"الوطن أكبر من ابني..." (والد الفقيد محسن فكري)
إلى والد الفقيد محسن فكري،
سيدي العزيز،
أتقدم منك بتهيُّب وصمت. أتمتم عبارات العزاء. وأنتظر أن تأذن لي بالكلام.
لا أعرفك ولا تعرفني. كأبٍ مكلومٍ، عرَّفتني عليك الفاجعة. وتعرفتُ عليك كمغربي حين قلتَ والحرقة تأكل من كيانك:"ابني بريء لكن الوطن أكبر من ابني". "ابني لم ينتحر أبدا. هو شاب طموح، كيف يعقل أن يتم فرمه في شاحنة الأزبال؟ لكن مصلحة الوطن أكبر من مقتل ابني محسن، لا أريد أن يكون ابني سببا في الفتنة في المغرب".
أطأطئ رأسي احتراما لك وأنتظر أن تأذن لي بالكلام.
أصدُقك القولَ أيها الأب المفجوع. لا أعلم كيف كنت سوف أتصرف لو كنت مكانك. كنتَ نبيلا متعاليا على الألم. متعاليا على الفجيعة. مغربيا تبصر أبعد مما يبصر الآخرون. تعرف بالفطرة أن الوطن شجرة وباب ونافذة نطل منها على الجيران ومائدة تجمع الجميع حول كسكس الجمعة اللاشبيه له. تعرف بالفطرة أن الوطن فضاء نكافح فيه من أجل كرامتنا والعدالة التي نستحق والكرامة المتأصلة في كل واحد منا.
وتعلم بالحدس والتجربة لا ريب أن الوطن حين ينتفي يصبح كل فرد لاجئا في جسده، منكفئا على لاجدواه، مستجديا وطنا لدى الآخرين، مسترجعا ذكرى شذا النعناع وعطر الخزامى وحنين التربة إلى الأشجار المقتلعة من الجذور... بلا بطاقة رجوع.
حين وصلتنا أخبار الفجيعة خرجنا إلى الشارع، وكان علينا أن نخرج. صرخنا من كل الأجيال وكان علينا أن نصرخ. عبرنا عن غضبنا وكان علينا أن نغضب. وحزنتَ أنت حتى أكل الحزن كبدك أو كاد. لكنك فطنت إلى الأهم والأغلى. وكنت الأنبل فينا. أمسكت بيدنا جميعا منتشيا بكل هذا التضامن المستحق وحرصت من داخل محنتك أن تنبه كل واحد منا بأن الإناء يجب ألا يندلق فيهرقُ كل شيء. حدقت في أعيننا بحزم لا يخالطه إلا الألم الممض: حزني كبير وفجيعتي لا تقدر، غضبكم مشروع والتعبير عنه طاقة إيجابية. احتجوا، تظاهروا، اغضبوا. لكن انتبهوا. إن كنتم تريدون التحليق في السماء فلا بدَّ لكم من مستقر على الأرض. لا بد لكم من وطن...
إنها، سيدي، رسالة جديدة عليها أن تصل حيث يجب أن تصل. لقد تغير المغرب والمغاربة ولم يعد أحد مستعدا لطأطأة الرأس أمام العسف. أمام "الحكرة"، لا باسم السلطة ولا باسم الدين ولا باسم الشرف ولا باسم المال ولا باسم الحظوة... منْ لم يدرك ذلك بعد، فهذا أوان الإدراك. قبل فوات الأوان. ولاَتَ زمن ندم.
عزاؤنا جميعا في محسن، سيدي، هو أن نستمر في الكفاح كل من موقعه من أجل المغرب القادر على أن يعامل بنيه سواسية ويستطيع كل فرد فيه أن يصنع مصيره دون أن ينسى الإسهام في المصير الجمعي بوعي وحرية.
أجدد لك ولوالدة محسن وإخوته وأخواته واجب العزاء.
وأستأذنك في الرحيل.
صلاح الوديع
22 أكتوبر 2016
إلى والد الفقيد محسن فكري،
سيدي العزيز،
أتقدم منك بتهيُّب وصمت. أتمتم عبارات العزاء. وأنتظر أن تأذن لي بالكلام.
لا أعرفك ولا تعرفني. كأبٍ مكلومٍ، عرَّفتني عليك الفاجعة. وتعرفتُ عليك كمغربي حين قلتَ والحرقة تأكل من كيانك:"ابني بريء لكن الوطن أكبر من ابني". "ابني لم ينتحر أبدا. هو شاب طموح، كيف يعقل أن يتم فرمه في شاحنة الأزبال؟ لكن مصلحة الوطن أكبر من مقتل ابني محسن، لا أريد أن يكون ابني سببا في الفتنة في المغرب".
أطأطئ رأسي احتراما لك وأنتظر أن تأذن لي بالكلام.
أصدُقك القولَ أيها الأب المفجوع. لا أعلم كيف كنت سوف أتصرف لو كنت مكانك. كنتَ نبيلا متعاليا على الألم. متعاليا على الفجيعة. مغربيا تبصر أبعد مما يبصر الآخرون. تعرف بالفطرة أن الوطن شجرة وباب ونافذة نطل منها على الجيران ومائدة تجمع الجميع حول كسكس الجمعة اللاشبيه له. تعرف بالفطرة أن الوطن فضاء نكافح فيه من أجل كرامتنا والعدالة التي نستحق والكرامة المتأصلة في كل واحد منا.
وتعلم بالحدس والتجربة لا ريب أن الوطن حين ينتفي يصبح كل فرد لاجئا في جسده، منكفئا على لاجدواه، مستجديا وطنا لدى الآخرين، مسترجعا ذكرى شذا النعناع وعطر الخزامى وحنين التربة إلى الأشجار المقتلعة من الجذور... بلا بطاقة رجوع.
حين وصلتنا أخبار الفجيعة خرجنا إلى الشارع، وكان علينا أن نخرج. صرخنا من كل الأجيال وكان علينا أن نصرخ. عبرنا عن غضبنا وكان علينا أن نغضب. وحزنتَ أنت حتى أكل الحزن كبدك أو كاد. لكنك فطنت إلى الأهم والأغلى. وكنت الأنبل فينا. أمسكت بيدنا جميعا منتشيا بكل هذا التضامن المستحق وحرصت من داخل محنتك أن تنبه كل واحد منا بأن الإناء يجب ألا يندلق فيهرقُ كل شيء. حدقت في أعيننا بحزم لا يخالطه إلا الألم الممض: حزني كبير وفجيعتي لا تقدر، غضبكم مشروع والتعبير عنه طاقة إيجابية. احتجوا، تظاهروا، اغضبوا. لكن انتبهوا. إن كنتم تريدون التحليق في السماء فلا بدَّ لكم من مستقر على الأرض. لا بد لكم من وطن...
إنها، سيدي، رسالة جديدة عليها أن تصل حيث يجب أن تصل. لقد تغير المغرب والمغاربة ولم يعد أحد مستعدا لطأطأة الرأس أمام العسف. أمام "الحكرة"، لا باسم السلطة ولا باسم الدين ولا باسم الشرف ولا باسم المال ولا باسم الحظوة... منْ لم يدرك ذلك بعد، فهذا أوان الإدراك. قبل فوات الأوان. ولاَتَ زمن ندم.
عزاؤنا جميعا في محسن، سيدي، هو أن نستمر في الكفاح كل من موقعه من أجل المغرب القادر على أن يعامل بنيه سواسية ويستطيع كل فرد فيه أن يصنع مصيره دون أن ينسى الإسهام في المصير الجمعي بوعي وحرية.
أجدد لك ولوالدة محسن وإخوته وأخواته واجب العزاء.
وأستأذنك في الرحيل.
صلاح الوديع
22 أكتوبر 2016