محمد زاهـد
قليلة هي الإصدارات والمنشورات التي تطرقت وتناولت أبرز الأحداث السياسية والاجتماعية والحقوقيّة خلال الـ3 سنوات الأخيرة، بالرغم من زخمها وحدّتها وأبعادها المُتعدّدة وتداعياتها المختلفة، بل وبالنظر إلى طبيعة امتداداتها الداخلية والخارجية، وهي الأحداث التي كان لها طابع خاص وساخن.
وباستثناء المعالجة الإعلامية والمتابعات الصحافيّة التي كانت في الكثير من الأحيان محفوفة بالتحامل وسوء القراءة والفهم لمُجريات الأمور، وكذا اصطفاف الكثير من هذه المنابر والأبواق في خندق واحد، تبقى قلّة قليلة من الدراسات والإصدارات التي تعاملت بتأمل وهدوء وموضوعية وشجاعة مع أهم هذه الأحداث. إنه حراك الريف، الذي بدأ صغيرا قبل أن تتدحرج كرة الثّلج.
مِن جملة هذه الكتب والإصدارات الأكاديمية التي استطاعت أن تعالج موضوع الحراك الشعبي بالريف في مختلف أبعاده، وأن تكون قريبة من نبض وصرخة هذا الحراك، نجد كتاب "حراك الريف.. ديناميات الهوية الاحتجاجيّة، دراسة ميدانية"، للدكتور محمد سعدي؛ وهو مؤلف من 308 صفحات صدر عن مطبعة سليكي أخوين، يتضمن مقدمة و7 فصول، فضلاً عن خاتمة وبيبليوغرافيا وديسكوغرافيا.
أسئِلة حراك الريف وتَحولات السيّاسة
من المسوغات والمنطلقات الأساسية التي يعتبرها ذ. محمد سعدي كانت من وراء إصدار هذا المؤلَّف ما جاء في الصفحة الأولى من الكتاب المذكور، إذ يؤكد أن "هذه الدراسة عبارة عن قراءة أولية لبعض جَوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك الذي حظيتُ بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته والإصغاء الهادئ لإيقاعات هزاته وارتداداتها ونقل شهادات حية من قلب الريف حول العديد من القضايا المرتبطة به".
وبالرغم من الصعوبات المنهجية وغيرها التي يمكن أن تعترض سبيل الباحث والأكاديمي وهو بصدد البحث في ثنايا هذا الموضوع، فالكاتب استطاع النفاذ إلى مجمل عمق الدينامية والهوية الاحتجاجية لحراك الريف، مستعينا بما تتيحه مناهج العلوم الاجتماعية، والأنتروبولوجيا، وعلم السياسة، والتحليل البنيوي والنفسي، قصد مواكبة وقراءة الأحداث والتحولات التي ينم عنها حراك الريف.
على هذا الأساس، فالكاتب منذ البداية يثير ملاحظة مهمة، مفادها أن هذا الحراك "شكّل من وجهة نظر العلوم الاجتماعية هزة اجتماعية ضخمة وصلت إلى كل زاوية في حياة الريفيين". علاوة على هذا الأمر، يؤكد ذ. محمد سعدي على قضية في غاية الأهمية تتجلى في غياب التفاعل الحقيقي والجدي من لدن الباحثين والأكاديميين والمثقفين مع الأسئلة والقضايا التي ينم عليها حراك الريف في مختلف مستوياته الثقافية والسياسية والحقوقية والعلمية، وهو نوع من التواطؤ والصمت السلبي تجاه دينامية نضالية وحركية مجتمعية ظلت تعكس تحولات من الضروري رصدها وتحليلها وقراءتها القراءة الموضوعية بعيدا عن الدّجل السياسي، لذلك نجد صاحب الكتاب يقول إن هذا الأخير يتناول "أسئلة حارقة عديدة حول المجتمع وتحولات السياسة".
من جانب آخر، فالإصدار، وهو في الأصل عبارة عن دراسة ميدانية، يعتمد الملاحظة والمشاركة والاستماع وفق منهجية بنيوية تُحلل وتدرس وقائع حراك الريف بعيداً عن النمط والنسق السائد والصورة النمطيّة والجاهزة. وبذلك، فهو –الكتاب- يفتح المداخل العلمية والمعرفية لقراءة الحراك بحس نقدي وترسانة مفاهيمية محكومة بخلفيات نظرية وتعدد المقاربات والمناهج المعتمدة. وتبعا لهذا الأمر، نجد أن الكاتب يحدِّد موقعه انطلاقا من قوله أ=إن المؤلَّف هو من "خارج الصندوق والمربع"، وفي ذلك إحالة على نهج بعض الباحثين والكتاب الذين يرسمون لأنفسهم إطارا ضيقا للبحث، أو ما يسمى بالكتابات تحت الطلب.
فِي البدء كان التّاريخ
من ضمن ما تضمنه هذا الفصل من كتاب "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية"، هو الحديث عن تصادم الرواية الرسمية أو التاريخ الرسمي مع الذاكرة الجماعية طيلة عقود من الزمن، منطلقا في ذلك من أحداث ووقائع عديدة ميزت مختلف الفترات التاريخية، لا سيما خلال القرن الماضي، إذ إن التاريخ الرسمي السلطوي والمركزي "أصبح متجاوَزاً بشكل كبير أمام التحولات السياسية والحقوقية والاجتماعية". هذا الأمر يحيل إلى مختلف الدعوات والمطالب التي رُفعت في شأن ضرورة إعادة وقراءة وتصحيح التاريخ وتخليصه من "الأسطرة" و"الأدلجة". التاريخ المُؤدلَج الذي يمارس القمع الرمزي والتعسف والطمس على الذاكرة الجماعية.
من هذا المنطلق، كان من الأجدى أمام ممانعة هذه الذاكرة الجماعية أن يتم إعادة تصحيح التاريخ بعيدا عن الاختزالية والإقصاء والتشويه الذي يميز العديد من المحطات، وأساسا تاريخ الريف.
في هذا الصّدد، يؤكد الكتاب المُشار إليه أن حراك الريف استطاع "اختراق جدار الصمت"، وهو الحراك الذي يقوم في أساسه على منطلقات وخلفيات تاريخيّة اعتبارا لبروز وعي تاريخي متجدِّد لدى مختلف الأجيال. وأمام "الجراح" و"القسوة" و"الصدمات التاريخية" التي تطبع هذا الجانب، وهو جانب مهم ومحَدِّد لجملة من ميكانيزمات ومنطلقات حراك الريف، وغيرها من الحراك الاجتماعي أو المجتمعي، نجد ذ. محمد سعدي يقول في الصفحة 26 من كتابه: "تشكل الصدمات التاريخية الكبرى للريف مرجعية أساسية لتأثيث الذاكرة لدى شباب حراك الريف، وغالبا ما يستحضرون سرديّات الاضطهاد التاريخي والتي تمتد في الزمن وليس لها بداية محددة، لمن غالبا ما تكون هناك أحداث مفصليّة تشكل محطات مرجعية".
من جانب آخر، فمهما تعددت وسائل تخريب أو اختزال أو تشويه الذاكرة، فإن ذلك يعد جريمة رمزية لا يمكن إلا أن تعمل على تشويه الشخصية التاريخية والهوياتية للإنسان، فالذاكرة دوما تأبى النسيان والتناسي والطمس والتدمير، وهي ضد مناطق الظل والبياض والفراغات والأحَادية والإقصاء، كما أن الذاكرة الجمعية هي أداة للمقاومة والممانعة. والريف، بذاكرته وهويته، دائما ما يستلهم روحه ووجوده من التاريخ، كمرجعية ومنطلق في إطار ثنائية وتضاد التاريخ المحلي والتاريخ المركزي الرسمي.
وإذا كانت عوامل عديدة ساهمت في إفراز هذا الواقع واستمراره، فإن ما زاد من عمق الجراح هو "المُصالحة المعطوبة" أو "المغشُوشة" التي تمت بعيدا عن محددات العدالة الانتقالية الحقيقية في إطار ما سمي بـ"الإنصاف والمصالحة" التي تركت وراءها فراغات وبياضات ومناطق ظل كثيرة لم يشأ مهندسو هذه التجربة الاقتراب منها، وهو ما شكل نكسة أخرى كان لها أثرها العميق في وجدان الرّيف.
حِراك الريف.. عَودة الرُّوح
لا يخفى على أحد أن منطقة الريف عبر التاريخ، وخصوصا خلال الفترة المعاصرة، عانت الكثير من القسوة؛ وهو ما تعبر عنه مقولة: مكر التاريخ وظلم الجغرافيا. وقد تجلت العديد من الصور التي تعكس هذه المقولة في فترات متعددة، ذلك أن الريف عانى من ويلات التهميش والإقصاء والترهيب والعقاب، يُضاف إلى ذلك ما عاشه من بطش الاستعمار والحرب والمجاعة والجفاف، وكلها عوامل كان لها أثرها بشكل أو بآخر.
أثر تَولَّد في خضم تطور الأحداث خلال السّنوات الماضية وولَّد لدى الأجيال المتعاقبة إحساسا بالظلم، وهو ما ترجمه حراك الريف الذي أعاد طرح الأسئلة الحارقة بخصوص هذا الموضوع.
في هذا الصدد، يتوقف كتاب "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية" عند هذه النقطة كما عبّر عنها المؤلِّف قائلا: "يعتبر شباب الحراك أن مقاومة الظلم والاحتقار ورفض الخنوع وضرورة إعادة الاعتبار للرموز التاريخيّة هي قضية وجود وقضية حياة لا يمكن التنازل عنها...
ويعتقد الكثير من شباب الحراك بوجود عداء تاريخي أولي للسلطة المركزية ضد أرض الريف وقيمه، وأن خصوصيتهم الهوياتية تجعلهم محل وصم وشيطنة تصل حد التشويه والتحريض على الكراهية والوصم الجماعي والخوف المَرَضِي من الريف، هذا ما تزكيه النعوت والتهم النمطية الجاهزة في حق الريفيين والتي انتعشت خلال الحراك وأضيفت إليها أوصاف جديدة على مستوى ما يسمى بالجرائد الوطنية"، ص 75.
واضح أن الأمر يتعلق بامتداد لخلفيات وأحكام تاريخية ظلت تحكم علاقة المركز بالهامش، وخصوصا الريف، بحساسيته وخصوصيته، وهو ما يحلينا على إحدى أبرز المحطات التي طبعت التاريخ المعاصر بالريف، والقصد هنا انتفاضة 1958-1959، وما تلا ذلك من ممارسات وسلوكات تشبه إلى حدّ كبير ما ميز حراك الريف، إذ نجد أن نفس الإحساس بالغبن والظلم – كما سماه محمد سلام أمزيان- يتجدّد.
نحن نحبّ الحياة
لا يخفى على أحد جملة من الشعارات والمنطلقات التي حكمت بروز حراك الريف والتي ظلت تعكس روح وعمق هذه الدينامية الاحتجاجية. ومن أبرز هذه الشعارات التي أطرت الفعل النضالي والاحتجاجي طيلة 3 سنوات تقريبا، شعار: "نحن نحب الحياة".
فبالرغم من حدة القسوة والألم وما ترتب عن ذلك، فإن الانتصار للحياة شكل جزءًا مهما من صيرورة الحراك الشعبي بالريف. كما أن الحراك "نجح في إشراك أطياف متعددة ومختلفة وذات مرجعيات وهويات مختلفة... وقد نجح شباب الحراك بصدقهم وبساطتهم وعفويتهم وإيمانهم العميق بعدالة مطالبهم في كسب ثقة واحترام معظم ساكنة الريف رجالا ونساء وأطفالا ومسنين"، يقول ذ. محمد سعدي.
في هذا الإطار، تندرج ملاحظة جد أساسية تتعلق بموقع المرأة أو العنصر النسوي وحضوره في الحراك بالريف في سابقة نادرة، وهو ما أسماه المؤلف بـ"تأنيث الحراك"، إذا كانت للمرأة مكانة وموقع مهم في هذه الدينامية، وشكل ذلك بصمة خاصة في مشهد غير مألوف بمنطقة الريف على الأقل.
يشير الكاتب إلى هذه المسألة حينما سجّل أن "الحراك دشن بشكل واضح أفول ذكورية الفعل السياسي بمنطقة الريف حيث تمردت النساء على الصورة النمطية السائدة بكون الريف مجتمع ذكوري محافظ"، كما يضيف قائلا: "تأنيث الحراك من خلال حضور الحضور الفاعل والبارز للمرأة في الحراك، خصوصا على مستوى المشاركة في المسيرات يشكل علامة فارقة غير مسبوقة في الريف".
وتعتبر مسيرة 8 مارس 2017 البصمة واللحظة التي تؤرخ أكثر لهذا الحضور ولهذه المشاركة النسائية وانخراطها في حراك الريف، وهو ما ينم عن الدور الذي ظلت تقوم به المرأة إلى جانب الرجل في مناسبات عديدة بالريف، لاسيما خلال فترة المقاومة رغم ما ميز هذا الحضور والدور من أفول في العقود الماضية بسبب ثقافة دخيلة لا صلة لها بتربة وقيم الريف. هذه الصورة وما ميّزها من نظام وسلمية وإبداع وحماس شكلت أحد أبرز عناوين حراك الريف والتي كان لها صدى واسع، إلى جانب قدرة الحراك على استيعاب فئات أخرى كان لها حضورها وبصمتها.
حراك الريف.. صَرخة الغضب المُدويّة
لقد كان حراك الريف لحظة تاريخية مميزة وصرخة مدوية في وجد الإحساس بالحكرة والظلم والفساد والبؤس السياسي والتهميش والإقصاء. حراك سعى إلى إحقاق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بشكل حضاري وسلمي، لكن بدون خوف أو انبطاح.
على هذا الأساس، وأمام الصدى الذي خلفه حراك الريف على المستوى الدولي ككل، فقد تجلّى بوضوح أن هذه الصرخة استطاعت أن تلقي بحجرة ثقيلة في بِركة مياه التهميش والظلم والعزلة والأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وكذا الميوعة السياسية التي انضافت لتزيد من مظاهر الاحتقان. يقول المُؤلِّف في الصفحة 141: "قوة حراك الريف تكمن في قاعدته الشبابية، وتوهج روحه التعبوية كانت في تنوعه وامتلاكه قدرة تلقائية مدهشة على إدماج واستيعاب مختلف فئات الشباب بخلفيات مهنية وعمرية وإيديولوجية متباينة". ويضيف قائلا في الصفحة 146: "مشاعرهم متبعثرة يسكنهم الخوف من المجهول، إحساس رهيب بعدم الجدوى، قلق وجودي مزمن، رغم حسهم الاجتماعي فإنهم ينعزلون في جماعات صغيرة ليبحثوا عن أنفسهم وليخلقوا عوالمهم الحميمية الحالمة. يتألمون في صمت وحين ينفجر تراكم الغضب واليأس والملل في دواخلهم يطلقون صرخاتهم المدوية فيكون غضبهم نابعا من الأعماق".
هي فعلا صرخات مدوية أطلقها شباب حراك الريف بسبب القلق والخوف والعزلة والمصير المجهول وغياب فرص الشغل والآفاق المستقبليّة، بعيدا عن التهم الجاهزة التي رُوِّج لها على نطاق واسع من لدن آليات الدعاية الرسمية بغرض تشويه الحراك وخلفياته ومنطلقاته. وقد شكلت الموسيقى، على غرار وسائل أخرى، أحد أوجه صرخة الشباب خلال مجريات الحراك الريفي؛ ذلك أن الإبداع الموسيقي يعد تعبيرا وترجمة لروح الشباب وخلفيته الاحتجاجية، كما أن الموسيقى والغناء الملتزم يعكس وعيا سياسيا. في هذا الصدد، يورد ذ. محمد سعدي ما يلي: "ظاهرة شباب الراب بمدينة الحسيمة تعبير عن الهشاشة الاجتماعية والنفسية للعديد من الشباب الذين خلقوا ليهربوا ويرحلون بعيدا حاملين معهم إحباطاتهم ويأسهم، وقوة كلماتهم الغاضبة والناقمة تحمل رسائل واضحة تسائل الدولة والمجتمع". فهل ستُسمع هذه الصرخة الغاضبة والناقمة، أم أن لا حياة لمن تنادي؟
ناصر الزفزافي.. صَحوة ضدّ الظلم
من الرماد انبعث كما ينبعث طائر الفنيق، أو هكذا اعتبره العديد ممن المتتبعين، إذ كان بمثابة صيحة ضد الظلم والمعبر عن الكثير من الأحلام والتطلعات في زمن استعصى فيه هذا الأمر. هكذا، إذن، استطاع ناصر الزفزافي أن يكون بمثابة الزعيم والبطل وكانت ولادته استثنائية في زمن قلّ فيه أمثاله. في هذا الصدد، يقول ذ. محمد سعدي: "وجد الكثير من الشباب بالريف في شخصية الزفزافي صورة بطل حقيقي من لحم ودم وليس سوبرمان يهبط أو يتم قذفه بالمظلة من السماء، وتشبثوا به لأنه لم يدّع البطولة ولم يسعَ من أجل القيادة والزعامة وكان يرفض أن ينصب قائدا أو زعيما للحراك". هو ذا إذن "ناصر الحق"، بخصوصيته وشخصيته وصدقه وشجاعته وبساطته واستماتته، وهو بذلك كما جاء في كتاب "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية"؛ فالأمر يعبر عن تجاوز "فعل النخب السياسية والثقافية والجمعوية المحلية وللتنظيمات الطلابية بتلاوينها وأطيافها المختلفة، وتركيز الثقافة الاحتجاجية بدل الشعارات ذات الحمولة الإيديولوجية خلق التحاما اجتماعيا قويا غير مسبوق بالريف".
هكذا، إذن، استطاع ناصر الزفزافي أن يعيد للنضال وللحراك المجتمعي معناه ومغزاه الصحيح، وهو بذلك أيضا استطاع أن يشغل "مساحة القدوة والأب الكبير في حياة وشعور آلاف الشباب بالريف الذين لم يجدوا من يأخذ بأيديهم أو يحتويهم أو يستمع إليهم". فهل يستحق ناصر الزفزافي بذلك أن يزج به في غياهب السجون ويحكم بأحكام جد قاسية، أم أنه يستحق أن يكون حرا ويترك كصوت للشعب المغلوب على أمره، وهو الذي أبان عن البساطة والغيرة والشجاعة وقوة التضحية في سبيل أبناء وطنه ممن يكتوي بلهيب السياسات الفاشلة؟
حرية، كرامة، عدالة اجتماعية
هو شعار يحمل ويختزل كل الخلفيات المطلبية لشباب حراك الريف وغيره من الحركات الاحتجاجيّة والاجتماعية. إنه الثالوث المقدّس إن صاح التعبير وسط جملة من التحولات والتقلبات القيمية والمجتمعية، وبذلك فهذا الشعار يعكس إلى حدّ كبير روح حراك الريف بعيدا عن الترهات التي حاولت النيل من مصداقية المطالب العادلة والمشروعة لهذا الحراك. كما أن العوامل الرئيسية التي كانت وراء انفجار هذه الاحتجاجات تتجلى في السعي إلى التغيير الحقيقي وإلى مستقبل أفضل، وكذا "الأمل، وليس فقدانه، الأمل في الكرامة والاعتراف والحق في العيش الكريم"، كما أن الحراك في جوهره "مزج بين المطالب المادية الاقتصادية والاجتماعية وبين الحاجيات غير المادية المرتبطة بالكرامة وبالهوية الريفية والثقافة والتاريخ". ص 237.
من هذا المنطلق، فالصورة جلية وواضحة؛ ذلك أن حراك الريف جمع بين المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وبين المطالب الثقافية والحقوقية والتاريخية والهويايتة، وبالتالي فقد كانت أبعاده متكاملة. في السياق ذاته، يورد ذ. سعدي ما يلي: "نعتقد أن كل تواريخ الهامش وكل الهويات الجهوية والإثنية لها الحق في التعبير عن نفسها؛ لأنها جزء لا يتجزأ من الهوية الجامعة للوطن. وعلم الجمهورية إرث تاريخي لكل المغاربة على اعتبار أن الجمهورية تأسست من طرف مغاربة على أرض المغرب وتم تقويضها من طرف القوتين الاستعماريتين اللتين كان يرزح تحتمها المغرب".
وبالرغم من مرور عقود من الزمن على خروج المستعمر، فقد تُرك الريف لوحده ولقدره ولسنوات ظلت المنطقة تئن تحت وطأة الإقصاء الهوياتي والتاريخي، وكذا التهميش السياسي والاقتصادي بعد أن فُرض عليه النموذج المركزي اليعقوبي الذي يقتل خصوصية الهامش والمهمش أو يجعلها تذوب في قالب مركزي قسري، وهو النموذج الذي ما زلنا نعيش تبعاته وانعكاساته الخطيرة داخل وطن يفترض أن يكون تعددي وديمقراطي.
عِزِّي أحمد، الشموخ والحكمة
من العلامات المميزة لحراك الريف أنه استطاع أن يُخرج إلى دائرة الضوء شخصيات من طينة خاصة. وإذا كان ناصر الزفزافي، والبلبل نبيل أحمجيق، ومحمد جلول، ومحمد المجاوي، وأحمد الزفزافي، وخاتشي زليخة، وكل من الأسماء الأخرى التي ارتبطت بمجريات حراك الريف، قد شكلت جزءًا كبيرا من ذاكرة حراك الريف، فإن أحمد الخطابي، "سفير تماسينت" أو "عزّي أحمد" كما يطلق عليه، هو الآخر يعد من العلامات الفارقة في مسار حراك الريف، على غرار الحكيم عبد النبي ن السوق الذي يعد جزءً مهما من ذاكرة الريف والريفيين. وقد استطاع ذ. محمد سعدي من خلال مؤلفه "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية" أن يُفرد لعزّي أحمد فصلا خاصا تحت عنوان: عزي أحمد، شموخ جبال الريف. يقول عنه في الصفحة 259: "أحمد الخطابي، الملقب بعِزي أحمد، سفير تاماسينت، سفير الحراك المتجول، شيخ حراك الريف وحكيم الريف هو شخصية فريدة، تحول بسرعة إلى إحدى أيقونات الحراك الأكثر حضورا، ونجح عبر رمزية السلة (ثسودجيت) والعكاز اللذين لا يفارقانه في منح الحراك عمقا تواصليا اجتماعيا وتاريخيا ربط الماضي بالحاضر وخلق جسرا بين الأجيال".
هو واحد ممن بصم على حضور ومشاركة في مجريات حراك الريف، ليس على مستوى إقليم الحسيمة فقط، بل حتى على مستوى المجالات الجغرافية التي عرفت امتداداً للحراك الريفي، مثل الناظور واتركوت وميضار والعروي وتطاوين ووجدة وكازابلانكا وغيرها من المدن والمناطق، بل أصبح أحد عناوين الحراك واكتسب شعبية كبيرة انطلاقا من بساطته وصراحته وتواضعه، فاستحق أن يطلق عليه لقب "سفير حراك الريف" بامتياز. في هذا الصدد، يضيف ذ. سعدي حول شخصية أحمد الخطابي: "عزي أحمد أشبه بالزئبق في راحة اليد: إن تركت يدك مبسوطة بقي، وإن أطبقتها أفلت، سريع التحرك لا تسعه الأمكنة".
على سبيل الختم
لقد استطاع مؤلف الدكتور محمد سعدي الموسوم بعنوان: "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية"، الصادر مؤخرا، أن ينفذ – إلى حد كبير- إلى عمق وجوهر مختلف الجوانب المتعلقة بالحراك الاجتماعي بالريف مسلحا في ذلك من زاده المعرفي والنظري ومناهج تحليله ورصده لمختلف الظواهر والقضايا التي تطرق إليها. إلا أن المهم هي الخلاصات التي خلُص إليها المؤلف المذكور في خاتمة دراسته، وهي ذات الخلاصة التي ختم بها إصداره. يقول في آخر فقرة كتبها: "وقائع حراك الريف تشكل منعطفا سياسيا واجتماعيا فارقا يعيشه مغرب اليوم وهي موجة احتجاجية عاتية تعبر عن رغبة جامحة إلى التغيير والتحرر... فهل سيدشِّن حراك الريف بداية حياة سياسية حقيقية في المغرب؟".
إنه المسعى الذي ناضل وسيناضل من أجله كل الأحرار، كما ناضل من أجله أجدادنا وأسلافنا وقدموا في سبيل ذلك تضحيات جسيمة. مسعى نحو وطن يتسع للجميع ويعترف بالجميع، حيث تسود الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والتعددية والاعتراف، في إطار فيدراليات تؤسس للتنوع والتعدد، ولمستقبل أفضل، ولعل السبيل إلى ذلك هو إطلاق سراح معتقلي حراك الريف، كتمهيد وكمدخل لمرحلة جديدة ننتصر لدولة المجتمع، وليس مجتمع الدولة.
وعلى غرار "الأسئلة الحارقة" الأخرى التي ينم عنها حراك الريف في مختلف أبعاده وامتدادات تأثيراته السياسية والحقوقية والاقتصادية، سواء تعلق الأمر بالجانب الأكاديمي أو العلمي أو الإعلامي، أو بالمستوى السياسي والحزبي والمؤسساتي، فكثيرة هي القضايا والأمور والمواقف التي يجب إعادة النظر فيها بشكل يقطع مع الأحادية والأحكام الجاهزة والتحامل والتشويه، ويؤسس لثقافة الاعتراف والشجاعة السياسية والاعتذار والاعتراف والتصالح مع التاريخ والهوية والذات.
قليلة هي الإصدارات والمنشورات التي تطرقت وتناولت أبرز الأحداث السياسية والاجتماعية والحقوقيّة خلال الـ3 سنوات الأخيرة، بالرغم من زخمها وحدّتها وأبعادها المُتعدّدة وتداعياتها المختلفة، بل وبالنظر إلى طبيعة امتداداتها الداخلية والخارجية، وهي الأحداث التي كان لها طابع خاص وساخن.
وباستثناء المعالجة الإعلامية والمتابعات الصحافيّة التي كانت في الكثير من الأحيان محفوفة بالتحامل وسوء القراءة والفهم لمُجريات الأمور، وكذا اصطفاف الكثير من هذه المنابر والأبواق في خندق واحد، تبقى قلّة قليلة من الدراسات والإصدارات التي تعاملت بتأمل وهدوء وموضوعية وشجاعة مع أهم هذه الأحداث. إنه حراك الريف، الذي بدأ صغيرا قبل أن تتدحرج كرة الثّلج.
مِن جملة هذه الكتب والإصدارات الأكاديمية التي استطاعت أن تعالج موضوع الحراك الشعبي بالريف في مختلف أبعاده، وأن تكون قريبة من نبض وصرخة هذا الحراك، نجد كتاب "حراك الريف.. ديناميات الهوية الاحتجاجيّة، دراسة ميدانية"، للدكتور محمد سعدي؛ وهو مؤلف من 308 صفحات صدر عن مطبعة سليكي أخوين، يتضمن مقدمة و7 فصول، فضلاً عن خاتمة وبيبليوغرافيا وديسكوغرافيا.
أسئِلة حراك الريف وتَحولات السيّاسة
من المسوغات والمنطلقات الأساسية التي يعتبرها ذ. محمد سعدي كانت من وراء إصدار هذا المؤلَّف ما جاء في الصفحة الأولى من الكتاب المذكور، إذ يؤكد أن "هذه الدراسة عبارة عن قراءة أولية لبعض جَوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك الذي حظيتُ بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته والإصغاء الهادئ لإيقاعات هزاته وارتداداتها ونقل شهادات حية من قلب الريف حول العديد من القضايا المرتبطة به".
وبالرغم من الصعوبات المنهجية وغيرها التي يمكن أن تعترض سبيل الباحث والأكاديمي وهو بصدد البحث في ثنايا هذا الموضوع، فالكاتب استطاع النفاذ إلى مجمل عمق الدينامية والهوية الاحتجاجية لحراك الريف، مستعينا بما تتيحه مناهج العلوم الاجتماعية، والأنتروبولوجيا، وعلم السياسة، والتحليل البنيوي والنفسي، قصد مواكبة وقراءة الأحداث والتحولات التي ينم عنها حراك الريف.
على هذا الأساس، فالكاتب منذ البداية يثير ملاحظة مهمة، مفادها أن هذا الحراك "شكّل من وجهة نظر العلوم الاجتماعية هزة اجتماعية ضخمة وصلت إلى كل زاوية في حياة الريفيين". علاوة على هذا الأمر، يؤكد ذ. محمد سعدي على قضية في غاية الأهمية تتجلى في غياب التفاعل الحقيقي والجدي من لدن الباحثين والأكاديميين والمثقفين مع الأسئلة والقضايا التي ينم عليها حراك الريف في مختلف مستوياته الثقافية والسياسية والحقوقية والعلمية، وهو نوع من التواطؤ والصمت السلبي تجاه دينامية نضالية وحركية مجتمعية ظلت تعكس تحولات من الضروري رصدها وتحليلها وقراءتها القراءة الموضوعية بعيدا عن الدّجل السياسي، لذلك نجد صاحب الكتاب يقول إن هذا الأخير يتناول "أسئلة حارقة عديدة حول المجتمع وتحولات السياسة".
من جانب آخر، فالإصدار، وهو في الأصل عبارة عن دراسة ميدانية، يعتمد الملاحظة والمشاركة والاستماع وفق منهجية بنيوية تُحلل وتدرس وقائع حراك الريف بعيداً عن النمط والنسق السائد والصورة النمطيّة والجاهزة. وبذلك، فهو –الكتاب- يفتح المداخل العلمية والمعرفية لقراءة الحراك بحس نقدي وترسانة مفاهيمية محكومة بخلفيات نظرية وتعدد المقاربات والمناهج المعتمدة. وتبعا لهذا الأمر، نجد أن الكاتب يحدِّد موقعه انطلاقا من قوله أ=إن المؤلَّف هو من "خارج الصندوق والمربع"، وفي ذلك إحالة على نهج بعض الباحثين والكتاب الذين يرسمون لأنفسهم إطارا ضيقا للبحث، أو ما يسمى بالكتابات تحت الطلب.
فِي البدء كان التّاريخ
من ضمن ما تضمنه هذا الفصل من كتاب "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية"، هو الحديث عن تصادم الرواية الرسمية أو التاريخ الرسمي مع الذاكرة الجماعية طيلة عقود من الزمن، منطلقا في ذلك من أحداث ووقائع عديدة ميزت مختلف الفترات التاريخية، لا سيما خلال القرن الماضي، إذ إن التاريخ الرسمي السلطوي والمركزي "أصبح متجاوَزاً بشكل كبير أمام التحولات السياسية والحقوقية والاجتماعية". هذا الأمر يحيل إلى مختلف الدعوات والمطالب التي رُفعت في شأن ضرورة إعادة وقراءة وتصحيح التاريخ وتخليصه من "الأسطرة" و"الأدلجة". التاريخ المُؤدلَج الذي يمارس القمع الرمزي والتعسف والطمس على الذاكرة الجماعية.
من هذا المنطلق، كان من الأجدى أمام ممانعة هذه الذاكرة الجماعية أن يتم إعادة تصحيح التاريخ بعيدا عن الاختزالية والإقصاء والتشويه الذي يميز العديد من المحطات، وأساسا تاريخ الريف.
في هذا الصّدد، يؤكد الكتاب المُشار إليه أن حراك الريف استطاع "اختراق جدار الصمت"، وهو الحراك الذي يقوم في أساسه على منطلقات وخلفيات تاريخيّة اعتبارا لبروز وعي تاريخي متجدِّد لدى مختلف الأجيال. وأمام "الجراح" و"القسوة" و"الصدمات التاريخية" التي تطبع هذا الجانب، وهو جانب مهم ومحَدِّد لجملة من ميكانيزمات ومنطلقات حراك الريف، وغيرها من الحراك الاجتماعي أو المجتمعي، نجد ذ. محمد سعدي يقول في الصفحة 26 من كتابه: "تشكل الصدمات التاريخية الكبرى للريف مرجعية أساسية لتأثيث الذاكرة لدى شباب حراك الريف، وغالبا ما يستحضرون سرديّات الاضطهاد التاريخي والتي تمتد في الزمن وليس لها بداية محددة، لمن غالبا ما تكون هناك أحداث مفصليّة تشكل محطات مرجعية".
من جانب آخر، فمهما تعددت وسائل تخريب أو اختزال أو تشويه الذاكرة، فإن ذلك يعد جريمة رمزية لا يمكن إلا أن تعمل على تشويه الشخصية التاريخية والهوياتية للإنسان، فالذاكرة دوما تأبى النسيان والتناسي والطمس والتدمير، وهي ضد مناطق الظل والبياض والفراغات والأحَادية والإقصاء، كما أن الذاكرة الجمعية هي أداة للمقاومة والممانعة. والريف، بذاكرته وهويته، دائما ما يستلهم روحه ووجوده من التاريخ، كمرجعية ومنطلق في إطار ثنائية وتضاد التاريخ المحلي والتاريخ المركزي الرسمي.
وإذا كانت عوامل عديدة ساهمت في إفراز هذا الواقع واستمراره، فإن ما زاد من عمق الجراح هو "المُصالحة المعطوبة" أو "المغشُوشة" التي تمت بعيدا عن محددات العدالة الانتقالية الحقيقية في إطار ما سمي بـ"الإنصاف والمصالحة" التي تركت وراءها فراغات وبياضات ومناطق ظل كثيرة لم يشأ مهندسو هذه التجربة الاقتراب منها، وهو ما شكل نكسة أخرى كان لها أثرها العميق في وجدان الرّيف.
حِراك الريف.. عَودة الرُّوح
لا يخفى على أحد أن منطقة الريف عبر التاريخ، وخصوصا خلال الفترة المعاصرة، عانت الكثير من القسوة؛ وهو ما تعبر عنه مقولة: مكر التاريخ وظلم الجغرافيا. وقد تجلت العديد من الصور التي تعكس هذه المقولة في فترات متعددة، ذلك أن الريف عانى من ويلات التهميش والإقصاء والترهيب والعقاب، يُضاف إلى ذلك ما عاشه من بطش الاستعمار والحرب والمجاعة والجفاف، وكلها عوامل كان لها أثرها بشكل أو بآخر.
أثر تَولَّد في خضم تطور الأحداث خلال السّنوات الماضية وولَّد لدى الأجيال المتعاقبة إحساسا بالظلم، وهو ما ترجمه حراك الريف الذي أعاد طرح الأسئلة الحارقة بخصوص هذا الموضوع.
في هذا الصدد، يتوقف كتاب "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية" عند هذه النقطة كما عبّر عنها المؤلِّف قائلا: "يعتبر شباب الحراك أن مقاومة الظلم والاحتقار ورفض الخنوع وضرورة إعادة الاعتبار للرموز التاريخيّة هي قضية وجود وقضية حياة لا يمكن التنازل عنها...
ويعتقد الكثير من شباب الحراك بوجود عداء تاريخي أولي للسلطة المركزية ضد أرض الريف وقيمه، وأن خصوصيتهم الهوياتية تجعلهم محل وصم وشيطنة تصل حد التشويه والتحريض على الكراهية والوصم الجماعي والخوف المَرَضِي من الريف، هذا ما تزكيه النعوت والتهم النمطية الجاهزة في حق الريفيين والتي انتعشت خلال الحراك وأضيفت إليها أوصاف جديدة على مستوى ما يسمى بالجرائد الوطنية"، ص 75.
واضح أن الأمر يتعلق بامتداد لخلفيات وأحكام تاريخية ظلت تحكم علاقة المركز بالهامش، وخصوصا الريف، بحساسيته وخصوصيته، وهو ما يحلينا على إحدى أبرز المحطات التي طبعت التاريخ المعاصر بالريف، والقصد هنا انتفاضة 1958-1959، وما تلا ذلك من ممارسات وسلوكات تشبه إلى حدّ كبير ما ميز حراك الريف، إذ نجد أن نفس الإحساس بالغبن والظلم – كما سماه محمد سلام أمزيان- يتجدّد.
نحن نحبّ الحياة
لا يخفى على أحد جملة من الشعارات والمنطلقات التي حكمت بروز حراك الريف والتي ظلت تعكس روح وعمق هذه الدينامية الاحتجاجية. ومن أبرز هذه الشعارات التي أطرت الفعل النضالي والاحتجاجي طيلة 3 سنوات تقريبا، شعار: "نحن نحب الحياة".
فبالرغم من حدة القسوة والألم وما ترتب عن ذلك، فإن الانتصار للحياة شكل جزءًا مهما من صيرورة الحراك الشعبي بالريف. كما أن الحراك "نجح في إشراك أطياف متعددة ومختلفة وذات مرجعيات وهويات مختلفة... وقد نجح شباب الحراك بصدقهم وبساطتهم وعفويتهم وإيمانهم العميق بعدالة مطالبهم في كسب ثقة واحترام معظم ساكنة الريف رجالا ونساء وأطفالا ومسنين"، يقول ذ. محمد سعدي.
في هذا الإطار، تندرج ملاحظة جد أساسية تتعلق بموقع المرأة أو العنصر النسوي وحضوره في الحراك بالريف في سابقة نادرة، وهو ما أسماه المؤلف بـ"تأنيث الحراك"، إذا كانت للمرأة مكانة وموقع مهم في هذه الدينامية، وشكل ذلك بصمة خاصة في مشهد غير مألوف بمنطقة الريف على الأقل.
يشير الكاتب إلى هذه المسألة حينما سجّل أن "الحراك دشن بشكل واضح أفول ذكورية الفعل السياسي بمنطقة الريف حيث تمردت النساء على الصورة النمطية السائدة بكون الريف مجتمع ذكوري محافظ"، كما يضيف قائلا: "تأنيث الحراك من خلال حضور الحضور الفاعل والبارز للمرأة في الحراك، خصوصا على مستوى المشاركة في المسيرات يشكل علامة فارقة غير مسبوقة في الريف".
وتعتبر مسيرة 8 مارس 2017 البصمة واللحظة التي تؤرخ أكثر لهذا الحضور ولهذه المشاركة النسائية وانخراطها في حراك الريف، وهو ما ينم عن الدور الذي ظلت تقوم به المرأة إلى جانب الرجل في مناسبات عديدة بالريف، لاسيما خلال فترة المقاومة رغم ما ميز هذا الحضور والدور من أفول في العقود الماضية بسبب ثقافة دخيلة لا صلة لها بتربة وقيم الريف. هذه الصورة وما ميّزها من نظام وسلمية وإبداع وحماس شكلت أحد أبرز عناوين حراك الريف والتي كان لها صدى واسع، إلى جانب قدرة الحراك على استيعاب فئات أخرى كان لها حضورها وبصمتها.
حراك الريف.. صَرخة الغضب المُدويّة
لقد كان حراك الريف لحظة تاريخية مميزة وصرخة مدوية في وجد الإحساس بالحكرة والظلم والفساد والبؤس السياسي والتهميش والإقصاء. حراك سعى إلى إحقاق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بشكل حضاري وسلمي، لكن بدون خوف أو انبطاح.
على هذا الأساس، وأمام الصدى الذي خلفه حراك الريف على المستوى الدولي ككل، فقد تجلّى بوضوح أن هذه الصرخة استطاعت أن تلقي بحجرة ثقيلة في بِركة مياه التهميش والظلم والعزلة والأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وكذا الميوعة السياسية التي انضافت لتزيد من مظاهر الاحتقان. يقول المُؤلِّف في الصفحة 141: "قوة حراك الريف تكمن في قاعدته الشبابية، وتوهج روحه التعبوية كانت في تنوعه وامتلاكه قدرة تلقائية مدهشة على إدماج واستيعاب مختلف فئات الشباب بخلفيات مهنية وعمرية وإيديولوجية متباينة". ويضيف قائلا في الصفحة 146: "مشاعرهم متبعثرة يسكنهم الخوف من المجهول، إحساس رهيب بعدم الجدوى، قلق وجودي مزمن، رغم حسهم الاجتماعي فإنهم ينعزلون في جماعات صغيرة ليبحثوا عن أنفسهم وليخلقوا عوالمهم الحميمية الحالمة. يتألمون في صمت وحين ينفجر تراكم الغضب واليأس والملل في دواخلهم يطلقون صرخاتهم المدوية فيكون غضبهم نابعا من الأعماق".
هي فعلا صرخات مدوية أطلقها شباب حراك الريف بسبب القلق والخوف والعزلة والمصير المجهول وغياب فرص الشغل والآفاق المستقبليّة، بعيدا عن التهم الجاهزة التي رُوِّج لها على نطاق واسع من لدن آليات الدعاية الرسمية بغرض تشويه الحراك وخلفياته ومنطلقاته. وقد شكلت الموسيقى، على غرار وسائل أخرى، أحد أوجه صرخة الشباب خلال مجريات الحراك الريفي؛ ذلك أن الإبداع الموسيقي يعد تعبيرا وترجمة لروح الشباب وخلفيته الاحتجاجية، كما أن الموسيقى والغناء الملتزم يعكس وعيا سياسيا. في هذا الصدد، يورد ذ. محمد سعدي ما يلي: "ظاهرة شباب الراب بمدينة الحسيمة تعبير عن الهشاشة الاجتماعية والنفسية للعديد من الشباب الذين خلقوا ليهربوا ويرحلون بعيدا حاملين معهم إحباطاتهم ويأسهم، وقوة كلماتهم الغاضبة والناقمة تحمل رسائل واضحة تسائل الدولة والمجتمع". فهل ستُسمع هذه الصرخة الغاضبة والناقمة، أم أن لا حياة لمن تنادي؟
ناصر الزفزافي.. صَحوة ضدّ الظلم
من الرماد انبعث كما ينبعث طائر الفنيق، أو هكذا اعتبره العديد ممن المتتبعين، إذ كان بمثابة صيحة ضد الظلم والمعبر عن الكثير من الأحلام والتطلعات في زمن استعصى فيه هذا الأمر. هكذا، إذن، استطاع ناصر الزفزافي أن يكون بمثابة الزعيم والبطل وكانت ولادته استثنائية في زمن قلّ فيه أمثاله. في هذا الصدد، يقول ذ. محمد سعدي: "وجد الكثير من الشباب بالريف في شخصية الزفزافي صورة بطل حقيقي من لحم ودم وليس سوبرمان يهبط أو يتم قذفه بالمظلة من السماء، وتشبثوا به لأنه لم يدّع البطولة ولم يسعَ من أجل القيادة والزعامة وكان يرفض أن ينصب قائدا أو زعيما للحراك". هو ذا إذن "ناصر الحق"، بخصوصيته وشخصيته وصدقه وشجاعته وبساطته واستماتته، وهو بذلك كما جاء في كتاب "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية"؛ فالأمر يعبر عن تجاوز "فعل النخب السياسية والثقافية والجمعوية المحلية وللتنظيمات الطلابية بتلاوينها وأطيافها المختلفة، وتركيز الثقافة الاحتجاجية بدل الشعارات ذات الحمولة الإيديولوجية خلق التحاما اجتماعيا قويا غير مسبوق بالريف".
هكذا، إذن، استطاع ناصر الزفزافي أن يعيد للنضال وللحراك المجتمعي معناه ومغزاه الصحيح، وهو بذلك أيضا استطاع أن يشغل "مساحة القدوة والأب الكبير في حياة وشعور آلاف الشباب بالريف الذين لم يجدوا من يأخذ بأيديهم أو يحتويهم أو يستمع إليهم". فهل يستحق ناصر الزفزافي بذلك أن يزج به في غياهب السجون ويحكم بأحكام جد قاسية، أم أنه يستحق أن يكون حرا ويترك كصوت للشعب المغلوب على أمره، وهو الذي أبان عن البساطة والغيرة والشجاعة وقوة التضحية في سبيل أبناء وطنه ممن يكتوي بلهيب السياسات الفاشلة؟
حرية، كرامة، عدالة اجتماعية
هو شعار يحمل ويختزل كل الخلفيات المطلبية لشباب حراك الريف وغيره من الحركات الاحتجاجيّة والاجتماعية. إنه الثالوث المقدّس إن صاح التعبير وسط جملة من التحولات والتقلبات القيمية والمجتمعية، وبذلك فهذا الشعار يعكس إلى حدّ كبير روح حراك الريف بعيدا عن الترهات التي حاولت النيل من مصداقية المطالب العادلة والمشروعة لهذا الحراك. كما أن العوامل الرئيسية التي كانت وراء انفجار هذه الاحتجاجات تتجلى في السعي إلى التغيير الحقيقي وإلى مستقبل أفضل، وكذا "الأمل، وليس فقدانه، الأمل في الكرامة والاعتراف والحق في العيش الكريم"، كما أن الحراك في جوهره "مزج بين المطالب المادية الاقتصادية والاجتماعية وبين الحاجيات غير المادية المرتبطة بالكرامة وبالهوية الريفية والثقافة والتاريخ". ص 237.
من هذا المنطلق، فالصورة جلية وواضحة؛ ذلك أن حراك الريف جمع بين المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وبين المطالب الثقافية والحقوقية والتاريخية والهويايتة، وبالتالي فقد كانت أبعاده متكاملة. في السياق ذاته، يورد ذ. سعدي ما يلي: "نعتقد أن كل تواريخ الهامش وكل الهويات الجهوية والإثنية لها الحق في التعبير عن نفسها؛ لأنها جزء لا يتجزأ من الهوية الجامعة للوطن. وعلم الجمهورية إرث تاريخي لكل المغاربة على اعتبار أن الجمهورية تأسست من طرف مغاربة على أرض المغرب وتم تقويضها من طرف القوتين الاستعماريتين اللتين كان يرزح تحتمها المغرب".
وبالرغم من مرور عقود من الزمن على خروج المستعمر، فقد تُرك الريف لوحده ولقدره ولسنوات ظلت المنطقة تئن تحت وطأة الإقصاء الهوياتي والتاريخي، وكذا التهميش السياسي والاقتصادي بعد أن فُرض عليه النموذج المركزي اليعقوبي الذي يقتل خصوصية الهامش والمهمش أو يجعلها تذوب في قالب مركزي قسري، وهو النموذج الذي ما زلنا نعيش تبعاته وانعكاساته الخطيرة داخل وطن يفترض أن يكون تعددي وديمقراطي.
عِزِّي أحمد، الشموخ والحكمة
من العلامات المميزة لحراك الريف أنه استطاع أن يُخرج إلى دائرة الضوء شخصيات من طينة خاصة. وإذا كان ناصر الزفزافي، والبلبل نبيل أحمجيق، ومحمد جلول، ومحمد المجاوي، وأحمد الزفزافي، وخاتشي زليخة، وكل من الأسماء الأخرى التي ارتبطت بمجريات حراك الريف، قد شكلت جزءًا كبيرا من ذاكرة حراك الريف، فإن أحمد الخطابي، "سفير تماسينت" أو "عزّي أحمد" كما يطلق عليه، هو الآخر يعد من العلامات الفارقة في مسار حراك الريف، على غرار الحكيم عبد النبي ن السوق الذي يعد جزءً مهما من ذاكرة الريف والريفيين. وقد استطاع ذ. محمد سعدي من خلال مؤلفه "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية" أن يُفرد لعزّي أحمد فصلا خاصا تحت عنوان: عزي أحمد، شموخ جبال الريف. يقول عنه في الصفحة 259: "أحمد الخطابي، الملقب بعِزي أحمد، سفير تاماسينت، سفير الحراك المتجول، شيخ حراك الريف وحكيم الريف هو شخصية فريدة، تحول بسرعة إلى إحدى أيقونات الحراك الأكثر حضورا، ونجح عبر رمزية السلة (ثسودجيت) والعكاز اللذين لا يفارقانه في منح الحراك عمقا تواصليا اجتماعيا وتاريخيا ربط الماضي بالحاضر وخلق جسرا بين الأجيال".
هو واحد ممن بصم على حضور ومشاركة في مجريات حراك الريف، ليس على مستوى إقليم الحسيمة فقط، بل حتى على مستوى المجالات الجغرافية التي عرفت امتداداً للحراك الريفي، مثل الناظور واتركوت وميضار والعروي وتطاوين ووجدة وكازابلانكا وغيرها من المدن والمناطق، بل أصبح أحد عناوين الحراك واكتسب شعبية كبيرة انطلاقا من بساطته وصراحته وتواضعه، فاستحق أن يطلق عليه لقب "سفير حراك الريف" بامتياز. في هذا الصدد، يضيف ذ. سعدي حول شخصية أحمد الخطابي: "عزي أحمد أشبه بالزئبق في راحة اليد: إن تركت يدك مبسوطة بقي، وإن أطبقتها أفلت، سريع التحرك لا تسعه الأمكنة".
على سبيل الختم
لقد استطاع مؤلف الدكتور محمد سعدي الموسوم بعنوان: "حراك الريف، ديناميات الهوية الاحتجاجية"، الصادر مؤخرا، أن ينفذ – إلى حد كبير- إلى عمق وجوهر مختلف الجوانب المتعلقة بالحراك الاجتماعي بالريف مسلحا في ذلك من زاده المعرفي والنظري ومناهج تحليله ورصده لمختلف الظواهر والقضايا التي تطرق إليها. إلا أن المهم هي الخلاصات التي خلُص إليها المؤلف المذكور في خاتمة دراسته، وهي ذات الخلاصة التي ختم بها إصداره. يقول في آخر فقرة كتبها: "وقائع حراك الريف تشكل منعطفا سياسيا واجتماعيا فارقا يعيشه مغرب اليوم وهي موجة احتجاجية عاتية تعبر عن رغبة جامحة إلى التغيير والتحرر... فهل سيدشِّن حراك الريف بداية حياة سياسية حقيقية في المغرب؟".
إنه المسعى الذي ناضل وسيناضل من أجله كل الأحرار، كما ناضل من أجله أجدادنا وأسلافنا وقدموا في سبيل ذلك تضحيات جسيمة. مسعى نحو وطن يتسع للجميع ويعترف بالجميع، حيث تسود الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والتعددية والاعتراف، في إطار فيدراليات تؤسس للتنوع والتعدد، ولمستقبل أفضل، ولعل السبيل إلى ذلك هو إطلاق سراح معتقلي حراك الريف، كتمهيد وكمدخل لمرحلة جديدة ننتصر لدولة المجتمع، وليس مجتمع الدولة.
وعلى غرار "الأسئلة الحارقة" الأخرى التي ينم عنها حراك الريف في مختلف أبعاده وامتدادات تأثيراته السياسية والحقوقية والاقتصادية، سواء تعلق الأمر بالجانب الأكاديمي أو العلمي أو الإعلامي، أو بالمستوى السياسي والحزبي والمؤسساتي، فكثيرة هي القضايا والأمور والمواقف التي يجب إعادة النظر فيها بشكل يقطع مع الأحادية والأحكام الجاهزة والتحامل والتشويه، ويؤسس لثقافة الاعتراف والشجاعة السياسية والاعتذار والاعتراف والتصالح مع التاريخ والهوية والذات.