الدكتور عبد القادر بطار
حظي العلم والعلماء بمكانة خاصة في الحضارة الإسلامية في مختلف مراحلها، وقد أفرد كثير من العلماء هذا الموضوع بالدرس والتأليف، كما فعل أبو نصر الفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" وابن حزم الأندلسي في رسالة له في مراتب العلوم وعبد الرحمن ابن خلدون في "المقدمة" الذي اعتبر العلم والتعليم طبيعيا في العمران البشري. ولكن هناك رسالة لطيفة لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474 هـ هي عبارة عن نصائح وإرشادات قيمة قدمها أبو الوليد في صيغة وصية لولديه، والذي يُهمنا من هذه الوصية ما قاله أبو الوليد في حق العلم والتعلم.
أولا: تحصيل العلم الشرعي مدخل أساس لفهم أسرار الشريعة
اعتبر أبو الوليد الباجي – رحمه الله - طلب العلم مدخلا أساسا لإقامة الأحكام الشرعية والإتيان بها على الوجه الأكمل، إذ العلم " أصل الخير، وبه يتوصل إلى البر، وبه تجنب الشبهات وتصح القربات، وهو السبب الأعظم للآخرة." (1)
وكأن أبا الوليد الباجي يشير إلى مضمون القول الفقهي المأثور: لا يجوز لأحد أن يقدم علي أمر حتى يعم حكم الله فيه. وهو مضمون قوله تعالى:" وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " [الإسراء : 36]
لقد ربط أبو الوليد بين إقامة الأحكام الشرعية وطلب العلم، فجعل العلم مقدمة للتفقه في الدين، وهو يسير على نهج السلف الصالح القويم، الذين ربطوا بين العلم والعمل من جهة، وبين الإيمان والعمل من جهة أخرى.
وهذه النظرة التعبدية للعلم الشرعي أو المزاوجة بين العلم والعمل ينظر إليها الإمام الشاطبي نظرة مقاصدية فيقرر" أن كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار آخر جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول..." ثم يشير الشاطبي بشيء من التفصيل إلى المقصد الثاني فيقول:" ولا يُنكر فضل العلم في الجملة إلا جاهل، ولكن له قصد أصلي، وقصد تابع، فالقصد الأصلي ما تقدم ذكره، وأما التابع فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفان وإن لم يكن في أصله كذلك، وأن الجاهل دنئ وإن كان في أصله شريفا..." (2)
وعن منزلة الفقه الإسلامي يقول محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي:" الفقه الإسلامي جامعة ورابطة للأمة الإسلامية، وهو حياتها تدوم ما دام وتنعدم ما انعدم، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ حياة الأمة الإسلامية في أقطار المعمور، وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة". (3)
ثانيا: فضل العلم ومنزلة أهله
يعبر أبو الوليد الباجي العلم سببا لحصول السعادة، والضامن للحياة الكريمة، والدرجة الرفيعة، سواء كان قليلا أم كثيرا، إذ حسب أبي الوليد" قليله ينفع، وكثيره يُعلي ويرفع"
ومن هذا المنطلق ينبغي أن يحرص الطالب على التعلم والاجتهاد في التحصيل والمواظبة على الطلب. العلم كما سمعنا من شيوخنا: إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.
يشير أبو الوليد الباجي أيضا إلى مكانة العالم في المجتمع، فهو أرفع حالا وأفضل منزلة، وهو المرجع في أمور الدين والدنيا، من خلال تبيين صحة العقود والتصرفات، والعلم عند أبي الوليد الباجي" ولاية لا يعزل عنها صاحبها" وجاه صاحب العلم يصحبُه حيث سار، ويتقدمه في جميع الآفاق والأقطار، ويبقى بعده في سائر الأعصار".(4)
ثالثا: ضرورة التفقه في الدين
يرى أبو الوليد الباجي أن أفضل العلوم هو علم الشريعة، وفي مقدمة ذلك الاشتغال بالقرآن الكريم وحفظ السنة النبوية الشريفة، ودراسة أصول الفقه والإلمام بكلام الفقهاء، والنظر في الأدلة وتصحيح الحجج.
هذا بالنسبة لمن أراد التوسع في المذاهب الفقهية الإسلامية، وإلا فأبو الوليد ينصح ولديه ممن قصر عن هذه المرتبة بحفظ القرآن الكريم ورواية الحديث والمسائل على مذهب الإمام مالك - رحمه الله - ويعلل الباجي هذا الاختيار بكون الإمام مالك إماما في الحديث وإماما الرأي " وليس لأحد من العلماء ممن انبسط مذهبه وكثرت في المسائل أجوبته درجة الإمامة في المعنيين، وإنما يشاركه في كثرة المسائل والكلام على معانيهما وأصولهما أبو حنيفة والشافعي، وليس لأحدهما إمامة في الحديث، ولا درجة متوسطة ..." (5)
رابعا: التحذير من مطالعة كتب المنطق والفلسفة
ينصح أبو الوليد الباجي ولديه بعدم قراءة كتب المنطق والفلسفة لأنها في رأيه مبنية على الكفر والإلحاد والبعد عن الشريعة. وتزداد خطورة قراءة هذه الكتب عند أبي الوليد إذا لم يكن القارئ ذا قدرة على رد الشبهات وبيان فساد المقالات ثم " مخافة أن يسبق إلى قلب أحد ما لا يكون عنده من العلم ما يقوى به على ره" وينتقد الباجي بشدة ممن ينتحل علم المنطق ويرغب فيقول مخاطبا ولديه:" ولم كنت أعلم أنكما تبلغان منزلة من الميز والمعرفة والقوة على النظر والمقدورة، لحضضتكما على قراءته وأمرتكما بمطالعته، لتحققا ضعفه وضعف المعتقد له، وركاكة المغتر به، وأنه من أقبح المخاريق والتمويهات ووجوه الحيل والخزعبلات التي يغتر بها مَنْ لا يعرفها ويستعظمها من لا يميزها.
ولذلك إذا حقق مَنْ يعلم عند أحد منهم وجده عاريا من العلم، بعيدا عنه، يدعي أنه يكتم علمه، وإنما يكتم جهله ...(6)
لا شك أن مهاجمة أبي الوليد الباجي لكتب المنطق والفلسفة مبنية على اختلاط هذين العلمين عند كثير من المفكرين المسلمين خصوصا في المرحلة المتقدمة التي ترجم فيها المنطق اللسان العربي.
إننا نعلم علم اليقين أن علم الكلام القديم توسل في فترة من الفترات بالمنطق الأرسطي باعتباره سلاحا صالحا للتوظيف في مجال الحجاج عن العقائد الإيمانية. دون توسع في مضمونه الذي يختلف جذريا عن مضامين العقائد الإسلامية. وقد اهتدى المتكلمون إلى أن المنطق الأرسطي وإن كان يتسم بنوع من الصرامة المنهجية فإن فائدته في مجال الاشتغال بقضايا أصول تبدو ضئيلة. وقد واجه المسلمون المنطق الأرسطي بالنقد والنقض قبل أن يتنكر له الفلاسفة الغربيون من أمثال ميل وراسل وغيرهما. وقد نتج عن نقد المتكلمين للمنطق الأرسطي التأسيس لمنطق إسلامي متميز.
وإذا كان المتكلمون قد هاجموا المنطق الأرسطي في جانبه التصوري، ورفضوا الأخذ بنظرية التحديد، فذلك لاقتناعهم الشديد باستناد هذا العلم على أسس ميتافيزقية. ويستنتج أحد المفكرين المعاصرين أن المسلمين توصلوا إلى فكرة الصلة بين أبحاث المنطق وأبحاث الميتافيزيقا، وأنكروا أن تكون غاية أي منطق عقلي هو التوصل إلى الماهية الكاملة، إن هذا يؤدي – كما يشير هذا المفكر – إلى أن البحث المنطقي يصل إلى محاولة تحديد الذات الإلهية. (7)
وقد كشفت بعض الدراسات المعاصرة عن هذا الاتجاه الذي يطبع جميع أعمال أرسطو المنطقية، ولم تعد تلك النظريات التي أسس عليها واضع المنطق منطقه نظريات علمية بريئة.(8)
وبسبب هذا الخلط بين قواعد علم المنطق والآراء الفلسفية اختار بعض الشراح المتأخرين تقسيـم النظريات المنطقيـة إلى قسمين:
القسم الأول: نظريات خالية من ضلالات الفلاسفة المكفرة كما هو صنيع بعض المتون التعليمية ( متن السلم للأخضري، وإساغوجي لأثير الدين بن عمر الأبهري ومختصر ابن عرفة …) وهذا القسم لا خلاف في جواز الاشتغال به.
القسم الثاني: نظريات لا تخلو من ضلالات، كما يظهر من تراث المناطقـة المتقدمين الذين ضمنوا مباحثه آراء فلسفية وعقدية لا تعبر عن روح التصور الإسلامي.
وهذا القسم كان موضوع خلاف بين العلماء ما بين مجوز ومحرم. وكلام أبي الوليد الباجي على هذا القسم يتنزل. (9)
وقد لاحظ ابن حزم الأندلس وهو من المعاصرين لأبي الوليد الباجي أن كتب المنطق بصفة عامة " كالدواء القوي، إن تناوله ذو الحاجة المستحكمة والطبيعة السالمة والتركيب الوثيق والمزاج الجيد انتفع به ... وإن تناوله العليل المضطرب المزاج الواهي التركيب أتى عليه، وزاده بلاء وربما أهلكه وقتله. وكذلك هذه الكتب إذا تناولها ذو العقل الذكي والفهم القوي لم يعدم أين تقلب وكيف تصرف منها نفعا جليلا وهديا منيرا وبيانا لائحا... وإن أخذها ذو العقل السخيف أبطلته، وذو الفهم الكليل بلدته وحيرته، فليتناول كل امرئ حسب طاقته."(10)
هذه بعض النصائح والدرر التي يقدمها أبو الباجي لولديه وهي نصائح قيمة يمكن أن يستفيد منها المهتمون بالنظريات التربوية المعاصرة لأنها صادرة من عالم جهبذ خبير بالمذاهب والعقائد وبطرق التعليم ومرتب العلوم.
المراجع:
(1) النصيحة الوليدية، وصية أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي لولديه، ص: 22 تحقيق إبراهيم باجس عبد المجيد، طبعة دار ابن حزم الطبعة الأولى 2000.
(2) الموافقات للشطبي بتحقيق محي الدين عبد الحميد 1/28 و32
(3) الفكر السامي في تاريخ الففه الإسلامي، الصفحة: 23 اعتنى به هيثم خليفة طعيمي، المكتبة العصرية بيروت، الطبعة الأولى 2006.
(4) النصيحة الوليدية، وصية أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي لولديه، ص: 24.
(5) المرجع السابق الصفحة 24.
(6) المرجع السابق الصفحة 26.
(7) المنطق الصوري منذ أرسطو إلى عصورنا الحاضرة، علي سامي، ص: 53،،.
(8) أنظر: الأسس الميتافيزيقية لنظريات أرسطو المنطقية، تأليف د. مدحت محمد نظيف.
(9) حاشية الباجوري على متن السلم للأخضري، ص 12./ إيضاح المبهم من معاني السلم للدمنهوري ص5.
(10) التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، لا بن حزم الأندلسي، الصفحة: 15 تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 2002.
حظي العلم والعلماء بمكانة خاصة في الحضارة الإسلامية في مختلف مراحلها، وقد أفرد كثير من العلماء هذا الموضوع بالدرس والتأليف، كما فعل أبو نصر الفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" وابن حزم الأندلسي في رسالة له في مراتب العلوم وعبد الرحمن ابن خلدون في "المقدمة" الذي اعتبر العلم والتعليم طبيعيا في العمران البشري. ولكن هناك رسالة لطيفة لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474 هـ هي عبارة عن نصائح وإرشادات قيمة قدمها أبو الوليد في صيغة وصية لولديه، والذي يُهمنا من هذه الوصية ما قاله أبو الوليد في حق العلم والتعلم.
أولا: تحصيل العلم الشرعي مدخل أساس لفهم أسرار الشريعة
اعتبر أبو الوليد الباجي – رحمه الله - طلب العلم مدخلا أساسا لإقامة الأحكام الشرعية والإتيان بها على الوجه الأكمل، إذ العلم " أصل الخير، وبه يتوصل إلى البر، وبه تجنب الشبهات وتصح القربات، وهو السبب الأعظم للآخرة." (1)
وكأن أبا الوليد الباجي يشير إلى مضمون القول الفقهي المأثور: لا يجوز لأحد أن يقدم علي أمر حتى يعم حكم الله فيه. وهو مضمون قوله تعالى:" وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " [الإسراء : 36]
لقد ربط أبو الوليد بين إقامة الأحكام الشرعية وطلب العلم، فجعل العلم مقدمة للتفقه في الدين، وهو يسير على نهج السلف الصالح القويم، الذين ربطوا بين العلم والعمل من جهة، وبين الإيمان والعمل من جهة أخرى.
وهذه النظرة التعبدية للعلم الشرعي أو المزاوجة بين العلم والعمل ينظر إليها الإمام الشاطبي نظرة مقاصدية فيقرر" أن كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار آخر جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول..." ثم يشير الشاطبي بشيء من التفصيل إلى المقصد الثاني فيقول:" ولا يُنكر فضل العلم في الجملة إلا جاهل، ولكن له قصد أصلي، وقصد تابع، فالقصد الأصلي ما تقدم ذكره، وأما التابع فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفان وإن لم يكن في أصله كذلك، وأن الجاهل دنئ وإن كان في أصله شريفا..." (2)
وعن منزلة الفقه الإسلامي يقول محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي:" الفقه الإسلامي جامعة ورابطة للأمة الإسلامية، وهو حياتها تدوم ما دام وتنعدم ما انعدم، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ حياة الأمة الإسلامية في أقطار المعمور، وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة". (3)
ثانيا: فضل العلم ومنزلة أهله
يعبر أبو الوليد الباجي العلم سببا لحصول السعادة، والضامن للحياة الكريمة، والدرجة الرفيعة، سواء كان قليلا أم كثيرا، إذ حسب أبي الوليد" قليله ينفع، وكثيره يُعلي ويرفع"
ومن هذا المنطلق ينبغي أن يحرص الطالب على التعلم والاجتهاد في التحصيل والمواظبة على الطلب. العلم كما سمعنا من شيوخنا: إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.
يشير أبو الوليد الباجي أيضا إلى مكانة العالم في المجتمع، فهو أرفع حالا وأفضل منزلة، وهو المرجع في أمور الدين والدنيا، من خلال تبيين صحة العقود والتصرفات، والعلم عند أبي الوليد الباجي" ولاية لا يعزل عنها صاحبها" وجاه صاحب العلم يصحبُه حيث سار، ويتقدمه في جميع الآفاق والأقطار، ويبقى بعده في سائر الأعصار".(4)
ثالثا: ضرورة التفقه في الدين
يرى أبو الوليد الباجي أن أفضل العلوم هو علم الشريعة، وفي مقدمة ذلك الاشتغال بالقرآن الكريم وحفظ السنة النبوية الشريفة، ودراسة أصول الفقه والإلمام بكلام الفقهاء، والنظر في الأدلة وتصحيح الحجج.
هذا بالنسبة لمن أراد التوسع في المذاهب الفقهية الإسلامية، وإلا فأبو الوليد ينصح ولديه ممن قصر عن هذه المرتبة بحفظ القرآن الكريم ورواية الحديث والمسائل على مذهب الإمام مالك - رحمه الله - ويعلل الباجي هذا الاختيار بكون الإمام مالك إماما في الحديث وإماما الرأي " وليس لأحد من العلماء ممن انبسط مذهبه وكثرت في المسائل أجوبته درجة الإمامة في المعنيين، وإنما يشاركه في كثرة المسائل والكلام على معانيهما وأصولهما أبو حنيفة والشافعي، وليس لأحدهما إمامة في الحديث، ولا درجة متوسطة ..." (5)
رابعا: التحذير من مطالعة كتب المنطق والفلسفة
ينصح أبو الوليد الباجي ولديه بعدم قراءة كتب المنطق والفلسفة لأنها في رأيه مبنية على الكفر والإلحاد والبعد عن الشريعة. وتزداد خطورة قراءة هذه الكتب عند أبي الوليد إذا لم يكن القارئ ذا قدرة على رد الشبهات وبيان فساد المقالات ثم " مخافة أن يسبق إلى قلب أحد ما لا يكون عنده من العلم ما يقوى به على ره" وينتقد الباجي بشدة ممن ينتحل علم المنطق ويرغب فيقول مخاطبا ولديه:" ولم كنت أعلم أنكما تبلغان منزلة من الميز والمعرفة والقوة على النظر والمقدورة، لحضضتكما على قراءته وأمرتكما بمطالعته، لتحققا ضعفه وضعف المعتقد له، وركاكة المغتر به، وأنه من أقبح المخاريق والتمويهات ووجوه الحيل والخزعبلات التي يغتر بها مَنْ لا يعرفها ويستعظمها من لا يميزها.
ولذلك إذا حقق مَنْ يعلم عند أحد منهم وجده عاريا من العلم، بعيدا عنه، يدعي أنه يكتم علمه، وإنما يكتم جهله ...(6)
لا شك أن مهاجمة أبي الوليد الباجي لكتب المنطق والفلسفة مبنية على اختلاط هذين العلمين عند كثير من المفكرين المسلمين خصوصا في المرحلة المتقدمة التي ترجم فيها المنطق اللسان العربي.
إننا نعلم علم اليقين أن علم الكلام القديم توسل في فترة من الفترات بالمنطق الأرسطي باعتباره سلاحا صالحا للتوظيف في مجال الحجاج عن العقائد الإيمانية. دون توسع في مضمونه الذي يختلف جذريا عن مضامين العقائد الإسلامية. وقد اهتدى المتكلمون إلى أن المنطق الأرسطي وإن كان يتسم بنوع من الصرامة المنهجية فإن فائدته في مجال الاشتغال بقضايا أصول تبدو ضئيلة. وقد واجه المسلمون المنطق الأرسطي بالنقد والنقض قبل أن يتنكر له الفلاسفة الغربيون من أمثال ميل وراسل وغيرهما. وقد نتج عن نقد المتكلمين للمنطق الأرسطي التأسيس لمنطق إسلامي متميز.
وإذا كان المتكلمون قد هاجموا المنطق الأرسطي في جانبه التصوري، ورفضوا الأخذ بنظرية التحديد، فذلك لاقتناعهم الشديد باستناد هذا العلم على أسس ميتافيزقية. ويستنتج أحد المفكرين المعاصرين أن المسلمين توصلوا إلى فكرة الصلة بين أبحاث المنطق وأبحاث الميتافيزيقا، وأنكروا أن تكون غاية أي منطق عقلي هو التوصل إلى الماهية الكاملة، إن هذا يؤدي – كما يشير هذا المفكر – إلى أن البحث المنطقي يصل إلى محاولة تحديد الذات الإلهية. (7)
وقد كشفت بعض الدراسات المعاصرة عن هذا الاتجاه الذي يطبع جميع أعمال أرسطو المنطقية، ولم تعد تلك النظريات التي أسس عليها واضع المنطق منطقه نظريات علمية بريئة.(8)
وبسبب هذا الخلط بين قواعد علم المنطق والآراء الفلسفية اختار بعض الشراح المتأخرين تقسيـم النظريات المنطقيـة إلى قسمين:
القسم الأول: نظريات خالية من ضلالات الفلاسفة المكفرة كما هو صنيع بعض المتون التعليمية ( متن السلم للأخضري، وإساغوجي لأثير الدين بن عمر الأبهري ومختصر ابن عرفة …) وهذا القسم لا خلاف في جواز الاشتغال به.
القسم الثاني: نظريات لا تخلو من ضلالات، كما يظهر من تراث المناطقـة المتقدمين الذين ضمنوا مباحثه آراء فلسفية وعقدية لا تعبر عن روح التصور الإسلامي.
وهذا القسم كان موضوع خلاف بين العلماء ما بين مجوز ومحرم. وكلام أبي الوليد الباجي على هذا القسم يتنزل. (9)
وقد لاحظ ابن حزم الأندلس وهو من المعاصرين لأبي الوليد الباجي أن كتب المنطق بصفة عامة " كالدواء القوي، إن تناوله ذو الحاجة المستحكمة والطبيعة السالمة والتركيب الوثيق والمزاج الجيد انتفع به ... وإن تناوله العليل المضطرب المزاج الواهي التركيب أتى عليه، وزاده بلاء وربما أهلكه وقتله. وكذلك هذه الكتب إذا تناولها ذو العقل الذكي والفهم القوي لم يعدم أين تقلب وكيف تصرف منها نفعا جليلا وهديا منيرا وبيانا لائحا... وإن أخذها ذو العقل السخيف أبطلته، وذو الفهم الكليل بلدته وحيرته، فليتناول كل امرئ حسب طاقته."(10)
هذه بعض النصائح والدرر التي يقدمها أبو الباجي لولديه وهي نصائح قيمة يمكن أن يستفيد منها المهتمون بالنظريات التربوية المعاصرة لأنها صادرة من عالم جهبذ خبير بالمذاهب والعقائد وبطرق التعليم ومرتب العلوم.
المراجع:
(1) النصيحة الوليدية، وصية أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي لولديه، ص: 22 تحقيق إبراهيم باجس عبد المجيد، طبعة دار ابن حزم الطبعة الأولى 2000.
(2) الموافقات للشطبي بتحقيق محي الدين عبد الحميد 1/28 و32
(3) الفكر السامي في تاريخ الففه الإسلامي، الصفحة: 23 اعتنى به هيثم خليفة طعيمي، المكتبة العصرية بيروت، الطبعة الأولى 2006.
(4) النصيحة الوليدية، وصية أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي لولديه، ص: 24.
(5) المرجع السابق الصفحة 24.
(6) المرجع السابق الصفحة 26.
(7) المنطق الصوري منذ أرسطو إلى عصورنا الحاضرة، علي سامي، ص: 53،،.
(8) أنظر: الأسس الميتافيزيقية لنظريات أرسطو المنطقية، تأليف د. مدحت محمد نظيف.
(9) حاشية الباجوري على متن السلم للأخضري، ص 12./ إيضاح المبهم من معاني السلم للدمنهوري ص5.
(10) التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، لا بن حزم الأندلسي، الصفحة: 15 تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 2002.