هولندا - بقلم محمد الطلحاوي
أربعة شهور وثلاثة أيام، هي المدة الزمنية التي قضاها صديقي أحمد مساوي (61 سنة) في مستشفيين بمدينة أوتريخت الهولندية -قسم العناية المركزة ضحية فيروس كورونا.. مدة زمنية بين الأمل والخوف على صديق عزيز عشت معه وبجانب عائلته هذه الفترة العصيبة من بدايتها إلى آخر يوم، حين أُعلنت وفاته، بعد نضال طويل في حياته..
الأمر لا يتعلق بشخص عادي، بل بعلَم من الأعلام المتميزة في الحقل الجمعوي السياسي والثقافي. فهو -كما يعرفه مغاربة هولندا- أحد أبناء المقاومين المغاربة ضد الاستعمار الإسباني البارزين، شاء له القدَر أن يناضل نضالا آخر مع مرض العصر، مرض كورونا، الذي أنهى حياته ومساره المميز، تاركا فراغا كبيرا بيننا، وتاركا أسرة تتكون من رفيقة دربه الأولى في نضاله (زوجته الفاضلة) وولدين شابين في مقتبل عمرهما وابنتين، إحداهما "إيمان"، التي كافحت وناضلت من أجل شفاء والدها وبقائه على قيد الحياة، المنسّقة الرئيسية بين الأسرة والمستشفى، ابنة فوق العادة.. فرضت نفسها في المستشفى، طالبة من كل دكتور وممرّضة ورجل إسعاف بإلحاح أن يضاعفوا جهودهم من أجل إنقاذ والدها من الموت.. هذا الموت الذي أخذ الآلاف من أرواح البشرية بسبب هذا الفيروس الفتّاك، الذي غيّر مجرى حياتنا هذه السنة.
أربعة شهور وثلاثة أيام، هي المدة الزمنية التي قضاها صديقي أحمد مساوي (61 سنة) في مستشفيين بمدينة أوتريخت الهولندية -قسم العناية المركزة ضحية فيروس كورونا.. مدة زمنية بين الأمل والخوف على صديق عزيز عشت معه وبجانب عائلته هذه الفترة العصيبة من بدايتها إلى آخر يوم، حين أُعلنت وفاته، بعد نضال طويل في حياته..
الأمر لا يتعلق بشخص عادي، بل بعلَم من الأعلام المتميزة في الحقل الجمعوي السياسي والثقافي. فهو -كما يعرفه مغاربة هولندا- أحد أبناء المقاومين المغاربة ضد الاستعمار الإسباني البارزين، شاء له القدَر أن يناضل نضالا آخر مع مرض العصر، مرض كورونا، الذي أنهى حياته ومساره المميز، تاركا فراغا كبيرا بيننا، وتاركا أسرة تتكون من رفيقة دربه الأولى في نضاله (زوجته الفاضلة) وولدين شابين في مقتبل عمرهما وابنتين، إحداهما "إيمان"، التي كافحت وناضلت من أجل شفاء والدها وبقائه على قيد الحياة، المنسّقة الرئيسية بين الأسرة والمستشفى، ابنة فوق العادة.. فرضت نفسها في المستشفى، طالبة من كل دكتور وممرّضة ورجل إسعاف بإلحاح أن يضاعفوا جهودهم من أجل إنقاذ والدها من الموت.. هذا الموت الذي أخذ الآلاف من أرواح البشرية بسبب هذا الفيروس الفتّاك، الذي غيّر مجرى حياتنا هذه السنة.
كانت البداية بألم بسيط في رقبته، ظن، أفراد أسرتها كلهم أنه لا يمكن أن يكون "كورونا"، رغم أنهم كانوا يقظين للغاية بسبب مرض السكّري الذي يعاني منه أحمد. وقالت إيمان: "في بداية أبريل، كنت بالفعل مرعوبة من أنه سيفهمها. وكإجراء احترازي، توقفنا عن رؤية بعضنا بعض، وظل والدي في المنزل قدر الإمكان". وكانت إيمان تتصل بوالديها كل يوم للاطلاع على آخر مستجدّات أرقام كورونا، على سبيل المثال. كانت والدتي قلقة جدا على أحمد، والدي، الذي كان في العادة حاضرا واجتماعيا للغاية، والذي تحول إلى رجل هادئ ومنعزل، لم يكن يشرب الماء ويشعر بتراخ وإصابة بنزلة برد.. زاد القلق بتدهور حالة والدي خلال عيد الفصح، فقررنا الاتصال بالإسعاف ونقله إلى المستشفى".. وتسرد إيمان تفاصل ما وقع: "ما زلت أرتجف عندما أعود لقراءة رسائل "واتساب" التي أرسلها إلي والدي في ذلك الوقت: "إيمان إنني خائف! إذا مت فادفنوني في ألمير". (مدينة تبعد عن أوتريخت بحوالي 42 كلم). لم يسبق له أن قال لي طوال حياته إنه يخاف من أي شيء، لكنْ الآن من لا شيء ينظر مباشرة في عينَي الموت".. لم تكن الأمور تسير على ما يرام مع أحمد.. تَبيّن أنه مصاب بفيروس كورونا، وسرعان ما نُقل إلى العناية المركزة. "لم أشعر بالسعادة لأننا لم يُسمح لنا بأن نكون معه في ذلك الوقت.. ولحسن الحظ، تمكنت من التحدث معه عبر الهاتف. أخبرته بألا يخاف وبأنني أحبه كثيرًا.. سألت الممرضة المشرفة عليه إن كانت ستتعهد لي برؤية والدي وهو بعدُ على قيد الحياة، فأجابت: سأصارع من أجل والدك.. وامتدّ الصراع أسابيعَ متتالية، على سريره في جناح العناية المركزة تم تحويل أحمد، الذي كان يعاني من انسداد رئوي، من التمدد على بطنه إلى وضع التمدد على ظهره.
وكلما ظنّت إيمان أن والدها لن ينجو من هذه الأزمة العصيبة ازداد الأمل في شفائه وفتحه عينيه من جديد. ولأنّ زيارة العناية المركزة كانت لا تزال محظورة على الأقارب بسبب نقص المعدّات الوقائية، فقد كانت تهمس لوالدها كل يوم عبر الهاتف: "هذه عاصفة يا أبي، ستمر وتنسحب.. سوف تستيقظ قريبا".. في النهاية، تم وضع أحمد على جهاز التنفس الاصطناعي في المستشفى الجامعي "UMC" في أوتريخت على أمل أن تتعافى رئتاه من جديد. بدأ أحمد يتعافى وتحسنت حالته بضعة أيام، لكنْ ساءت الأمور أكثر فأكثر في اليوم التالي.. "عندما بدا الأمر يسير على ما يرام، التقطت صورة سيلفي مع والدي، كنت أرغب في ذلك حقًا. لعبنا ألعابا مسلية معًا وشاهد، عبر "فايس تايم" كيف حصلت حفيدته على دبلوم السباحة. كنت أتخيل بالفعل تلك الأيام، وبشدة الفرح لشفاء والدي، أن أركب في مروحية وأحلق في السماء مع لافتة خلفها: "شكرًا "UMC"! كنا سنحتفل بشفائه بشدة وفرحة غامرة. لكنْ لسوء الحظ، مات أبي.. وقد قالت إيمان (31 سنة) الابنة الكبرى لأحمد للصحافة الهولندية "كم كان أبي وسيما، شعره الرمادي اللامع، بنيته السمراء والنحيفة، كان وسيما حقا!".. لم يكن هذا الرجل المثقف، الطيب القلب والد إيمان فقط، بل كان زوجا محبّا لدى أسرته وأصدقائه وكذا تلامذته في مدرسة "آنا فان راين" في مدينة نيوخاين بإقليم أوتريخت. كان أحمد مدرّسا فخورا ومتحمسا يعامل تلامذته كأبنائه. يريد لهم تحصيل العلم والنجاح. شخص معطاء كريم لكنه قاسٍ ومتعصبٌ في بعض الأحيان.. شخصيا، كان لي صديقا فوق العادة، يُشجّعني أنشطتي الثقافية والإعلامية أحيانا، وينتقدني تارة أخرى...
وكلما ظنّت إيمان أن والدها لن ينجو من هذه الأزمة العصيبة ازداد الأمل في شفائه وفتحه عينيه من جديد. ولأنّ زيارة العناية المركزة كانت لا تزال محظورة على الأقارب بسبب نقص المعدّات الوقائية، فقد كانت تهمس لوالدها كل يوم عبر الهاتف: "هذه عاصفة يا أبي، ستمر وتنسحب.. سوف تستيقظ قريبا".. في النهاية، تم وضع أحمد على جهاز التنفس الاصطناعي في المستشفى الجامعي "UMC" في أوتريخت على أمل أن تتعافى رئتاه من جديد. بدأ أحمد يتعافى وتحسنت حالته بضعة أيام، لكنْ ساءت الأمور أكثر فأكثر في اليوم التالي.. "عندما بدا الأمر يسير على ما يرام، التقطت صورة سيلفي مع والدي، كنت أرغب في ذلك حقًا. لعبنا ألعابا مسلية معًا وشاهد، عبر "فايس تايم" كيف حصلت حفيدته على دبلوم السباحة. كنت أتخيل بالفعل تلك الأيام، وبشدة الفرح لشفاء والدي، أن أركب في مروحية وأحلق في السماء مع لافتة خلفها: "شكرًا "UMC"! كنا سنحتفل بشفائه بشدة وفرحة غامرة. لكنْ لسوء الحظ، مات أبي.. وقد قالت إيمان (31 سنة) الابنة الكبرى لأحمد للصحافة الهولندية "كم كان أبي وسيما، شعره الرمادي اللامع، بنيته السمراء والنحيفة، كان وسيما حقا!".. لم يكن هذا الرجل المثقف، الطيب القلب والد إيمان فقط، بل كان زوجا محبّا لدى أسرته وأصدقائه وكذا تلامذته في مدرسة "آنا فان راين" في مدينة نيوخاين بإقليم أوتريخت. كان أحمد مدرّسا فخورا ومتحمسا يعامل تلامذته كأبنائه. يريد لهم تحصيل العلم والنجاح. شخص معطاء كريم لكنه قاسٍ ومتعصبٌ في بعض الأحيان.. شخصيا، كان لي صديقا فوق العادة، يُشجّعني أنشطتي الثقافية والإعلامية أحيانا، وينتقدني تارة أخرى...
يكن هذا الرجل المثقف،الطيب القلب والد إيمان فقط ،بل كان زوجا محبا لدى أسرته وأصدقائه وكذا تلاميذته في مدرسة آنا فان راين في مدينة نيوخاين بإقليم أوتريخت ، كان أحمد مدرسا فخورا ومتحمسا يعامل تلاميذته كأبناءه ،يريد لهم تحصيل العلم والنجاح ،شخص معطاء كريم لكنه قاسيا ومتعصبا في بعض الأحيان، شخصيا كان صديقا فوق العادة ،يشجعني وأنشطتي الثقافية والإعلامية أحيانا وينتقدني تارة أخرى ،ومازاد صداقتنا أن تكون متينة تقبلي لانتقاداته أحيانا ونتفادى الخصومات وسوء الفهم من خلال تكريسنا للغة الحوار البناء واحترام الرأي الآخر..
أواخر شهر يناير المنصرم دعاني المرحوم لوجبة عشاء عائلية في العاصمة أمستردام وقدم لي ولزوجتي هدايا جد جميلة وقيمة جدا والمناسبة تجديد اواصر الصداقة والعمل معا في الميدان الجمعوي الثقافي الهولندي المغربي ،دعاني لمرافقته في السفر الى المغرب لحضور عقد زواج ابنته الصغرى ومساعدته للاستعداد في تنظيم حفل زفافها ..في انتظار هذه الدعوات والمناسبات كان لي شرف التنسيق لشركة الإنتاج الكبرى لأحد الأصدقاء من المغرب المعروفين في إعداد حلقات وبرامج باللغة الأمازيغية لبرمجتها خلال شهر رمضان المنصرم ، كان المرحوم أحمد موساوي أحد ضيوف هذه الحلقات ، تم التصوير معه شهر مارس ،الشهر الذي بدأ فيه الإعلان عن انتشار وباء كوفيد19 ، تم التصوير قبالة منزله باحتياطات جد كبيرة وحسب القوانين الصحية لهذا الوباء ، كانت فرصة لأحمد لسرد حياته الشخصية ونضاله الجامعي وهجرته لأوروبا وعمله الجمعوي والمهني ( بسبب إغلاق الحدود المغربية الهولندية آنذاك ،لم تبث الحلقة / الحلقات المصورة تم تأجيلها الى الأشهر المقبلة..)
مات صديقي أحمد ولم نسافر معا الى المغرب ، مات أحمد ولم يحضر زفاف إبنته ،مات أحمد ولم ولن نشتغل معا في مشاريعنا الجمعوية الثقافية ،مات أحمد ولم ولن يرى الحوار الذي أجري معه، مات أحمد ولن يقرأ مقالي المتواضع هذا كما كان يفعل من قبل ( مشجعا ومنتقدا..) مات أحمد لكن ترك وراءه بصمة قوية كرجل ذا مواقف خاصة وشجاعة في التعبير ، أنيق المظهر ،كريم وسخي بلاحدود،شاعر الكلام ،مثقف التكوين ..ذكريات مميزة يتداولها الجميع بكل تأكيد ، ترك خلفه وكأنه كان يودعنا حوارا تلفزيا بالصوت والصورة فريدا من نوعه خاصا بحياته ( قريبا في القناة الأمازيغية من إنتاج شرك يان للإنتاج ) ، قصة مسيرة مناضل شجاع ، وطني حتى النخاع ،وبالنسبة لي كان صديقا فوق العادة.
رحمك الله صديقي العزيز أحمد وتغمدك الله بوافر رحمته ،أعلم أنك لن تقرأ حرفا مما أكتب ولكني أكتبه كي أقرأك فيه.
صديقك محمد الطلحاوي.
أواخر شهر يناير المنصرم دعاني المرحوم لوجبة عشاء عائلية في العاصمة أمستردام وقدم لي ولزوجتي هدايا جد جميلة وقيمة جدا والمناسبة تجديد اواصر الصداقة والعمل معا في الميدان الجمعوي الثقافي الهولندي المغربي ،دعاني لمرافقته في السفر الى المغرب لحضور عقد زواج ابنته الصغرى ومساعدته للاستعداد في تنظيم حفل زفافها ..في انتظار هذه الدعوات والمناسبات كان لي شرف التنسيق لشركة الإنتاج الكبرى لأحد الأصدقاء من المغرب المعروفين في إعداد حلقات وبرامج باللغة الأمازيغية لبرمجتها خلال شهر رمضان المنصرم ، كان المرحوم أحمد موساوي أحد ضيوف هذه الحلقات ، تم التصوير معه شهر مارس ،الشهر الذي بدأ فيه الإعلان عن انتشار وباء كوفيد19 ، تم التصوير قبالة منزله باحتياطات جد كبيرة وحسب القوانين الصحية لهذا الوباء ، كانت فرصة لأحمد لسرد حياته الشخصية ونضاله الجامعي وهجرته لأوروبا وعمله الجمعوي والمهني ( بسبب إغلاق الحدود المغربية الهولندية آنذاك ،لم تبث الحلقة / الحلقات المصورة تم تأجيلها الى الأشهر المقبلة..)
مات صديقي أحمد ولم نسافر معا الى المغرب ، مات أحمد ولم يحضر زفاف إبنته ،مات أحمد ولم ولن نشتغل معا في مشاريعنا الجمعوية الثقافية ،مات أحمد ولم ولن يرى الحوار الذي أجري معه، مات أحمد ولن يقرأ مقالي المتواضع هذا كما كان يفعل من قبل ( مشجعا ومنتقدا..) مات أحمد لكن ترك وراءه بصمة قوية كرجل ذا مواقف خاصة وشجاعة في التعبير ، أنيق المظهر ،كريم وسخي بلاحدود،شاعر الكلام ،مثقف التكوين ..ذكريات مميزة يتداولها الجميع بكل تأكيد ، ترك خلفه وكأنه كان يودعنا حوارا تلفزيا بالصوت والصورة فريدا من نوعه خاصا بحياته ( قريبا في القناة الأمازيغية من إنتاج شرك يان للإنتاج ) ، قصة مسيرة مناضل شجاع ، وطني حتى النخاع ،وبالنسبة لي كان صديقا فوق العادة.
رحمك الله صديقي العزيز أحمد وتغمدك الله بوافر رحمته ،أعلم أنك لن تقرأ حرفا مما أكتب ولكني أكتبه كي أقرأك فيه.
صديقك محمد الطلحاوي.