وراثيا نتيجة إصابة الخريطة الجينية لهؤلاء بخلل جيني ينتقل إلى الأجيال اللاحقة؟
هل تخشى الدولة من الحقيقة؟
هناك تفسيرات متفرقة بشأن هذا الموضوع، حسب ما توصلت إليه «المساء» من خلال لقاءات بباحثين في مجال البيولوجيا والعلوم الكيماوية، وفاعلين جمعويين وسياسيين أيضا، حيث يرى هؤلاء أن التوصل إلى نتائج حاسمة، قد تكشف انتقال السرطان وراثيا في هذه المناطق، نتيجة تعرض الأجيال السابقة، التي عاشت حرب الريف، لقصف مكثف بالأسلحة الكيماوية، سيتسبب في صدمة مفجعة لسكان هذه المناطق، كما أن نتائجه السياسية، ستكون مكلفة للغاية، وقد تؤدي إلى فتح جرح عميق، تحول مع مرور الوقت، إلى مجرد روايات تاريخية لا أحد يأبه لها، وتحولت إلى ما يشبه حكايات الجدات، لكن الحقيقة المرة، حسب باحثين متخصصين فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم لحساسية الموضوع، فإن فرضية (والفرضية هنا بالمعنى العلمي تكون مسنودة بأدلة علمية مختبرية)، وجود علاقة سببية بين الغازات الكيماوية، ومرض السرطان، فرضية أقوى مما يتصوره الكثيرون، حتى أن بعض الدراسات الأولية التي أنجزت بشكل غير مباشر في المنطقة، خلصت إلى نتائج تعزز هذه الفرضية، أولها حسب هؤلاء، غياب تصاريح بأسباب الوفاة في العديد من المستشفيات بالمنطقة، ما يعني أن الأرقام التي تكشف لا تعكس الحقيقة كاملة، ويتم التستر على حجم انتشار الداء المميت.
يقول واحد من الباحثين في البيولوجيا، من أبناء منطقة الريف، إن دراسة أجراها سنة 2007، خلصت إلى نتائج مثيرة، أولها، غياب تصاريح طبية دقيقة لأسباب وفاة غالبية الوفيات التي تحدث داخل المستشفيات العمومية، وأضاف الباحث ذاته، أن الحالات الكثيرة المسجلة في المستشفيات تتم الإشارة إليها عرضيا كوفايات عادية طبيعية، ولا يتم تحديد أسباب الوفاة، ما يطرح الكثير من الأسئلة، لماذا ترفض إدارات المستشفيات تحرير تقرير مفصل لأسباب الوفاة لمعرفة أصناف وأنواع الأمراض الأكثر تسببا للوفيات في منطقة الشرق والشمال؟ وكشف الباحث المختص في البيولوجيا، أن الدراسة خلصت أيضا إلى أن أعدادا كبيرة من الوفيات سجلت بالمستشفيات العمومية، بينما لم تسجل إلا حالات قليلة جدا داخل المصحات الخاصة، مضيفا، أن المصحات الخاصة «تتخلص» من المرضى الذين تتحقق من وفاتهم المحتومة، حفاظا على سمعتها وصورتها لدى زبنائها، ما يجعل الصورة المتداولة حول الصحة، هو أن المستشفيات العمومية تقتل أكثر، بينما لا أحد يموت داخل المصحات الخاصة.
عموما، البحث الذي أجري تحت غطاء حملات التبرع بالدم، كشف أن أشياء غامضة تحدث، حيث قال المشرفون على البحث، من المتعارف عليه في الأوساط العلمية، وفي الأعراف الطبية، أن الوفاة يجب أن تصاحب بتقرير طبي مفصل، يحدد بدقة أسباب الوفاة، ونوعية المرض، حيث تسمح هذه التقارير، التي تكون مسنودة بتشريح طبي دقيق، بإجراء أبحاث علمية لتطوير العلاجات، ومعرفة الأمراض الأكثر انتشارا، وتحديد مسبباتها، لكن في المغرب، لا شيء من هذا يحدث، إلا في حالات قليلة يكون المرض فيها معروفا للجميع، ومع ذلك لا تجرى التشريحات الطبية على الجثث، وهذا أمر غير مقبول علميا وطبيا، حسب المصدر ذاته.
عموما، يبدو أن التكلفة الطبية، ستكون عالية نسبيا، إذا أجريت هذه التشريحات، لكن، ستساعد كثيرا في كشف المزيد من نقاط الظل التي تغطي ملف السرطان، ليس في الريف والشمال وحده، ولكن في المغرب بأكمله، وإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى، سنجد وجهة نظر تقول، إن المغرب لا يتوفر على الإمكانات الكافية، لإجراء أبحاث علمية، وطبية في ظل غياب مختبرات مجهزة، لكن هذا التبرير له جوابه، فالمختبرات العالمية، تعرف الطريق جيدا إلى تمويلات الأبحاث التي تنجزها، مثلا تكلف الأبحاث العلمية حول السرطان في فرنسا نحو 150 مليون أورو سنويا، (أزيد من 150 مليار سنتيم)، وتساهم الدولة في تجهيز وتمويل نحو 170 مشروعا بحثيا، سنويا، حسب الفيدرالية الفرنسية لمراكز مكافحة السرطان UNICANCER))، وتساهم شركات الأدوية، والصناعات الطبية وغيرها، في تمويل هذه المشاريع، ما يعني أن مسألة التمويل ليست بالعائق المعجز، وبالتالي يمكن للدولة المغربية، أن تبرم اتفاقيات تعاون مع هذه المختبرات، الموجودة في العديد من الدول، خاصة فرنسا التي تعتبر مسؤولة عن الأضرار الفادحة التي لحقت منطقة الشمال والريف، لكونها شاركت في حرب الريف، المهتمة بالبحث العلمي، كما يمكن للمغرب أن يتقدم بطلب رسمي لدى الأمم المتحدة، لإجراء دراسة بحثية ميدانية، حول انتشار السرطان في الريف والشمال، وعلاقته باستخدام إسبانيا للغازات الكيماوية في حرب الريف.
هكذا يقتل غاز الخردل
من الصعب للغاية التوغل كثيرا في التركيبة الجينية للإنسان وباقي الأحياء، لكن العلم لا يتحدث خارج لغة الأرقام والمعادلات والتجارب أساسا، لذلك كان لابد من نقل نماذج من رحم العلوم الحقة، للقراء لكي تكون المعلومة أكثر دقة، لأن الباحثين في البيولوجيا (علم الأحياء)، والكيمياء، كانوا مصرين على ضرورة سد كل الأبواب والاجتهادات (غير العلمية) من خلال نقل التفاعلات التي تحدث داخل خلايا الأجسام، حتى تكون الصورة أكثر اكتمالا، وفي هذين النموذجين نموج لما يحدث داخل أجزاء جد دقيقة من أجسامنا، وتؤدي إلى السرطان.
الشيمة: على اليسار جزيئة من المركبات الكيميائية للنيكليوسيد وهي خلية نووية مكونة للحمض النووي، وعندما تتفاعل مع أيون السيلفونيوم (S) التي توجد بغاز الخردل تصبح خلية مختلة (مسرطنة)، تنتقل عبر الحمض النووي من الأسلاف إلى الأبناء وراثيا. في هذه الحالة تحدث الطفرة الجينية وتتحول إلى مكون دائم للحمض النووي، تصاب الخلية (طفرة جينية) وتدخل تعديلات على الحمض النووي، فتتحرك الأنزيمات لتعديل الخلل، ونتيجة لذلك يصبح الحمض النووي مختلا ويحفز «اللابوبتوز»، ما يعني الموت التدريجي للخلية، وعندما يعجز نظام المناعة عن تعديل الخلل الذي أصاب الحمض النووي (الطفرة)، تتحول الخلية إلى خلية سرطانية بالضرورة (النموذج التالي بعد الطفرة الجينية).
كما يؤكد متخصصو علم الجينات والبيولوجيا، أنه كلما تقدمنا من جيل إلى جيل لاحق، إلا وزاد عدد المصابين بالمرض، في حالة انتقاله جينيا، وهنا يكمن خطر الأمراض المنتقلة جينيا، مثلا إذا كانت أسرة بها مصابين اثنين فقط بمرض السرطان، فاحتمال إصابة 3 أو 4 بالمرض، جد وارد، بالنسبة للجيل الثاني في العائلة نفسها، إذن فالجواب هو نعم يقتل.
غاز الخردل … الطاعون الأصفر
استخدم غاز الخردل في الثمانينيات من طرف نظام البعث ضد الأكراد بحلبجة العراقية، وتسبب، لعشرات الآلاف من المدنيين، في حروق على مستوى الجلد والعينين، المؤدي إلى العمى، والتهابات حادة في الأمعاء، ومختلف أجزاء الجسد، وحسب الأبحاث التي أجرتها الباحثة في جامعة لفربول الإنجليزية، «كريستين كوستن» (Christine Gosden)، يتحول غاز الخردل إلى مادة مسببة للسرطان، في حال لم يبطل مفعوله بسرعة، وتصبح تأثيراته الخطيرة على الإنسان بعيدة المدى، ولهذا السبب يصنف الخردل كسلاح كيماوي.
غاز الخردل، ليس مجرد مادة كيماوية بسيطة، لأن التركيبة الكيميائية-الاصطناعية، التي تحوله إلى سلاح فتاك، جعلته من أخطر الأسلحة، وأكثرها تدميرها، وهو مركب أو جزيئة كيميائية، ذات الصيغة الكيميائية (C4H8Cl2S) مشكل من الكاربون، الكلور، الكبريت والهيدروجين أساسا، ويعرف بغاز الإيبيريت نسبة لمدينة «إبريس» البلجيكية، التي استخدم فيها غاز الخردل، بشكل مكثف في الحرب العالمية الأولى، وتكمن خطورة غاز الخردل، في قدرته الكبيرة على اختراق الخلايا، وإحداث تغيير في تركيبة جزيئة الحمض النووي ADN) (، وبالتالي حدوث خلل حاد في وظيفة الخلايا المصابة، واحتمال تحولها إلى خلايا سرطانية، وعند استعمال هذا الغاز كسلاح، يتم خلطه بعدد من المواد حتى يصبح قاتلا، كحمض الهيدروكلوريك، وثنائي كليول إيثلين الكبريت، المستخدمة في بعض الصناعات الكيماوية، مثل مادة أوكسيد الإثلين وكبريتيد الهيدروجين، ويتميز غاز الخردل برائحته الشبيهة برائحة الخردل (الموتارد) المستخدم في الأكل، وبرائحته الخفيفة، وشكله الشبيه بالكبريت عندما يكون على شكل غبار، وتحكي الشهادات الشفوية، للأجيال التي عاشت تجربة حرب الغازات السامة في الريف، أن الطائرات كانت ترميهم بالكبريت، أو (آرهاج) ويعني السم باللهجة الريفية، وهي شهادات متداولة على نطاق واسع في الريف، ومناطق الشمال التي تعرضت للقصف.
الصور التي ظلت متناقلة في وسائل الإعلام، حول حرب الريف، تظهر إصابة الضحايا بتقرحات جلدية، والتهابات حادة تصيب العيون، كما أن الروايات التاريخية، نقلت أيضا نفوق الآلاف من الحيوانات، وهي مؤشرات تدل على أن القصف كان مكثفا، بشكل كاف ليتسبب الغاز السام في إحداث أضرار غاية في الخطورة، وبمقارنتها بحالة حلبجة العراقية، وحرب الفيتنام، يمكن القول بأن فرضية حدوث طفرة جينية تصيب التركيبة الجينية للإنسان، والحيوانات والنباتات بالسرطان، وبالتالي تنتقل وراثيا، من خلال الحمض النووي ADN إلى الأجيال اللاحقة، وأيضا من خلال المورثات الجينية، رغم تشدد الأوساط العلمية في التصريح المباشر بهذه المعطيات، لسبب بسيط، هو أن العلماء لا يقرون إلا بالنتيجة المادية المباشرة، التي تخلص إليها التجارب داخل المختبر، وهنا يطرح سؤال آخر، لماذا ترفض الدولة المغربية القيام بدراسة ميدانية حول الموضوع؟
حلبجة العراقية واجهة أخرى لحرب الغازات السامة
في سنة 1999 نشرت صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية مقالا مثيرا حول نتائج استخدام النظام العراقي للأسلحة الكيماوية ضد الأكراد بمدينة حلبجة عام 1988، المقال نشر خلاصات الأبحاث التي أنجزتها الباحثة البريطانية بجامعة لفربول «كريستين كوستن» (Christine Gosden)، والتي صاحبتها كاميرا قناة «بي بي سي» طيلة رحلة بحثها، كانت نتائج الدراسة حاسمة، حيث توصلت الباحثة الشهيرة ورئيسة قسم التشوهات الوراثية بالجامعة ذاتها، إلى أن غاز الخردل الذي استخدمه نظام صدام حسين حينها (الغاز نفسه الذي استخدم في حرب الريف 1921-1926)، أدى إلى طفرات جينية أصيب على إثرها المدنيون بمرض السرطان، وأكدت الباحثة التي مولت الأمم المتحدة بحثها الميداني، أن السرطان ينتقل وراثيا من جيل إلى آخر بسبب هذه الطفرات الجينية، ربما تكون الدراسة مدفوعة بأغراض سياسية تتجاوز حدود المعرفة العلمية، لكن نتائجها كانت قاطعة للشك، لأنها بنيت على تجارب مخبرية أجريت على عينات عديدة من الضحايا، واعتمدتها الأمم المتحدة كواحدة من الأدلة الرئيسية لاستخدام النظام العراقي لأسلحة الدمار الشامل، والتي ستقود في سنة 2003 إلى شن حرب على العراق، ستنهي وجود نظام البعث، عموما، قدمت الباحثة نتائج دراستها أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بجنيف، وجاء في جزء من التقرير النهائي «الضحايا أصيبوا بسرطان الجلد الذي يؤدي إلى موت مباشر وسريع، مشاكل في التنفس، اضطرابات في النظام العصبي، طفرات جينية لدى الأطفال حديثي الولادة… نسبة الإصابة بالسرطان مرتفعة أربع مرات أكثر من المدن المجاورة لحلبجة…».
المقارنة وحدها ليست كافية تماما، لكنها تقربنا أكثر من معرفة حقيقة السؤال العالق حول حالة الريف، في ظل غياب دراسة ميدانية، وإحصاءات دقيقة موثوقة، أيضا هناك تفصيل صغير قد يرجح كفة الفرضيات التي تناولها الملف، يتعلق الأمر بعدد الوفيات في كل عائلة، وهذا الأمر ربما لا يحتاج إلى مختصين في الإحصاء والدراسات السوسيولوجية، بقدر ما يحتاج إلى عيش تجربة السرطان ذاتها، وربما لا تخلوا كل عائلات الشمال والريف من حالة أو أكثر أصيبت بالسرطان، وهناك عائلات تحققت «المساء» فعليا من إصابة أكثر من فرد منها بمرض السرطان، وفي هذه الحالات نجد أن الجد توفي بالسرطان، وأخ الجد، العم، الأب… وهكذا، ربما تكون محض صدفة، لكنها صدفة مثيرة للقلق، خاصة في ظل وجود حالات توفيت بسبب سرطان المثانة «البروسطات»، وهو من أكثر أنواع السرطان انتقالا عبر العلاقة الجنسية، حيث ينتقل الحمض النووي من الشريك المصاب إلى الشريك الثاني، وهذا الأمر يضاعف من احتمالية إصابة الأبناء بالسرطان، وهذا النوع من السرطان أكده الدكتور بلاوي أستاذ بكلية الطب بوجدة، حيث أكد لـ»المساء» أن السرطان ينتقل بالفعل عبر الحمض النووي.
مادارياغا.. مؤرخة إسبانية تعيد زراعة الشك
في السادس من شهر فبراير الماضي، نشرت صحيفة «إلباييس» الإسبانية واسعة الانتشار، مقالا مثيرا للمؤرخة الشهيرة «ماريا روزا مادارياغا»، وكتبت مؤلفة كتاب «إسبانيا والريف.. أحداث تاريخ شبه منسي»، «بدأ استخدام الغازات السامة في منطقة الحماية الإسبانية عام 1923، حيث تم استخدامها في بادئ الأمر من قبل المدفعية، ثم من قبل الطيران بعد ذلك، وكان الجيش يرغب في توسيع نطاق استخدامها بهدف إحداث أكبر قدر ممكن من الأضرار المادية والجسمانية، وتحطيم معنويات المقاتلين الريفيين والسكان المدنيين، ولكن حال عدد من العوامل، بعضها ذات طابع تقني والآخر سياسي، دون بلوغ هذا المسعى، ويبدو أنه كانت هناك انتقائية في التركيز على أهداف وقبائل محدودة جدا، سيما في الريف الأوسط الذي يشكل النواة الصلبة للمقاومة الريفية، إلا أن استخدامها وصل إلى أراضي قبائل «غمارة» والجهة الغربية حيث تستقر قبائل «جبالة». وبدأ استخدامها قبل قيادة «بريمو دي ريفيرا»، وتم تكثيفها بعد ذلك تحت سلطته لتستمر حتى نهاية الحرب في يوليوز عام 1927»، وقالت المؤرخة في المقالة نفسها «من الصعب تفسير وجود علاقة سببية بين الإصابة بالسرطان وهذه المادة المسرطنة (غاز الخردل)، في حالات التعرض مرة واحدة أو التعرض من حين لآخر لهذا الغاز، مثل ما حدث أثناء القصف، وبالتالي، سيكون من المغالاة القول بأن أغلب حالات الإصابة بالسرطان في الريف يمكن أن تعزى إلى آثار «غاز الخردل» في السكان وأحفاد أولئك الذين تضرروا في العشرينيات من القرن الماضي جراء القصف».
هناك توافق بين الأوساط العلمية وكلام الباحثة الإسبانية، حول صعوبة الحسم في العلاقة السببية بين استخدام غاز «الخردل» والإصابة بمرض السرطان، في ظل غياب دراسة علمية ميدانية، لكن المبررات نفسها التي تدفع الكثيرين إلى رفض فرضية وجود علاقة مماثلة، يمكن استخدامها للقول بالعكس، فما الذي يمنع من القول بوجود هذه العلاقة السببية إذا كانت البحوث العلمية الدقيقة هي الفاصل؟ إذن مادامت المختبرات العلمية بعيدة عن النقاش السائد حول الملف الذي سيكمل 100 عام، بعد أقل من 10 سنوات من الآن، فإن التأويلات ستبقى سيدة الموقف، مع ميل طفيف للكفة في اتجاه ترجيح فرضية وجود علاقة سببية بين الغازات الكيماوية ومرض السرطان، إذا ما انطلق البحث عن الجواب من قواعد علم الجينات والبيولوجيا الكيماوية، على النحو الذي ذكر في أجزاء سابقة من الملف، خاصة وأن المصادر التاريخية المختلفة التي تناولت موضوع حرب الريف، تؤكد استخدام الطيران الحربي الإسباني، لكميات هائلة من الغازات الكيماوية، فاقت 400 طن، أيضا يقول المختصون في علم الكيمياء العضوية، أن تأثيرات غاز الخردل لا تقتصر على المناطق التي تعرضت للقصف فقط، بل إنه «يسبح» في التربة ويمكن أن يلحق أضرارا بالفرشاة المائية، والنباتات، وبالتالي فإن تأثيرات الغاز القاتل، تنتشر على نطاق جغرافي واسع، وتشمل كافة مكونات المجال البيئي، وبالتالي ينضاف عامل آخر، لتدعيم فرضية وجود العلاقة السببية، بين انتشار مرض السرطان في الريف والشمال ومناطق مجاورة، مثل تازة وتاونات إلى حدود وجدة، وبين استخدام غاز الخردل في حرب الريف.
الماريشال أمزيان.. الريفي الذي طالب بإبادة بني جلدته
لم تقتصر المطالبة باستعمال الغازات السامة على إسبانيا، بل تعالت من المغرب، وقد دافع عنها صديق من المورو يدعى «أمزيان الطيب»، لتمييزه عن «أمزيان السيء»… «الجيد» كان في الحقيقة أحد المتعاونين الأوفياء مع إسبانيا، وهو أب الجندي المغربي المشهور محمد أمزيان، الذي شارك في الحرب، إلى جانب فرانكو سنة 1936، واحتل بعد ذلك رتبة جنرال»، هكذا تحدثت المؤرخة الإسبانية الشهيرة ماريا روزا دي مادرياغا في كتابها «مغاربة في خدمة فرانكو»، عن المارشال الشهير الذي خدم الجيش الإسباني على مدى أزيد من 40 سنة، وتدرج في مختلف الرتب العسكرية، قبل أن يلتحق بالجيش المغربي سنة 1956، برتبة ماريشال، وهي الرتبة التي لم يسبق لأي مغربي أن نالها في صفوف الجيش المغربي، ولا في الجيش الإسباني، ما عدى الملك السابق خوان كارلوس.
الوثائق التاريخية تقول بأن والد الماريشال أمزيان، كان من أشد المتحمسين لشن حرب كيماوية ضد المقاومة الريفية بزعامة محمد عبد الكريم الخطابي، وفي حوار صحفي أجراه أمزيان الأب، في 24 عشت 1921 مع جريدة «إيرالدو دي مدريد»، بدا الرجل ملحا على ضرورة استخدام الغازات السامة لإخماد الثورة الريفية «السياسة الوحيدة التي يجب اتباعها مع المورو هي القوة والشدة، يجب القضاء عليهم وإبادتهم، الانتقام منهم وقتلهم إن كان ذلك هو الثمن»، وكان إلحاح أمزيان على استخدام الغازات السامة ضد الريفيين، انعكاسا للمطالب التي تعالت من داخل الجيش الإسباني، باللجوء لحرب كيماوية مدمرة، انتقاما من الثوار الريفيين، الذين ألحقوا هزيمة شنيعة بالجيش الإسباني، في معركة أنوال الشهيرة، ولم يكن الماريشال أمزيان، ابن أمزيان، إلا واحدا من الجنود اللامعين في صفوف الجيش الإسباني، الأكثر كراهية للريفيين، وأبرز المطالبين بتدميرهم والانتقام منهم، بعد سلسلة الهزائم المذلة التي تسببوا فيها للجيش الإسباني، والتي خلفت استياء عارما داخل المجتمع الإسباني.
الماريشال أمزيان، المزداد بقبيلة بني نصار بالناظور سنة 1897، الذي التحق بالجيش الإسباني بمدرسة توليدو العسكرية سنة 1913، ودافع بشدة على العرش الإسباني، وأحد أبرز قادة الجيش الذين قادوا انقلاب الجنرال فرانكو ضد الجمهوريين الشيوعيين «الروخوس»، لم يكن يرى أي حل مع الريفيين إلا تدميرهم وإذلالهم، ولأنه كان مقربا جدا من الجنرال فرانكو، فقد كان له ما أراد، عندما اتخذت القيادة العليا للجيش قرارا حاسما، باللجوء للأسلحة الكيماوية، للقضاء نهائيا، على الصداع الذي يشكله محمد عبد الكريم الخطابي، بعد وفاة المجاهد الشريف أمزيان، الذي كانت تصفه إسبانيا «بأمزيان السيء»، وكان الماريشال أمزيان، أحد القادة المشرفين على قصف الريف بهذه الغازات التي خلفت خسائر كارثية في صفوف الثوار الريفيين، وألحقت أضرارا غاية في الخطورة، في صفوف المدنيين «تسبب غاز «إبيريتا» في حروق وتقيحات جلدية وحالات عمى مؤقت، وإن تسربت إلى الرئتين تتسبب في موت وهلاك المصاب» يقول الدكتور «فورازا» الفرنسي في مستشفى طنجة، صاحب خبرة واسعة في علاج الغازات السامة، حسب ما ورد في تحقيق أجراه وزير الجو البريطاني سنة 1925.
«الطاعون الأصفر» نسبة للون الأصفر لغاز الخردل «الإيبريت»، الشبيه بالكبريت، كان حاسما في إنهاء الثورة الريفية في أسرع وقت ممكن، لذلك استخدمت القوات الإسبانية، بمشاركة قوية للماريشال أمزيان، الذي كان برتبة كولونيل حينها، الطيران الحربي، لمنح الحرب الكيماوية نجاعة أكثر، وكانت المرة الأولى التي يستخدم فيها الطيران الحربي في حرب كيماوية «لقد كان للعمل الجوي تأثير إيجابي على العمليات الحربية الأرضية، مما ساعد على التوغل في أرض العدو، وإبادة السكان العزل، عبر قصفها للتجمعات السكنية والأسواق….»، وكشفت المؤرخة الإسبانية اعتمادا على رأي أحد المختصين، وهو القبطان الصيدلي «روني بيتا» الذي اعتمد على دراسات أخصائيين من مختلف بلاد العالم، من بينها دراسات جهاز الدفاع الأمريكي حول نتائج استعمال غاز «إبيريتا» (نسبة لمدينة إيبيريس البلجيكية التي تعرضت للقصف بغاز الخردل في الحرب العالمية الأولى)، كشفت أن الوكالة الدولية للبحث حول السرطان، تعتبر غاز «إيبيريتا» من المواد التي تتسبب في إصابة الإنسان بالسرطان، حيث تم تسجيل إصابات بالسرطان في صفوف العمال الذين يشتغلون في معامل تصنيع غاز «الإيبيريت»، وتضيف المؤرخة الشهيرة، أنه في المغرب، حاليا، حسب دراسات متخصصة، يظهر بأن منطقة الريف تعرف إصابات بالسرطان أكثر من الجهات الأخرى، ويرجح الأمر إلى قنابل «إيبيريتا» التي تعرضت لها البلاد هناك.
عموما، النتائج الكارثية للقصف الذي تعرض له الريف والشمال، أمر محسوب تقريبا، على الأقل من وجهة نظر تاريخية وعسكرية، والمثير ليس النقاش العالق حول انتشار السرطان بهذه المناطق فقط، بل أيضا، تورط مغاربة ريفيين، في واحدة من أقذر الحروب التي عرفها القرن العشرون، وتورد وثائق الأرشيف العسكري الإسباني والفرنسي، وعشرات المراسلات، أن الجيش الإسباني جند الآلاف من المغاربة، لخلق جبهة قوية من داخل القبائل الثائرة في الريف وجبالة، لعبوا أدوارا حاسمة في القضاء على الثوار، ومهدوا الأرضية المناسبة، والغطاء «الشرعي» للقصف الإسباني، أبرزهم أمزيان الأب والماريشال الابن، بعد موجة الانتقادات التي قادتها أحزاب اليسار والنقابات الإسبانية، منددة «برمي الجنود الإسبان إلى المذبحة»، حيث عمد القبطان جنرال «مارينا» بمليلية 1908-1911، إلى تجنيد عساكر ريفيين، وشكل منهم ما عرف حينها بالشرطة الأهلية، وفي 1921 مع اشتداد الحرب وتنامي الانتصارات التي حققها الثوار الريفيون، سيشكل الجيش الإسباني نخبة من الرماة الأوربيين، لقيادة المجندين المرتزقة، الذين تم تجنيدهم من قبائل الريف وجبالة وتازة، حيث كان الجنرال «غوميز خوردانا» قد سرع من وتيرة تجنيد المغاربة، تنفيذا لمرسوم ملكي يقضي بتوزيع المغاربة على أربع مجموعات قتالية، محلات المخزن، فرق النظاميين في المحلات، شرطة الأهالي ووحدات القوات المساعدة.
على أي، كانت مساهمة الجنود المغاربة المرتزقة، في حرب الريف 1921-1926، حاسمة، وفي مقدمتهم الماريشال أمزيان الذي سيحظى بعد استقلال المغرب، بأعلى رتبة عسكرية في تاريخ القوات المسلحة الملكية المغربية، بعد أن كان يحتل أعلى رتبة في الجيش الإسباني، والتي لم ينلها بعده إلا الملك خوان كارلوس، كما شيد للماريشال الذي ساهم بشكل كبير في إخماد انتفاضة الريفيين عام 1958/1959 متحف خاص بمدينة الناظور مسقط رأسه.
صرح الحسين الوردي وزير الصحة، قبل نحو شهر من الآن، أنه «ليس هناك أي دراسة علمية تؤكد ارتفاع عدد الإصابات بالسرطان في الريف مقارنة مع مناطق أخرى في المغرب»، قبل أن يضيف أن «الكلام ليس نهائيا في الموضوع، ولا يعني نفي ما يروج عن كون الغازات السامة التي قصفت بها المنطقة من مسببات ارتفاع عدد المصابين بالسرطان»، كلام الوزير يحتمل أكثر من تأويل، فالوزير نفى وجود أدلة «مادية» علمية تثبت وجود علاقة سببية بين الغازات السامة وانتشار مرض السرطان في الريف، ورفع تحديا واضحا «من يتوفر عليها فليأتيني بها»، في المقابل لم يغلق الوردي الباب بشكل كلي أمام فرضية وجود هذه العلاقة السببية، بمعنى آخر الوزير لم يقدم جوابا، ووعد بالكشف قريبا عن نتائج دراسة في الموضوع.
عموما، هو فصل آخر من فصول الجدل الذي يثيره ملف الغازات السامة، الفعاليات المدنية وجزء واسع من سكان المنطقة، تكونت لديهم قناعة راسخة بأن منطقتهم «منكوبة» وتعرف أكبر نسبة للإصابة بهذا الداء الفتاك، وهي قناعة مقبولة للغاية، في ظل غياب أدلة مقنعة تقول العكس، أيضا المعطيات التي توصلت إليها «المساء» تظهر أن الكثير من مناطق الظل تغطي موضوع السرطان، مثلا جل حالات الوفيات التي تعرفها المنطقة، لا يتم إنجاز تقارير دقيقة حول أسبابها، ولا تجرى تشريحات طبية على الموتى لحسم الشك، ويسود اعتقاد عام في مناطق الريف والشمال، بكون الموتى نتيجة الإصابة بالسرطان «مغضوب عليهم»، فيما يشبه غضبا «إلهيا»، أضف إلى ذلك، أن الأرقام لا تعكس بالضرورة حقيقة الواقع، وهنا تحديدا كان وزير الصحة محقا، حيث تغيب إحصائيات دقيقة وذات مصداقية، لكن القول بعدم وجود علاقة بين انتشار السرطان، مهما كانت أرقام ضحايا هذا المرض، منخفضة أو مرتفعة، وبين الغازات السامة لمجرد غياب دراسات وإحصاءات، أمر مختل منهجيا، لأن غياب معطيات ميدانية، لا يعني بالضرورة عدم انتشار السرطان في الريف بأرقام أكبر من باقي مناطق المغرب، بل يمكن قول العكس، غياب أرقام وإحصاءات دقيقة، ألا يعني أن هذه الأرقام كبيرة وتتجنب الجهات الرسمية كشفها؟
على أي، هذا جدل يصعب حسمه، لكن العلم وتحديدات مختبرات البيولوجيا والطب، تقدم إجابات مبنية على تجارب، ويمكن مقارنة نتائج هذه التجارب بحالة الريف، لننتهي إلى خلاصات قريبة جدا من الحقيقة، ولا تحتاج إلا التأكيد العلمي الميداني، لذلك عندما نقارن حالة حرب الفيتنام، التي استخدمت فيها الولايات المتحدة غاز الخردل، وهو الغاز ذاته الذي استخدمته إسبانيا في حرب الريف، وأيضا الدراسة الميدانية التي أجرتها باحثة بريطانية وتبنتها الأمم المتحدة، بحلبجة العراقية، التي قصفها صدام حسين سنة 1988، بغاز الخردل، نصل إلى نتيجة واحدة، غاز الخردل إذا استخدم بنسب تركيز عالية، وكميات كبيرة، يؤدي إلى السرطان، وخاصة في حرب تشير جل الوثائق والشهادات التاريخية، إلى أن إسبانيا استخدمت الغاز السام بكميات ضخمة، مستخدمة الطيران الحربي لأول مرة في تاريخ الحروب الكيماوية والبيولوجية.
المؤرخة الإسبانية الشهيرة، ماريا روزا دي مادرياغا، ذكرت في مؤلفاتها حول حرب الريف، وفي مقالاتها والندوات التي تشارك فيها، أن إسبانيا استخدمت الغازات السامة في حرب الريف، ووثائق كثيرة من الأرشيف العسكري الفرنسي، مراسلات قيادات الجيش الإسباني، ووزير الحربية البريطاني في تلك الفترة (حرب الريف)، كلها شواهد على استخدام إسبانيا للغازات السامة بهدف «الانتقام من الريفيين»، بعد سلسلة الهزائم المذلة التي عاناها الجيش الإسباني، والمثير أن ريفيا مغربيا، هو والد المارشال أمزيان، كان من أكثر المطالبين بتدمير الريفيين وإبادتهم بالغازات السامة، إضافة إلى الماريشال ذاته، الذي شارك في الحرب، وساهم بعد الاستقلال في قمع «انتفاضة 58/59» التي عاشها الريف والمعروفة «بعام الجبل»، وهذه كلها مؤشرات قوية على أن إسبانيا استخدمت ما يكفي من الغازات السامة، لتتسبب في سرطنة الخلايا البشرية، وبالتالي انتقال السرطان عبر المورثات الجينية عبر الأجيال، ليصل إلينا اليوم.
في هذا التحقيق، تنقل لكم «المساء»، كيف ينتقل السرطان وراثيا، من جيل إلى آخر، وكيف تبين النتائج المخبرية أن الغازات التي استخدمتها إسبانيا في حربها على المقاومة الريفية، بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي، تسبب السرطان.
"الطاعون الأصفر" الذي مازال يفتك بسكان الريف
هل هناك علاقة سببية بين استخدام الغازات السامة وانتشار مرض السرطان؟ هذا هو السؤال الأساس الذي طرحته الجريدة على باحثين متخصصين في علم الأحياء والبيولوجيا الكيماوية، كان دقيقا، وكانت الأجوبة متقاربة إلى درجة التطابق، فالدكتور النعمان السعلاوي لم ينف غياب هذه العلاقة، ولم يؤكدها أيضا، لأن أجوبة رجال العلم تحددها مختبرات البحث الدقيق، على عكس أجوبة المؤرخين التي تحددها معطيات ووقائع تاريخية، ومن السهل تلقي أجوبة حاسمة «وحماسية» من المؤرخين، لكن من الصعب للغاية أن تحصل على جواب شاف من رجال العلم، لكن رغم ذلك للعلم قواعد «مجربة»، مثلا إذا تعرضت خلية في جسم الإنسان إلى إصابة بفيروس معين نتيجة التعرض لمواد كيماوية أو مواد سامة فإنها تصاب بخلل في أداء وظيفتها في الحفاظ على الانقسام العادي، وبالتالي تكون النتيجة الإصابة بمرض السرطان، أمر يؤكده الدكتور محمد بلاوي الأستاذ بكلية الطب والصيدلة بجامعة محمد الأول بوجدة، الذي يقول إن «ارتفاع عدد المتغيرات التي تتعرض لها الخلية، يفقدها القدرة على السيطرة على الانقسام الطبيعي، وفقدان السيطرة يؤدي إلى السرطان»، ويضيف بلاوي، الذي كشف لـ«المساء» أنه يشتغل منذ ثلاث سنوات، رفقة فريق علمي على دراسة ميدانية حول المتغيرات الجينية التي قد تكون الغازات السامة قد تسببت فيها لدى سكان الريف، أن التعرض لغاز الخردل بنسبة تركيز كبيرة، يتسبب في خلل وظيفي يصيب خلايا الجسم، لكن الدراسات التي أنجزها لم تكشف عن نتائج حاسمة إلى حدود اللحظة.
الدكتور بلاوي المتخصص في البيولوجيا الكيماوية، وعلم الجينات، يشرف على أطروحتين لنيل الدكتوراه في موضوع علاقة الغازات السامة بالإصابة بمرض السرطان، ويشتغل بشكل مكثف لحل هذا «اللغز» العالق، بالتعاون مع الدكتور السعلاوي منسق قسم البيولوجيا الكيماوية بمختبر البحوث العلمية بوجدة، حيث أجرى الباحثان تجارب مخبرية دون أن يتوصلا إلى نتائج قطعية، لكنهما أكدا معا أن السرطان بالفعل ينتقل وراثيا من خلال الجينات المنقولة من الآباء إلى أبنائهم، ومع توالي عملية الوراثة تصبح هذه الجينات «المرضية» المسؤولة عن السرطان، جزءا من الخريطة الصبغية الوراثية للسلالة.
غياب إجابة علمية مباشرة، بمعنى آخر غياب دراسة ميدانية مبنية على تجارب مخبرية، تمكننا من الربط بين هذه المواد الكيماوية، وكيفية تأثيرها على الخلايا البشرية، لتسبب طفرات جينية على مستوى هذه الأخيرة، وبالتالي ظهور خلايا سرطانية، وكذا على مستوى المحيط الإيكولوجي ومكوناته من نباتات ومياه وأتربة، لا يعني بالمرة عدم وجود علاقة بين الأسلحة الكيماوية وانتشار السرطان، بل العكس تماما، فالعلوم البيولوجية والكيميائية، التي تطورت بشكل لافت للغاية، تؤكد بشكل حاسم أن غاز الخردل يتسبب بشكل مباشر في مرض السرطان، في حال تعرض المصابون لمستوى مرتفع من الغاز المذكور، وفي الريف تثبت المراجع التاريخية، أن إسبانيا استخدمت بشكل مكثف، هذا النوع من الغازات، التي تصنف وفق المواثيق والمعاهدات الدولية، كأسلحة دمار شامل محظورة دوليا (اتفاقية لاهاي 1899، 1907 و1954، اتفاقية جنيف 1864، بروتوكول جنيف 1925 و1926، اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية 1972، اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية 1973…)، وكانت نتائجها كارثية وقت استخدامها، ما يعني أن فرضية تسبب غاز الخردل في طفرات جينية حولت الخلايا البشرية إلى خلايا مسرطنة-مرضية، فرضية قوية في غياب العكس.
هل ينجح المختبر في إنهاء الجدل؟
الفرق بين المؤرخ والسياسي، وبين رجل العلم، هو أن الأولين يعتمدان الأحداث والوقائع، لإنتاج الموقف والجواب، بينما الثاني، يعتمد نتائج التجارب العلمية الدقيقة، التي يجريها داخل المختبر، لذلك كان من الصعب جدا إقناع الباحثين في مجال البيولوجيا (علم الأحياء)، بالحديث في موضوع علاقة السرطان باستخدام الغازات السامة في الريف، في ظل غياب دراسة ميدانية مختبرية، لكن الفرضيات العلمية، تقول بأن غاز الخردل، إذا استخدم بنسبة تركيز عالية، فإنه يؤدي بشكل مباشر، إلى حدوث طفرة جينية (mutation génétique)، تصيب الخلية بخلل في أداء وظيفتها بالحفاظ على انتظام تطورها، ويقول الدكتور النعمان السعلاوي، إن الخلية عندما تصاب بخلل في وظيفتها فإنها تؤدي إلى السرطان، وهذا الخلل يحدث طفرة في الخريطة الجينية للإنسان، وينتقل هذا الخلل الجيني وراثيا إلى الأجيال اللاحقة، ما يجعل فرضية انتقال السرطان وراثيا أمرا واردا من وجهة النظر العلمية المختبرية، لكن مع ذلك هناك أسباب كثيرة للإصابة بالسرطان.
الدكتور السعلاوي مدير مختبر البيولوجيا الكيماوية بجامعة محمد الأول بوجدة، أكد أنه لا توجد إلى حدود اليوم أية دراسة علمية، سواء إحصائية أو من خلال إجراء تجارب على حالات بعينها، للقول بوجود علاقة سببية بين الغازات السامة التي استخدمتها إسبانيا في الشمال المغربي ما بين 1921 و1926، ومرض السرطان بالشمال، السعلاوي الذي يشتغل على بحث بيولوجي حول مرض السرطان والمواد المسرطنة والعلاجات الممكنة لهذا الداء الفتاك، وسبق له أن نشر مقالات علمية في الموضوع بمجلات علمية معروفة بالولايات المتحدة الأمريكية، كشف لـ«المساء» أن فرضية وجود علاقة بين مرض السرطان والغازات السامة، خاصة غاز الخردل، فرضية ممكنة، لكن من الممكن أن تكون هناك أسباب أخرى لانتشار المرض، وبالتالي فالأمر يبقى مجرد فرضيات مبنية على دراسات بيولوجية-جينية، لكن يصعب الحسم بالقول إن انتشار السرطان بمناطق الشمال والريف يعود بشكل مباشر لاستخدام الغازات السامة، حسب السعلاوي.
داخل مختبره بكلية العلوم بجماعة محمد الأول بوجدة، يشتغل السعلاوي بشكل مكثف على مرض السرطان، يقول الباحث في هذا الصدد، إن البحث العلمي بالجامعات المغربية يعاني من نقائص عديدة، أبرزها غياب معدات ومختبرات متطورة تستجيب للتطورات التي يعرفها البحث العلمي، وبالتالي لا يمكن القول علميا بوجود علاقة بين السرطان واستخدام الغازات الكيماوية، ولا يمكن نفي هذه العلاقة أيضا، ليبقى السؤال عالقا مادامت الدولة المغربية لم تقرر إنجاز دراسة ميدانية علمية حول الموضوع، علما أن الحالات المشابهة لحالة المغرب، مثل حرب الفيتنام التي استخدمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية غاز الخردل بكثافة، والحرب العالمية الثانية، وحالة العراق الخاصة بحلبجة، وحالات أخرى أثبتت علميا وجود علاقة مباشرة بين غاز الخردل ومرض السرطان، ما يعني أن مقارنة هذه الحالات بالحالة المغربية، يقربنا كثيرا من فرضية وجود علاقة سببية، بعيدا عن المعطيات التاريخية التي ركزت بشكل كبير على الجوانب القانونية، ومدى تورط إسبانيا وفرنسا في استخدام أسلحة محظورة دوليا، فجميع المعطيات التي تداولها المؤرخون، والأدلة التي يحتفظ بها الأرشيف العسكري الفرنسي، تؤكد استخدام هذه الأسلحة، والمناطق التي شملها قصف الطيران الإسباني، إضافة إلى شهادات من عاشوا مرحلة الحرب (1921-1926)، ما يعني أن الجبهة القانونية والتاريخية أصبحت أقرب إلى النقاش الروتيني، لكن الحلقة الأساسية في الموضوع لم تتم الإجابة عنها إلى حدود اليوم، هل تسببت الأسلحة الكيماوية في إصابة الضحايا بمرض السرطان؟ وهل أصبح انتقال هذا الداء الفتاك وراثيا نتيجة إصابة الخريطة الجينية لهؤلاء بخلل جيني ينتقل إلى الأجيال اللاحقة؟
هل تخشى الدولة من الحقيقة؟
هناك تفسيرات متفرقة بشأن هذا الموضوع، حسب ما توصلت إليه «المساء» من خلال لقاءات بباحثين في مجال البيولوجيا والعلوم الكيماوية، وفاعلين جمعويين وسياسيين أيضا، حيث يرى هؤلاء أن التوصل إلى نتائج حاسمة، قد تكشف انتقال السرطان وراثيا في هذه المناطق، نتيجة تعرض الأجيال السابقة، التي عاشت حرب الريف، لقصف مكثف بالأسلحة الكيماوية، سيتسبب في صدمة مفجعة لسكان هذه المناطق، كما أن نتائجه السياسية، ستكون مكلفة للغاية، وقد تؤدي إلى فتح جرح عميق، تحول مع مرور الوقت، إلى مجرد روايات تاريخية لا أحد يأبه لها، وتحولت إلى ما يشبه حكايات الجدات، لكن الحقيقة المرة، حسب باحثين متخصصين فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم لحساسية الموضوع، فإن فرضية (والفرضية هنا بالمعنى العلمي تكون مسنودة بأدلة علمية مختبرية)، وجود علاقة سببية بين الغازات الكيماوية، ومرض السرطان، فرضية أقوى مما يتصوره الكثيرون، حتى أن بعض الدراسات الأولية التي أنجزت بشكل غير مباشر في المنطقة، خلصت إلى نتائج تعزز هذه الفرضية، أولها حسب هؤلاء، غياب تصاريح بأسباب الوفاة في العديد من المستشفيات بالمنطقة، ما يعني أن الأرقام التي تكشف لا تعكس الحقيقة كاملة، ويتم التستر على حجم انتشار الداء المميت.
يقول واحد من الباحثين في البيولوجيا، من أبناء منطقة الريف، إن دراسة أجراها سنة 2007، خلصت إلى نتائج مثيرة، أولها، غياب تصاريح طبية دقيقة لأسباب وفاة غالبية الوفيات التي تحدث داخل المستشفيات العمومية، وأضاف الباحث ذاته، أن الحالات الكثيرة المسجلة في المستشفيات تتم الإشارة إليها عرضيا كوفايات عادية طبيعية، ولا يتم تحديد أسباب الوفاة، ما يطرح الكثير من الأسئلة، لماذا ترفض إدارات المستشفيات تحرير تقرير مفصل لأسباب الوفاة لمعرفة أصناف وأنواع الأمراض الأكثر تسببا للوفيات في منطقة الشرق والشمال؟ وكشف الباحث المختص في البيولوجيا، أن الدراسة خلصت أيضا إلى أن أعدادا كبيرة من الوفيات سجلت بالمستشفيات العمومية، بينما لم تسجل إلا حالات قليلة جدا داخل المصحات الخاصة، مضيفا، أن المصحات الخاصة «تتخلص» من المرضى الذين تتحقق من وفاتهم المحتومة، حفاظا على سمعتها وصورتها لدى زبنائها، ما يجعل الصورة المتداولة حول الصحة، هو أن المستشفيات العمومية تقتل أكثر، بينما لا أحد يموت داخل المصحات الخاصة.
عموما، البحث الذي أجري تحت غطاء حملات التبرع بالدم، كشف أن أشياء غامضة تحدث، حيث قال المشرفون على البحث، من المتعارف عليه في الأوساط العلمية، وفي الأعراف الطبية، أن الوفاة يجب أن تصاحب بتقرير طبي مفصل، يحدد بدقة أسباب الوفاة، ونوعية المرض، حيث تسمح هذه التقارير، التي تكون مسنودة بتشريح طبي دقيق، بإجراء أبحاث علمية لتطوير العلاجات، ومعرفة الأمراض الأكثر انتشارا، وتحديد مسبباتها، لكن في المغرب، لا شيء من هذا يحدث، إلا في حالات قليلة يكون المرض فيها معروفا للجميع، ومع ذلك لا تجرى التشريحات الطبية على الجثث، وهذا أمر غير مقبول علميا وطبيا، حسب المصدر ذاته.
عموما، يبدو أن التكلفة الطبية، ستكون عالية نسبيا، إذا أجريت هذه التشريحات، لكن، ستساعد كثيرا في كشف المزيد من نقاط الظل التي تغطي ملف السرطان، ليس في الريف والشمال وحده، ولكن في المغرب بأكمله، وإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى، سنجد وجهة نظر تقول، إن المغرب لا يتوفر على الإمكانات الكافية، لإجراء أبحاث علمية، وطبية في ظل غياب مختبرات مجهزة، لكن هذا التبرير له جوابه، فالمختبرات العالمية، تعرف الطريق جيدا إلى تمويلات الأبحاث التي تنجزها، مثلا تكلف الأبحاث العلمية حول السرطان في فرنسا نحو 150 مليون أورو سنويا، (أزيد من 150 مليار سنتيم)، وتساهم الدولة في تجهيز وتمويل نحو 170 مشروعا بحثيا، سنويا، حسب الفيدرالية الفرنسية لمراكز مكافحة السرطان UNICANCER))، وتساهم شركات الأدوية، والصناعات الطبية وغيرها، في تمويل هذه المشاريع، ما يعني أن مسألة التمويل ليست بالعائق المعجز، وبالتالي يمكن للدولة المغربية، أن تبرم اتفاقيات تعاون مع هذه المختبرات، الموجودة في العديد من الدول، خاصة فرنسا التي تعتبر مسؤولة عن الأضرار الفادحة التي لحقت منطقة الشمال والريف، لكونها شاركت في حرب الريف، المهتمة بالبحث العلمي، كما يمكن للمغرب أن يتقدم بطلب رسمي لدى الأمم المتحدة، لإجراء دراسة بحثية ميدانية، حول انتشار السرطان في الريف والشمال، وعلاقته باستخدام إسبانيا للغازات الكيماوية في حرب الريف.
هكذا يقتل غاز الخردل
من الصعب للغاية التوغل كثيرا في التركيبة الجينية للإنسان وباقي الأحياء، لكن العلم لا يتحدث خارج لغة الأرقام والمعادلات والتجارب أساسا، لذلك كان لابد من نقل نماذج من رحم العلوم الحقة، للقراء لكي تكون المعلومة أكثر دقة، لأن الباحثين في البيولوجيا (علم الأحياء)، والكيمياء، كانوا مصرين على ضرورة سد كل الأبواب والاجتهادات (غير العلمية) من خلال نقل التفاعلات التي تحدث داخل خلايا الأجسام، حتى تكون الصورة أكثر اكتمالا، وفي هذين النموذجين نموج لما يحدث داخل أجزاء جد دقيقة من أجسامنا، وتؤدي إلى السرطان.
الشيمة: على اليسار جزيئة من المركبات الكيميائية للنيكليوسيد وهي خلية نووية مكونة للحمض النووي، وعندما تتفاعل مع أيون السيلفونيوم (S) التي توجد بغاز الخردل تصبح خلية مختلة (مسرطنة)، تنتقل عبر الحمض النووي من الأسلاف إلى الأبناء وراثيا. في هذه الحالة تحدث الطفرة الجينية وتتحول إلى مكون دائم للحمض النووي، تصاب الخلية (طفرة جينية) وتدخل تعديلات على الحمض النووي، فتتحرك الأنزيمات لتعديل الخلل، ونتيجة لذلك يصبح الحمض النووي مختلا ويحفز «اللابوبتوز»، ما يعني الموت التدريجي للخلية، وعندما يعجز نظام المناعة عن تعديل الخلل الذي أصاب الحمض النووي (الطفرة)، تتحول الخلية إلى خلية سرطانية بالضرورة (النموذج التالي بعد الطفرة الجينية).
كما يؤكد متخصصو علم الجينات والبيولوجيا، أنه كلما تقدمنا من جيل إلى جيل لاحق، إلا وزاد عدد المصابين بالمرض، في حالة انتقاله جينيا، وهنا يكمن خطر الأمراض المنتقلة جينيا، مثلا إذا كانت أسرة بها مصابين اثنين فقط بمرض السرطان، فاحتمال إصابة 3 أو 4 بالمرض، جد وارد، بالنسبة للجيل الثاني في العائلة نفسها، إذن فالجواب هو نعم يقتل.
غاز الخردل … الطاعون الأصفر
استخدم غاز الخردل في الثمانينيات من طرف نظام البعث ضد الأكراد بحلبجة العراقية، وتسبب، لعشرات الآلاف من المدنيين، في حروق على مستوى الجلد والعينين، المؤدي إلى العمى، والتهابات حادة في الأمعاء، ومختلف أجزاء الجسد، وحسب الأبحاث التي أجرتها الباحثة في جامعة لفربول الإنجليزية، «كريستين كوستن» (Christine Gosden)، يتحول غاز الخردل إلى مادة مسببة للسرطان، في حال لم يبطل مفعوله بسرعة، وتصبح تأثيراته الخطيرة على الإنسان بعيدة المدى، ولهذا السبب يصنف الخردل كسلاح كيماوي.
غاز الخردل، ليس مجرد مادة كيماوية بسيطة، لأن التركيبة الكيميائية-الاصطناعية، التي تحوله إلى سلاح فتاك، جعلته من أخطر الأسلحة، وأكثرها تدميرها، وهو مركب أو جزيئة كيميائية، ذات الصيغة الكيميائية (C4H8Cl2S) مشكل من الكاربون، الكلور، الكبريت والهيدروجين أساسا، ويعرف بغاز الإيبيريت نسبة لمدينة «إبريس» البلجيكية، التي استخدم فيها غاز الخردل، بشكل مكثف في الحرب العالمية الأولى، وتكمن خطورة غاز الخردل، في قدرته الكبيرة على اختراق الخلايا، وإحداث تغيير في تركيبة جزيئة الحمض النووي ADN) (، وبالتالي حدوث خلل حاد في وظيفة الخلايا المصابة، واحتمال تحولها إلى خلايا سرطانية، وعند استعمال هذا الغاز كسلاح، يتم خلطه بعدد من المواد حتى يصبح قاتلا، كحمض الهيدروكلوريك، وثنائي كليول إيثلين الكبريت، المستخدمة في بعض الصناعات الكيماوية، مثل مادة أوكسيد الإثلين وكبريتيد الهيدروجين، ويتميز غاز الخردل برائحته الشبيهة برائحة الخردل (الموتارد) المستخدم في الأكل، وبرائحته الخفيفة، وشكله الشبيه بالكبريت عندما يكون على شكل غبار، وتحكي الشهادات الشفوية، للأجيال التي عاشت تجربة حرب الغازات السامة في الريف، أن الطائرات كانت ترميهم بالكبريت، أو (آرهاج) ويعني السم باللهجة الريفية، وهي شهادات متداولة على نطاق واسع في الريف، ومناطق الشمال التي تعرضت للقصف.
الصور التي ظلت متناقلة في وسائل الإعلام، حول حرب الريف، تظهر إصابة الضحايا بتقرحات جلدية، والتهابات حادة تصيب العيون، كما أن الروايات التاريخية، نقلت أيضا نفوق الآلاف من الحيوانات، وهي مؤشرات تدل على أن القصف كان مكثفا، بشكل كاف ليتسبب الغاز السام في إحداث أضرار غاية في الخطورة، وبمقارنتها بحالة حلبجة العراقية، وحرب الفيتنام، يمكن القول بأن فرضية حدوث طفرة جينية تصيب التركيبة الجينية للإنسان، والحيوانات والنباتات بالسرطان، وبالتالي تنتقل وراثيا، من خلال الحمض النووي ADN إلى الأجيال اللاحقة، وأيضا من خلال المورثات الجينية، رغم تشدد الأوساط العلمية في التصريح المباشر بهذه المعطيات، لسبب بسيط، هو أن العلماء لا يقرون إلا بالنتيجة المادية المباشرة، التي تخلص إليها التجارب داخل المختبر، وهنا يطرح سؤال آخر، لماذا ترفض الدولة المغربية القيام بدراسة ميدانية حول الموضوع؟
حلبجة العراقية واجهة أخرى لحرب الغازات السامة
في سنة 1999 نشرت صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية مقالا مثيرا حول نتائج استخدام النظام العراقي للأسلحة الكيماوية ضد الأكراد بمدينة حلبجة عام 1988، المقال نشر خلاصات الأبحاث التي أنجزتها الباحثة البريطانية بجامعة لفربول «كريستين كوستن» (Christine Gosden)، والتي صاحبتها كاميرا قناة «بي بي سي» طيلة رحلة بحثها، كانت نتائج الدراسة حاسمة، حيث توصلت الباحثة الشهيرة ورئيسة قسم التشوهات الوراثية بالجامعة ذاتها، إلى أن غاز الخردل الذي استخدمه نظام صدام حسين حينها (الغاز نفسه الذي استخدم في حرب الريف 1921-1926)، أدى إلى طفرات جينية أصيب على إثرها المدنيون بمرض السرطان، وأكدت الباحثة التي مولت الأمم المتحدة بحثها الميداني، أن السرطان ينتقل وراثيا من جيل إلى آخر بسبب هذه الطفرات الجينية، ربما تكون الدراسة مدفوعة بأغراض سياسية تتجاوز حدود المعرفة العلمية، لكن نتائجها كانت قاطعة للشك، لأنها بنيت على تجارب مخبرية أجريت على عينات عديدة من الضحايا، واعتمدتها الأمم المتحدة كواحدة من الأدلة الرئيسية لاستخدام النظام العراقي لأسلحة الدمار الشامل، والتي ستقود في سنة 2003 إلى شن حرب على العراق، ستنهي وجود نظام البعث، عموما، قدمت الباحثة نتائج دراستها أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بجنيف، وجاء في جزء من التقرير النهائي «الضحايا أصيبوا بسرطان الجلد الذي يؤدي إلى موت مباشر وسريع، مشاكل في التنفس، اضطرابات في النظام العصبي، طفرات جينية لدى الأطفال حديثي الولادة… نسبة الإصابة بالسرطان مرتفعة أربع مرات أكثر من المدن المجاورة لحلبجة…».
المقارنة وحدها ليست كافية تماما، لكنها تقربنا أكثر من معرفة حقيقة السؤال العالق حول حالة الريف، في ظل غياب دراسة ميدانية، وإحصاءات دقيقة موثوقة، أيضا هناك تفصيل صغير قد يرجح كفة الفرضيات التي تناولها الملف، يتعلق الأمر بعدد الوفيات في كل عائلة، وهذا الأمر ربما لا يحتاج إلى مختصين في الإحصاء والدراسات السوسيولوجية، بقدر ما يحتاج إلى عيش تجربة السرطان ذاتها، وربما لا تخلوا كل عائلات الشمال والريف من حالة أو أكثر أصيبت بالسرطان، وهناك عائلات تحققت «المساء» فعليا من إصابة أكثر من فرد منها بمرض السرطان، وفي هذه الحالات نجد أن الجد توفي بالسرطان، وأخ الجد، العم، الأب… وهكذا، ربما تكون محض صدفة، لكنها صدفة مثيرة للقلق، خاصة في ظل وجود حالات توفيت بسبب سرطان المثانة «البروسطات»، وهو من أكثر أنواع السرطان انتقالا عبر العلاقة الجنسية، حيث ينتقل الحمض النووي من الشريك المصاب إلى الشريك الثاني، وهذا الأمر يضاعف من احتمالية إصابة الأبناء بالسرطان، وهذا النوع من السرطان أكده الدكتور بلاوي أستاذ بكلية الطب بوجدة، حيث أكد لـ»المساء» أن السرطان ينتقل بالفعل عبر الحمض النووي.
مادارياغا.. مؤرخة إسبانية تعيد زراعة الشك
في السادس من شهر فبراير الماضي، نشرت صحيفة «إلباييس» الإسبانية واسعة الانتشار، مقالا مثيرا للمؤرخة الشهيرة «ماريا روزا مادارياغا»، وكتبت مؤلفة كتاب «إسبانيا والريف.. أحداث تاريخ شبه منسي»، «بدأ استخدام الغازات السامة في منطقة الحماية الإسبانية عام 1923، حيث تم استخدامها في بادئ الأمر من قبل المدفعية، ثم من قبل الطيران بعد ذلك، وكان الجيش يرغب في توسيع نطاق استخدامها بهدف إحداث أكبر قدر ممكن من الأضرار المادية والجسمانية، وتحطيم معنويات المقاتلين الريفيين والسكان المدنيين، ولكن حال عدد من العوامل، بعضها ذات طابع تقني والآخر سياسي، دون بلوغ هذا المسعى، ويبدو أنه كانت هناك انتقائية في التركيز على أهداف وقبائل محدودة جدا، سيما في الريف الأوسط الذي يشكل النواة الصلبة للمقاومة الريفية، إلا أن استخدامها وصل إلى أراضي قبائل «غمارة» والجهة الغربية حيث تستقر قبائل «جبالة». وبدأ استخدامها قبل قيادة «بريمو دي ريفيرا»، وتم تكثيفها بعد ذلك تحت سلطته لتستمر حتى نهاية الحرب في يوليوز عام 1927»، وقالت المؤرخة في المقالة نفسها «من الصعب تفسير وجود علاقة سببية بين الإصابة بالسرطان وهذه المادة المسرطنة (غاز الخردل)، في حالات التعرض مرة واحدة أو التعرض من حين لآخر لهذا الغاز، مثل ما حدث أثناء القصف، وبالتالي، سيكون من المغالاة القول بأن أغلب حالات الإصابة بالسرطان في الريف يمكن أن تعزى إلى آثار «غاز الخردل» في السكان وأحفاد أولئك الذين تضرروا في العشرينيات من القرن الماضي جراء القصف».
هناك توافق بين الأوساط العلمية وكلام الباحثة الإسبانية، حول صعوبة الحسم في العلاقة السببية بين استخدام غاز «الخردل» والإصابة بمرض السرطان، في ظل غياب دراسة علمية ميدانية، لكن المبررات نفسها التي تدفع الكثيرين إلى رفض فرضية وجود علاقة مماثلة، يمكن استخدامها للقول بالعكس، فما الذي يمنع من القول بوجود هذه العلاقة السببية إذا كانت البحوث العلمية الدقيقة هي الفاصل؟ إذن مادامت المختبرات العلمية بعيدة عن النقاش السائد حول الملف الذي سيكمل 100 عام، بعد أقل من 10 سنوات من الآن، فإن التأويلات ستبقى سيدة الموقف، مع ميل طفيف للكفة في اتجاه ترجيح فرضية وجود علاقة سببية بين الغازات الكيماوية ومرض السرطان، إذا ما انطلق البحث عن الجواب من قواعد علم الجينات والبيولوجيا الكيماوية، على النحو الذي ذكر في أجزاء سابقة من الملف، خاصة وأن المصادر التاريخية المختلفة التي تناولت موضوع حرب الريف، تؤكد استخدام الطيران الحربي الإسباني، لكميات هائلة من الغازات الكيماوية، فاقت 400 طن، أيضا يقول المختصون في علم الكيمياء العضوية، أن تأثيرات غاز الخردل لا تقتصر على المناطق التي تعرضت للقصف فقط، بل إنه «يسبح» في التربة ويمكن أن يلحق أضرارا بالفرشاة المائية، والنباتات، وبالتالي فإن تأثيرات الغاز القاتل، تنتشر على نطاق جغرافي واسع، وتشمل كافة مكونات المجال البيئي، وبالتالي ينضاف عامل آخر، لتدعيم فرضية وجود العلاقة السببية، بين انتشار مرض السرطان في الريف والشمال ومناطق مجاورة، مثل تازة وتاونات إلى حدود وجدة، وبين استخدام غاز الخردل في حرب الريف.
الماريشال أمزيان.. الريفي الذي طالب بإبادة بني جلدته
لم تقتصر المطالبة باستعمال الغازات السامة على إسبانيا، بل تعالت من المغرب، وقد دافع عنها صديق من المورو يدعى «أمزيان الطيب»، لتمييزه عن «أمزيان السيء»… «الجيد» كان في الحقيقة أحد المتعاونين الأوفياء مع إسبانيا، وهو أب الجندي المغربي المشهور محمد أمزيان، الذي شارك في الحرب، إلى جانب فرانكو سنة 1936، واحتل بعد ذلك رتبة جنرال»، هكذا تحدثت المؤرخة الإسبانية الشهيرة ماريا روزا دي مادرياغا في كتابها «مغاربة في خدمة فرانكو»، عن المارشال الشهير الذي خدم الجيش الإسباني على مدى أزيد من 40 سنة، وتدرج في مختلف الرتب العسكرية، قبل أن يلتحق بالجيش المغربي سنة 1956، برتبة ماريشال، وهي الرتبة التي لم يسبق لأي مغربي أن نالها في صفوف الجيش المغربي، ولا في الجيش الإسباني، ما عدى الملك السابق خوان كارلوس.
الوثائق التاريخية تقول بأن والد الماريشال أمزيان، كان من أشد المتحمسين لشن حرب كيماوية ضد المقاومة الريفية بزعامة محمد عبد الكريم الخطابي، وفي حوار صحفي أجراه أمزيان الأب، في 24 عشت 1921 مع جريدة «إيرالدو دي مدريد»، بدا الرجل ملحا على ضرورة استخدام الغازات السامة لإخماد الثورة الريفية «السياسة الوحيدة التي يجب اتباعها مع المورو هي القوة والشدة، يجب القضاء عليهم وإبادتهم، الانتقام منهم وقتلهم إن كان ذلك هو الثمن»، وكان إلحاح أمزيان على استخدام الغازات السامة ضد الريفيين، انعكاسا للمطالب التي تعالت من داخل الجيش الإسباني، باللجوء لحرب كيماوية مدمرة، انتقاما من الثوار الريفيين، الذين ألحقوا هزيمة شنيعة بالجيش الإسباني، في معركة أنوال الشهيرة، ولم يكن الماريشال أمزيان، ابن أمزيان، إلا واحدا من الجنود اللامعين في صفوف الجيش الإسباني، الأكثر كراهية للريفيين، وأبرز المطالبين بتدميرهم والانتقام منهم، بعد سلسلة الهزائم المذلة التي تسببوا فيها للجيش الإسباني، والتي خلفت استياء عارما داخل المجتمع الإسباني.
الماريشال أمزيان، المزداد بقبيلة بني نصار بالناظور سنة 1897، الذي التحق بالجيش الإسباني بمدرسة توليدو العسكرية سنة 1913، ودافع بشدة على العرش الإسباني، وأحد أبرز قادة الجيش الذين قادوا انقلاب الجنرال فرانكو ضد الجمهوريين الشيوعيين «الروخوس»، لم يكن يرى أي حل مع الريفيين إلا تدميرهم وإذلالهم، ولأنه كان مقربا جدا من الجنرال فرانكو، فقد كان له ما أراد، عندما اتخذت القيادة العليا للجيش قرارا حاسما، باللجوء للأسلحة الكيماوية، للقضاء نهائيا، على الصداع الذي يشكله محمد عبد الكريم الخطابي، بعد وفاة المجاهد الشريف أمزيان، الذي كانت تصفه إسبانيا «بأمزيان السيء»، وكان الماريشال أمزيان، أحد القادة المشرفين على قصف الريف بهذه الغازات التي خلفت خسائر كارثية في صفوف الثوار الريفيين، وألحقت أضرارا غاية في الخطورة، في صفوف المدنيين «تسبب غاز «إبيريتا» في حروق وتقيحات جلدية وحالات عمى مؤقت، وإن تسربت إلى الرئتين تتسبب في موت وهلاك المصاب» يقول الدكتور «فورازا» الفرنسي في مستشفى طنجة، صاحب خبرة واسعة في علاج الغازات السامة، حسب ما ورد في تحقيق أجراه وزير الجو البريطاني سنة 1925.
«الطاعون الأصفر» نسبة للون الأصفر لغاز الخردل «الإيبريت»، الشبيه بالكبريت، كان حاسما في إنهاء الثورة الريفية في أسرع وقت ممكن، لذلك استخدمت القوات الإسبانية، بمشاركة قوية للماريشال أمزيان، الذي كان برتبة كولونيل حينها، الطيران الحربي، لمنح الحرب الكيماوية نجاعة أكثر، وكانت المرة الأولى التي يستخدم فيها الطيران الحربي في حرب كيماوية «لقد كان للعمل الجوي تأثير إيجابي على العمليات الحربية الأرضية، مما ساعد على التوغل في أرض العدو، وإبادة السكان العزل، عبر قصفها للتجمعات السكنية والأسواق….»، وكشفت المؤرخة الإسبانية اعتمادا على رأي أحد المختصين، وهو القبطان الصيدلي «روني بيتا» الذي اعتمد على دراسات أخصائيين من مختلف بلاد العالم، من بينها دراسات جهاز الدفاع الأمريكي حول نتائج استعمال غاز «إبيريتا» (نسبة لمدينة إيبيريس البلجيكية التي تعرضت للقصف بغاز الخردل في الحرب العالمية الأولى)، كشفت أن الوكالة الدولية للبحث حول السرطان، تعتبر غاز «إيبيريتا» من المواد التي تتسبب في إصابة الإنسان بالسرطان، حيث تم تسجيل إصابات بالسرطان في صفوف العمال الذين يشتغلون في معامل تصنيع غاز «الإيبيريت»، وتضيف المؤرخة الشهيرة، أنه في المغرب، حاليا، حسب دراسات متخصصة، يظهر بأن منطقة الريف تعرف إصابات بالسرطان أكثر من الجهات الأخرى، ويرجح الأمر إلى قنابل «إيبيريتا» التي تعرضت لها البلاد هناك.
عموما، النتائج الكارثية للقصف الذي تعرض له الريف والشمال، أمر محسوب تقريبا، على الأقل من وجهة نظر تاريخية وعسكرية، والمثير ليس النقاش العالق حول انتشار السرطان بهذه المناطق فقط، بل أيضا، تورط مغاربة ريفيين، في واحدة من أقذر الحروب التي عرفها القرن العشرون، وتورد وثائق الأرشيف العسكري الإسباني والفرنسي، وعشرات المراسلات، أن الجيش الإسباني جند الآلاف من المغاربة، لخلق جبهة قوية من داخل القبائل الثائرة في الريف وجبالة، لعبوا أدوارا حاسمة في القضاء على الثوار، ومهدوا الأرضية المناسبة، والغطاء «الشرعي» للقصف الإسباني، أبرزهم أمزيان الأب والماريشال الابن، بعد موجة الانتقادات التي قادتها أحزاب اليسار والنقابات الإسبانية، منددة «برمي الجنود الإسبان إلى المذبحة»، حيث عمد القبطان جنرال «مارينا» بمليلية 1908-1911، إلى تجنيد عساكر ريفيين، وشكل منهم ما عرف حينها بالشرطة الأهلية، وفي 1921 مع اشتداد الحرب وتنامي الانتصارات التي حققها الثوار الريفيون، سيشكل الجيش الإسباني نخبة من الرماة الأوربيين، لقيادة المجندين المرتزقة، الذين تم تجنيدهم من قبائل الريف وجبالة وتازة، حيث كان الجنرال «غوميز خوردانا» قد سرع من وتيرة تجنيد المغاربة، تنفيذا لمرسوم ملكي يقضي بتوزيع المغاربة على أربع مجموعات قتالية، محلات المخزن، فرق النظاميين في المحلات، شرطة الأهالي ووحدات القوات المساعدة.
على أي، كانت مساهمة الجنود المغاربة المرتزقة، في حرب الريف 1921-1926، حاسمة، وفي مقدمتهم الماريشال أمزيان الذي سيحظى بعد استقلال المغرب، بأعلى رتبة عسكرية في تاريخ القوات المسلحة الملكية المغربية، بعد أن كان يحتل أعلى رتبة في الجيش الإسباني، والتي لم ينلها بعده إلا الملك خوان كارلوس، كما شيد للماريشال الذي ساهم بشكل كبير في إخماد انتفاضة الريفيين عام 1958/1959 متحف خاص بمدينة الناظور مسقط رأسه.