بقلـم: بدر أعراب
في مِثل هَـذا اليومِ، السّبت 15 نونبر 2003، توَقّفَ الكاتبُ الدولي مُحمّد شُكري سَليلُ الرّيف، المزداد تَحدِيداً سنة 1935 بالبَلدة الضَاحَوية لـاِقليم النّاظـور بنِي شيكَر، عَـن "الاِزعَـاج الجمِيل"، بالمُستشفَى العَسكَري بالعاصمة الرّباط.
ماتَ شُكري وقيلَ عنهُ الكثير، "كانَ مُتَوّحشاً" قالُوا، "كانَ يَتعّمد رَميَ القَاذُورات فِي وَجهِ النّاس" اِدّعُوا، وكَان قَصداً "يَتلفـظ بمَا لاَ يَتلفـظ بهِ الآخرونَ لِكي يَلفـتَ الاِنتباهَ اِليهِ" زعمُواْ، أمّا الرّاحل فقـَد أجابَ يومًا، وَهـو على قيدِ الحيَاة، خـلالَ حوارٍ جمَعهُ الصّحافِي المعرُوف الزبير بُوشتَى ضِمن اِصدَار، أنّهُ "لا يعرفُ صَراحةً عمّا يتحَدثُون"..
الاِغترابُ الدّاخلي، الكِتابَة.. والاِحتِراق
رسَمَ مُحمد شُكري وُجوهاً وتحدّثَ عَن عَلاقَات اِنسَانيةٍ في غرابَة مَصيرهـا، وتعقيدَات تَفَاصيل حيَاتها الكَارثية، ولعّل هـذا مَا يُوّحد كلّ الوُجوه المُتعبَة مِثلهُ في الحيَاة بالصدّف، والمُفاجآت، والقَسوة والعَـذاب، حَياةٌ مَليئة بالمَوتِ المُنتظر وَقفَ خلالهَا شُكري نفسهُ على حَافة الجُنون المُتكرّر بشتّى أشكالِه.
وحِيداً جَاء، ووَحيداً عاشَ، كمَا مضَى اِلى مَجهُولِه الّـذي آتَى منهُ وَحيداً، وَكأنه سَخرَ ليسَ فَقط منَ الدّنيا، بَـل وحتّى من أناسِها الذينَ يتقلبُونَ تقلبّات جمّة، وَمن ثمّ مَضى مثلمَا تَمضِي الرّيح حَاملةً الغُبار اِلى الآمَـاد السّحيقة.. سَحابة سَوداء من الكآبة غطّتْ على وَاقعِه العَاثر، وحَيرة ذاتَ هجيرٍ تلظّى في جُمجُمة شكري المتّرهلة بعوامِل تَعرية زَمن الأخطـَاء.
كومةٌ من الأورَاق مُبعثرة هُنَا وَهُناك، ونظراتٌ خاطفة سَاهمَة، وَلفَافة سَجائرٍ جافّة مَغروسَة في جيبِ البنطالِ على الدّوام، وتهيمُ به الأفكار في كلّ وادٍ سَحيق.
دوّنَ الشُّحرور الأبيض اِضَاءات هاربَة لمَشاهدَ كانَت جَميلة، ومَشاهِد قيـل عَنها تَعبقُ برائحَة الفضيحَة ونَتانة الأمعَاء المبيتَة. لَحظة الكتابَة عندَهُ، لَحظة شَاردة تآخذ فوقَ رمضاءٍ حَارقة مَلعونة، قطعَ حَافي القدمينِ مَسَافات تلـوَ المسَافات في حُلمٍ لَم تأتِ لهُ نهاية. داهَمتهُ رؤىً ضبابية عن مُستقبلٍ رافضٍ أن يتشيأ، بَعدما تطّلّـع اِلى كلّ الأبوَاب فألفاهَا مسدُودة، ليُعانقَ بَعد ذلك التّيهَ والغيابَ، تاركاً الحُضور، فاراً يتلوّى اِلى عَوالم غيَاهبِ الكلمَة الثملَى، اِذ لم يَحضر كامِل الحُضور اِلاّ مَع الكلمَة، فتحوّل حَديثه الدّاخلي المَعجُون بترسُّبات لهجَة البيئة الرّيفية اِلى صَرخاتٍ تكشِف واقعاً آخرَ، خلافاً للمعهُود وفوقَ المُعتاد، واُعتبر تَغريدهُ نشازاً عن صوتِ تغاريدِ السّرب.
الاستثنـاء..
قـال عنه الإعلامي المعروف محمد زاهـد "لم يكن محمد حدّو الشكري، وهو ابن هجرة المجاعة الريفية التي حدثت خلال أربعينيات القرن الماضي، يحلم أكثر من الحلم نفسه في أن يبلغ الفردوس المفقود- طنجة، حيث الخبز الوافر، وهو الهارب، مشيا عن الأقدام، من القحط والجوع والحرب، وعانى من لغة الاضطهاد الجسدي واللغوي، مع أولى أيام الارتماء بين أحضان مدينته الأسطورية والانغماس في أحشاء معشوقته طنجيس".
وأضاف زاهد "أما الحلم الثاني الذي بدأ يسكن دواخل محمد شكري، المزداد سنة 1935 بآيت شيشار، بعد أن ضاع منه الحلم الأول وَفاتَهُ أن يكون ملاكا، وقد انغمس في دم الحياة البئيسة، فكان يتمثل -كما يقول شكري نفسه- في أن يصبح مجرد كاتب محلي، بعد أن آمن بأن الكتابة أداة للتغيير الاجتماعي و"سلاح جميل" بتعبير كاتب آخر من طينة صديقه محمد خير الدين.
مردفاً "بين الحلمين، ضاعت أحلام كثيرة. هكذا كانت ولادة كاتب مغاربي وعالمي ترجمت أعماله إلى أزيد من 40 لغة، إلا لغته الأصلية. أعمال أدبية مازال حضورها وازنا في المشهد الأدبي العالمي، لكونها ترسم مسار تجربة أدبية إنسانية مميزة، لكاتب وإنسان مميز واستثنائي.. هو ذا شكري، وقد صار كاتبا عالميا. ابن الريف ومجنون طنجة الذي عاش متمردا ومات عاقلا. انتمى إلى كل الأزمنة، لكنه لم ينسلخ بجلده عن زمانه. رحم الله الشحرور الأبيض، العلامة البارزة في المشهد الأدبي المغاربي والعالمي..".
نهايتـه..
يُنهي مُحمّد شُكري اِحْدى رَسائِله المُوّجهَة اِلى الكاتِب المَغربي مُحمّد برّادة، المُدرجَة ضِمنَ كتَاب رسَائلهمَا المُتبادلة "وَردٌ ورَمَاد"، بعبَارة درَامَاتيكية ذاتَ دلالةٍ عَميقة، وهـيَ العبَارة التي تصلحُ لكَي تُوضع كنِهاية لائِقة لِكلّ حيَاتِه التّي اِنطفأت وأسدِل عنهَا السّتار، لتطلعَ حِينها العبارة كنهايةٍ في المَشهدِ الأخير:
"سلامي اِلـى ليلى، قُـلْ لها بأنـي ملعُـون، اِلـاَّ اِذا كانـت متسامحةً مع الملاعيـن، لـم يعُـد لـي مـا هـو أجمل من الصّمـت"، محمد شكري 13 / 02 / 1977 الربـاط.
في مِثل هَـذا اليومِ، السّبت 15 نونبر 2003، توَقّفَ الكاتبُ الدولي مُحمّد شُكري سَليلُ الرّيف، المزداد تَحدِيداً سنة 1935 بالبَلدة الضَاحَوية لـاِقليم النّاظـور بنِي شيكَر، عَـن "الاِزعَـاج الجمِيل"، بالمُستشفَى العَسكَري بالعاصمة الرّباط.
ماتَ شُكري وقيلَ عنهُ الكثير، "كانَ مُتَوّحشاً" قالُوا، "كانَ يَتعّمد رَميَ القَاذُورات فِي وَجهِ النّاس" اِدّعُوا، وكَان قَصداً "يَتلفـظ بمَا لاَ يَتلفـظ بهِ الآخرونَ لِكي يَلفـتَ الاِنتباهَ اِليهِ" زعمُواْ، أمّا الرّاحل فقـَد أجابَ يومًا، وَهـو على قيدِ الحيَاة، خـلالَ حوارٍ جمَعهُ الصّحافِي المعرُوف الزبير بُوشتَى ضِمن اِصدَار، أنّهُ "لا يعرفُ صَراحةً عمّا يتحَدثُون"..
الاِغترابُ الدّاخلي، الكِتابَة.. والاِحتِراق
رسَمَ مُحمد شُكري وُجوهاً وتحدّثَ عَن عَلاقَات اِنسَانيةٍ في غرابَة مَصيرهـا، وتعقيدَات تَفَاصيل حيَاتها الكَارثية، ولعّل هـذا مَا يُوّحد كلّ الوُجوه المُتعبَة مِثلهُ في الحيَاة بالصدّف، والمُفاجآت، والقَسوة والعَـذاب، حَياةٌ مَليئة بالمَوتِ المُنتظر وَقفَ خلالهَا شُكري نفسهُ على حَافة الجُنون المُتكرّر بشتّى أشكالِه.
وحِيداً جَاء، ووَحيداً عاشَ، كمَا مضَى اِلى مَجهُولِه الّـذي آتَى منهُ وَحيداً، وَكأنه سَخرَ ليسَ فَقط منَ الدّنيا، بَـل وحتّى من أناسِها الذينَ يتقلبُونَ تقلبّات جمّة، وَمن ثمّ مَضى مثلمَا تَمضِي الرّيح حَاملةً الغُبار اِلى الآمَـاد السّحيقة.. سَحابة سَوداء من الكآبة غطّتْ على وَاقعِه العَاثر، وحَيرة ذاتَ هجيرٍ تلظّى في جُمجُمة شكري المتّرهلة بعوامِل تَعرية زَمن الأخطـَاء.
كومةٌ من الأورَاق مُبعثرة هُنَا وَهُناك، ونظراتٌ خاطفة سَاهمَة، وَلفَافة سَجائرٍ جافّة مَغروسَة في جيبِ البنطالِ على الدّوام، وتهيمُ به الأفكار في كلّ وادٍ سَحيق.
دوّنَ الشُّحرور الأبيض اِضَاءات هاربَة لمَشاهدَ كانَت جَميلة، ومَشاهِد قيـل عَنها تَعبقُ برائحَة الفضيحَة ونَتانة الأمعَاء المبيتَة. لَحظة الكتابَة عندَهُ، لَحظة شَاردة تآخذ فوقَ رمضاءٍ حَارقة مَلعونة، قطعَ حَافي القدمينِ مَسَافات تلـوَ المسَافات في حُلمٍ لَم تأتِ لهُ نهاية. داهَمتهُ رؤىً ضبابية عن مُستقبلٍ رافضٍ أن يتشيأ، بَعدما تطّلّـع اِلى كلّ الأبوَاب فألفاهَا مسدُودة، ليُعانقَ بَعد ذلك التّيهَ والغيابَ، تاركاً الحُضور، فاراً يتلوّى اِلى عَوالم غيَاهبِ الكلمَة الثملَى، اِذ لم يَحضر كامِل الحُضور اِلاّ مَع الكلمَة، فتحوّل حَديثه الدّاخلي المَعجُون بترسُّبات لهجَة البيئة الرّيفية اِلى صَرخاتٍ تكشِف واقعاً آخرَ، خلافاً للمعهُود وفوقَ المُعتاد، واُعتبر تَغريدهُ نشازاً عن صوتِ تغاريدِ السّرب.
الاستثنـاء..
قـال عنه الإعلامي المعروف محمد زاهـد "لم يكن محمد حدّو الشكري، وهو ابن هجرة المجاعة الريفية التي حدثت خلال أربعينيات القرن الماضي، يحلم أكثر من الحلم نفسه في أن يبلغ الفردوس المفقود- طنجة، حيث الخبز الوافر، وهو الهارب، مشيا عن الأقدام، من القحط والجوع والحرب، وعانى من لغة الاضطهاد الجسدي واللغوي، مع أولى أيام الارتماء بين أحضان مدينته الأسطورية والانغماس في أحشاء معشوقته طنجيس".
وأضاف زاهد "أما الحلم الثاني الذي بدأ يسكن دواخل محمد شكري، المزداد سنة 1935 بآيت شيشار، بعد أن ضاع منه الحلم الأول وَفاتَهُ أن يكون ملاكا، وقد انغمس في دم الحياة البئيسة، فكان يتمثل -كما يقول شكري نفسه- في أن يصبح مجرد كاتب محلي، بعد أن آمن بأن الكتابة أداة للتغيير الاجتماعي و"سلاح جميل" بتعبير كاتب آخر من طينة صديقه محمد خير الدين.
مردفاً "بين الحلمين، ضاعت أحلام كثيرة. هكذا كانت ولادة كاتب مغاربي وعالمي ترجمت أعماله إلى أزيد من 40 لغة، إلا لغته الأصلية. أعمال أدبية مازال حضورها وازنا في المشهد الأدبي العالمي، لكونها ترسم مسار تجربة أدبية إنسانية مميزة، لكاتب وإنسان مميز واستثنائي.. هو ذا شكري، وقد صار كاتبا عالميا. ابن الريف ومجنون طنجة الذي عاش متمردا ومات عاقلا. انتمى إلى كل الأزمنة، لكنه لم ينسلخ بجلده عن زمانه. رحم الله الشحرور الأبيض، العلامة البارزة في المشهد الأدبي المغاربي والعالمي..".
نهايتـه..
يُنهي مُحمّد شُكري اِحْدى رَسائِله المُوّجهَة اِلى الكاتِب المَغربي مُحمّد برّادة، المُدرجَة ضِمنَ كتَاب رسَائلهمَا المُتبادلة "وَردٌ ورَمَاد"، بعبَارة درَامَاتيكية ذاتَ دلالةٍ عَميقة، وهـيَ العبَارة التي تصلحُ لكَي تُوضع كنِهاية لائِقة لِكلّ حيَاتِه التّي اِنطفأت وأسدِل عنهَا السّتار، لتطلعَ حِينها العبارة كنهايةٍ في المَشهدِ الأخير:
"سلامي اِلـى ليلى، قُـلْ لها بأنـي ملعُـون، اِلـاَّ اِذا كانـت متسامحةً مع الملاعيـن، لـم يعُـد لـي مـا هـو أجمل من الصّمـت"، محمد شكري 13 / 02 / 1977 الربـاط.
نوستالجيا تؤرخ للحضور البهيّ للكاتب العالمي الراحل محمد شكري، بمدينة الناظور التي لم يكن يزروها إلاّ لماماً، وهـو سليل المنطقة التي اُستقبل فيها استقبال الأبطال والضيوف الكبار.
وتوثّق الصورة المدرجة أعلاه، والملتقطة داخل أحد الفنادق الفخمة وسط المدينة، لحضور الراحل الشحرور الأبيض، ضمن نشاط ملتقًى ثقافي إشعاعي على ما يُعتقد يحمل إسم "إيرَارْ أُورَارْ"، حيث تمّت استضافته وسط حفاوة النخبة الأنتليجينسية بالمنطقة.
ويظهر في الصورة من اليمين إلى اليسار وقوفاً: أحمد زاهد، مرزوق الورياشي، أحمد الراخا، قاضي قدور، أحمد شيلح، "لم يتسن التأكد منه"، سعيد موساوي، محمد الشامي، رشيد راخا، الروبيو، خالد إزري، محمد شكري.
وتوثّق الصورة المدرجة أعلاه، والملتقطة داخل أحد الفنادق الفخمة وسط المدينة، لحضور الراحل الشحرور الأبيض، ضمن نشاط ملتقًى ثقافي إشعاعي على ما يُعتقد يحمل إسم "إيرَارْ أُورَارْ"، حيث تمّت استضافته وسط حفاوة النخبة الأنتليجينسية بالمنطقة.
ويظهر في الصورة من اليمين إلى اليسار وقوفاً: أحمد زاهد، مرزوق الورياشي، أحمد الراخا، قاضي قدور، أحمد شيلح، "لم يتسن التأكد منه"، سعيد موساوي، محمد الشامي، رشيد راخا، الروبيو، خالد إزري، محمد شكري.
وتوثّق الصورة التي يظهر فيها الفاعل قيس مرزوق الورياشي، إلى جانب الراحل محمد شكري، لحظة زيارته لبلدته بني شيكر، على هامش حضوره ضمن نشاط ملتقًى ثقافي إشعاعي أقامته عهدذاك جمعية "إلماس" تحت إسم "إيرَارْ أُورَارْ"، حيث تمّت استضافته وسط حفاوة عارمة.