بقلم: عبد الوهاب بنعلي
" الله يجيب اللي يفهمنا ومايعطيناش " مثل شعبي آخر يختزل بين طياته معان عميقة ودلالات سحيقة قد لا يستوعبها حق استيعاب إلا من حرم ممن يفهمه حينما يكون في أمس الحاجة إليه ، ولعل هذا المثل من الأمثال القليلة التي تجعلني اقتنع بمقولة "ما خلاو الوالى ما يقولوا اتوالى " ، واشك في مصداقية البيت الشعري الذي يقول فيه المعري : "وإنِّي وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُه لآتٍ بما لم تستطعْهُ الأوائلُ ".
نعم، إن ما نفتقر إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى هو الفهم ، فلا تكاد تجد إنسانا لا يشكوا من سوء الفهم في هذا العالم الصاخب . الصغير يشكو من الكبير .. الرجل يشكو من المرأة .. المحكوم يشكو من الحاكم وهكذا ... لأننا إما لا نمتلك أدوات الإنصات أو لا نتوفر على آليات الإقناع ، أو ربما لا نمتلكهما معا ، أو لأننا لا نريد أن نفهم لكون التجاهل و اللامبالاة موضة العصر الحديث التي أضحت تورث المال و السلطة لمن لا هم له إلا إشباع الغرائز الحيوانية التي لا تحتاج إلى الفهم بقدر ما تحتاج إلى (التصنطيحة).
إنني اعتقد أن حاجتنا اليوم إلى نعمة الفهم أمس من حاجتا إلى الطعام ، فالطعام متوفر اليوم للغني و الفقير ، ومن لم يأكل المن والسلوى، أكل الخبز والشاي ،ومهما تعددت الأسماء فالطعام واحد . لكن الفهم ملكة لا يمتلكها كل الناس ، والغني السعيد من رزقه الله نعمة الفهم ، و الفقير الشقي من حرمها .
ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت بأن البعد الذي نعانيه اليوم عن سبيل الحق و الرشاد ، والزيغ الذي أخرجنا عن جادة الصواب ،و أبعدنا عن المحجة البيضاء ، والحروب الباردة والساخنة التي يتخبط فيها هذا العالم بأسره ليست سوى مظهرا من مظاهر سوء الفهم وانعدام التفاهم بين بني ادم الذين طغت عليهم المظاهر، وغرقوا في أوحال المادة التي لم تترك أمامهم مجالا لتحكيم العقل ،وتغليب الفهم السديد الذي من شأنه زرع الأمل وغرس الثقة في الشعوب التي وان اختلفت حول كيفية الوصول إلى الحق فإنها لا يمكنها أن تختلف - في جميع الأحوال - حول الحق، لان القيم النبيلة متعارف عليها كونيا كما هو متعارف على القيم الفاسدة ، والشيء المحرم دينا وقانونا يكره عرفا وعادة ، كما أن الشخص المذموم قرآنيا منبوذ اجتماعيا ، لان التدين والتخلق حاجة طبيعية تسمو روحيا بالإنسان وتنقله من دركات الحيوانية إلى درجات الإنسانية، بل إلى معارج الروحانية كما يقول أهل التصوف والتزكية.
فلماذا إذن كل الناس يقولون :"الله يجيب اللي يفهمنا وما يعطيناش " ولا احد من العقلاء يقول " "الله يجيب اللي يعطينا ومايفهمناش" ؟ ولكن، اوليس الفهم في حد ذاته عطاء ؟ ، اليس ما نعانيه اليوم من مشاكل أسرية ، وعائلية ، واجتماعية و... و ... عائدة بالأساس، إلى أزمة الفهم ؟
والله إن سبب هذه الأزمات التي تعاني منها الأمة اليوم، وسبب الويلات التي عانت منها بالأمس ناتج عن سوء الفهم ،وسوء التقدير، وسوء التدبير. ويكفي أن نطرح بهذا الصدد سؤالا وحيدا ليفهم من خلاله القارئ الكريم ما نرمي إليه بكلامنا هذا : لماذا انقسمت الأمة إلى مذاهب وفرق ، بل ولماذا انقسمت تلك المذاهب والفرق إلى سنة وشيعة ، ولماذا انقسمت السنة إلى سلفية ،و أشعرية، وماتوريدية ... والشيعة نفسها لماذا انقسمت إلى رافضة ، وامامية ، وإسماعيلية ، وزيدية ، وجعفرية ...الخ ؟! فلماذا كل هذه المذاهب و الفرق والمدارس والمناهج والتيارات والملل و النحل .. أليس ربنا واحد ، و ديننا واحد ، ونبينا واحد ، وكتابنا واحد ...؟؟
فلماذا إذن كل هذا الاختلاف ، وهذه التفرقة ؟!
الجواب : لأن عقولنا ليست واحدة ، و مداركنا ليست واحدة ، وفهمنا ليس واحدا، وكما أن أشكالنا وأحجامنا وألواننا ولغاتنا مختلفة، فكذلك عقولنا وافهامنا وآراءنا، وربما اختلاف الباطن اشد من اختلاف الظاهر لما يمكن أن يترتب عنه من نتائج غير محسوبة ، وصدق ربنا القائل في كتابه العظيم " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ". ولكن ليت هذا الاختلاف لم يصل ببعضنا إلى خلاف حاد تجاوز كل الحدود بسبب سوء الفهم الذي يكون في غالب الأحيان نتاجا لسوء الظن .
ثم لابد من أشير كذلك إلى مسألة جد مهمة ينص عليها هذا المثل الشعبي الجميل ، ولعل قائله إليها كان يرمي،هي أن الناس اختلفوا لأنهم لم يفرقوا بين الفهم والعطاء (المادي طبعا) ، وأرادوهما معا ، بل وعندما خيروا بينهما فضل الكثير منهم العطاء على الفهم ، فأضحى حقيرهم يطلب الفهم مع العطاء وهذا بعيد المنال ، ولبيبهم يسعى إلى الفهم بدون عطاء - من أي احد من البشر طبعا - وهو اقصر الطرق إلى العزة ، أما جاهلهم فهرول إلى طلب العطاء دون الفهم حتى وجد نفسه على شفا جرف هار ، وهو سبيل الذين تفرقت بهم السبل من العدميين الذين تحدثت عنهم في مقالتي السابقة (العدميون الجدد).. فالمحروم إذن من حرم نعمة الفهم .
فاللهم ارحمنا ، ولا تحرمنا ممن يفهمنا ونفهمه ،وارحم قائل :"الله يجيب اللي يفهمنا وما يعطيناش " ، وسبحانك لا فهم لنا إلا ما فهمتنا انك أنت الجواد الكريم .
Benali.pr@gmail.com
" الله يجيب اللي يفهمنا ومايعطيناش " مثل شعبي آخر يختزل بين طياته معان عميقة ودلالات سحيقة قد لا يستوعبها حق استيعاب إلا من حرم ممن يفهمه حينما يكون في أمس الحاجة إليه ، ولعل هذا المثل من الأمثال القليلة التي تجعلني اقتنع بمقولة "ما خلاو الوالى ما يقولوا اتوالى " ، واشك في مصداقية البيت الشعري الذي يقول فيه المعري : "وإنِّي وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُه لآتٍ بما لم تستطعْهُ الأوائلُ ".
نعم، إن ما نفتقر إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى هو الفهم ، فلا تكاد تجد إنسانا لا يشكوا من سوء الفهم في هذا العالم الصاخب . الصغير يشكو من الكبير .. الرجل يشكو من المرأة .. المحكوم يشكو من الحاكم وهكذا ... لأننا إما لا نمتلك أدوات الإنصات أو لا نتوفر على آليات الإقناع ، أو ربما لا نمتلكهما معا ، أو لأننا لا نريد أن نفهم لكون التجاهل و اللامبالاة موضة العصر الحديث التي أضحت تورث المال و السلطة لمن لا هم له إلا إشباع الغرائز الحيوانية التي لا تحتاج إلى الفهم بقدر ما تحتاج إلى (التصنطيحة).
إنني اعتقد أن حاجتنا اليوم إلى نعمة الفهم أمس من حاجتا إلى الطعام ، فالطعام متوفر اليوم للغني و الفقير ، ومن لم يأكل المن والسلوى، أكل الخبز والشاي ،ومهما تعددت الأسماء فالطعام واحد . لكن الفهم ملكة لا يمتلكها كل الناس ، والغني السعيد من رزقه الله نعمة الفهم ، و الفقير الشقي من حرمها .
ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت بأن البعد الذي نعانيه اليوم عن سبيل الحق و الرشاد ، والزيغ الذي أخرجنا عن جادة الصواب ،و أبعدنا عن المحجة البيضاء ، والحروب الباردة والساخنة التي يتخبط فيها هذا العالم بأسره ليست سوى مظهرا من مظاهر سوء الفهم وانعدام التفاهم بين بني ادم الذين طغت عليهم المظاهر، وغرقوا في أوحال المادة التي لم تترك أمامهم مجالا لتحكيم العقل ،وتغليب الفهم السديد الذي من شأنه زرع الأمل وغرس الثقة في الشعوب التي وان اختلفت حول كيفية الوصول إلى الحق فإنها لا يمكنها أن تختلف - في جميع الأحوال - حول الحق، لان القيم النبيلة متعارف عليها كونيا كما هو متعارف على القيم الفاسدة ، والشيء المحرم دينا وقانونا يكره عرفا وعادة ، كما أن الشخص المذموم قرآنيا منبوذ اجتماعيا ، لان التدين والتخلق حاجة طبيعية تسمو روحيا بالإنسان وتنقله من دركات الحيوانية إلى درجات الإنسانية، بل إلى معارج الروحانية كما يقول أهل التصوف والتزكية.
فلماذا إذن كل الناس يقولون :"الله يجيب اللي يفهمنا وما يعطيناش " ولا احد من العقلاء يقول " "الله يجيب اللي يعطينا ومايفهمناش" ؟ ولكن، اوليس الفهم في حد ذاته عطاء ؟ ، اليس ما نعانيه اليوم من مشاكل أسرية ، وعائلية ، واجتماعية و... و ... عائدة بالأساس، إلى أزمة الفهم ؟
والله إن سبب هذه الأزمات التي تعاني منها الأمة اليوم، وسبب الويلات التي عانت منها بالأمس ناتج عن سوء الفهم ،وسوء التقدير، وسوء التدبير. ويكفي أن نطرح بهذا الصدد سؤالا وحيدا ليفهم من خلاله القارئ الكريم ما نرمي إليه بكلامنا هذا : لماذا انقسمت الأمة إلى مذاهب وفرق ، بل ولماذا انقسمت تلك المذاهب والفرق إلى سنة وشيعة ، ولماذا انقسمت السنة إلى سلفية ،و أشعرية، وماتوريدية ... والشيعة نفسها لماذا انقسمت إلى رافضة ، وامامية ، وإسماعيلية ، وزيدية ، وجعفرية ...الخ ؟! فلماذا كل هذه المذاهب و الفرق والمدارس والمناهج والتيارات والملل و النحل .. أليس ربنا واحد ، و ديننا واحد ، ونبينا واحد ، وكتابنا واحد ...؟؟
فلماذا إذن كل هذا الاختلاف ، وهذه التفرقة ؟!
الجواب : لأن عقولنا ليست واحدة ، و مداركنا ليست واحدة ، وفهمنا ليس واحدا، وكما أن أشكالنا وأحجامنا وألواننا ولغاتنا مختلفة، فكذلك عقولنا وافهامنا وآراءنا، وربما اختلاف الباطن اشد من اختلاف الظاهر لما يمكن أن يترتب عنه من نتائج غير محسوبة ، وصدق ربنا القائل في كتابه العظيم " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ". ولكن ليت هذا الاختلاف لم يصل ببعضنا إلى خلاف حاد تجاوز كل الحدود بسبب سوء الفهم الذي يكون في غالب الأحيان نتاجا لسوء الظن .
ثم لابد من أشير كذلك إلى مسألة جد مهمة ينص عليها هذا المثل الشعبي الجميل ، ولعل قائله إليها كان يرمي،هي أن الناس اختلفوا لأنهم لم يفرقوا بين الفهم والعطاء (المادي طبعا) ، وأرادوهما معا ، بل وعندما خيروا بينهما فضل الكثير منهم العطاء على الفهم ، فأضحى حقيرهم يطلب الفهم مع العطاء وهذا بعيد المنال ، ولبيبهم يسعى إلى الفهم بدون عطاء - من أي احد من البشر طبعا - وهو اقصر الطرق إلى العزة ، أما جاهلهم فهرول إلى طلب العطاء دون الفهم حتى وجد نفسه على شفا جرف هار ، وهو سبيل الذين تفرقت بهم السبل من العدميين الذين تحدثت عنهم في مقالتي السابقة (العدميون الجدد).. فالمحروم إذن من حرم نعمة الفهم .
فاللهم ارحمنا ، ولا تحرمنا ممن يفهمنا ونفهمه ،وارحم قائل :"الله يجيب اللي يفهمنا وما يعطيناش " ، وسبحانك لا فهم لنا إلا ما فهمتنا انك أنت الجواد الكريم .
Benali.pr@gmail.com