ذ.نجيم مزيان
باحث في الدراسات الدستورية والسياسية
لم تكن الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى في الدساتير الثلاث الاولى تمتلك صلاحية الرقابة على دستورية القوانين العادية،لأن مجال عملها كان تقنيا محضا يقتصر على دور حارس الحدود بين مجالي القانون والتنظيم،وغياب هذا الاختصاص كان يشكل أبرز ثغرات تجربة الغرفة لأن الأمر يتعلق بضمانة أساسية للحقوق والحريات كانت مفقودة.وربما لو كان بإمكان الغرفة أن تنظر في دستورية القوانين العادية،لكان بين أيدينا مجموعة من القرارات الصادرة بعدم دستورية العديد من النصوص التي صدرت في فترات معينة من تاريخ المغرب وخصوصا في الستينات والسبعينات،حيث اتجه المشرع توجها نكوصيا تراجعيا فيما يخص الانظمة القانونية للحقوق والحريات.
ولسد هذه الثغرات أعطيت للمجلس الدستوري الذي عوض الغرفة،صلاحية الرقابة على دستورية القوانين العادية،إذا ما أحيلت عليه من طرف الملك أو الوزير الاول أو من طرف رئيسي مجلسي البرلمان أو ربع أعضاء أحد المجلسين،وهو ما أعتبر محطة نوعية يمكن التعويل عليها كضمانة لحماية الحقوق والحريات.غير أن حصيلة اجتهاد المجلس في هذا الاختصاص تعتبر نوعا ما ضعيفة،ذلك أن قرارات المجلس المرتبطة بتشريعات تتعلق بحقوق أو حريات دستورية تعد على رؤوس الأصابع ويمكن حصرها في ثلاث حريات وحقوق دستورية وهي : الحق في الاعلام،حق تولي المناصب العمومية وعدم رجعية القوانين.
حرية الاعلام
بتاريخ 18 يوليوز 1994 أحال 95 عضوا من مجلس النواب ينتمون لفرق المعارضة على المجلس الدستوري ،عملا بأحكام الفقرة الثالثة من الفصل 79 من دستور 1992 القانون رقم 93-33 القاضي بالمصادقة على المرسوم بقانون رقم 388-91 الصادر في 13 أكتوبر 1992 والقاضي بإحداث رسم بقيمة 5000 درهم على اقامة المحطات الارضية الخاصة المعدة لالتقاط الاشارات الاذاعية والتلفزية الصادرة عن أقمار اصطناعية طالبين التصريح بعدم مطابقته للدستور استنادا الى دفوعات شكلية وأخرى جوهرية.
بالنسبة للدفوعات الشكلية يمكن تلخيصها حسب رسالة الاحالة في:
- أن لجنة المالية والتخطيط والتنمية الجهوية داخل البرلمان وافقت على المرسوم بقانون بحضور 8 أعضاء من أصل 53 في الوقت الذي كان يشترط النظام الداخلي أن تكون الموافقة بأغلبية أعضاء اللجنة.
- أن الحكومة اتخذت المرسوم بقانون المذكور بعد انتهاء الولاية التشريعية، وبذلك تكون قد خالفت الفصل 71 من دستور 1992 الذي كان ينص على أن الملك يمارس صلاحيات البرلمان خلال الفترة الفاصلة بين نهاية الولاية البرلمانية وانتخاب برلمان جديد.
- بالنسبة للدفوعات الجوهرية،ارتأت فرق المعارضة أن المرسوم بقانون موضوع المنازعة"غير مطابق لروح الدستور" وذلك لعدة أسباب أهمها:خرقه لحرية الرأي والتعبير المنصوص عليها في الفصل التاسع من
الدستور،وأيضا في العديد من المواثيق الدولية لحقوق الانسان التي صادق عليها المغرب.ذلك أن حرية الرأي،في نظر المعارضة لا تتجلى فقط في إظهار المواطنين لرأيهم،بل أيضا في استقبال آراء الغير وأفكارهم،أي ما أصبح يعرف بالحق في الاعلام.
- خرقه للحق في المساواة باعتبار أن هذا القانون سيخلف لا مساواة كبيرة بين المواطنين،ولأن الاغنياء منهم فقط من سيتمكن من امتلاك الهوائيات.
- مخالفته لإحدى المبادئ العامة للقانون المتمثلة في عدم شرعية الاثراء بلا سبب،لأن الرسم الذي أحدثه القانون لا تؤدي الدولة في مقابله أي خدمة عامة.
غير أن قرار المجلس الدستوري وإن قضى بعدم دستورية القانون المذكور،فإنه استند فقط على الجانب الشكلي في المنازعة،معتبرا أن التاريخ الذي صدر فيه المرسوم بقانون 13 أكتوبر 1992 يدخل في اطار فترة الفراغ النيابي التي يمارس فيها الملك مهام البرلمان بمقتضى الفصل 101 من الدستور باعتبار أن الولاية التشريعية انتهت بتاريخ 8 أكتوبر 1992،وليس في اطار الفترة الفاصلة بين الدورات التي يمكن فيها للحكومة اصدار مراسيم قوانين باتفاق من اللجان المعنية طبقا للفصل 54.وقد كانت هذه المخالفة الشكلية كافية لوحدها،في نظر المجلس للحكم بعدم دستورية المرسوم بقانون.ولم تكن هناك حاجة للنظر في باقي الدفوعات الجوهرية،والتي مر عليها قرار المجلس بعبارة"ودونما حاجة الى تمحيص الاسباب المثارة في رسالة الاحالة".
وهكذا لم يكلف المجلس نفسه في أول قرار له متعلق بالرقابة على دستورية القوانين العادية في المغرب،حتى مناقشة المسألة،مفوتا بذلك أول فرصة لتدشين الدور الذي يجب أن يقوم به في مجال الحقوق والحريات.ذلك أن العيوب الشكلية يمكن تداركها،فهل ترفع عدم دستورية القانون المذكور مثلا لو تمت المصادقة عليه وفق مسطرة تشريعية سليمة؟أم أن الامر سيتطلب احالة جديدة على المجلس وقرارا جديدا منه في الموضوع.
حق تولي الوظائف العامة
بعد المصادقة البرلمانية على مدونة تحصيل الديون العمومية،أحالها الوزير الاول طبقا للفصل 81 من الدستور على المجلس الدستوري للنظر في دستورية المادة 142 من المدونة والتي كانت تنص على أنه"يعتبر في حالة تنافي لممارسة أي وظيفة رسمية أو انتخابية،كل شخص لم يؤد ما بذمته من ديون عمومية،ويرفع هذا التنافي حال أداء المبالغ المستحقة"ومدلول هذه المادة أن كل شخص يحصل على منصب عام رسمي أو انتخابي يصبح في حالة تنافي مع الوظيفة التي يشغلها ما لم يؤد الضرائب والديون العمومية المستحقة عليه غير أن ما أخذ على هذه المادة هي أن المشرع لم يحدد طبيعة الوظائف المعنية فيها لأنه على سبيل المثال،بالنسبة لحالات التنافي مع النيابة البرلمانية،التي هي وظيفة انتخابية،فإنها تحدد بقانون تنظيمي،حسب نص الدستور وليس بموجب قانون عادي.
كما أنه من شأن التطبيق الحرفي لهذه المادة إيقاف كل الموظفين الرسميين المترتبة عليهم ضرائب لم يؤدوها،وهذا من شأنه شل المرافق العمومية .
وبالنسبة لقرار المجلس الدستوري بخصوص هذه النازلة،فيمكن اعتباره قرارا ايجابيا من حيث أنه ركز على الجانب الحقوقي في المسألة،معتبرا أن تولي الوظائف العامة هو حق دستوري،وإذا كان من صلاحيات المشرع وضع بعض الحدود والتقييدات على هذا الحق،فإن هذه الحدود يجب أن تكون محددة في مضمونها،وفي مجال تطبيقها،وشروط اعمالها،وأن تكون فوق ذلك معللة،بشكل يجعلها مطابقة للمبادئ الدستورية أو ذات القيمة الدستورية.واعتبر المجلس أنه إذا كان المشرع علل وضعه للمادة 142 بهدف تخليق الحياة العامة فإنه في مقابل ذلك لم يحدد أصناف الوظائف العامة المعنية بها ولا المسطرة المتبعة لإعلان حالة التنافي كما لم يحدد السلطة المخولة اثارة حالة التنافي.والتي يجب ان يتوفر فيها الحياد والاستقلالية احتراما لمبدأ فصل السلط،ولاختصاصات كل مؤسسة دستورية.ولذلك فقد اعتبر المجلس أن المادة 142 المذكورة غير مطابقة للدستور لأنها تقيد حق تولي الوظائف العامة كحق مضمون دستوري دون أن تعطي الضمانات اللازمة بخصوص أبعاد هذا التقييد وفحواه وشروطه.
مبدأ عدم رجعية القوانين
بعد مصادقة البرلمان على قانون المالية لسنة 2002،أحال 97 عضوا من فرق المعارضة داخل مجلس النواب هذا القانون على المجلس الدستوري بتاريخ27 دجنبر 2001 طالبين التصريح بعدم مطابقة أربعة مواد منه للدستور.والمهم بالنسبة لموضوعنا،هو المنازعة في دستورية المادة السادسة من قانون المالية،التي كانت تنص على اعفاء لحوم الدواجن والأبقار والأغنام المستوردة لفائدة القوات المسلحة الملكية من الرسوم والضرائب المفروضة عند الاستيراد،ويطبق هذا الاعفاء بأثر رجعي ابتداء من فاتح يناير 1996.حيث اعتبرت المعارضة أن هذه المادة مخالفة لقاعدة عدم رجعية القوانين المنصوص عليها في الفصل الرابع من الدستور.
غير أن قرار المجلس الدستوري رد هذا الطعن معتبرا أن مبدأ عدم رجعية القوانين"لايشكل قاعدة مطلقة إذ ترد عليه استثناءات تقوم بخصوص قانون المالية على معيار يبررها يستند اليه المشرع في اصلاح أوضاع غير عادية محددة من طرف الادارة وتهدف الى الصالح العام" وبناء على هذا الرأي قضى المجلس بعدم مخالفة المادة المذكورة للدستور.
وقد أثار هذا القرار نقاشا فقهيا كبيرا،ذلك أن مبدأ عدم رجعية القوانين هو أحد الضمانات الاساسية لحقوق المواطنين ومنصوص عليه في أعلب المواثيق الدولية لحقوق الانسان.وهو الى جانب ذلك مكرس في الفصل الرابع من الدستور بصيغة واضحة وصريحة،"ليس للقانون أثر رجعي" ولم يخضعه الدستور لأي استثناء.وإذا كان من المقبول أحيانا إدخال استثناءات على هذا المبدأ،فإنه الفقه يحدد هذه الاستثناءات بدقة منها:القانون الاصلح للمتهم،والقانون المفسر أو المصحح..ولا تدخل ضمن هذه الحالات مفاهيم واسعة غير دقيقة كمفهوم"الصالح العام"و"اصلاح أوضاع غير عادية"،فقد كان على المجلس أن يبين بوضوح وجه الصالح العام في مقتضيات المادة السادسة،وهو الشيء غير العادي في الرسوم التي كانت مفروضة على استراد اللحوم لفائدة القوات المسلحة.إنه صحيح أن مقتضيات المادة السادسة المذكورة تتعلق بجوانب مالية لا أثر سلبي لها بخصوص الحقوق والحريات،لكن موقف المجلس انتقد لكونه"فتح بابا يصعب إغلاقه" ،ولأنه يبيح للمشرع القفز على مبدأ دستوري لاعتبارات غير دقيقة،فالأمر يتعلق بالمبدأ أكثر مما يتعلق بأهمية وآثار المادة المذكورة خصوصا وأن عدم رجعية القوانين يشكل ضمانة أساسية لحقوق المواطنين،ولا يمكن فتح المجال أمام الحكومة وأغلبيتها للتملص منه كلما رأت حسب تقديرها الخاص أن قرار المجلس في هذه الحالة يعتبر من القرارات المفسرة التي تعمل على توضيح مبدأ دستوري،فإن المجلس لم يحدد بدقة الاستثناءات التي يمكن أن ترد على مبدأ عدم الرجعية من حيث حدودها ومجالاتها،وهل هي مبررة في القانون المالي فقط أم يمكن أن ترد ضمن قوانين عادية أخرى؟ لذلك فكل ما فعله المجلس هو الوقوف في صف موقف الحكومة.
باحث في الدراسات الدستورية والسياسية
لم تكن الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى في الدساتير الثلاث الاولى تمتلك صلاحية الرقابة على دستورية القوانين العادية،لأن مجال عملها كان تقنيا محضا يقتصر على دور حارس الحدود بين مجالي القانون والتنظيم،وغياب هذا الاختصاص كان يشكل أبرز ثغرات تجربة الغرفة لأن الأمر يتعلق بضمانة أساسية للحقوق والحريات كانت مفقودة.وربما لو كان بإمكان الغرفة أن تنظر في دستورية القوانين العادية،لكان بين أيدينا مجموعة من القرارات الصادرة بعدم دستورية العديد من النصوص التي صدرت في فترات معينة من تاريخ المغرب وخصوصا في الستينات والسبعينات،حيث اتجه المشرع توجها نكوصيا تراجعيا فيما يخص الانظمة القانونية للحقوق والحريات.
ولسد هذه الثغرات أعطيت للمجلس الدستوري الذي عوض الغرفة،صلاحية الرقابة على دستورية القوانين العادية،إذا ما أحيلت عليه من طرف الملك أو الوزير الاول أو من طرف رئيسي مجلسي البرلمان أو ربع أعضاء أحد المجلسين،وهو ما أعتبر محطة نوعية يمكن التعويل عليها كضمانة لحماية الحقوق والحريات.غير أن حصيلة اجتهاد المجلس في هذا الاختصاص تعتبر نوعا ما ضعيفة،ذلك أن قرارات المجلس المرتبطة بتشريعات تتعلق بحقوق أو حريات دستورية تعد على رؤوس الأصابع ويمكن حصرها في ثلاث حريات وحقوق دستورية وهي : الحق في الاعلام،حق تولي المناصب العمومية وعدم رجعية القوانين.
حرية الاعلام
بتاريخ 18 يوليوز 1994 أحال 95 عضوا من مجلس النواب ينتمون لفرق المعارضة على المجلس الدستوري ،عملا بأحكام الفقرة الثالثة من الفصل 79 من دستور 1992 القانون رقم 93-33 القاضي بالمصادقة على المرسوم بقانون رقم 388-91 الصادر في 13 أكتوبر 1992 والقاضي بإحداث رسم بقيمة 5000 درهم على اقامة المحطات الارضية الخاصة المعدة لالتقاط الاشارات الاذاعية والتلفزية الصادرة عن أقمار اصطناعية طالبين التصريح بعدم مطابقته للدستور استنادا الى دفوعات شكلية وأخرى جوهرية.
بالنسبة للدفوعات الشكلية يمكن تلخيصها حسب رسالة الاحالة في:
- أن لجنة المالية والتخطيط والتنمية الجهوية داخل البرلمان وافقت على المرسوم بقانون بحضور 8 أعضاء من أصل 53 في الوقت الذي كان يشترط النظام الداخلي أن تكون الموافقة بأغلبية أعضاء اللجنة.
- أن الحكومة اتخذت المرسوم بقانون المذكور بعد انتهاء الولاية التشريعية، وبذلك تكون قد خالفت الفصل 71 من دستور 1992 الذي كان ينص على أن الملك يمارس صلاحيات البرلمان خلال الفترة الفاصلة بين نهاية الولاية البرلمانية وانتخاب برلمان جديد.
- بالنسبة للدفوعات الجوهرية،ارتأت فرق المعارضة أن المرسوم بقانون موضوع المنازعة"غير مطابق لروح الدستور" وذلك لعدة أسباب أهمها:خرقه لحرية الرأي والتعبير المنصوص عليها في الفصل التاسع من
الدستور،وأيضا في العديد من المواثيق الدولية لحقوق الانسان التي صادق عليها المغرب.ذلك أن حرية الرأي،في نظر المعارضة لا تتجلى فقط في إظهار المواطنين لرأيهم،بل أيضا في استقبال آراء الغير وأفكارهم،أي ما أصبح يعرف بالحق في الاعلام.
- خرقه للحق في المساواة باعتبار أن هذا القانون سيخلف لا مساواة كبيرة بين المواطنين،ولأن الاغنياء منهم فقط من سيتمكن من امتلاك الهوائيات.
- مخالفته لإحدى المبادئ العامة للقانون المتمثلة في عدم شرعية الاثراء بلا سبب،لأن الرسم الذي أحدثه القانون لا تؤدي الدولة في مقابله أي خدمة عامة.
غير أن قرار المجلس الدستوري وإن قضى بعدم دستورية القانون المذكور،فإنه استند فقط على الجانب الشكلي في المنازعة،معتبرا أن التاريخ الذي صدر فيه المرسوم بقانون 13 أكتوبر 1992 يدخل في اطار فترة الفراغ النيابي التي يمارس فيها الملك مهام البرلمان بمقتضى الفصل 101 من الدستور باعتبار أن الولاية التشريعية انتهت بتاريخ 8 أكتوبر 1992،وليس في اطار الفترة الفاصلة بين الدورات التي يمكن فيها للحكومة اصدار مراسيم قوانين باتفاق من اللجان المعنية طبقا للفصل 54.وقد كانت هذه المخالفة الشكلية كافية لوحدها،في نظر المجلس للحكم بعدم دستورية المرسوم بقانون.ولم تكن هناك حاجة للنظر في باقي الدفوعات الجوهرية،والتي مر عليها قرار المجلس بعبارة"ودونما حاجة الى تمحيص الاسباب المثارة في رسالة الاحالة".
وهكذا لم يكلف المجلس نفسه في أول قرار له متعلق بالرقابة على دستورية القوانين العادية في المغرب،حتى مناقشة المسألة،مفوتا بذلك أول فرصة لتدشين الدور الذي يجب أن يقوم به في مجال الحقوق والحريات.ذلك أن العيوب الشكلية يمكن تداركها،فهل ترفع عدم دستورية القانون المذكور مثلا لو تمت المصادقة عليه وفق مسطرة تشريعية سليمة؟أم أن الامر سيتطلب احالة جديدة على المجلس وقرارا جديدا منه في الموضوع.
حق تولي الوظائف العامة
بعد المصادقة البرلمانية على مدونة تحصيل الديون العمومية،أحالها الوزير الاول طبقا للفصل 81 من الدستور على المجلس الدستوري للنظر في دستورية المادة 142 من المدونة والتي كانت تنص على أنه"يعتبر في حالة تنافي لممارسة أي وظيفة رسمية أو انتخابية،كل شخص لم يؤد ما بذمته من ديون عمومية،ويرفع هذا التنافي حال أداء المبالغ المستحقة"ومدلول هذه المادة أن كل شخص يحصل على منصب عام رسمي أو انتخابي يصبح في حالة تنافي مع الوظيفة التي يشغلها ما لم يؤد الضرائب والديون العمومية المستحقة عليه غير أن ما أخذ على هذه المادة هي أن المشرع لم يحدد طبيعة الوظائف المعنية فيها لأنه على سبيل المثال،بالنسبة لحالات التنافي مع النيابة البرلمانية،التي هي وظيفة انتخابية،فإنها تحدد بقانون تنظيمي،حسب نص الدستور وليس بموجب قانون عادي.
كما أنه من شأن التطبيق الحرفي لهذه المادة إيقاف كل الموظفين الرسميين المترتبة عليهم ضرائب لم يؤدوها،وهذا من شأنه شل المرافق العمومية .
وبالنسبة لقرار المجلس الدستوري بخصوص هذه النازلة،فيمكن اعتباره قرارا ايجابيا من حيث أنه ركز على الجانب الحقوقي في المسألة،معتبرا أن تولي الوظائف العامة هو حق دستوري،وإذا كان من صلاحيات المشرع وضع بعض الحدود والتقييدات على هذا الحق،فإن هذه الحدود يجب أن تكون محددة في مضمونها،وفي مجال تطبيقها،وشروط اعمالها،وأن تكون فوق ذلك معللة،بشكل يجعلها مطابقة للمبادئ الدستورية أو ذات القيمة الدستورية.واعتبر المجلس أنه إذا كان المشرع علل وضعه للمادة 142 بهدف تخليق الحياة العامة فإنه في مقابل ذلك لم يحدد أصناف الوظائف العامة المعنية بها ولا المسطرة المتبعة لإعلان حالة التنافي كما لم يحدد السلطة المخولة اثارة حالة التنافي.والتي يجب ان يتوفر فيها الحياد والاستقلالية احتراما لمبدأ فصل السلط،ولاختصاصات كل مؤسسة دستورية.ولذلك فقد اعتبر المجلس أن المادة 142 المذكورة غير مطابقة للدستور لأنها تقيد حق تولي الوظائف العامة كحق مضمون دستوري دون أن تعطي الضمانات اللازمة بخصوص أبعاد هذا التقييد وفحواه وشروطه.
مبدأ عدم رجعية القوانين
بعد مصادقة البرلمان على قانون المالية لسنة 2002،أحال 97 عضوا من فرق المعارضة داخل مجلس النواب هذا القانون على المجلس الدستوري بتاريخ27 دجنبر 2001 طالبين التصريح بعدم مطابقة أربعة مواد منه للدستور.والمهم بالنسبة لموضوعنا،هو المنازعة في دستورية المادة السادسة من قانون المالية،التي كانت تنص على اعفاء لحوم الدواجن والأبقار والأغنام المستوردة لفائدة القوات المسلحة الملكية من الرسوم والضرائب المفروضة عند الاستيراد،ويطبق هذا الاعفاء بأثر رجعي ابتداء من فاتح يناير 1996.حيث اعتبرت المعارضة أن هذه المادة مخالفة لقاعدة عدم رجعية القوانين المنصوص عليها في الفصل الرابع من الدستور.
غير أن قرار المجلس الدستوري رد هذا الطعن معتبرا أن مبدأ عدم رجعية القوانين"لايشكل قاعدة مطلقة إذ ترد عليه استثناءات تقوم بخصوص قانون المالية على معيار يبررها يستند اليه المشرع في اصلاح أوضاع غير عادية محددة من طرف الادارة وتهدف الى الصالح العام" وبناء على هذا الرأي قضى المجلس بعدم مخالفة المادة المذكورة للدستور.
وقد أثار هذا القرار نقاشا فقهيا كبيرا،ذلك أن مبدأ عدم رجعية القوانين هو أحد الضمانات الاساسية لحقوق المواطنين ومنصوص عليه في أعلب المواثيق الدولية لحقوق الانسان.وهو الى جانب ذلك مكرس في الفصل الرابع من الدستور بصيغة واضحة وصريحة،"ليس للقانون أثر رجعي" ولم يخضعه الدستور لأي استثناء.وإذا كان من المقبول أحيانا إدخال استثناءات على هذا المبدأ،فإنه الفقه يحدد هذه الاستثناءات بدقة منها:القانون الاصلح للمتهم،والقانون المفسر أو المصحح..ولا تدخل ضمن هذه الحالات مفاهيم واسعة غير دقيقة كمفهوم"الصالح العام"و"اصلاح أوضاع غير عادية"،فقد كان على المجلس أن يبين بوضوح وجه الصالح العام في مقتضيات المادة السادسة،وهو الشيء غير العادي في الرسوم التي كانت مفروضة على استراد اللحوم لفائدة القوات المسلحة.إنه صحيح أن مقتضيات المادة السادسة المذكورة تتعلق بجوانب مالية لا أثر سلبي لها بخصوص الحقوق والحريات،لكن موقف المجلس انتقد لكونه"فتح بابا يصعب إغلاقه" ،ولأنه يبيح للمشرع القفز على مبدأ دستوري لاعتبارات غير دقيقة،فالأمر يتعلق بالمبدأ أكثر مما يتعلق بأهمية وآثار المادة المذكورة خصوصا وأن عدم رجعية القوانين يشكل ضمانة أساسية لحقوق المواطنين،ولا يمكن فتح المجال أمام الحكومة وأغلبيتها للتملص منه كلما رأت حسب تقديرها الخاص أن قرار المجلس في هذه الحالة يعتبر من القرارات المفسرة التي تعمل على توضيح مبدأ دستوري،فإن المجلس لم يحدد بدقة الاستثناءات التي يمكن أن ترد على مبدأ عدم الرجعية من حيث حدودها ومجالاتها،وهل هي مبررة في القانون المالي فقط أم يمكن أن ترد ضمن قوانين عادية أخرى؟ لذلك فكل ما فعله المجلس هو الوقوف في صف موقف الحكومة.