منير أبو المعالي*
عام كامل مر الآن على حراك تماسينت الذي بدأ بقضية لا تختلف كثيرا عن الكيفية التي تحول بها مصرع محسن فكري إلى حراك في الريف كله، فقد شكل مصرع سيدة حامل بسبب إهمال، أساسا لإطلاق أطول سلسلة مظاهرات وأكثرها ابتكارا وحدة وجدلا في مجتمع محلي ألف الاحتجاج.
يطور الناشطون المحليون في بلدة تامسينت أسلوبا مختلفا بشكل تام عما هو مألوف في حراك الريف، فالمظاهرات في هذه البلدة الواقعة على مبعدة 40 كيلومتر تقريبا جنوب مدينة الحسيمة، بدأت قبل مصرع بائع السمك محسن فكري بشهور عدة، ثم زاد زخمها مع توسع الحراك بعده، وهي مستمرة حتى الآن. في المحصلة الأخيرة، فإن النتائج المحققة كانت كبيرة، فيما كانت الخسائر صفرا، وهذا استثناء في منطقة تحصي خسائرها بشكل يومي.
قبل حراك الريف.. كانت تماسينت
في شهر رمضان الفائت، أيقظ حادث وفاة سيدة حامل في البلدة بسبب تلكؤ رئيس جماعتها الذي ينتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة، في توفير سيارة للإسعاف تنقلها إلى مستشفى قريب، سلسلة مظاهرات عارمة. وما كان يبدو مطلب صغير بالاقتصاص من رئيس جماعة لم يقم بعمله بشكل مناسب، تحول إلى مطالب واسعة. فهذه البلدة الصغيرة التي يقطنها حوالي 3 آلاف شخص، تعرضت لتهميش كبير طيلة سنوات، وتعاني أكثر من عدم وجود أي فرص للعمل أو بنيات تحتية.
محمد العتابي، واحد من القادة المحليين لتلك الاحتجاجات، وما زال كذلك حتى الآن دون أن يصيبه أي مكروه. يقف وسط حلقة من الناس في ساعة متأخرة من ليلة الجمعة، كي يقدم توضيحا لمسار المظاهرات. يسمونها هنا بـ”الشكل التوضيحي”، وهو تقليد جامعي أرساه طلبة جامعيون مأخوذون بالتيار القاعدي لتأطير الاحتجاجات في مكان يخلو من وجود أي مقار لأحزاب أو جمعيات. في ذلك اليوم، كان حوالي 300 شخص قد نفذوا مظاهرة عبارة عن مسيرة كانت تنوي الوصول إلى بلدة إيمزورن لدعم المحتجين هناك الذين يجدون صعوبة في العثور على موطئ قدم ثابت، لكن السلطات طوقت جميع المنافذ المؤدية إلى وجهتهم المقررة. “نقطع 10 كيلومترات على الأقدام، ثم نصطدم بوجود حاجز للدرك الحربي والقوات المساعدة يمنعنا من التقدم أكثر”، كما يقول العتابي، ثم يضيف: “إننا لا نتعب أبدا، ونستغرق أكثر من ساعة من الوقت تحت قيظ الشمس، ونحن نسير غير مبالين سوى بالوصول إلى هدفنا. وعندما تحاصرنا القوات العمومية، نميل إلى التهدئة، والاعتصام في المكان الذي حددوه لوقف مسيرنا”. وعادة يشارك الأطفال أيضا في هذه المسيرات.
كان العتابي يعمل كسائق سيارة أجرة، وهو شاب متعلم ويقطن في بيت عائلته. لكن منذ شهور لم يقد أي سيارة. “لقد وضعت جهدي كله في خدمة حراك تامسينت.. علي أن أخصص له وقتي بالكامل”. وبالفعل، فإن أشكال المظاهرات لم تتوقف في تامسينت منذ عام ولو ليوم واحد، ويجد الناشطون البارزون أنفسهم مضطرين على التخلي عن بعض أولوياتهم التي حددوها لحياتهم قبل الحراك. نوفل ولاد حدو، مثلا، وهو واحد من قادة هذا الحراك، كان يدرس في عامه الثالث بكلية الحقوق في وجدة، لكنه قرر أن يتفرغ في عامه الأخير لحراك بلدته، مؤجلا بذلك حصوله على شهادة الإجازة إلى عام آخر. جواد حديدوش فعل الأمر نفسه، فقد كان يدرس في عامه الثاني في سلك الماستر بكلية الحقوق بوجدة أيضا، بيد أنه سيضيع فرصته هذا العام في الحصول على شهادته العليا بسبب الحراك. “علي أن أحضر رسالة نيل شهادة الماستر قبل منصف شهر يوليوز، وحتى الآن لم أكتب شيئا، وأعتقد أن المهمة ستكون مستحيلة لتحرير رسالة في الوقت المحدد لتسليمها”. يشعر حديدوش بالقلق مما قد يواجهه بسبب هذا، فربما تحرمه كليته من نيل شهادة الماستر بشكل نهائي، إن لم يرتب أموره ويحصل على تمديد حتى شهر أكتوبر المقبل: “إذا أرادوا الوقوف بيني وبين نيل شهادة الماستر، فإني سأنقل إليهم وصفة حراك تامسنيت إلى عقر دارهم”، يقول مازحا. وقد تلقى نوفل وجواد في الأسبوع الفائت، استدعاءات من لدن الدرك الملكي، لكنهما لم يتعرضا لأي تهديد كما قالا لنا، واستمرا في التظاهر دون اكتراث.
لكن على ما يبدو، فإن هؤلاء الناشطين الذين يشكلون القيادة المعلنة والمستمرة لحراك تامسنيت يقبلون بهذه الكلفة، لاسيما أنهم يرون أن مجهوداتهم لا تضيع سدى. في البلدة، كانت هناك أشغال جارية لتهيئة الشوارع جميعا، ومشاريع لحماية الأحياء الموجودة فوق وادي هناك من الفيضانات. وهذه لوحدها تشكل الملامح الأولى للمشاريع التي تعهد بإطلاقها والي جهة الشمال محمد اليعقوبي عندما أجرى حوارا رسميا بينه وبين الناشطين قبل شهر ونصف. “هذه أشياء جيدة حققها الحراك لصالح البلدة”، كما يقول العتابي. وقليلون من كانوا يتوقعون أن تفضي مظاهرات بسبب وفاة سيدة حامل إلى تغيير جذري لواقع بلدتهم، لكنه يكاد المشهد المألوف لما حدث في غالب مناطق إقليم الحسيمة بعد مقتل محسن فكري. “لقد كان لدينا حراكنا الخاص بنا على كل حال، لكن ما سيصبح لاحقا حراكا في الريف كله، دفع كل الطموحات ومعها التوقعات، إلى السرعة القصوى”، وفق ما يؤكد ولاد حدو. ثم أضاف بتشديد: “كان حراك الريف بمثابة الدفعة المناسبة لكل ما كنا بصدد بناءه في تامسينت، ومع ذلك، فقد كنا نشكل شيئا ذي خصوصية مميزة في هذا الحراك، وهو شيء لم يستطع أحد أن يسلبنا منه حتى الآن”.
قف. لدينا حراك خاص
ويمثل تمسك الناشطين بخصوصية حراكهم مشكلة بالنسبة لقادة حراك الريف على الدوام، وقد حاول ناصر الزفزافي نفسه أن يدفع تامسينت إلى الانصهار في الإطار الذي صممه للحراك، لكنه قوبل بمقاومة شديدة من لدن الناشطين في هذه البلدة. وفي بعض الحالات، كان ناشطو تامسينت يظهرون للقادة المتركزين في الحسيمة وكأنهم أشخاص يبالغون في تقدير أنفسهم وقوتهم، ولذلك كانوا يحاولون تحجيم هذه الشخصية المنفلتة من العقال. “في إحدى المرات، كنا نعد لمشروع تأسيس شكل تنظيمي يجمع بين التنسيقيات المحلية لمناطق الريف، وكنا قد أعددنا كل الخطط والأوراق لتحقيق ذلك، وكنا قد دعونا ناصر إلى بذل جهده ليرى النور ما كنا بصدد التخطيط له، لكنه بدلا عن دعم هذه الجهود، ذهب إلى بلدة أخرى، وحاول بناء تنسيق آخر من دوننا”، كما يعلق العتابي. وفي مرة ثانية، قدمت جماعة من قيادة الحراك بالحسيمة إلى تامسينت حيث كان الناشطون المحليون ينفذون مظاهرة، وحاولت هذه الجماعة رفع تلك الأعلام التي تقدم باعتبارها تعكس ميولا إلى الجمهورية التي أسسها محمد عبد الكريم الخطابي، بيد أن المتظاهرين في تامسينت منعوهم من فعل ذلك: “لقد كنا واضحين معهم إزاء هذا الأمر، فقد قررنا نحن في جمع عام موسع ألا ترفع أي أعلام كيفما كانت، فهذه هي طريقتنا التي نراها مناسبة لتعزيز روح حراكنا، لكن يبدو أن ناصر ورفاقه غضبوا منا بسبب ذلك”، كما يشرح العتابي. وبالرغم من هذه المواجهات التي بقيت حبيسة تعليقات هامشية، فإن العتابي والناشطين المحليين في تامسينت جعلوا منذ 28 ماي الفائت، من مطلب الإفراج عن معتقلي حراك الريف مثل ناصر، أولوية بالنسبة إليهم، حتى وإن لم يكن لحراك هذه البلدة أي معتقلين بتاتا. إننا متحدون حول المبدأ الرئيسي لحراك الريف، لكن على كل منطقة أن تقلق بخصوص الطريقة التي يتعين أن تحافظ بواسطتها على الاستمرارية والفعالية”، يضيف العتابي.
ومن الواضح أن تشبث الناشطين في تامسينت بطريقة خاصة في إدارة الحراك المحلي لا يتزحزح وإن بلغت إليهم بعض شكوك النشطاء الآخرين، فهم يشعرون بأنهم نجحوا في حماية الناس وبلدتهم والمتظاهرين والناشطين أيضا من أي عواقب مثلما تعرضت إليها باقي المناطق. “إننا منذ عام الآن نحن نقود مظاهرات يومية، لكن لم يحدث أن وقعت مواجهات بيننا وبين السلطات، أو أن أوقف ناشط منا من لدن الدرك الملكي”، قالها أولاد حدو باعتزاز، ثم أردف موضحا: “هذه ليست نقيصة، بل هي دليل على صواب طريقتنا في إدارة الحراك المحلي”. وفي الواقع، وعلى عكس باقي المراكز التي لا تهدأ فيها المواجهات والتوقيفات مثل إيمزورن وبوكيدارن وفي مرات حتى بلدة بني بوعياش، فإن المتظاهرين في تامسينت لا يواجهون العصا الغليظة للسلطات، وإن كانت تحاصرهم باستمرار، وهم وحيدين في الريف تقريبا ممن يستطيعون الكشف عن وجوههم ومسؤولياتهم في قيادة الحراك، وأن يلقوا خطبا في التجمعات دون الشعور بأي خوف من الملاحقة، فيما لم يعد بمقدور الناشطين البارزين في أي مكان آخر أن يظهروا كقياديين لأن ذلك سيقود الشرطة مباشرة إليهم. “هذه وصفة ناجحة للحراك بالنسبة إلينا، حيث لا يرفع علم يمكن أن يثير تأويلات غير سليمة، وحيث لا نتهور في مواجهة السلطات من دون سبب معقول.. وبالطبع لا يمكن تغيير الطريقة التي تكون ناجحة”، وفقا إلى تحليل العتابي.
بين التسامح والشدة هناك مناروة !
وليس وكأن تسامح السلطات مع المتظاهرين في تامسينت علامة على وجود ضعف في الطريقة التي يكافح بواسطتها هؤلاء لتحقيق مطالبهم، بل بخلاف ذلك، فإن هذه البلدة قدمت طرقا مبتكرة ولم تكن معهودة في مواجهة السلطات، وفي كثير من المرات، كان يراها قادة حراك الريف في الحسيمة كأعمال لا تنطوي على تقدير سليم للعواقب كما قال لنا الناشطون هناك. في إحدى المرات، قرر المتظاهرون حجز سيارة رئيس جماعة تامسينت وهي من نوع فولفاكن تيغوان، رباعية الدفع ومن الموديل الأحدث، وقد فعلوها، وغطيت بشكل تام، ووضع حراس عليها من المتظاهرين ليلا ونهارا، وقد بقيت على هذه الحال حوالي ثلاثة شهور، قبل أن يتفق الناشطون مع الوالي على ترحيلها إلى مرآب مقر ولايته في الحسيمة، ومنع رئيس الجماعة من استخدامها بشكل نهائي. وفي طريقة تنطوي على تحد أكثر، نجح المتظاهرون في منع رئيس جماعتهم من ولوج مقرها لفترة طويلة، بل وحتى رئيس الدائرة، وهو رجل سلطة محلية، تعرض للمنع نفسه. ثم لاحقا، بنى المتظاهرون معتصما من الخشب والبلاستيك في بوابة مقر الجماعة، ومكثوا داخله لحوالي ثلاثين يوما حتى أحرزا تقدما في المفاوضات مع الوالي نفسه. ومثل هذه الطرق وغيرها، مكنت المحتجين في عام 2009 من تحقيق كافة مطالبهم بعد خمس سنوات من الاحتجاجات والمواجهات بينهم وبين السلطات عقب زلزال عام 2004، وكانت تامسينت البلدة الوحيدة التي قامت السلطات بنفسها بتشييد الدور للمتضررين وليس فقط منحهم مبلغا من المال وبعض الاسمنت وقضبان الحديد كما فعلت مع باقي مناطق الريف آنذاك، وتلك كانت التسوية التي أغلقت بها الدولة آخر مشكلة في إدارة ملف المساعدات المرتبطة بالزلزال.
وإذا كانت تبدو الطرق المذكورة آنفا غير معتادة في مسلك الاحتجاج، فإن الناشطين المحليين اخترعوا وطبقوا بنجاح ما بات ظاهرة في الريف، وهي المسيرات الطويلة على الأقدام من بلدتهم إلى المدن المحيطة بهم. فقد كانوا ينفذون باستمرار مسيرات كهذه إلى بلدة أجدير المحاذية لمدينة الحسيمة، بينما لم يكن يمنعهم شيء من التقدم كل مرة إلى بلدة إيمزورن التي تبعد عنهم بحوالي 16 كيلومتر. وكما يتذكر العتابي، فإن هذه العمليات “كانت خاصية لمتظاهري تامسينت لوحدهم، فهم الوحيدون الذين كان بمقدورهم تنفيذ هذه المسيرات.. سمه عنادا أو شجاعة، لكنه كان عملا شاقا ومذهلا كذلك”. وبالفعل، كانت السلطات لا تتسامح مع أي مسيرة ينوي تنفيذها متظاهرون من إيمزورن مثلا نحو الحسيمة، وكان المشكلة هذه تُعالج بأن يقود متظاهرو تماسينت مسيرة من بلدتهم، وأن يقطعوا الكيلومترات بلدة تلو الأخرى لينضم إليهم المحتجون الموجودون هناك، ثم ينطلقون إلى الحسيمة. وبحسب العتابي، فإن مسيرة قادوها إلى بلدة أجدير، وصلت وحققت مرادها، لكن بدل العودة بشكل طبيعي، قررنا أن نفرض على السلطات العثور على وسائل نقل جماعي كي تعيدنا إلى تامسينت، وهددنا بالاعتصام في أجدير تلك الليلة، فأسرعت السلطات المحلية هناك إلى استقدام حافلات وعربات النقل المدرسي على حسابهم لأنهم لم يكونوا يرغبون في أن يحل الصبح ونكون في أجدير”.
ووصلت مشاعر الاعتداد بالنفس عند الناشطين المحليين إلى درجة التخطيط لمسيرات إلى الحسيمة نفسها، وقد نفذوها كذلك. “كان يطبق حصار على المظاهرات في الحسيمة في بعض المرات، حيث كان يمنع الاحتجاج، وكنا نحن من نفك ذلك الحصار بمسيرة تبدأ من تماسينت وتتوسع في إمزورن ثم أجدير قبل أن تصل إلى الحسيمة.. تلك مشاهد لا يمكن إنكارها في تاريخ حراك الريف”. كما يعلق احديدوش بافتخار. لكن السلطات ستتوقف عن منح متظاهري تماسينت هذا الامتياز بعد أحداث 28 ماي، وستقطع عليهم الطريق كل مرة يخططون فيها لمسيرة إلى بلدة مجاورة. ومنذ ذلك اليوم، نفذ المتظاهرون في هذه البلدة ثلاث مسيرات لكنها لن تصل إلى هدفها. وقد حضرنا للمسيرة الثالثة يوم الجمعة، وظهر أن قيادة الحراك المحلي تستفيد من دروسها وإن لم تستسلم للإجراءات المتخذة من لدن السلطات. في ذلك اليوم الحار، أخبرنا العتابي أن قوات الدرك تحاصر بلدة إيمزورن من جهتين، عبر الطريق المؤدية إلى بلدة بني عبد الله، وعبر الطريق المؤدية إلى إيمزورن، وهم قد أعلنوا عن مسيرة لكنهم لم يحددوا وجهتها كي يشتتوا جهد القوات العمومية. قال لي: “إننا لن نسير كثيرا، بل سنناور فقط كي نتعب السلطات.. سترى كيف ستصاب القوات العمومية بالدوخة”. وبالفعل، فإن المحتجين الذين بدا أنهم في طريقهم إلى إيمزورن سرعان ما سيغيرون مسارهم نحو طريق فرعي يقود إلى بني بوعياش حيث لم تكن هناك قوات تراقبه. وقد اضطرت السلطات إلى نقل حشد من قوات الدرك الحربي والقوات المساعدة، وتقدمت في الطريق نفسه حيث يوجد المتظاهرون كي تعترض طريقهم لاحقا. وما فعله المحتجون هو أن عادوا أدراجهم إلى الطريق المؤدية نحو إيمزورن كي يرهقوا تلك القوات في ملاحقتهم في ذلك الحر، ثم بعد سير لنحو كيلومتر، توقفوا وعادوا إلى وسط البلدة. “إن قوتنا هي هذه؛ فنحن نستمر في التظاهر رغم كل شيء، دون أن نخسر الكثير. وبهذه الطريقة سنضمن مستقبلا أفضل لهذه البلدة
*اليوم24
عام كامل مر الآن على حراك تماسينت الذي بدأ بقضية لا تختلف كثيرا عن الكيفية التي تحول بها مصرع محسن فكري إلى حراك في الريف كله، فقد شكل مصرع سيدة حامل بسبب إهمال، أساسا لإطلاق أطول سلسلة مظاهرات وأكثرها ابتكارا وحدة وجدلا في مجتمع محلي ألف الاحتجاج.
يطور الناشطون المحليون في بلدة تامسينت أسلوبا مختلفا بشكل تام عما هو مألوف في حراك الريف، فالمظاهرات في هذه البلدة الواقعة على مبعدة 40 كيلومتر تقريبا جنوب مدينة الحسيمة، بدأت قبل مصرع بائع السمك محسن فكري بشهور عدة، ثم زاد زخمها مع توسع الحراك بعده، وهي مستمرة حتى الآن. في المحصلة الأخيرة، فإن النتائج المحققة كانت كبيرة، فيما كانت الخسائر صفرا، وهذا استثناء في منطقة تحصي خسائرها بشكل يومي.
قبل حراك الريف.. كانت تماسينت
في شهر رمضان الفائت، أيقظ حادث وفاة سيدة حامل في البلدة بسبب تلكؤ رئيس جماعتها الذي ينتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة، في توفير سيارة للإسعاف تنقلها إلى مستشفى قريب، سلسلة مظاهرات عارمة. وما كان يبدو مطلب صغير بالاقتصاص من رئيس جماعة لم يقم بعمله بشكل مناسب، تحول إلى مطالب واسعة. فهذه البلدة الصغيرة التي يقطنها حوالي 3 آلاف شخص، تعرضت لتهميش كبير طيلة سنوات، وتعاني أكثر من عدم وجود أي فرص للعمل أو بنيات تحتية.
محمد العتابي، واحد من القادة المحليين لتلك الاحتجاجات، وما زال كذلك حتى الآن دون أن يصيبه أي مكروه. يقف وسط حلقة من الناس في ساعة متأخرة من ليلة الجمعة، كي يقدم توضيحا لمسار المظاهرات. يسمونها هنا بـ”الشكل التوضيحي”، وهو تقليد جامعي أرساه طلبة جامعيون مأخوذون بالتيار القاعدي لتأطير الاحتجاجات في مكان يخلو من وجود أي مقار لأحزاب أو جمعيات. في ذلك اليوم، كان حوالي 300 شخص قد نفذوا مظاهرة عبارة عن مسيرة كانت تنوي الوصول إلى بلدة إيمزورن لدعم المحتجين هناك الذين يجدون صعوبة في العثور على موطئ قدم ثابت، لكن السلطات طوقت جميع المنافذ المؤدية إلى وجهتهم المقررة. “نقطع 10 كيلومترات على الأقدام، ثم نصطدم بوجود حاجز للدرك الحربي والقوات المساعدة يمنعنا من التقدم أكثر”، كما يقول العتابي، ثم يضيف: “إننا لا نتعب أبدا، ونستغرق أكثر من ساعة من الوقت تحت قيظ الشمس، ونحن نسير غير مبالين سوى بالوصول إلى هدفنا. وعندما تحاصرنا القوات العمومية، نميل إلى التهدئة، والاعتصام في المكان الذي حددوه لوقف مسيرنا”. وعادة يشارك الأطفال أيضا في هذه المسيرات.
كان العتابي يعمل كسائق سيارة أجرة، وهو شاب متعلم ويقطن في بيت عائلته. لكن منذ شهور لم يقد أي سيارة. “لقد وضعت جهدي كله في خدمة حراك تامسينت.. علي أن أخصص له وقتي بالكامل”. وبالفعل، فإن أشكال المظاهرات لم تتوقف في تامسينت منذ عام ولو ليوم واحد، ويجد الناشطون البارزون أنفسهم مضطرين على التخلي عن بعض أولوياتهم التي حددوها لحياتهم قبل الحراك. نوفل ولاد حدو، مثلا، وهو واحد من قادة هذا الحراك، كان يدرس في عامه الثالث بكلية الحقوق في وجدة، لكنه قرر أن يتفرغ في عامه الأخير لحراك بلدته، مؤجلا بذلك حصوله على شهادة الإجازة إلى عام آخر. جواد حديدوش فعل الأمر نفسه، فقد كان يدرس في عامه الثاني في سلك الماستر بكلية الحقوق بوجدة أيضا، بيد أنه سيضيع فرصته هذا العام في الحصول على شهادته العليا بسبب الحراك. “علي أن أحضر رسالة نيل شهادة الماستر قبل منصف شهر يوليوز، وحتى الآن لم أكتب شيئا، وأعتقد أن المهمة ستكون مستحيلة لتحرير رسالة في الوقت المحدد لتسليمها”. يشعر حديدوش بالقلق مما قد يواجهه بسبب هذا، فربما تحرمه كليته من نيل شهادة الماستر بشكل نهائي، إن لم يرتب أموره ويحصل على تمديد حتى شهر أكتوبر المقبل: “إذا أرادوا الوقوف بيني وبين نيل شهادة الماستر، فإني سأنقل إليهم وصفة حراك تامسنيت إلى عقر دارهم”، يقول مازحا. وقد تلقى نوفل وجواد في الأسبوع الفائت، استدعاءات من لدن الدرك الملكي، لكنهما لم يتعرضا لأي تهديد كما قالا لنا، واستمرا في التظاهر دون اكتراث.
لكن على ما يبدو، فإن هؤلاء الناشطين الذين يشكلون القيادة المعلنة والمستمرة لحراك تامسنيت يقبلون بهذه الكلفة، لاسيما أنهم يرون أن مجهوداتهم لا تضيع سدى. في البلدة، كانت هناك أشغال جارية لتهيئة الشوارع جميعا، ومشاريع لحماية الأحياء الموجودة فوق وادي هناك من الفيضانات. وهذه لوحدها تشكل الملامح الأولى للمشاريع التي تعهد بإطلاقها والي جهة الشمال محمد اليعقوبي عندما أجرى حوارا رسميا بينه وبين الناشطين قبل شهر ونصف. “هذه أشياء جيدة حققها الحراك لصالح البلدة”، كما يقول العتابي. وقليلون من كانوا يتوقعون أن تفضي مظاهرات بسبب وفاة سيدة حامل إلى تغيير جذري لواقع بلدتهم، لكنه يكاد المشهد المألوف لما حدث في غالب مناطق إقليم الحسيمة بعد مقتل محسن فكري. “لقد كان لدينا حراكنا الخاص بنا على كل حال، لكن ما سيصبح لاحقا حراكا في الريف كله، دفع كل الطموحات ومعها التوقعات، إلى السرعة القصوى”، وفق ما يؤكد ولاد حدو. ثم أضاف بتشديد: “كان حراك الريف بمثابة الدفعة المناسبة لكل ما كنا بصدد بناءه في تامسينت، ومع ذلك، فقد كنا نشكل شيئا ذي خصوصية مميزة في هذا الحراك، وهو شيء لم يستطع أحد أن يسلبنا منه حتى الآن”.
قف. لدينا حراك خاص
ويمثل تمسك الناشطين بخصوصية حراكهم مشكلة بالنسبة لقادة حراك الريف على الدوام، وقد حاول ناصر الزفزافي نفسه أن يدفع تامسينت إلى الانصهار في الإطار الذي صممه للحراك، لكنه قوبل بمقاومة شديدة من لدن الناشطين في هذه البلدة. وفي بعض الحالات، كان ناشطو تامسينت يظهرون للقادة المتركزين في الحسيمة وكأنهم أشخاص يبالغون في تقدير أنفسهم وقوتهم، ولذلك كانوا يحاولون تحجيم هذه الشخصية المنفلتة من العقال. “في إحدى المرات، كنا نعد لمشروع تأسيس شكل تنظيمي يجمع بين التنسيقيات المحلية لمناطق الريف، وكنا قد أعددنا كل الخطط والأوراق لتحقيق ذلك، وكنا قد دعونا ناصر إلى بذل جهده ليرى النور ما كنا بصدد التخطيط له، لكنه بدلا عن دعم هذه الجهود، ذهب إلى بلدة أخرى، وحاول بناء تنسيق آخر من دوننا”، كما يعلق العتابي. وفي مرة ثانية، قدمت جماعة من قيادة الحراك بالحسيمة إلى تامسينت حيث كان الناشطون المحليون ينفذون مظاهرة، وحاولت هذه الجماعة رفع تلك الأعلام التي تقدم باعتبارها تعكس ميولا إلى الجمهورية التي أسسها محمد عبد الكريم الخطابي، بيد أن المتظاهرين في تامسينت منعوهم من فعل ذلك: “لقد كنا واضحين معهم إزاء هذا الأمر، فقد قررنا نحن في جمع عام موسع ألا ترفع أي أعلام كيفما كانت، فهذه هي طريقتنا التي نراها مناسبة لتعزيز روح حراكنا، لكن يبدو أن ناصر ورفاقه غضبوا منا بسبب ذلك”، كما يشرح العتابي. وبالرغم من هذه المواجهات التي بقيت حبيسة تعليقات هامشية، فإن العتابي والناشطين المحليين في تامسينت جعلوا منذ 28 ماي الفائت، من مطلب الإفراج عن معتقلي حراك الريف مثل ناصر، أولوية بالنسبة إليهم، حتى وإن لم يكن لحراك هذه البلدة أي معتقلين بتاتا. إننا متحدون حول المبدأ الرئيسي لحراك الريف، لكن على كل منطقة أن تقلق بخصوص الطريقة التي يتعين أن تحافظ بواسطتها على الاستمرارية والفعالية”، يضيف العتابي.
ومن الواضح أن تشبث الناشطين في تامسينت بطريقة خاصة في إدارة الحراك المحلي لا يتزحزح وإن بلغت إليهم بعض شكوك النشطاء الآخرين، فهم يشعرون بأنهم نجحوا في حماية الناس وبلدتهم والمتظاهرين والناشطين أيضا من أي عواقب مثلما تعرضت إليها باقي المناطق. “إننا منذ عام الآن نحن نقود مظاهرات يومية، لكن لم يحدث أن وقعت مواجهات بيننا وبين السلطات، أو أن أوقف ناشط منا من لدن الدرك الملكي”، قالها أولاد حدو باعتزاز، ثم أردف موضحا: “هذه ليست نقيصة، بل هي دليل على صواب طريقتنا في إدارة الحراك المحلي”. وفي الواقع، وعلى عكس باقي المراكز التي لا تهدأ فيها المواجهات والتوقيفات مثل إيمزورن وبوكيدارن وفي مرات حتى بلدة بني بوعياش، فإن المتظاهرين في تامسينت لا يواجهون العصا الغليظة للسلطات، وإن كانت تحاصرهم باستمرار، وهم وحيدين في الريف تقريبا ممن يستطيعون الكشف عن وجوههم ومسؤولياتهم في قيادة الحراك، وأن يلقوا خطبا في التجمعات دون الشعور بأي خوف من الملاحقة، فيما لم يعد بمقدور الناشطين البارزين في أي مكان آخر أن يظهروا كقياديين لأن ذلك سيقود الشرطة مباشرة إليهم. “هذه وصفة ناجحة للحراك بالنسبة إلينا، حيث لا يرفع علم يمكن أن يثير تأويلات غير سليمة، وحيث لا نتهور في مواجهة السلطات من دون سبب معقول.. وبالطبع لا يمكن تغيير الطريقة التي تكون ناجحة”، وفقا إلى تحليل العتابي.
بين التسامح والشدة هناك مناروة !
وليس وكأن تسامح السلطات مع المتظاهرين في تامسينت علامة على وجود ضعف في الطريقة التي يكافح بواسطتها هؤلاء لتحقيق مطالبهم، بل بخلاف ذلك، فإن هذه البلدة قدمت طرقا مبتكرة ولم تكن معهودة في مواجهة السلطات، وفي كثير من المرات، كان يراها قادة حراك الريف في الحسيمة كأعمال لا تنطوي على تقدير سليم للعواقب كما قال لنا الناشطون هناك. في إحدى المرات، قرر المتظاهرون حجز سيارة رئيس جماعة تامسينت وهي من نوع فولفاكن تيغوان، رباعية الدفع ومن الموديل الأحدث، وقد فعلوها، وغطيت بشكل تام، ووضع حراس عليها من المتظاهرين ليلا ونهارا، وقد بقيت على هذه الحال حوالي ثلاثة شهور، قبل أن يتفق الناشطون مع الوالي على ترحيلها إلى مرآب مقر ولايته في الحسيمة، ومنع رئيس الجماعة من استخدامها بشكل نهائي. وفي طريقة تنطوي على تحد أكثر، نجح المتظاهرون في منع رئيس جماعتهم من ولوج مقرها لفترة طويلة، بل وحتى رئيس الدائرة، وهو رجل سلطة محلية، تعرض للمنع نفسه. ثم لاحقا، بنى المتظاهرون معتصما من الخشب والبلاستيك في بوابة مقر الجماعة، ومكثوا داخله لحوالي ثلاثين يوما حتى أحرزا تقدما في المفاوضات مع الوالي نفسه. ومثل هذه الطرق وغيرها، مكنت المحتجين في عام 2009 من تحقيق كافة مطالبهم بعد خمس سنوات من الاحتجاجات والمواجهات بينهم وبين السلطات عقب زلزال عام 2004، وكانت تامسينت البلدة الوحيدة التي قامت السلطات بنفسها بتشييد الدور للمتضررين وليس فقط منحهم مبلغا من المال وبعض الاسمنت وقضبان الحديد كما فعلت مع باقي مناطق الريف آنذاك، وتلك كانت التسوية التي أغلقت بها الدولة آخر مشكلة في إدارة ملف المساعدات المرتبطة بالزلزال.
وإذا كانت تبدو الطرق المذكورة آنفا غير معتادة في مسلك الاحتجاج، فإن الناشطين المحليين اخترعوا وطبقوا بنجاح ما بات ظاهرة في الريف، وهي المسيرات الطويلة على الأقدام من بلدتهم إلى المدن المحيطة بهم. فقد كانوا ينفذون باستمرار مسيرات كهذه إلى بلدة أجدير المحاذية لمدينة الحسيمة، بينما لم يكن يمنعهم شيء من التقدم كل مرة إلى بلدة إيمزورن التي تبعد عنهم بحوالي 16 كيلومتر. وكما يتذكر العتابي، فإن هذه العمليات “كانت خاصية لمتظاهري تامسينت لوحدهم، فهم الوحيدون الذين كان بمقدورهم تنفيذ هذه المسيرات.. سمه عنادا أو شجاعة، لكنه كان عملا شاقا ومذهلا كذلك”. وبالفعل، كانت السلطات لا تتسامح مع أي مسيرة ينوي تنفيذها متظاهرون من إيمزورن مثلا نحو الحسيمة، وكان المشكلة هذه تُعالج بأن يقود متظاهرو تماسينت مسيرة من بلدتهم، وأن يقطعوا الكيلومترات بلدة تلو الأخرى لينضم إليهم المحتجون الموجودون هناك، ثم ينطلقون إلى الحسيمة. وبحسب العتابي، فإن مسيرة قادوها إلى بلدة أجدير، وصلت وحققت مرادها، لكن بدل العودة بشكل طبيعي، قررنا أن نفرض على السلطات العثور على وسائل نقل جماعي كي تعيدنا إلى تامسينت، وهددنا بالاعتصام في أجدير تلك الليلة، فأسرعت السلطات المحلية هناك إلى استقدام حافلات وعربات النقل المدرسي على حسابهم لأنهم لم يكونوا يرغبون في أن يحل الصبح ونكون في أجدير”.
ووصلت مشاعر الاعتداد بالنفس عند الناشطين المحليين إلى درجة التخطيط لمسيرات إلى الحسيمة نفسها، وقد نفذوها كذلك. “كان يطبق حصار على المظاهرات في الحسيمة في بعض المرات، حيث كان يمنع الاحتجاج، وكنا نحن من نفك ذلك الحصار بمسيرة تبدأ من تماسينت وتتوسع في إمزورن ثم أجدير قبل أن تصل إلى الحسيمة.. تلك مشاهد لا يمكن إنكارها في تاريخ حراك الريف”. كما يعلق احديدوش بافتخار. لكن السلطات ستتوقف عن منح متظاهري تماسينت هذا الامتياز بعد أحداث 28 ماي، وستقطع عليهم الطريق كل مرة يخططون فيها لمسيرة إلى بلدة مجاورة. ومنذ ذلك اليوم، نفذ المتظاهرون في هذه البلدة ثلاث مسيرات لكنها لن تصل إلى هدفها. وقد حضرنا للمسيرة الثالثة يوم الجمعة، وظهر أن قيادة الحراك المحلي تستفيد من دروسها وإن لم تستسلم للإجراءات المتخذة من لدن السلطات. في ذلك اليوم الحار، أخبرنا العتابي أن قوات الدرك تحاصر بلدة إيمزورن من جهتين، عبر الطريق المؤدية إلى بلدة بني عبد الله، وعبر الطريق المؤدية إلى إيمزورن، وهم قد أعلنوا عن مسيرة لكنهم لم يحددوا وجهتها كي يشتتوا جهد القوات العمومية. قال لي: “إننا لن نسير كثيرا، بل سنناور فقط كي نتعب السلطات.. سترى كيف ستصاب القوات العمومية بالدوخة”. وبالفعل، فإن المحتجين الذين بدا أنهم في طريقهم إلى إيمزورن سرعان ما سيغيرون مسارهم نحو طريق فرعي يقود إلى بني بوعياش حيث لم تكن هناك قوات تراقبه. وقد اضطرت السلطات إلى نقل حشد من قوات الدرك الحربي والقوات المساعدة، وتقدمت في الطريق نفسه حيث يوجد المتظاهرون كي تعترض طريقهم لاحقا. وما فعله المحتجون هو أن عادوا أدراجهم إلى الطريق المؤدية نحو إيمزورن كي يرهقوا تلك القوات في ملاحقتهم في ذلك الحر، ثم بعد سير لنحو كيلومتر، توقفوا وعادوا إلى وسط البلدة. “إن قوتنا هي هذه؛ فنحن نستمر في التظاهر رغم كل شيء، دون أن نخسر الكثير. وبهذه الطريقة سنضمن مستقبلا أفضل لهذه البلدة
*اليوم24