ناظورسيتي: أمل مسعود
دخلت إلى قاعة المحاضرة. شعرت بالخجل لأنني وصلت متأخرة جدا وترددت قليلا قبل أن ادخل. كنت أتمنى أن أجد أجوبة على أسئلة تأرقني. المحاضرة كانت حول "القيادة الأخلاقية". كنت اتوقع حضورا كبيرا ولكن القاعة كانت شبه فارغة، ممتلئة خاصة بالطلبة وببعض الأساتذة وبعض مهندسي القطاع العام. بعض الوجوه كانت مألوفة بالنسبة إلي. إذ سبق لي أن صادفتها في دورات تكوينية سابقة أو في بعض الندوات والمؤتمرات. هذا الأمر جعلني أشعر بالألفة والاندماج. المحاضر كان قد وصل إلى نهاية العرض ليفتح المجال لمناقشة القاعة. لخص موضوع القيادة الأخلاقية في بعض النقط التي ظلت عالقة في ذاكرتي. مثلا أن القيادة الأخلاقية وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي ابتليت بها الإنسانية أضحت ضرورة ملحة. إذ حسب قول المحاضر فالشركات الأمريكية أصبحت ترجح في اختيار موظفيها معيار الأخلاق والمبادئ على الكفاءة، لأنهم اكتشفوا أن الكفاءة بدون أخلاق تكبد المؤسسة خسارة فادحة. وأن الثبات على المبادئ يعني الالتزام بما نؤمن ونفكر فيه. وضرب مثل من نشأ في أسرة تمارس الكذب باستمرار، وتحتسي الشراب علانية وتمارس الخيانة الزوجية طواعية، بأنه لن يشعر بوازع أخلاقي أو تأنيب ضمير عندما سيمارس نفس هذه السلوكات لأنه سيكون منسجما مع نفسه ومحيطه. وبالمقابل من ينشأ على قيم الصدق والأمانة والأخلاق الحميدة فإنه سيعاني كثيرا في كبره لو انحرف على مبادئه، والدليل هو ما نجده في بعض الأشخاص الذين يحاولون الإفراط في الشراب ويعانون الأرق ليلا لأنهم غير راضون عن ممارساتهم المخالفة لنشأتهم وفطرتهم.
أثناء تفاعل القاعة مع مضمون المحاضرة، أخذ أحد المهندسين الميكرفون. كنت قد تعرفت عليه سابقا في دورة تكوينية. تكلم عن تجربته، وكيف أنه اختار مبادئه على طموحاته المهنية. إذ كان له منصب مهم وتعرض لضغوطات عدة من طرف رؤسائه للتوقيع على صفقات غير قانونية ولكنه رفض أن يذعن. مساره المهني كان ثمنا قاسيا دفعه لأنه اختار أن يقول لا وأن يلتزم بقناعاته. ولكنه يؤكد أنه غير نادم على منصبه وبأنه سعيد وهو يمنح معظم وقته وجهده لأسرته.
القاعة صفقت بحرارة على تضحية المهندس والتزامه بمبادئه. أما أنا شعرت بغضب عارم غير مفهوم. كنت أدرك أنه غير سعيد و لكن يحاول الهروب والاحتماء بدفء الأسرة. كنت أقرأ الحزن والانكسار في عينيه. فكرت أنه لا يوجد خيار مثالي. إذا اخترت مبادئك ستتعذب وإذا لم تختر مبادئك ستتعذب. إنها معادلة بدون حل.
تذكرت مقطع من كتاب أوباما "أحلام من أبي قصة عرق وإرث"، وهو يستمع إلى أخته من أبيه "أوما" وهي تحكي له عن أبيه الذي لم يره إلا مرة واحدة. هذا الفراق الذي جعله ينسج حكايات مثالية عنه فكان يراه بصورة المثقف الذكي والصديق السخي والقائد المستقيم.
اما اخته اوما التي عاشت معه فكان لها سرد أخر. اوباما الأب كان يحظى بإعجاب الجميع لأنه حصل على قدر هائل من التعليم من خارج البلاد كما كان متزوجا من أمريكية وهو أمر نادر جدا في كينيا.
ففي السنوات الأولي كان يعمل في شركة بترول أمريكية. وكانت له علاقات جيدة مع كبار المسئولين في الحكومة لأن أغلبهم زملاء له في الدراسة. إلا أن الأمور سرعان ما تغيرت. إذ ترك الشركة الأمريكية ليعمل في وزارة السياحة. في البداية الأمور سارت على ما يرام. وكان يملك منزلا كبيرا وسيارة فارهة. ولكن الانقسامات في كينيا أصبحت أكثر خطورة ففاضت الحكومة بالدسائس وظهرت الصراعات القبلية.
صمت معظم أصدقاء أوباما وسط الأحداث ولم يحركوا ساكنا وتعلموا التعايش معها، لكن أوباما الأب عبر عن موقفه جهرا وقام بإخبار الناس بأن النظام القبلي في طريقه إلى تخريب البلد وأن أفضل الوظائف باتت تمنح لغير الأكفاء. وصل الأمر إلى الرئيس بأن أوباما من مختلقي المشاكل. فاستدعاه وطلب منه أن يغلق فمه. وبعدها طرد من الحكومة ووضع اسمه في اللائحة السوداء.ووجد صعوبة في الحصول على وظيفة في القطاع الخاص. وعندما وافق بنك التنمية في تعيينه في أديس بابا قامت الحكومة بسحب جواز سفره.
وفي نهاية الأمر اضطر إلى قبول العمل في وظيفة متواضعة في وزارة الري. وساعدت هذه الوظيفة في توفير الطعام والشراب ولكنها كانت بمثابة الضربة القاضية. فأفرط أوباما الأب في شرب الخمر، وتوقف كثيرون من معارفه عن زيارته لأن رؤيتهم معه أصبحت من الأمور الخطيرة أنذاك، وأخبروه أن حياته ستتحول إلى الأفضل إذا اعتذر وغير من مواقفه، لكنه رفض واستمر في قول كل ما يخطر بباله.
تحولت حياة اوباما الأب واسرته إلى جحيم، فتخلت عنه أسرته، وأصدقاؤه، كما أصبح عنيفا ومفرطا في الشراب. فقط ابنته أوما من استمرت في العيش معه وفقط لأنها لم تجد بديلا أخر.
أوباما الأب كان يشعر بالتعاسة وبأنه تعرض للخيانة أما ابنته أوما فإنها لم تستطع أن تفهم لماذا دمر أبيها حياته و حياتها و حياة أسرته. فبينما زملائه في سنه ممن يتمتعون بالذكاء السياسي استطاعوا أن يتسلقوا المناصب، فإنها كانت تعيش مع أبيها في منزل حقير في جزء خطير من المدينة مشهور بجرائمه.
أما أوباما الإبن، عندما سمع حكاية أبيه من أخته فإنه شعر بأنه كان مخدوعا في أبيه. لأنه في النهاية لم يكن إلا شخصا سكيرا وزوجا بذيئ اللسان وموظفا حكوميا مهزوما ووحيدا. وتساءل أوباما الابن بحيرة في كتابه، عن ماذا سيقف في طريق خضوعه للهزيمة نفسها التي أطاحت بوالده؟
أوباما الأب تعرض لكل ما تعرض له، لأنه ظل ملتزما بمبادئه، جاهرا بأفكاره، ولم يخضع أو يغير مواقفه و هو في أحلك الظروف، مما يدل أنه فعلا قائد مستقيم وأخلاقي. ولكن لا أسرته، ولا عائلته ولا أصدقاؤه ولا حتى ابنه أوباما الممتهن للسياسة، استطاعوا ان يفهموا ويستشعروا هذا الأمر في الحياة الواقعية الاعتيادية اليومية. فهو على أرض الواقع، بدى إنسانا تعيسا وبائسا.
وبينما دماغي مشوش، يفكر في هذه الأمور المتشابكة مع بعضها البعض، وأتساءل بحيرة هل يوجد خيار أمثل. أخذت الميكروفون لأطرح سؤالا: كنت قد قرأت بأن المسلم في بلد الكفار يمكنه أن يتظاهر بالكفر من أجل البقاء. وهو ما قام به الموريسكيون ليصمدوا في الحياة لقرون طويلة. فلو كانت مبادئك تتعارض مع محيطك فكيف يمكنك أن تتصرف؟ فلو تخليت عن مبادئك ستتعذب. ولو اخترت مبادئك ستتعذب. كيف يمكنك أن تتجنب العذابين؟
- فأجابني بدون تردد: " هاجري"
نظرت إلى عينيه و شعرت أنه هاجر إلى كندا ليدرس ويشتغل هناك لذات السبب.
دخلت إلى قاعة المحاضرة. شعرت بالخجل لأنني وصلت متأخرة جدا وترددت قليلا قبل أن ادخل. كنت أتمنى أن أجد أجوبة على أسئلة تأرقني. المحاضرة كانت حول "القيادة الأخلاقية". كنت اتوقع حضورا كبيرا ولكن القاعة كانت شبه فارغة، ممتلئة خاصة بالطلبة وببعض الأساتذة وبعض مهندسي القطاع العام. بعض الوجوه كانت مألوفة بالنسبة إلي. إذ سبق لي أن صادفتها في دورات تكوينية سابقة أو في بعض الندوات والمؤتمرات. هذا الأمر جعلني أشعر بالألفة والاندماج. المحاضر كان قد وصل إلى نهاية العرض ليفتح المجال لمناقشة القاعة. لخص موضوع القيادة الأخلاقية في بعض النقط التي ظلت عالقة في ذاكرتي. مثلا أن القيادة الأخلاقية وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي ابتليت بها الإنسانية أضحت ضرورة ملحة. إذ حسب قول المحاضر فالشركات الأمريكية أصبحت ترجح في اختيار موظفيها معيار الأخلاق والمبادئ على الكفاءة، لأنهم اكتشفوا أن الكفاءة بدون أخلاق تكبد المؤسسة خسارة فادحة. وأن الثبات على المبادئ يعني الالتزام بما نؤمن ونفكر فيه. وضرب مثل من نشأ في أسرة تمارس الكذب باستمرار، وتحتسي الشراب علانية وتمارس الخيانة الزوجية طواعية، بأنه لن يشعر بوازع أخلاقي أو تأنيب ضمير عندما سيمارس نفس هذه السلوكات لأنه سيكون منسجما مع نفسه ومحيطه. وبالمقابل من ينشأ على قيم الصدق والأمانة والأخلاق الحميدة فإنه سيعاني كثيرا في كبره لو انحرف على مبادئه، والدليل هو ما نجده في بعض الأشخاص الذين يحاولون الإفراط في الشراب ويعانون الأرق ليلا لأنهم غير راضون عن ممارساتهم المخالفة لنشأتهم وفطرتهم.
أثناء تفاعل القاعة مع مضمون المحاضرة، أخذ أحد المهندسين الميكرفون. كنت قد تعرفت عليه سابقا في دورة تكوينية. تكلم عن تجربته، وكيف أنه اختار مبادئه على طموحاته المهنية. إذ كان له منصب مهم وتعرض لضغوطات عدة من طرف رؤسائه للتوقيع على صفقات غير قانونية ولكنه رفض أن يذعن. مساره المهني كان ثمنا قاسيا دفعه لأنه اختار أن يقول لا وأن يلتزم بقناعاته. ولكنه يؤكد أنه غير نادم على منصبه وبأنه سعيد وهو يمنح معظم وقته وجهده لأسرته.
القاعة صفقت بحرارة على تضحية المهندس والتزامه بمبادئه. أما أنا شعرت بغضب عارم غير مفهوم. كنت أدرك أنه غير سعيد و لكن يحاول الهروب والاحتماء بدفء الأسرة. كنت أقرأ الحزن والانكسار في عينيه. فكرت أنه لا يوجد خيار مثالي. إذا اخترت مبادئك ستتعذب وإذا لم تختر مبادئك ستتعذب. إنها معادلة بدون حل.
تذكرت مقطع من كتاب أوباما "أحلام من أبي قصة عرق وإرث"، وهو يستمع إلى أخته من أبيه "أوما" وهي تحكي له عن أبيه الذي لم يره إلا مرة واحدة. هذا الفراق الذي جعله ينسج حكايات مثالية عنه فكان يراه بصورة المثقف الذكي والصديق السخي والقائد المستقيم.
اما اخته اوما التي عاشت معه فكان لها سرد أخر. اوباما الأب كان يحظى بإعجاب الجميع لأنه حصل على قدر هائل من التعليم من خارج البلاد كما كان متزوجا من أمريكية وهو أمر نادر جدا في كينيا.
ففي السنوات الأولي كان يعمل في شركة بترول أمريكية. وكانت له علاقات جيدة مع كبار المسئولين في الحكومة لأن أغلبهم زملاء له في الدراسة. إلا أن الأمور سرعان ما تغيرت. إذ ترك الشركة الأمريكية ليعمل في وزارة السياحة. في البداية الأمور سارت على ما يرام. وكان يملك منزلا كبيرا وسيارة فارهة. ولكن الانقسامات في كينيا أصبحت أكثر خطورة ففاضت الحكومة بالدسائس وظهرت الصراعات القبلية.
صمت معظم أصدقاء أوباما وسط الأحداث ولم يحركوا ساكنا وتعلموا التعايش معها، لكن أوباما الأب عبر عن موقفه جهرا وقام بإخبار الناس بأن النظام القبلي في طريقه إلى تخريب البلد وأن أفضل الوظائف باتت تمنح لغير الأكفاء. وصل الأمر إلى الرئيس بأن أوباما من مختلقي المشاكل. فاستدعاه وطلب منه أن يغلق فمه. وبعدها طرد من الحكومة ووضع اسمه في اللائحة السوداء.ووجد صعوبة في الحصول على وظيفة في القطاع الخاص. وعندما وافق بنك التنمية في تعيينه في أديس بابا قامت الحكومة بسحب جواز سفره.
وفي نهاية الأمر اضطر إلى قبول العمل في وظيفة متواضعة في وزارة الري. وساعدت هذه الوظيفة في توفير الطعام والشراب ولكنها كانت بمثابة الضربة القاضية. فأفرط أوباما الأب في شرب الخمر، وتوقف كثيرون من معارفه عن زيارته لأن رؤيتهم معه أصبحت من الأمور الخطيرة أنذاك، وأخبروه أن حياته ستتحول إلى الأفضل إذا اعتذر وغير من مواقفه، لكنه رفض واستمر في قول كل ما يخطر بباله.
تحولت حياة اوباما الأب واسرته إلى جحيم، فتخلت عنه أسرته، وأصدقاؤه، كما أصبح عنيفا ومفرطا في الشراب. فقط ابنته أوما من استمرت في العيش معه وفقط لأنها لم تجد بديلا أخر.
أوباما الأب كان يشعر بالتعاسة وبأنه تعرض للخيانة أما ابنته أوما فإنها لم تستطع أن تفهم لماذا دمر أبيها حياته و حياتها و حياة أسرته. فبينما زملائه في سنه ممن يتمتعون بالذكاء السياسي استطاعوا أن يتسلقوا المناصب، فإنها كانت تعيش مع أبيها في منزل حقير في جزء خطير من المدينة مشهور بجرائمه.
أما أوباما الإبن، عندما سمع حكاية أبيه من أخته فإنه شعر بأنه كان مخدوعا في أبيه. لأنه في النهاية لم يكن إلا شخصا سكيرا وزوجا بذيئ اللسان وموظفا حكوميا مهزوما ووحيدا. وتساءل أوباما الابن بحيرة في كتابه، عن ماذا سيقف في طريق خضوعه للهزيمة نفسها التي أطاحت بوالده؟
أوباما الأب تعرض لكل ما تعرض له، لأنه ظل ملتزما بمبادئه، جاهرا بأفكاره، ولم يخضع أو يغير مواقفه و هو في أحلك الظروف، مما يدل أنه فعلا قائد مستقيم وأخلاقي. ولكن لا أسرته، ولا عائلته ولا أصدقاؤه ولا حتى ابنه أوباما الممتهن للسياسة، استطاعوا ان يفهموا ويستشعروا هذا الأمر في الحياة الواقعية الاعتيادية اليومية. فهو على أرض الواقع، بدى إنسانا تعيسا وبائسا.
وبينما دماغي مشوش، يفكر في هذه الأمور المتشابكة مع بعضها البعض، وأتساءل بحيرة هل يوجد خيار أمثل. أخذت الميكروفون لأطرح سؤالا: كنت قد قرأت بأن المسلم في بلد الكفار يمكنه أن يتظاهر بالكفر من أجل البقاء. وهو ما قام به الموريسكيون ليصمدوا في الحياة لقرون طويلة. فلو كانت مبادئك تتعارض مع محيطك فكيف يمكنك أن تتصرف؟ فلو تخليت عن مبادئك ستتعذب. ولو اخترت مبادئك ستتعذب. كيف يمكنك أن تتجنب العذابين؟
- فأجابني بدون تردد: " هاجري"
نظرت إلى عينيه و شعرت أنه هاجر إلى كندا ليدرس ويشتغل هناك لذات السبب.