بقلم : ذ. ميلود المعبيش
في ستر معهود، وفي حضرة الأرواح الطاهرة، حبلت الطبيعة العذراء وتمخضت مخاضا عسيرا، بعيدا عن الآدميين والأرواح الشريرة، ووسوسة الشياطين... فولدت جبلا عملاقا، كان وتدا لهذه الخيمة الأرضية. كان صعلوك الدهر. لم يتأبط شرا، ولم يتعرض لقوافل الحرير، إنما كان شاهدا من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب على هذا الوطن، سمِّه ما شئت : وطنا قوميا أو عربيا أو إسلاميا أو..
ولد هذا الجبل العملاق، شاهد العصر في صمت. وهذا شأن العظماء يولدون في صمت ويموتون في صمت. لا يحتاجون إلى إقامة الموائد، ولا تلويح بالسواعد أو اعتراف بالشواهد. كان الصمت رهيبا، لكنه كالسهم من وراء القوس. يخترق الآذان ويزعزع الأذهان. يشير إلى علياء، إلى عيونه النجوم، وإلى أسفل، إلى قدميه المتراميتين حتى سفح المدينة القزم، الغارقة في نومها وأحلامها المزعجة.
طلع المولود العملاق من وراء النور وكأنه انبثق من اللاشيء. فسرى في الفضاء، شعاعا فضيا ناعما، بعد ما خيم على هذا الوطن ظلام دامس، وتحول الشعاع إلى لفظة صامتة ترمز إلى عاطفة جيَّاشة في نفسية هذا الشعب المستضعف، بعدما أُفرِغت جميع معاجم وقواميس خطباء اللغو من المعنى الحقيقي للفظة حب، حنان، عاطفة، تضامن، إيثار، إغاثة المظلومين، العدل، الصحة للجميع، محاسبة محترفي الفساد، القانون فوق الجميع، التصدي لأية مؤامرة...
أيها الوطن الكبير، أيها الوطن النائم، هكذا خاطب المولود العملاق قائلا: أنا حارس الليل، أنا حارس النهار، أنا صعلوك الدهر. ألم تسمعوني صامتا؟! ألا فاسمعوني متكلما: إن أحشائي تضطرب وجوفي يعلن بميلاد الكهوف، وشجرة الكهف لاتزهر ثمارا بل تزهر وطاويط وخفافيش. هذه الخفافيش ستكون نسلا إبليسيا أبديا للأحزاب الليلية الناطقين باسم همسات الشياطين والرافعين شعار: في البدء كانت الظلمة، نعم للهدم لا للبناء، نعم للمآمرة لا للمؤازرة.
أما في قلب هذا الوطن فكانت الكهوف مبلطة ومزلجة. تزهر كائنات بشرية مُثَعْلبة، هم أصحاب الطرابيش. يُحيون أيامهم باسم التقاليد وهم أبعد عن روح الصنعة القومية والوطنية. ليلهم ليس كنهارهم وإن تحدثوا باسم الأمانة الدينية. فهم يتكلمون باسم الشاعر الجاهلي: اليوم خمر وغدا أمر. ويرفعون شعارقيصر: ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
هذا الوطن الكبير، هذا الوطن العزيز، يرزأ تحت وقع لعنة تَحُوك له خارطة طريق الخفافيش وأصحاب الطرابيش.
بمباركة من البيت الأسود، وتحريض من العجوز الأبيض وبعض الأبالسة الذين يعيشون في تخوم هذا الوطن، اشرأبت الخفافيش الآدمية بأعناقها من نتوءات الكهف، وهي تختلس النظر إلى أبناء هذا الوطن وترتب أفكارها الحاقدة شكلا ولونا على أساس المكايدة والمؤامرة، ثم أطلقت من فمها اللحمي الكريه عبارات وكأنها قد اتقدت من فولاذ وحجارة لتهييج أبناء هذه الشعوب، باسم التحرر، الانقلاب السلمي، الربيع العربي، إعادة خارطة الطريق، الحرب النظيفة، تأهيل الأمة العربية والإسلامية، المساواة بين الجنسين...
شعارات رنانة لاِستمالة المتعطشين إلى التغيير، وسراب يُغري الظمآن، وحق أريد به باطل. الخفاش الآدمي يتوهم أنه يصدح على ربوة إنسانية خضراء، لكنه استدراج للأمة إلى مستنقع النقيق، وإغراء يستبطن الدعوة إلى الفتنة.
تحكي الخفافيش حكاياتها ومعاناتها مع التاريخ القديم وتقول: لقد عشنا زمنا طويلا مضطهدين من جموع السباع ، والطيور الكاسرة، وزواحف الأرض. فانتفضنا انتفاضة كبرى باسم التحرر، فها نحن اليوم نقيم مملكة الوطاويط في الكهوف، ونغرد بحرية خارج السرب، فهلا فعل أبناؤكم مثلنا؟! يبنون لهم كهوف يتدلون من قعرها المظلمة معكوسين بحرية، بدل المشي في الأغلال والأصفاد.
هذا هو الخطاب المعاصر، الخطاب الجديد الذي يحاول رسم خارطة التنميط الفكري بواسطة الخفافيش البشرية، خريجي الكهوف وممثلي الأحزاب الليلية. هؤلاء الذين عاشوا زمنا طويلا بجوار ظلمة الموت عبيدا للظلام، يتسللون إلى عقول الناس من وراء نقاب المؤامرة، ويملؤون صدورهم بأغنية الإنقلاب الربيعي، ثم يسلمون أبناءنا للظلمة الباردة. هذه هي الحماقة. ولقد صدق الشاعر حين قال:
لكل داء دواء يداويه إلا الحماقة فلم أجد ما يداويها.
أيها المتوطوطون، الذين يدعون أنهم شعلات مضيئة، بها تنمو المعرفة وتتغير معالم الطريق، ألم يهب الله لكم أجنحة لتطيروا بها في فضاء العلم والنور، لكنكم خفضتم رؤوسكم وأجنحتكم، وبدأتم تدبون كالحشرات في كهوف الجهل والعتمة. ألم يسكب الله عليكم نور الحرية، لكنكم غمرتم أنفسكم بالظلام وصرتم غرباء في موطنكم، تجرون أذيال الكآبة، تعساء أمام وجه الشمس!؟
اِسمعوا أيها الليليون: إن الإنقلاب الربيعي أو التغيير الحقيقي لا يكون بوضع الفؤوس في الرؤوس، أو التراشق بالكؤوس، فهذا ليس ربيعا أخضر، إنما هو ربيع أحمر، مُشَرَّب بلون الدم. الربيع المزهر هو ذاك الذي أساسه الإنقلاب على الذات الجاهلة. هذه الذات التي لم ترد أن تعقد الصلح مع نفسها. فهذا الوطن الكبير، النائم، لا يتجاوز معدل المطالعة فيه كتاب واحد لكل فرد في السنة. فكيف تريده أن يثور على نفسه. إنه يجهل أبعاد وجوده أولا، قبل أن يدرك وجود الآخرين. إنه وطن مُكَبَّل والقيد فيه، لكنه لايراه. ولقد صدق الشاعر حين خاطب نفسه المكبلة قائلا: أَتُراه في يدي أم تراه في قدمي!
ذلك القيد الذي يضحك مِنَِي وَعَليَّ.
كيف بمن لا يستطيع أن يكسر قيده أن يفك أسراه! كيف بمن لا يستطيع أن يُرَوِّضَ نفسه أن يروض غيره! كيف بمن لايستطيع أن يبني ذاته أن يبني وطنه! كيف بوردة شائكة أن تصنع ربيعا أخضر!
هذه هي العبثية اللعينة، وهذه هي الوسوسة الإبليسية التي تروم تقويض البنيان ونسفه. هؤلاء مَضْرَبُ مثلهم تلك التفاحة المقضومة التي قضمها آدم وهبط إلى الأرض، وهنا بدأ الصراع وانتهى بالتوازن الطبيعي لكل شيء.
ونحن نتساءل إذا أصبح هذا الوطن مقضوما كتفاحة آدم فإلى أين سنهبط؟ هل سنهبط إلى قاع الأرض. هذه المحاولة الخبيثة، كانت مؤامرة من وراء ستار من الدهاء المستعار، فماذا كان وراء رداء التقليد والتصنع؟.
في الكهوف تتناسل الوطاويط ذات الأجنحة اللحمية، وفي قلب الوطن الكبير خفافيش بدون ريش، هم أصحاب الطرابيش، لايملكون أجنحة لحمية، بل يطيرون بأجنحة فولاذية أو حديدية عند إقامة موائد فخمة، أو عقد صفقة مربحة، أو تمثيلية شعبية لمسرحية هزلية أمام السيد الأبيض. هؤلاء المتطربشون، تراهم في المواسم والزوايا والمهرجانات والبرلمانات وفي الأزقة وتحت القباب. يوقدون المجامر ويطلقون البخور إعلانا بميلاد ليلة جاهلية يصدح فيها أبو جهل: صُبِّي الخمر يا جارية فإن اليوم عيد قريش.
نحيط مجالسنا بطرابيش عبارة عن أوعية أسطوانية فارغة مشدودة بأزرار سود مبرمة.. ونبقي هذا الحمل الثقيل على رؤوسنا تحت ذريعة الأصالة والتقليد والقومية والإحترام.
كيف تجذرت هذه الحقائق الخشنة في ذواتنا، وهذه المزاعم في عقليتنا؟ كيف خطر لنا أن نقيم علاقة بين القبعة والإنتماءة القومية أو التشبع بالروح الوطنية؟
إن الأقوام الغابرين نحتوا أصناما ونصبوها أمام أعينهم ثم عبدوها. أما نحن أهل الألفية الثالثة فادعينا أننا أكثر إيمانا منهم، فحملنا الأصنام فوق رؤوسنا. الذين تقدموا عَرَّوا عقولهم من الجهل والأمية والتبعية. أما نحن الذين تخلفنا، فقد أضفنا عُتمة القبعة إلى عتمة عقولنا.
آه! لو كنا ندري أن اللمسات الفنية الأخيرة لهذه الطرابيش كانت في معامل الغرب لهان علينا خلعها ونبذها وراء ظهورنا.
إن الإستقلال الشخصي لهذا الوطن الكبير لايكون باستقلال الطربوش، إنما يكون بتعرية الرؤوس من اللفافة الأسطوانية، وعدم التشبث بالرمزية التافهة. فالأمة المستعبدة بعقلها وروحها لاتقدر أن تكون حرة بعاداتها وملابسها.
إنني أتعجب من تمسكنا بهذه الرمزية الخاصة، ولكن عندما نجلس مع الغرب إلى مائدة الطعام، سرعان مانخلع هذه الطرابيش مراعاة للإحترام، وإظهارا للباقة الزائدة. أهو الإحترام؟ كلا! لو كان كذلك لارتدى غيرنا ألف طربوش.
إن الوطن الكبير يعيش أزمة حقيقية، ويفرض على نفسه رقابة ذاتية رهيبة تمنعه من التحرر، فماذا يجبرنا على ذلك؟.
إنه الجبن!!
جبن التقاليد والخوف من تعريتها والمصالحة مع الذات.
هذا ليس شعارا لقوميتنا بل شعارا لاستعبادنا.
إن هؤلاء الوطاويط الآدمية الذين يعيشون في تخوم هذا الوطن، الذين يُطِلون من الكهوف بأفكارهم الظلامية، وهؤلاء المتطربشون الذين يُخْفون شعاع أذهانهم، في قلب هذه الأمة ويمنعون شعوبهم من أي تحرر أو تقدم باسم التقاليد، يصنعون خارطة الموت الكبير الذي يصفع جسد الأمة ، ويقدمها هدية للغربان التي بالمرصاد.
ليس الطربوش عيبا. لكن العيب أن يخفي شعاع الحق، فإذا أخفاه فَلنعري رؤوسنا لنرفعها عاليا.
في ستر معهود، وفي حضرة الأرواح الطاهرة، حبلت الطبيعة العذراء وتمخضت مخاضا عسيرا، بعيدا عن الآدميين والأرواح الشريرة، ووسوسة الشياطين... فولدت جبلا عملاقا، كان وتدا لهذه الخيمة الأرضية. كان صعلوك الدهر. لم يتأبط شرا، ولم يتعرض لقوافل الحرير، إنما كان شاهدا من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب على هذا الوطن، سمِّه ما شئت : وطنا قوميا أو عربيا أو إسلاميا أو..
ولد هذا الجبل العملاق، شاهد العصر في صمت. وهذا شأن العظماء يولدون في صمت ويموتون في صمت. لا يحتاجون إلى إقامة الموائد، ولا تلويح بالسواعد أو اعتراف بالشواهد. كان الصمت رهيبا، لكنه كالسهم من وراء القوس. يخترق الآذان ويزعزع الأذهان. يشير إلى علياء، إلى عيونه النجوم، وإلى أسفل، إلى قدميه المتراميتين حتى سفح المدينة القزم، الغارقة في نومها وأحلامها المزعجة.
طلع المولود العملاق من وراء النور وكأنه انبثق من اللاشيء. فسرى في الفضاء، شعاعا فضيا ناعما، بعد ما خيم على هذا الوطن ظلام دامس، وتحول الشعاع إلى لفظة صامتة ترمز إلى عاطفة جيَّاشة في نفسية هذا الشعب المستضعف، بعدما أُفرِغت جميع معاجم وقواميس خطباء اللغو من المعنى الحقيقي للفظة حب، حنان، عاطفة، تضامن، إيثار، إغاثة المظلومين، العدل، الصحة للجميع، محاسبة محترفي الفساد، القانون فوق الجميع، التصدي لأية مؤامرة...
أيها الوطن الكبير، أيها الوطن النائم، هكذا خاطب المولود العملاق قائلا: أنا حارس الليل، أنا حارس النهار، أنا صعلوك الدهر. ألم تسمعوني صامتا؟! ألا فاسمعوني متكلما: إن أحشائي تضطرب وجوفي يعلن بميلاد الكهوف، وشجرة الكهف لاتزهر ثمارا بل تزهر وطاويط وخفافيش. هذه الخفافيش ستكون نسلا إبليسيا أبديا للأحزاب الليلية الناطقين باسم همسات الشياطين والرافعين شعار: في البدء كانت الظلمة، نعم للهدم لا للبناء، نعم للمآمرة لا للمؤازرة.
أما في قلب هذا الوطن فكانت الكهوف مبلطة ومزلجة. تزهر كائنات بشرية مُثَعْلبة، هم أصحاب الطرابيش. يُحيون أيامهم باسم التقاليد وهم أبعد عن روح الصنعة القومية والوطنية. ليلهم ليس كنهارهم وإن تحدثوا باسم الأمانة الدينية. فهم يتكلمون باسم الشاعر الجاهلي: اليوم خمر وغدا أمر. ويرفعون شعارقيصر: ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
هذا الوطن الكبير، هذا الوطن العزيز، يرزأ تحت وقع لعنة تَحُوك له خارطة طريق الخفافيش وأصحاب الطرابيش.
بمباركة من البيت الأسود، وتحريض من العجوز الأبيض وبعض الأبالسة الذين يعيشون في تخوم هذا الوطن، اشرأبت الخفافيش الآدمية بأعناقها من نتوءات الكهف، وهي تختلس النظر إلى أبناء هذا الوطن وترتب أفكارها الحاقدة شكلا ولونا على أساس المكايدة والمؤامرة، ثم أطلقت من فمها اللحمي الكريه عبارات وكأنها قد اتقدت من فولاذ وحجارة لتهييج أبناء هذه الشعوب، باسم التحرر، الانقلاب السلمي، الربيع العربي، إعادة خارطة الطريق، الحرب النظيفة، تأهيل الأمة العربية والإسلامية، المساواة بين الجنسين...
شعارات رنانة لاِستمالة المتعطشين إلى التغيير، وسراب يُغري الظمآن، وحق أريد به باطل. الخفاش الآدمي يتوهم أنه يصدح على ربوة إنسانية خضراء، لكنه استدراج للأمة إلى مستنقع النقيق، وإغراء يستبطن الدعوة إلى الفتنة.
تحكي الخفافيش حكاياتها ومعاناتها مع التاريخ القديم وتقول: لقد عشنا زمنا طويلا مضطهدين من جموع السباع ، والطيور الكاسرة، وزواحف الأرض. فانتفضنا انتفاضة كبرى باسم التحرر، فها نحن اليوم نقيم مملكة الوطاويط في الكهوف، ونغرد بحرية خارج السرب، فهلا فعل أبناؤكم مثلنا؟! يبنون لهم كهوف يتدلون من قعرها المظلمة معكوسين بحرية، بدل المشي في الأغلال والأصفاد.
هذا هو الخطاب المعاصر، الخطاب الجديد الذي يحاول رسم خارطة التنميط الفكري بواسطة الخفافيش البشرية، خريجي الكهوف وممثلي الأحزاب الليلية. هؤلاء الذين عاشوا زمنا طويلا بجوار ظلمة الموت عبيدا للظلام، يتسللون إلى عقول الناس من وراء نقاب المؤامرة، ويملؤون صدورهم بأغنية الإنقلاب الربيعي، ثم يسلمون أبناءنا للظلمة الباردة. هذه هي الحماقة. ولقد صدق الشاعر حين قال:
لكل داء دواء يداويه إلا الحماقة فلم أجد ما يداويها.
أيها المتوطوطون، الذين يدعون أنهم شعلات مضيئة، بها تنمو المعرفة وتتغير معالم الطريق، ألم يهب الله لكم أجنحة لتطيروا بها في فضاء العلم والنور، لكنكم خفضتم رؤوسكم وأجنحتكم، وبدأتم تدبون كالحشرات في كهوف الجهل والعتمة. ألم يسكب الله عليكم نور الحرية، لكنكم غمرتم أنفسكم بالظلام وصرتم غرباء في موطنكم، تجرون أذيال الكآبة، تعساء أمام وجه الشمس!؟
اِسمعوا أيها الليليون: إن الإنقلاب الربيعي أو التغيير الحقيقي لا يكون بوضع الفؤوس في الرؤوس، أو التراشق بالكؤوس، فهذا ليس ربيعا أخضر، إنما هو ربيع أحمر، مُشَرَّب بلون الدم. الربيع المزهر هو ذاك الذي أساسه الإنقلاب على الذات الجاهلة. هذه الذات التي لم ترد أن تعقد الصلح مع نفسها. فهذا الوطن الكبير، النائم، لا يتجاوز معدل المطالعة فيه كتاب واحد لكل فرد في السنة. فكيف تريده أن يثور على نفسه. إنه يجهل أبعاد وجوده أولا، قبل أن يدرك وجود الآخرين. إنه وطن مُكَبَّل والقيد فيه، لكنه لايراه. ولقد صدق الشاعر حين خاطب نفسه المكبلة قائلا: أَتُراه في يدي أم تراه في قدمي!
ذلك القيد الذي يضحك مِنَِي وَعَليَّ.
كيف بمن لا يستطيع أن يكسر قيده أن يفك أسراه! كيف بمن لا يستطيع أن يُرَوِّضَ نفسه أن يروض غيره! كيف بمن لايستطيع أن يبني ذاته أن يبني وطنه! كيف بوردة شائكة أن تصنع ربيعا أخضر!
هذه هي العبثية اللعينة، وهذه هي الوسوسة الإبليسية التي تروم تقويض البنيان ونسفه. هؤلاء مَضْرَبُ مثلهم تلك التفاحة المقضومة التي قضمها آدم وهبط إلى الأرض، وهنا بدأ الصراع وانتهى بالتوازن الطبيعي لكل شيء.
ونحن نتساءل إذا أصبح هذا الوطن مقضوما كتفاحة آدم فإلى أين سنهبط؟ هل سنهبط إلى قاع الأرض. هذه المحاولة الخبيثة، كانت مؤامرة من وراء ستار من الدهاء المستعار، فماذا كان وراء رداء التقليد والتصنع؟.
في الكهوف تتناسل الوطاويط ذات الأجنحة اللحمية، وفي قلب الوطن الكبير خفافيش بدون ريش، هم أصحاب الطرابيش، لايملكون أجنحة لحمية، بل يطيرون بأجنحة فولاذية أو حديدية عند إقامة موائد فخمة، أو عقد صفقة مربحة، أو تمثيلية شعبية لمسرحية هزلية أمام السيد الأبيض. هؤلاء المتطربشون، تراهم في المواسم والزوايا والمهرجانات والبرلمانات وفي الأزقة وتحت القباب. يوقدون المجامر ويطلقون البخور إعلانا بميلاد ليلة جاهلية يصدح فيها أبو جهل: صُبِّي الخمر يا جارية فإن اليوم عيد قريش.
نحيط مجالسنا بطرابيش عبارة عن أوعية أسطوانية فارغة مشدودة بأزرار سود مبرمة.. ونبقي هذا الحمل الثقيل على رؤوسنا تحت ذريعة الأصالة والتقليد والقومية والإحترام.
كيف تجذرت هذه الحقائق الخشنة في ذواتنا، وهذه المزاعم في عقليتنا؟ كيف خطر لنا أن نقيم علاقة بين القبعة والإنتماءة القومية أو التشبع بالروح الوطنية؟
إن الأقوام الغابرين نحتوا أصناما ونصبوها أمام أعينهم ثم عبدوها. أما نحن أهل الألفية الثالثة فادعينا أننا أكثر إيمانا منهم، فحملنا الأصنام فوق رؤوسنا. الذين تقدموا عَرَّوا عقولهم من الجهل والأمية والتبعية. أما نحن الذين تخلفنا، فقد أضفنا عُتمة القبعة إلى عتمة عقولنا.
آه! لو كنا ندري أن اللمسات الفنية الأخيرة لهذه الطرابيش كانت في معامل الغرب لهان علينا خلعها ونبذها وراء ظهورنا.
إن الإستقلال الشخصي لهذا الوطن الكبير لايكون باستقلال الطربوش، إنما يكون بتعرية الرؤوس من اللفافة الأسطوانية، وعدم التشبث بالرمزية التافهة. فالأمة المستعبدة بعقلها وروحها لاتقدر أن تكون حرة بعاداتها وملابسها.
إنني أتعجب من تمسكنا بهذه الرمزية الخاصة، ولكن عندما نجلس مع الغرب إلى مائدة الطعام، سرعان مانخلع هذه الطرابيش مراعاة للإحترام، وإظهارا للباقة الزائدة. أهو الإحترام؟ كلا! لو كان كذلك لارتدى غيرنا ألف طربوش.
إن الوطن الكبير يعيش أزمة حقيقية، ويفرض على نفسه رقابة ذاتية رهيبة تمنعه من التحرر، فماذا يجبرنا على ذلك؟.
إنه الجبن!!
جبن التقاليد والخوف من تعريتها والمصالحة مع الذات.
هذا ليس شعارا لقوميتنا بل شعارا لاستعبادنا.
إن هؤلاء الوطاويط الآدمية الذين يعيشون في تخوم هذا الوطن، الذين يُطِلون من الكهوف بأفكارهم الظلامية، وهؤلاء المتطربشون الذين يُخْفون شعاع أذهانهم، في قلب هذه الأمة ويمنعون شعوبهم من أي تحرر أو تقدم باسم التقاليد، يصنعون خارطة الموت الكبير الذي يصفع جسد الأمة ، ويقدمها هدية للغربان التي بالمرصاد.
ليس الطربوش عيبا. لكن العيب أن يخفي شعاع الحق، فإذا أخفاه فَلنعري رؤوسنا لنرفعها عاليا.