بقلم: د: عبد السلام الصديقي
إن الأزمة الصحية التي نعيشها، والتي فرضت علينا الحجر الشبه العام، لن تمر بدون تأثير، بل ستترك لا محالة آثارا عميقة، من خلال التقلبات التي أحدثتها في نمط حياتنا وفي علاقتنا بالزمن وفي علاقتنا بالآخر، إذ من المعلوم أن الأزمة تُعتبر لحظةً لمساءلة الذات ومساءلة الآخر ومساءلة الحاضر والمستقبل، ولحظة لمراجعة اليقينيات والأفكار الجاهزة.
لقد تعلمنا خلال هذه الفترة العديد من الأشياء في وقت وجيز، واتخذنا في بضعة أسابيع تدابيرَ كان من الصعب مُجردُ التفكير فيها من قبل، وتأكد لنا إلى أي حَــدٍّ الحياةُ في غاية الأهمية، وإلى أي مَدَى حريةُ الإنسان يُحسب لها الحِساب، وكيف أن الأنانية ومنطــــــق "كل واحد لنفسه" مُضِران للغاية،،، وهو ما يمكن تلخيصه في ثلاثة معالم كبرى يمكن استنتاجها من هذه المحنة التي ستترك بصماتٍ لا تُمحى.
الدرس الأول يتعلق بالعمل عن بُعد، فهذه الممارسة كان جاريا بها العمل في البلدان المتطورة، وشهدت زخما لم يسبق له مثيل خلال فترة الطوارئ الصحية، حيث كلما كان ذلك ممكنا إلا ولجأ الناس إلى العمل انطلاقا من بيوتهم باستعمال الوسائل الرقمية.
ويهم العمل عن بُعد حسب التقديرات ثُلث الساكنة النشيطة، حتى باتت جميع المؤشرات تدل على أن هذه الظاهرة سوف تتطور أكثر في المستقبل تحت تأثير "الرأسمالية الرقمية" لتشمل العديد من الأنشطة.
وإذا كان هذا التطور يشكل تقدما لا جدال فيه بالنسبة للمجتمع، فإنه بذات الوقت يشكل مصدر تقهقر اجتماعي مخيف، حيث أنه فعلا تقدمٌ يظهر على مستوى التقليص من تكاليف الإنتاج بحوالي 30%، وعلى صعيد الحد من التنقل، ومن ثمة الحد من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وتخفيف الضغط على التجمعات الحضرية الكبرى، وربح الوقت.
مع ذلك، وطالما أن كل ظاهرة اجتماعية يكتنفها التناقض وما دام أن لكل ميداليةٍ وجهها العكسي، فإن العمل عن بُـعد لن يُشكل استثناءً عن القاعدة، إذ يمكن أن يؤدي، وخاصة بالنسبة للمأجورين، إلى الشعور باغترابٍ مزدوج: فمن جهة يفقد الأجيرُ التحكم في نتاج عمله، ومن جهة ثانية يجد نفسه في عزلة تامة أمام نفسه في فضاءٍ يتحول شيئا فشيئا إلى مكانٍ للعمل وللإقامة في آن واحد، حيث تنصهر الحياة الخاصة بالحياة المهنية، وتفقد الحميمية معناها لتصبح أمــرًا عموميا، وفي هكذا ظروف لن يظل لِحُرمة السكن أي معنى. فهذه الرأسمالية المعتمِدة على المنصات الرقمية لا تعدو أن تكون مجرد عودة إلى زمن الرُّحَّل في حُلَّةٍ جديدة. وهكذا تتم الآن مراجعة العمل المأجور ليس من أجل تجاوزه في اتجاهٍ تقدمي، بل لتعويضه بشكل جديد من الاستغلال القائم على المرونة والهشاشة.
أجل، لا أحد يمكنه أن يشك في أهمية التقدم التقني، لكن بشرط أن تكون التقنية والتكنولوجيا فعلا في مصلحة وخدمة الإنسان. فمثلا من المُجدي بالنسبة لبلادنا أن تحتفظ في المستقبل بالتعليم عن بُعد، ولكن في حالات دقيقة ومتفق حولها بين مختلف المتدخلين من هيأة التدريس والإدارة وأمهات وآباء التلاميذ وممثلي الطلبة، كما أن هذا التعليم عن بُعد ينبغي أن ينحصر، لاعتبارات بيداغوجية، في حالاتٍ ومواد محددة بشكل مضبوط ومدروس، حيث على سبيل المثال لا شيء سيمنع من إلقاء محاضراتٍ عن بُعد في كليات العلوم الإنسانية والقانونية، واقتصار الحضور الفعلي على حصص الأشغال التوجيهية.
في نفس الوقت، وكما أبانت عن ذلك التجربة، هناك العديد من الأنشطة ذات الصبغة الإدارية أو الحزبية أو الجمعوية وغيرها، يمكن أن تتم عن بُــعد، وفي ذلك ربحٌ للوقت والجهد والفعالية. كما يمكن أن نتصور قطاعات أخرى بإمكانها اللجوء إلى العمل عن بُعد، ولهذا الغرض علينا تقليص الفجوة الرقمية التي نقف اليوم على مدى عمقها وخطورتها، وذلك بإنجاز استثمارات قوية في المجال الرقمي. وفي جميع الأحوال لا يمكن ولا ينبغي أبدا للعالم الافتراضي أن يعوض العالم الواقعي.
أما الدرس الثاني الذي يتعين استخلاصه فَــيَهُــمُّ إقامة ما يمكن تسميته ب"الدخل الكوني الأدنى" أو "الدخل الأدنى للكرامة"، حيث لجأت معظم الحكومات عبر العالم إلى استعمال "نقود المروحية / monnaie hélicoptère" بالنسبة للأشخاص الذين لا دخل قار لهم، بقصد حثهم على الالتزام بالحجر الصحي.
وقد اختار المغرب من جانبه هذا الأسلوب، حيث عمد إلى تقديم إعانات مالية مُباشرة للأسر التي لا مورد لها أو التي فقدت مصدره، تراوحت ما بين 800 و1200 درهما لكل أسرة حسب عدد أفرادها. ويتطلب الأمر الاعتراف بأنه من الصعب جدا، إن لم يكن من المستحيل، في المستقبل، التراجعُ عن هذا الإجراء وإغلاق الصنبور فجأة، لأن ذلك سيؤدي غالبا إلى رَدَّةِ فعلٍ اجتماعية، قد تتخذ شكل انتفاضة، للمواطنين الذين جربوا الاستفادة من هذه التحويلات، وصاروا بالتالي يُدركون أن المال متوفر في مكان ما، ولن يكونوا بعد اليوم مستعدين للتخلي على نصيبهم منه، وعليه لا خيار لنا سوى أن نقوم بأسرع وقت بمأسسة هذه الآلية، وذلك من خلال أجرأة السجل الاجتماعي الموحد "الشهير".
طبعا، يجب على بلادنا أن لا تتعامل مع هذا الأمر بمقاربة ستاتيكية تجعل جزءً عريضا من المغاربة اتكاليين على الدوام، لذلك من الضروري التفكير بعمق في حلول بديلة وذات جاذبية، وهو ما يقتضي تطوير الأنشطة المُدِرَّة للدخل، وتوفير الشغل للمواطنين الذين هم في سن العمل.
أما الدرس الثالث، والذي لا يقل أهمية عن سابقيه، فَـــيَهُمُّ القيم القوية التي تشكل الحقوق الإنسانية وعمق الكائن البشري، حيث أن الحجر الصحي الذي فُرض علينا شَكَّلَ بالنسبة إلى كل واحد منا رَجَّةً حقيقية، وذلك من خلال تحريرٍ أكبر لعقولنا وإعادة اكتشاف القيمة التي تكتسيها أشياء في الحياة كانت إلى عهدٍ قريب تبدو صغيرة، لكنها تساهم في بناء سعادتنا.
فبعد الحجر الصحي سوف نُصبح أكثر تمسكا من ذي قبل بحريتنا بمفهومها الواسع الذي يشمل حرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية العمل والمبادرة، وسنتمسك بهذه الحريات بنفس حرصنا على حماية عيوننا، ولن يكون مسموحا مطلقا السماحُ لسلطة ما بأن تفرض القيود على حرياتنا إلا في ما يتعلق بأمننا وأمن المجتمع.
أكثر من ذلك، سوف نناضل من أجل توسيع هذه الحريات لتشمل ميادين أخرى تُعتبر لحد الساعة، عن خطأ أو عن صواب، من الطابوهات والقضايا الحساسة.
وبالطبع، فالحرية لا تنفصل عن الحقوق والواجبات التي يتعين احترامها، فالعيش المشترك يفرض علينا واجب التضامن وخدمة الأمة، ويُعطينا في نفس الوقت حق الاختيار بحرية وبدون أي تدخل، لنظامنا ونمط الحكامة اللذين ينبغي اتباعهما.
لكل هذه الاعتبارات، نعتقد أنه من المنطقي أن الديموقراطية ستخرج معززة أكثر من هذه المحنة.
وفي جميع الأحوال: هل هناك من يقترح علينا ما هو أفضل؟!
إن الأزمة الصحية التي نعيشها، والتي فرضت علينا الحجر الشبه العام، لن تمر بدون تأثير، بل ستترك لا محالة آثارا عميقة، من خلال التقلبات التي أحدثتها في نمط حياتنا وفي علاقتنا بالزمن وفي علاقتنا بالآخر، إذ من المعلوم أن الأزمة تُعتبر لحظةً لمساءلة الذات ومساءلة الآخر ومساءلة الحاضر والمستقبل، ولحظة لمراجعة اليقينيات والأفكار الجاهزة.
لقد تعلمنا خلال هذه الفترة العديد من الأشياء في وقت وجيز، واتخذنا في بضعة أسابيع تدابيرَ كان من الصعب مُجردُ التفكير فيها من قبل، وتأكد لنا إلى أي حَــدٍّ الحياةُ في غاية الأهمية، وإلى أي مَدَى حريةُ الإنسان يُحسب لها الحِساب، وكيف أن الأنانية ومنطــــــق "كل واحد لنفسه" مُضِران للغاية،،، وهو ما يمكن تلخيصه في ثلاثة معالم كبرى يمكن استنتاجها من هذه المحنة التي ستترك بصماتٍ لا تُمحى.
الدرس الأول يتعلق بالعمل عن بُعد، فهذه الممارسة كان جاريا بها العمل في البلدان المتطورة، وشهدت زخما لم يسبق له مثيل خلال فترة الطوارئ الصحية، حيث كلما كان ذلك ممكنا إلا ولجأ الناس إلى العمل انطلاقا من بيوتهم باستعمال الوسائل الرقمية.
ويهم العمل عن بُعد حسب التقديرات ثُلث الساكنة النشيطة، حتى باتت جميع المؤشرات تدل على أن هذه الظاهرة سوف تتطور أكثر في المستقبل تحت تأثير "الرأسمالية الرقمية" لتشمل العديد من الأنشطة.
وإذا كان هذا التطور يشكل تقدما لا جدال فيه بالنسبة للمجتمع، فإنه بذات الوقت يشكل مصدر تقهقر اجتماعي مخيف، حيث أنه فعلا تقدمٌ يظهر على مستوى التقليص من تكاليف الإنتاج بحوالي 30%، وعلى صعيد الحد من التنقل، ومن ثمة الحد من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وتخفيف الضغط على التجمعات الحضرية الكبرى، وربح الوقت.
مع ذلك، وطالما أن كل ظاهرة اجتماعية يكتنفها التناقض وما دام أن لكل ميداليةٍ وجهها العكسي، فإن العمل عن بُـعد لن يُشكل استثناءً عن القاعدة، إذ يمكن أن يؤدي، وخاصة بالنسبة للمأجورين، إلى الشعور باغترابٍ مزدوج: فمن جهة يفقد الأجيرُ التحكم في نتاج عمله، ومن جهة ثانية يجد نفسه في عزلة تامة أمام نفسه في فضاءٍ يتحول شيئا فشيئا إلى مكانٍ للعمل وللإقامة في آن واحد، حيث تنصهر الحياة الخاصة بالحياة المهنية، وتفقد الحميمية معناها لتصبح أمــرًا عموميا، وفي هكذا ظروف لن يظل لِحُرمة السكن أي معنى. فهذه الرأسمالية المعتمِدة على المنصات الرقمية لا تعدو أن تكون مجرد عودة إلى زمن الرُّحَّل في حُلَّةٍ جديدة. وهكذا تتم الآن مراجعة العمل المأجور ليس من أجل تجاوزه في اتجاهٍ تقدمي، بل لتعويضه بشكل جديد من الاستغلال القائم على المرونة والهشاشة.
أجل، لا أحد يمكنه أن يشك في أهمية التقدم التقني، لكن بشرط أن تكون التقنية والتكنولوجيا فعلا في مصلحة وخدمة الإنسان. فمثلا من المُجدي بالنسبة لبلادنا أن تحتفظ في المستقبل بالتعليم عن بُعد، ولكن في حالات دقيقة ومتفق حولها بين مختلف المتدخلين من هيأة التدريس والإدارة وأمهات وآباء التلاميذ وممثلي الطلبة، كما أن هذا التعليم عن بُعد ينبغي أن ينحصر، لاعتبارات بيداغوجية، في حالاتٍ ومواد محددة بشكل مضبوط ومدروس، حيث على سبيل المثال لا شيء سيمنع من إلقاء محاضراتٍ عن بُعد في كليات العلوم الإنسانية والقانونية، واقتصار الحضور الفعلي على حصص الأشغال التوجيهية.
في نفس الوقت، وكما أبانت عن ذلك التجربة، هناك العديد من الأنشطة ذات الصبغة الإدارية أو الحزبية أو الجمعوية وغيرها، يمكن أن تتم عن بُــعد، وفي ذلك ربحٌ للوقت والجهد والفعالية. كما يمكن أن نتصور قطاعات أخرى بإمكانها اللجوء إلى العمل عن بُعد، ولهذا الغرض علينا تقليص الفجوة الرقمية التي نقف اليوم على مدى عمقها وخطورتها، وذلك بإنجاز استثمارات قوية في المجال الرقمي. وفي جميع الأحوال لا يمكن ولا ينبغي أبدا للعالم الافتراضي أن يعوض العالم الواقعي.
أما الدرس الثاني الذي يتعين استخلاصه فَــيَهُــمُّ إقامة ما يمكن تسميته ب"الدخل الكوني الأدنى" أو "الدخل الأدنى للكرامة"، حيث لجأت معظم الحكومات عبر العالم إلى استعمال "نقود المروحية / monnaie hélicoptère" بالنسبة للأشخاص الذين لا دخل قار لهم، بقصد حثهم على الالتزام بالحجر الصحي.
وقد اختار المغرب من جانبه هذا الأسلوب، حيث عمد إلى تقديم إعانات مالية مُباشرة للأسر التي لا مورد لها أو التي فقدت مصدره، تراوحت ما بين 800 و1200 درهما لكل أسرة حسب عدد أفرادها. ويتطلب الأمر الاعتراف بأنه من الصعب جدا، إن لم يكن من المستحيل، في المستقبل، التراجعُ عن هذا الإجراء وإغلاق الصنبور فجأة، لأن ذلك سيؤدي غالبا إلى رَدَّةِ فعلٍ اجتماعية، قد تتخذ شكل انتفاضة، للمواطنين الذين جربوا الاستفادة من هذه التحويلات، وصاروا بالتالي يُدركون أن المال متوفر في مكان ما، ولن يكونوا بعد اليوم مستعدين للتخلي على نصيبهم منه، وعليه لا خيار لنا سوى أن نقوم بأسرع وقت بمأسسة هذه الآلية، وذلك من خلال أجرأة السجل الاجتماعي الموحد "الشهير".
طبعا، يجب على بلادنا أن لا تتعامل مع هذا الأمر بمقاربة ستاتيكية تجعل جزءً عريضا من المغاربة اتكاليين على الدوام، لذلك من الضروري التفكير بعمق في حلول بديلة وذات جاذبية، وهو ما يقتضي تطوير الأنشطة المُدِرَّة للدخل، وتوفير الشغل للمواطنين الذين هم في سن العمل.
أما الدرس الثالث، والذي لا يقل أهمية عن سابقيه، فَـــيَهُمُّ القيم القوية التي تشكل الحقوق الإنسانية وعمق الكائن البشري، حيث أن الحجر الصحي الذي فُرض علينا شَكَّلَ بالنسبة إلى كل واحد منا رَجَّةً حقيقية، وذلك من خلال تحريرٍ أكبر لعقولنا وإعادة اكتشاف القيمة التي تكتسيها أشياء في الحياة كانت إلى عهدٍ قريب تبدو صغيرة، لكنها تساهم في بناء سعادتنا.
فبعد الحجر الصحي سوف نُصبح أكثر تمسكا من ذي قبل بحريتنا بمفهومها الواسع الذي يشمل حرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية العمل والمبادرة، وسنتمسك بهذه الحريات بنفس حرصنا على حماية عيوننا، ولن يكون مسموحا مطلقا السماحُ لسلطة ما بأن تفرض القيود على حرياتنا إلا في ما يتعلق بأمننا وأمن المجتمع.
أكثر من ذلك، سوف نناضل من أجل توسيع هذه الحريات لتشمل ميادين أخرى تُعتبر لحد الساعة، عن خطأ أو عن صواب، من الطابوهات والقضايا الحساسة.
وبالطبع، فالحرية لا تنفصل عن الحقوق والواجبات التي يتعين احترامها، فالعيش المشترك يفرض علينا واجب التضامن وخدمة الأمة، ويُعطينا في نفس الوقت حق الاختيار بحرية وبدون أي تدخل، لنظامنا ونمط الحكامة اللذين ينبغي اتباعهما.
لكل هذه الاعتبارات، نعتقد أنه من المنطقي أن الديموقراطية ستخرج معززة أكثر من هذه المحنة.
وفي جميع الأحوال: هل هناك من يقترح علينا ما هو أفضل؟!