محمد بوتخريط .هولندا
إهداء : الى كل الآباء من الجيل الأول من المهاجرين ، إلى أولئك الذين تكبدوا مشاق الرحيل، وتجرعوا مرارة الحياة في الغربة، وفي .. العودة .
في حياتهم تشكل كل الاشياء ذاكرة وذكرى..
وكل هذه الاجيال التي كانت تحمل في قلبها مفتاح منزلها .. ستبقى في ذاكرتنا والمفتاح الذي كانوا يحتفظون به يبقى الرمز المجسد لحق العودة ستتوارثه الاجيال جيلا بعد جيل..
جيل مطالع الستينات .. ابائنا الذين لا ندري ان كانوا محظوظين أم مظلومين،عاشوا مرحلة مثقلة بطموح وهموم ألقت بثقلها على أكتافهم الطرية .. طموح وهموم أكبر من أعمارهم الفتية...مرحلة كان للغياب فيها الجزء الاكبر..
لم يكونوا معنا طول الوقت .. وكان غيابهم يبدوا لنا وكأنه أمرا عاديا..كم تعبنا من الشّوق والحنِين .. لكن تعودنا على الغياب والفراق ، صرنا لا نهتم كثيرا لغيابهم ، طبعا كنا نحبّهم وكثيرا ، لكن كنا نعتقد أن غيابهم أمرا عاديا. لم نكن حتى نبكي على غيابهم ، ربما لأننا كنا نعلم انهم سيعودون مرةً اخرى ، إن لم يكن في فصل الصيف ففي عطلة أعياد ميلاد المسيح.
مهما غابوا لم نكن نسألهم، وكأننا كنا نعلم انه لابد أن يغيبوا. وإذا 'زارونا' في العطلة لم نكن نسألهم أن كانوا سيبقون اسبوعا أو شهرا او فقط بضعة ايام ، لانهم لابد ان يغيبوا... فكأن فقدانهم لم يكن صدمة لنا.
حتى عندما كنا نتبادل زيارات الاقارب في منازلهم كنا بسرعة نعلم أن الأب فيها غائب. وكأن الأمر كان عاديا أن تخلوا البيوت من "الأب"..وأن تختفي كلمة "أبَّا" أو "بَابَا" من على شفاهنا ، لتعود اليها فقط في العُطل الصيفية..
حتى الأعياد كنا نحييها وكأننا "يتامى" !!.وحلاوة العيد تتمثل بأنه يوم مليء بالحب و باللقاءات واطفال يستيقظون على هدايا العيد .. وأب حاضر يملأ المنزل حبا وعطاء..
ورغم كل هذه المعاني الجميلة للعيد كان هنالك آلاف من آبائنا وأجدادنا ، الذين لم يذوقوا فرحته والبهجة به والسرور والهناء بمجيئه، ليس لقلة ذات اليد، أو لعوز مادي وإنما لانعدام لحظة اللقاء بالأهل والأحباب.
مئات الأعياد كانت تمرّ على آبائنا المتناثرين كالنجوم في بقاع الأرض وكأنهم اجتُثوا من أوطانهم وصاروا بلا دار، وبلا أهل، وذنبهم الوحيد أنهم لم يرضوا ان يُهانوا ولا أن يُذل ابناءهم ، فوجدوا أنفسهم أمام عقوبة جماعية تمثلت بالتهجير الإجباري، أو الطوعي… هرباً من الموت اليومي في البلد، وبحثاً عن لقمة عيش كريمة...
في البدء كان الحلم لقمة العيش فقط ، ثم تعداها الى منزلا يأويهم وعائلتهم ثم بعد ذلك العودة الى دفئ العائلة والاهل والاحباب.. لكن لم يكن شيئا من هذا او ذاك ، حتى العودة طالت ، وحين حان وقتها كانت في نعش طائرٍ او كرسي متحرك.. والمحظوظ الذي عاد واقفا على رجليه لم تدم فرحته كثيرا وكأن المرض والموت كانا ينتظرانه على عتبة البلد الذي عاد اليه ليرتاح و...يعيش!.
عاشوا عبر مرارة هذه الأيام الكثيرة المحن، على الرجاء وماتوا على الانتظار .. وكان يظاف الى الشقاء الطبيعي الذي عاشوه في غربتهم مرارة الاذلال، وهكذا قضى الاباء كل ايام حياتهم غرباء في أرض غريبة ،بل والنزيف الاكبر والجرح الغائر الذي لم يكن يندمل ،هو أن صورة الغريب والنزيل التي لازمتهم في غربتهم صارت صورة طبق الاصل للحياة وسط العائلة في العطل والاعياد...بل وحتى عند عودتهم الى البلد !!
خلاصة الحكاية..
كان غيابهم نوعا من الموت بعيدا عنا... ولما عادوا واقتربوا منا ، غابوا نهائيا ..غادروا دون رجعة..
هم آباؤنا الذين هاجروا الأمكنة مطلع الستينات..آباؤنا الذين لا ندري ان كانوا وقتها محظوظين فعلا أم كانوا مظلومين !
إهداء : الى كل الآباء من الجيل الأول من المهاجرين ، إلى أولئك الذين تكبدوا مشاق الرحيل، وتجرعوا مرارة الحياة في الغربة، وفي .. العودة .
في حياتهم تشكل كل الاشياء ذاكرة وذكرى..
وكل هذه الاجيال التي كانت تحمل في قلبها مفتاح منزلها .. ستبقى في ذاكرتنا والمفتاح الذي كانوا يحتفظون به يبقى الرمز المجسد لحق العودة ستتوارثه الاجيال جيلا بعد جيل..
جيل مطالع الستينات .. ابائنا الذين لا ندري ان كانوا محظوظين أم مظلومين،عاشوا مرحلة مثقلة بطموح وهموم ألقت بثقلها على أكتافهم الطرية .. طموح وهموم أكبر من أعمارهم الفتية...مرحلة كان للغياب فيها الجزء الاكبر..
لم يكونوا معنا طول الوقت .. وكان غيابهم يبدوا لنا وكأنه أمرا عاديا..كم تعبنا من الشّوق والحنِين .. لكن تعودنا على الغياب والفراق ، صرنا لا نهتم كثيرا لغيابهم ، طبعا كنا نحبّهم وكثيرا ، لكن كنا نعتقد أن غيابهم أمرا عاديا. لم نكن حتى نبكي على غيابهم ، ربما لأننا كنا نعلم انهم سيعودون مرةً اخرى ، إن لم يكن في فصل الصيف ففي عطلة أعياد ميلاد المسيح.
مهما غابوا لم نكن نسألهم، وكأننا كنا نعلم انه لابد أن يغيبوا. وإذا 'زارونا' في العطلة لم نكن نسألهم أن كانوا سيبقون اسبوعا أو شهرا او فقط بضعة ايام ، لانهم لابد ان يغيبوا... فكأن فقدانهم لم يكن صدمة لنا.
حتى عندما كنا نتبادل زيارات الاقارب في منازلهم كنا بسرعة نعلم أن الأب فيها غائب. وكأن الأمر كان عاديا أن تخلوا البيوت من "الأب"..وأن تختفي كلمة "أبَّا" أو "بَابَا" من على شفاهنا ، لتعود اليها فقط في العُطل الصيفية..
حتى الأعياد كنا نحييها وكأننا "يتامى" !!.وحلاوة العيد تتمثل بأنه يوم مليء بالحب و باللقاءات واطفال يستيقظون على هدايا العيد .. وأب حاضر يملأ المنزل حبا وعطاء..
ورغم كل هذه المعاني الجميلة للعيد كان هنالك آلاف من آبائنا وأجدادنا ، الذين لم يذوقوا فرحته والبهجة به والسرور والهناء بمجيئه، ليس لقلة ذات اليد، أو لعوز مادي وإنما لانعدام لحظة اللقاء بالأهل والأحباب.
مئات الأعياد كانت تمرّ على آبائنا المتناثرين كالنجوم في بقاع الأرض وكأنهم اجتُثوا من أوطانهم وصاروا بلا دار، وبلا أهل، وذنبهم الوحيد أنهم لم يرضوا ان يُهانوا ولا أن يُذل ابناءهم ، فوجدوا أنفسهم أمام عقوبة جماعية تمثلت بالتهجير الإجباري، أو الطوعي… هرباً من الموت اليومي في البلد، وبحثاً عن لقمة عيش كريمة...
في البدء كان الحلم لقمة العيش فقط ، ثم تعداها الى منزلا يأويهم وعائلتهم ثم بعد ذلك العودة الى دفئ العائلة والاهل والاحباب.. لكن لم يكن شيئا من هذا او ذاك ، حتى العودة طالت ، وحين حان وقتها كانت في نعش طائرٍ او كرسي متحرك.. والمحظوظ الذي عاد واقفا على رجليه لم تدم فرحته كثيرا وكأن المرض والموت كانا ينتظرانه على عتبة البلد الذي عاد اليه ليرتاح و...يعيش!.
عاشوا عبر مرارة هذه الأيام الكثيرة المحن، على الرجاء وماتوا على الانتظار .. وكان يظاف الى الشقاء الطبيعي الذي عاشوه في غربتهم مرارة الاذلال، وهكذا قضى الاباء كل ايام حياتهم غرباء في أرض غريبة ،بل والنزيف الاكبر والجرح الغائر الذي لم يكن يندمل ،هو أن صورة الغريب والنزيل التي لازمتهم في غربتهم صارت صورة طبق الاصل للحياة وسط العائلة في العطل والاعياد...بل وحتى عند عودتهم الى البلد !!
خلاصة الحكاية..
كان غيابهم نوعا من الموت بعيدا عنا... ولما عادوا واقتربوا منا ، غابوا نهائيا ..غادروا دون رجعة..
هم آباؤنا الذين هاجروا الأمكنة مطلع الستينات..آباؤنا الذين لا ندري ان كانوا وقتها محظوظين فعلا أم كانوا مظلومين !