صافي:
مختل عقلي يجوب شوارع الرباط ويطعن ثلاث أشخاص بطعنات قاتلة..، أم تلقي بابنتها من شرفة المنزل بالجديدة .. أب يقتل طفليه وينتحر .. أمهات وآباء يكبلون أبناءهم بالسلاسل، فتى يضرم النار ببيت أسرته.. وآخر يقدم على الانتحار.
هذه الحوادث وغيرها كان أبطالها مرضى نفسيون وعقليون، لكل واحد منهم حكايته الخاصة ولكل خارطة مرض لا نتحكم في أزماته أو نعرف إمكانية علاجه، مرض لا يعترف بالحدود الأخلاقية، لكنه مرض يحتاج إلى كثير من الصبر في التعامل وقوة التحمل والتفهم، ترقب دائم، خوف وتوجس، حيرة وأمل مفقود من الشفاء يوما، ذلك حال أسر المرضى.
"جربت باش نكري ليه براكة في واحد دوار بمنطقة سيدي عبد الرحمن، مابقى عندي جهد ليه ... غير خليه بعيد عليا وعلى خوتو"، كانت الدموع تسابق كلمات هذه الأم التي كانت تتمنى مع بداية كل يوم ألا تغيب عن الدنيا دون أن تعرف المسار النهائي لابنها. لكن جبروت مرض ابنها دفعها إلى التخلي عنه وإلى تغيير محل سكناها مخافة أن يتذكره ابنها في يوم من الأيام.
أم قوية، لا تخفي مشاعرها وتعلن في كل مرة أن حبها لابنها كبير لكن "ما باليد حيلة "..!، أم هدها مرض من طينة أخرى، مرض جبار لا يؤمن بالحدود، ولا يلزم المريض الفراش، مرض عنيف في أعراضه، مرض علاجه طويل يدوم لسنوات.. صنف عالميا كثاني أكبر الأمراض التي تعيق التطور والتنمية. إنها أم لمريض نفسي وعقلي.
حال هذه الأم، يتقاسمه الكثير من الآباء والأمهات والأسر، حكاياتهم عن أحوال أبنائهم لا تنتهي، تبدأ من عدم القدرة على اقتناء الأدوية وتصل إلى عدم إدراك معنى المرض النفسي والعقلي، لا تتوقف عند أين يمكن وضع هذا الإبن بعد أن يصل هيجانه إلى حدود لا تقاوم، وبعد أن يصل مستوى عنفه إلى حد التهديد بالقتل.
أغلب هؤلاء المرضى ينتشرون في الشوارع والأزقة في أوضاع مثيرة للشفقة وللإحراج في حالات كثيرة، إذ بدأت الظاهرة تصنع واقعا مأساويا، في ظل افتقار المستشفيات العمومية إلى العديد من الوسائل الطبية، وضعف بنيتها الاستقبالية والاستشفائية للمصابين، إضافة إلى قلة الموارد البشرية العاملة في المجال، وعلى رأسهم الأطباء المتخصصون في الطب النفسي.
"اعتقدنا في البداية أن الأمر يتعلق باضطرابات عادية ترتبط بمرحلة المراهقة خاصة وأن هذه العلامات المرضية ظهرت على ابني مباشرة بعد عدم تكمنه من اجتياز البكالوريا، لكن مع مرور الوقت بدأت الاضطرابات تزداد والحالة تسوء، وأصبح ابني يكره الدراسة، كما قل تركيزه، ناهيك عن التصرفات غير المفهومة وغير المنطقية التي كانت تبدو عليه، مما دفعنا إلى استشارة طبيب نفساني، هذا الأخير أكد لنا أن ابننا مصاب بمرض نفسي، وأنه يعيش في عالم منفصل تماما عن الواقع، كما أنه يرى أشياء ويسمع أصواتا غير موجودة في الواقع".
هكذا تغيرت حياة هذه الأسرة لتأخذ منعطفا جديدا وتبدأ رحلة عذاب يومية مع ابن حكم عليه المرض أن يصبح في واد وأسرته في واد آخر، ولا يجمعهما إلا رابطة الدم وشفقة الأسرة على حال ابنها الذي توسمت فيه أن يكون أفضل الأبناء.
تتذكر أم هذا المريض كيف اكتشف المرض في البداية وعندما كان الابن في بداية العشرينيات، حيث ظهرت عليه اضطرابات في السلوك، بعد ذلك دخل في مرحلة أخرى من الهلوسة والهذيان. وكان أصعب ما واجهته الأسرة، كما ذكرت الأم، رفض الابن الذهاب إلى الطبيب لاعتقاده أنه شخص سليم وأن ما يراه ويسمعه حقيقة لا تقبل الشك.
بعض الآباء هم أيضا يرفضون تصديق أن ابنهم يعاني من مرض عقلي وبسبب الصورة التي يحتفظ بها المجتمع عن المرضى العقليين فإنهم يضطرون إلى إخفاء هذه الحقيقة فيحرم المريض من العلاج.
"أعرف شخصية مهمة لها ابن وحيد مصاب بمرض عقلي يدخله في حالة هذيان كبيرة، وقد رفض أن يقبل بحقيقة مرض ابنه، مما جعله يتجاهل وجود هذا الأخير، وبدل أن يصحبه للطبيب لبدء العلاج فضل أن يتركه هكذا، وقد وصل به الحد إلى أن يستعين برجال الدرك حتى يخلصوه من هذا الابن الذي كان عنيفا"، يقول أحد الممرضين العاملين بجناح 36 للمرضى العقليين والنفسيين، ويضيف "للأسف هناك أسر ترفض الاعتراف بوجود ابن مريض وإذا لم يتلق هذا الأخير العلاج ولم يأخذ الدواء بشكل منتظم ساءت حالته أكثر وأصبحت أكثر تعقيدا». وبالإضافة إلى هذا المشكل هناك أسر تعاني من وجود أكثر من مريض،«أعرف أما لديها ابن مريض بالفصام وابنة تعاني من إعاقة ذهنية، ولا يمكنكم بأي حال من الأحوال تصور مدى معاناة هذه السيدة التي ذاقت كل ألوان العذاب، من جهة بسبب إمكانياتها المحدودة، ومن جهة أخرى بسبب عنف الابن..."
"نعطي اللي ورايا واللي قدامي غير يدخل ولدي يتابع العلاج ديالو في السبيطار، راني مبقيتش قادرة.. تهديت ويمكن نخسر حياتي كلها وحياة أولادي الباقيين .."، تتصل هذه الأم بشكل يومي بإحدى الجمعيات التي تقدم دعما للمرضي النفسيين وتطلب مساعدتهم لتتحقق لها أمنية تقول أنها ستحقق لأسرتها الاستقرار. لكن الجناح 36 بالمستشفي الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء عاجز عن تلبية طلبات الأعداد الكبيرة والمتزايدة من أسر المرضى النفسيين والعقليين. فالطاقة الاستيعابية للجناح محدودة كما أن عدد الأطر الطبية والصحية العاملة به معدودة على رؤرس الأصابع، هذا ناهيك عن ضعف التجهيزات الطبية أو التربوية أو العلاجية التي تساعد على التخفيف من حدة المرض النفسي.
36 رقم يتشاءم منه المغاربة، جعلوه رمزا لنكتهم، ولعبهم الطفولي، والأكثر من ذلك أدخلوه في قاموس السب والشم لديهم "أنت خاصك تدخل ترانت سيس"، لكن هل يعرف هؤلاء أن الدخول إلى هذا الـ"ترانت سيس" يحتاج إلى جهد جد كبير، وأن المكان إلى حوله المغاربة رغما أنه إلى "سبة" هو المتنفس الوحيد في مدينة الدار البيضاء والنواحي للأسر التي تعاني مع أبنائها من المرضى النفسيين والذين باتت حالتهم لا تسمح لهم بالعيش تحن سقف واحد مع أسرهم.
فصعوبة ولوج الجناح ست وثلاثين دفعت أم ذات مستوي تعليمي عال جدا إلى كراء «براكة» لابنها قبل أن تقرر تغيير مسكنها وتقطع كل اتصال ممكن لها مع هذا الابن الذي أشغل النار ببيتهم أكثر من مرة.
وبسبب صعوبة ولوج إلى مستشفى أمراض النفسية والعقلية ينتهي الأمر ببعض الأسر إلى التخلي عن هذا "الواجب الحساس والشاق" لرعاية المرضى عقليا ونفسيا. ويختارون التخلي عن أقربائهم المصابين وتركهم بواجهون واقع الحياة في الشوارع وحدهم.
وليبق ارتفاع تكلفة العلاج عائقا كبيرا أمام إكمال العلاج بالنسبة للمرضى النفسيين شأنهم في ذلك شأن العديد من الأمراض التي تتطلب علاجا طويلا، حيث أن غياب تغطية صحية وغلاء الأدوية يدفع بالكثير من المرضى إلى مقاطعة العلاج وهو ما يؤدي إلى تطور المرض الذي لا يشكل خطرا وعائقا نفسانيا واجتماعيا للمريض فحسب بل كل المحيطين به.
حياة "مي فاطنة" أشبه بالكابوس. فإمكانيتها المادية بسيطة. وتقوم كل صباح بحبس ابنتها ذات الثلاث وعشرين ربيعا والمصابة بمرض عقلي في غرفتها لتذهب بحثا عن عمل. وتقول "عندما لا أكون في البيت، تصرخ وتكسر كل شيء. لكنني مضطرة لتركها لكي أتمكن من توفير لقمة العيش ودفع إيجار غرفتنا»> قبل أن تضيف بصوت خافت حزين "عاني كثيرا من حدة سلوكها عندما أعود للبيت. لكنني أمها وعلي تحمل ذلك رغم أنني أتساءل في بعض الأحيان عما إذا كانت الدولة لا ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها عن مواطنيها المرضى الذين هم بحاجة لرعاية خاصة دائمة".
"مي فاطنة" لا تستيطع تأمين العلاج لابنتها، فتكاليفه كبيرة، فهي لا تستطيع أن توفر 70 أو 100 درهم ثمن مقابل الاستفادة من خدمة التشخيص بجناح "ستة وثلاثين" كما أن الإدلاء بشهادة الاحتاج لا ينفع في شيء داخل هذا الجناح، وحالة هذه الأم شبيهة بحالة العديد من الأسر، كما أنها لا تملك ثمن شراء الأدوية التي وصفها الطبيب لتبقى ابنتها هادئة ولهذا فهي تعاني من التقلبات المزاجية الحادة لهذه الأخيرة.
مي فاطنة لا تعلم أنه بموجب خطة عمل وطنية 2008-2012، يسعى المغرب إلى تحسين الرعاية النفسية ومحاربة التمييز ووصمة العار التي تسبب المعاناة في صفوف المرضى عقليا. ومن بين عناصر خطة العمل أيضا هناك معالجة الصحة النفسية للأطفال والمراهقين مع إعطاء اهتمام خاص لمشكل المخدرات. وسيستفيد المرضى مجانا من بعض الأدوية للعلاج النفسي وستعمل الوزارة على توفير التكوين لمئات الأطباء النفسانيين والممرضين المختصين في الطب النفسي. هذا بالإضافة إلى وجود ظهير ملكي صادر في منتصف الخمسنيات يقر بمجانية العلاج بالبنسبة للمرضى لكن صدوره لم يفعل.
ومنذ شهور يعيش الأطباء والممرضين العاملين في مجال الصحة والسلامة والنفسية، بعد التقرير الأخير، الذي يرصد وضع الصحة النفسية والعقلية بالمغرب والذي أقر بوجود حوالي 13 مليون مريض نفسي بالمغرب!، حالة قلق مبعثها أنه لا توجد في المغرب سوي 5 مستشفيات فقط لعلاج لكل هؤلاء المرضي.
كما أن عدد الأطباء النفسيين العاملين بالمستشفيات العمومية والمراكز الصحية لا يتعدى 350 طبيب وعدد قليل من ممرضين المختصين على المستوي الوطني .. وهذه الأرقام تشير إلي خطر حقيقي يهدد الشارع المغربي.. لأن عدم وجود أماكن إيواء لهؤلاء المرضي أدى إلى ادراجهم تحت بند القنابل الموقوتة القابلة للانفجار في أي لحظة لتصيب المجتمع بعدة جرائم مروعة طالما لا تتوافر لهم الرعاية العلاجية اللازمة.
مختل عقلي يجوب شوارع الرباط ويطعن ثلاث أشخاص بطعنات قاتلة..، أم تلقي بابنتها من شرفة المنزل بالجديدة .. أب يقتل طفليه وينتحر .. أمهات وآباء يكبلون أبناءهم بالسلاسل، فتى يضرم النار ببيت أسرته.. وآخر يقدم على الانتحار.
هذه الحوادث وغيرها كان أبطالها مرضى نفسيون وعقليون، لكل واحد منهم حكايته الخاصة ولكل خارطة مرض لا نتحكم في أزماته أو نعرف إمكانية علاجه، مرض لا يعترف بالحدود الأخلاقية، لكنه مرض يحتاج إلى كثير من الصبر في التعامل وقوة التحمل والتفهم، ترقب دائم، خوف وتوجس، حيرة وأمل مفقود من الشفاء يوما، ذلك حال أسر المرضى.
"جربت باش نكري ليه براكة في واحد دوار بمنطقة سيدي عبد الرحمن، مابقى عندي جهد ليه ... غير خليه بعيد عليا وعلى خوتو"، كانت الدموع تسابق كلمات هذه الأم التي كانت تتمنى مع بداية كل يوم ألا تغيب عن الدنيا دون أن تعرف المسار النهائي لابنها. لكن جبروت مرض ابنها دفعها إلى التخلي عنه وإلى تغيير محل سكناها مخافة أن يتذكره ابنها في يوم من الأيام.
أم قوية، لا تخفي مشاعرها وتعلن في كل مرة أن حبها لابنها كبير لكن "ما باليد حيلة "..!، أم هدها مرض من طينة أخرى، مرض جبار لا يؤمن بالحدود، ولا يلزم المريض الفراش، مرض عنيف في أعراضه، مرض علاجه طويل يدوم لسنوات.. صنف عالميا كثاني أكبر الأمراض التي تعيق التطور والتنمية. إنها أم لمريض نفسي وعقلي.
حال هذه الأم، يتقاسمه الكثير من الآباء والأمهات والأسر، حكاياتهم عن أحوال أبنائهم لا تنتهي، تبدأ من عدم القدرة على اقتناء الأدوية وتصل إلى عدم إدراك معنى المرض النفسي والعقلي، لا تتوقف عند أين يمكن وضع هذا الإبن بعد أن يصل هيجانه إلى حدود لا تقاوم، وبعد أن يصل مستوى عنفه إلى حد التهديد بالقتل.
أغلب هؤلاء المرضى ينتشرون في الشوارع والأزقة في أوضاع مثيرة للشفقة وللإحراج في حالات كثيرة، إذ بدأت الظاهرة تصنع واقعا مأساويا، في ظل افتقار المستشفيات العمومية إلى العديد من الوسائل الطبية، وضعف بنيتها الاستقبالية والاستشفائية للمصابين، إضافة إلى قلة الموارد البشرية العاملة في المجال، وعلى رأسهم الأطباء المتخصصون في الطب النفسي.
"اعتقدنا في البداية أن الأمر يتعلق باضطرابات عادية ترتبط بمرحلة المراهقة خاصة وأن هذه العلامات المرضية ظهرت على ابني مباشرة بعد عدم تكمنه من اجتياز البكالوريا، لكن مع مرور الوقت بدأت الاضطرابات تزداد والحالة تسوء، وأصبح ابني يكره الدراسة، كما قل تركيزه، ناهيك عن التصرفات غير المفهومة وغير المنطقية التي كانت تبدو عليه، مما دفعنا إلى استشارة طبيب نفساني، هذا الأخير أكد لنا أن ابننا مصاب بمرض نفسي، وأنه يعيش في عالم منفصل تماما عن الواقع، كما أنه يرى أشياء ويسمع أصواتا غير موجودة في الواقع".
هكذا تغيرت حياة هذه الأسرة لتأخذ منعطفا جديدا وتبدأ رحلة عذاب يومية مع ابن حكم عليه المرض أن يصبح في واد وأسرته في واد آخر، ولا يجمعهما إلا رابطة الدم وشفقة الأسرة على حال ابنها الذي توسمت فيه أن يكون أفضل الأبناء.
تتذكر أم هذا المريض كيف اكتشف المرض في البداية وعندما كان الابن في بداية العشرينيات، حيث ظهرت عليه اضطرابات في السلوك، بعد ذلك دخل في مرحلة أخرى من الهلوسة والهذيان. وكان أصعب ما واجهته الأسرة، كما ذكرت الأم، رفض الابن الذهاب إلى الطبيب لاعتقاده أنه شخص سليم وأن ما يراه ويسمعه حقيقة لا تقبل الشك.
بعض الآباء هم أيضا يرفضون تصديق أن ابنهم يعاني من مرض عقلي وبسبب الصورة التي يحتفظ بها المجتمع عن المرضى العقليين فإنهم يضطرون إلى إخفاء هذه الحقيقة فيحرم المريض من العلاج.
"أعرف شخصية مهمة لها ابن وحيد مصاب بمرض عقلي يدخله في حالة هذيان كبيرة، وقد رفض أن يقبل بحقيقة مرض ابنه، مما جعله يتجاهل وجود هذا الأخير، وبدل أن يصحبه للطبيب لبدء العلاج فضل أن يتركه هكذا، وقد وصل به الحد إلى أن يستعين برجال الدرك حتى يخلصوه من هذا الابن الذي كان عنيفا"، يقول أحد الممرضين العاملين بجناح 36 للمرضى العقليين والنفسيين، ويضيف "للأسف هناك أسر ترفض الاعتراف بوجود ابن مريض وإذا لم يتلق هذا الأخير العلاج ولم يأخذ الدواء بشكل منتظم ساءت حالته أكثر وأصبحت أكثر تعقيدا». وبالإضافة إلى هذا المشكل هناك أسر تعاني من وجود أكثر من مريض،«أعرف أما لديها ابن مريض بالفصام وابنة تعاني من إعاقة ذهنية، ولا يمكنكم بأي حال من الأحوال تصور مدى معاناة هذه السيدة التي ذاقت كل ألوان العذاب، من جهة بسبب إمكانياتها المحدودة، ومن جهة أخرى بسبب عنف الابن..."
"نعطي اللي ورايا واللي قدامي غير يدخل ولدي يتابع العلاج ديالو في السبيطار، راني مبقيتش قادرة.. تهديت ويمكن نخسر حياتي كلها وحياة أولادي الباقيين .."، تتصل هذه الأم بشكل يومي بإحدى الجمعيات التي تقدم دعما للمرضي النفسيين وتطلب مساعدتهم لتتحقق لها أمنية تقول أنها ستحقق لأسرتها الاستقرار. لكن الجناح 36 بالمستشفي الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء عاجز عن تلبية طلبات الأعداد الكبيرة والمتزايدة من أسر المرضى النفسيين والعقليين. فالطاقة الاستيعابية للجناح محدودة كما أن عدد الأطر الطبية والصحية العاملة به معدودة على رؤرس الأصابع، هذا ناهيك عن ضعف التجهيزات الطبية أو التربوية أو العلاجية التي تساعد على التخفيف من حدة المرض النفسي.
36 رقم يتشاءم منه المغاربة، جعلوه رمزا لنكتهم، ولعبهم الطفولي، والأكثر من ذلك أدخلوه في قاموس السب والشم لديهم "أنت خاصك تدخل ترانت سيس"، لكن هل يعرف هؤلاء أن الدخول إلى هذا الـ"ترانت سيس" يحتاج إلى جهد جد كبير، وأن المكان إلى حوله المغاربة رغما أنه إلى "سبة" هو المتنفس الوحيد في مدينة الدار البيضاء والنواحي للأسر التي تعاني مع أبنائها من المرضى النفسيين والذين باتت حالتهم لا تسمح لهم بالعيش تحن سقف واحد مع أسرهم.
فصعوبة ولوج الجناح ست وثلاثين دفعت أم ذات مستوي تعليمي عال جدا إلى كراء «براكة» لابنها قبل أن تقرر تغيير مسكنها وتقطع كل اتصال ممكن لها مع هذا الابن الذي أشغل النار ببيتهم أكثر من مرة.
وبسبب صعوبة ولوج إلى مستشفى أمراض النفسية والعقلية ينتهي الأمر ببعض الأسر إلى التخلي عن هذا "الواجب الحساس والشاق" لرعاية المرضى عقليا ونفسيا. ويختارون التخلي عن أقربائهم المصابين وتركهم بواجهون واقع الحياة في الشوارع وحدهم.
وليبق ارتفاع تكلفة العلاج عائقا كبيرا أمام إكمال العلاج بالنسبة للمرضى النفسيين شأنهم في ذلك شأن العديد من الأمراض التي تتطلب علاجا طويلا، حيث أن غياب تغطية صحية وغلاء الأدوية يدفع بالكثير من المرضى إلى مقاطعة العلاج وهو ما يؤدي إلى تطور المرض الذي لا يشكل خطرا وعائقا نفسانيا واجتماعيا للمريض فحسب بل كل المحيطين به.
حياة "مي فاطنة" أشبه بالكابوس. فإمكانيتها المادية بسيطة. وتقوم كل صباح بحبس ابنتها ذات الثلاث وعشرين ربيعا والمصابة بمرض عقلي في غرفتها لتذهب بحثا عن عمل. وتقول "عندما لا أكون في البيت، تصرخ وتكسر كل شيء. لكنني مضطرة لتركها لكي أتمكن من توفير لقمة العيش ودفع إيجار غرفتنا»> قبل أن تضيف بصوت خافت حزين "عاني كثيرا من حدة سلوكها عندما أعود للبيت. لكنني أمها وعلي تحمل ذلك رغم أنني أتساءل في بعض الأحيان عما إذا كانت الدولة لا ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها عن مواطنيها المرضى الذين هم بحاجة لرعاية خاصة دائمة".
"مي فاطنة" لا تستيطع تأمين العلاج لابنتها، فتكاليفه كبيرة، فهي لا تستطيع أن توفر 70 أو 100 درهم ثمن مقابل الاستفادة من خدمة التشخيص بجناح "ستة وثلاثين" كما أن الإدلاء بشهادة الاحتاج لا ينفع في شيء داخل هذا الجناح، وحالة هذه الأم شبيهة بحالة العديد من الأسر، كما أنها لا تملك ثمن شراء الأدوية التي وصفها الطبيب لتبقى ابنتها هادئة ولهذا فهي تعاني من التقلبات المزاجية الحادة لهذه الأخيرة.
مي فاطنة لا تعلم أنه بموجب خطة عمل وطنية 2008-2012، يسعى المغرب إلى تحسين الرعاية النفسية ومحاربة التمييز ووصمة العار التي تسبب المعاناة في صفوف المرضى عقليا. ومن بين عناصر خطة العمل أيضا هناك معالجة الصحة النفسية للأطفال والمراهقين مع إعطاء اهتمام خاص لمشكل المخدرات. وسيستفيد المرضى مجانا من بعض الأدوية للعلاج النفسي وستعمل الوزارة على توفير التكوين لمئات الأطباء النفسانيين والممرضين المختصين في الطب النفسي. هذا بالإضافة إلى وجود ظهير ملكي صادر في منتصف الخمسنيات يقر بمجانية العلاج بالبنسبة للمرضى لكن صدوره لم يفعل.
ومنذ شهور يعيش الأطباء والممرضين العاملين في مجال الصحة والسلامة والنفسية، بعد التقرير الأخير، الذي يرصد وضع الصحة النفسية والعقلية بالمغرب والذي أقر بوجود حوالي 13 مليون مريض نفسي بالمغرب!، حالة قلق مبعثها أنه لا توجد في المغرب سوي 5 مستشفيات فقط لعلاج لكل هؤلاء المرضي.
كما أن عدد الأطباء النفسيين العاملين بالمستشفيات العمومية والمراكز الصحية لا يتعدى 350 طبيب وعدد قليل من ممرضين المختصين على المستوي الوطني .. وهذه الأرقام تشير إلي خطر حقيقي يهدد الشارع المغربي.. لأن عدم وجود أماكن إيواء لهؤلاء المرضي أدى إلى ادراجهم تحت بند القنابل الموقوتة القابلة للانفجار في أي لحظة لتصيب المجتمع بعدة جرائم مروعة طالما لا تتوافر لهم الرعاية العلاجية اللازمة.