محمد بوزكَو
طلعت إلى قريتي عند جدتي... فوجدتها قد ذهبت للوادي لتسقي الماء من ثارافي أقْبوشِها كعادتها... وعند رجوعها معوجة الظهر بثقل حملها وجدتني أنتظرها بالباب والدجاج حولي يحوم وهو ينقب بقايا زرع غير عابه بأحد. انحنت، جدتي نحوي وأمسكتُ أقبوشها بيدي فيما هي ممسكة بحبل ملفوف على جيدها وبحركة نصف دائرية حطت الحمولة بإتقان على الأرض كي لا ينكسر أقبوش أخبرت جدتي أننا في الناظور نستعد لتنظيم مهرجان وأننا وضعنا أقبوشها كرمز لهذه التظاهرة الفنية والثقافية... كما فسرت لها بحماس وفرح أننا سمينا المهرجان ذاته ب ثاراوين تيمنا بالعيون التي تسقي منها ماءها... ودون أن أتنفس، والحماس يزداد فيّ توهجا كالطفل الفرحان ببذلة العيد أخبرت جدتي بأنهم عينوني (الله ينجينا وإياكم من العين) أمينا للمال... خنْزَرَت فيّ جدتي ففهمت أنها لم تفهم معنى أمين المال... تظاهرت بالسعال فقلت لها أن الدراهم ستدخل وتخرج على يدي... وأنني أنا كل شيئ هناك... فأسرَوْرَوَتْ جدتي زغرودة رقصت على نغماتها الدجاجات... فحضنتني وهي تدعو لي بالنجاح... ثم دخلت في أخّامِها لتخرج وهي حاملة خَنشَةٌ كبيرة من الخَناشي التي كانت تحمل قوالب السكر... مدت لي تلك الخنشة دون أن تتكلم... فهمت قصدها وأمسكتها عنها... وأطلقت العنان لجوارحي تحكي عن الاجتماعات التي عقدناها، والصراعات الخفية والمهاتفات عبر التلفون وكيف ساهمت معنا خصيصا اتصالات المغرب في تخفيض سعر مكالماتنا كي نستكمل المشاورات... ونتحدث عن بعد وعن راحتنا... وجبدت لها الكلام عن الذين بقي الحال فيهم وسكتوا... وعن الأصدقاء الذين تفهموا والذين غضبوا فانصرفوا... والذين لم يسكتوا فكتبوا... وتحدثت لها عن ترددنا في كيفية الخروج للصحافة وعن نوع الأسئلة التي ستطرح والقوالب التي ستحط وعن توجس بعضنا من خروج البعض عن الإطار للبحث في الماضي ونبش أحداث مؤسفة لنتحدث عنها بأسف كي لا ينسف المهرجان بين أيدينا ونتأسف عن أيدينا التي قيل عنها بيضاء... وأخرجت لها لائحة الفنانين الذين سيشاركون، ليس تلك التي نشرت قبل الأوان وفيها محمد منير ومرسيل خليفة... وكلمتها مزهوا عن فنانينا الريفيون وضرورة تواجدهم... وأسرت لها بأننا حاولنا ما أمكن أن نضفي على البرنامج العام الذي أعددناه صبغة أمازيغية وأننا أدرجنا هذا المهرجان في إطار ثقافات حوض البحر الأبيض المتوسط التي ننتمي إليه... وأن هويتنا الثقافية لا بد لها أن تتفاعل مع كل ثقافات هذه المنطقة... حدثتها عن الندوات، أولاها عن الهجرة بجميع أصنافها، وأخريات عن الحركة الثقافية الأمازيغية ماضيها وآفاقها، عن حقوق الإنسان، عن الصحافة الجهوية... وأثرت انتباهها بأن حكاياتها سنحكيها للصغار... وهمست لها بأننا سنخصص 15% من ميزانية المهرجان للذين يقال عنهم معطلين... ليس إخراجا لهم من أزمة ليسوا مسئولين عنها ولكن لتعاطفنا مع قضيتهم ومحاولة لإيجاد إمكانيات للبحث عن سبل أخرى تخلق مناصب شغل... فالبلدية لديها حوانيت تمررها بين السطور لمن شبعوا، وأراضي تباع هنا وهناك خلسة... ولديها أيضا فوائض مالية...وللمجلس الإقليمي كذلك ميزانية فيها ما يُفعل... والعمالة لديها سلطة وكلمة... فماذا سيبقى إن اجتمع المال والأراضي والحوانيت والسلطة؟؟؟ لن يبقى سوى قرار شجاع... وتنتهي أزمة معطلينا... أما حين أخبرت جدتي بأن الميزانية التي سترصد للمهرجان لن تُهوِدَ عن 400 مليون، نصحتني ألا أنسى نفسي وأن أفعل على ما سأعود... كما حدثتها عن المقالات التي كتبوها في المواقع الالكترونية وعن المبارزات والرشق بالكلمات عبر الانترنيت... وكيف تجند جل الكتاب بمعاول تهدم أحلاما، إن عن حسن نية أو عن سوئها، فتضرب مشروع المهرجان تارة بالركلة وتارة تضربه في الزيرو مستكثرين عن مدينة الناظور لقاءات تجمع الأحباب بالأصدقاء والفنانين بالكتاب في جو من الفن والإبداع والثقافة... بل وشكمت لجدتي عن أولئك الذين اعتبروا المهرجان مضيعة للفلوس في وقت يزداد فيه الفقر انتشارا والبطالة تفحشا وعن أولئك الذين رأوا فيه الطريق الأقصر للنار لأنه مصدر فتنه وغواية وخروج عن الدين...
وأنا أسرد بتفصيل الكيفية التي أعددنا بها ملفات طلب الدعم وعن لائحة المؤسسات التي وضعنا لديها تلك الطلبات، التفت لجدتي لأفاجأ بها وهي نائمة مسنودة الرأس على بردعة حمارها... نهضت من مكاني وقبلت رأسها فأخذت في يدي الخنشة كي أعمرها بفلوس المهرجان وفي قلبي دفنت أدعيتها ... وأنا اطوي خطواتي ورائي سرَّحْت عيني بين أشجار اللوز النابت في الكَعدة الحمراء... وقلت ناهرا نفسي تكَعّد اِنك من الحالمين... وارم عنك الخنشة فلا فلوس هناك ولا هم يحزنون... واحشم شويا أسّي... انك كبير عن مثل تلك الأحلام... ودع جدتك في هناء وطمانينة مع اقبوشها وثاراها ولا تكن من الذين لا يحشمون وتستنبط الأفكار منها لتزوق بهم مشروع حلمك...
تلكم كانت حكايتي مع جدتي التي نوّمتها بحكاية حلم لم أستفق منه بعد حتى يتسنى لي أن احكيه بالتفصيل الممل... أما حين فتشت عني في الواقع وجدتُني داخل أقبوش أتبقْبق تحت ماء ثاراوين...
آخخخخ... نسيت أن أخبر جدتي بأننا أسسنا مؤسسة سميناها المؤسسة المتوسطية للثقافة الأمازيغية للناظور لتسهر، إن شاء الله، على تنظيم المهرجان... كما نسيت أن أخبرها بأننا قَرَعْنا النفس باختيارنا لذلك الاسم...
ولكن....
ولكن فقط نسيت...معليشْ جدتي... أنت دائما تسامحينني...
طلعت إلى قريتي عند جدتي... فوجدتها قد ذهبت للوادي لتسقي الماء من ثارافي أقْبوشِها كعادتها... وعند رجوعها معوجة الظهر بثقل حملها وجدتني أنتظرها بالباب والدجاج حولي يحوم وهو ينقب بقايا زرع غير عابه بأحد. انحنت، جدتي نحوي وأمسكتُ أقبوشها بيدي فيما هي ممسكة بحبل ملفوف على جيدها وبحركة نصف دائرية حطت الحمولة بإتقان على الأرض كي لا ينكسر أقبوش أخبرت جدتي أننا في الناظور نستعد لتنظيم مهرجان وأننا وضعنا أقبوشها كرمز لهذه التظاهرة الفنية والثقافية... كما فسرت لها بحماس وفرح أننا سمينا المهرجان ذاته ب ثاراوين تيمنا بالعيون التي تسقي منها ماءها... ودون أن أتنفس، والحماس يزداد فيّ توهجا كالطفل الفرحان ببذلة العيد أخبرت جدتي بأنهم عينوني (الله ينجينا وإياكم من العين) أمينا للمال... خنْزَرَت فيّ جدتي ففهمت أنها لم تفهم معنى أمين المال... تظاهرت بالسعال فقلت لها أن الدراهم ستدخل وتخرج على يدي... وأنني أنا كل شيئ هناك... فأسرَوْرَوَتْ جدتي زغرودة رقصت على نغماتها الدجاجات... فحضنتني وهي تدعو لي بالنجاح... ثم دخلت في أخّامِها لتخرج وهي حاملة خَنشَةٌ كبيرة من الخَناشي التي كانت تحمل قوالب السكر... مدت لي تلك الخنشة دون أن تتكلم... فهمت قصدها وأمسكتها عنها... وأطلقت العنان لجوارحي تحكي عن الاجتماعات التي عقدناها، والصراعات الخفية والمهاتفات عبر التلفون وكيف ساهمت معنا خصيصا اتصالات المغرب في تخفيض سعر مكالماتنا كي نستكمل المشاورات... ونتحدث عن بعد وعن راحتنا... وجبدت لها الكلام عن الذين بقي الحال فيهم وسكتوا... وعن الأصدقاء الذين تفهموا والذين غضبوا فانصرفوا... والذين لم يسكتوا فكتبوا... وتحدثت لها عن ترددنا في كيفية الخروج للصحافة وعن نوع الأسئلة التي ستطرح والقوالب التي ستحط وعن توجس بعضنا من خروج البعض عن الإطار للبحث في الماضي ونبش أحداث مؤسفة لنتحدث عنها بأسف كي لا ينسف المهرجان بين أيدينا ونتأسف عن أيدينا التي قيل عنها بيضاء... وأخرجت لها لائحة الفنانين الذين سيشاركون، ليس تلك التي نشرت قبل الأوان وفيها محمد منير ومرسيل خليفة... وكلمتها مزهوا عن فنانينا الريفيون وضرورة تواجدهم... وأسرت لها بأننا حاولنا ما أمكن أن نضفي على البرنامج العام الذي أعددناه صبغة أمازيغية وأننا أدرجنا هذا المهرجان في إطار ثقافات حوض البحر الأبيض المتوسط التي ننتمي إليه... وأن هويتنا الثقافية لا بد لها أن تتفاعل مع كل ثقافات هذه المنطقة... حدثتها عن الندوات، أولاها عن الهجرة بجميع أصنافها، وأخريات عن الحركة الثقافية الأمازيغية ماضيها وآفاقها، عن حقوق الإنسان، عن الصحافة الجهوية... وأثرت انتباهها بأن حكاياتها سنحكيها للصغار... وهمست لها بأننا سنخصص 15% من ميزانية المهرجان للذين يقال عنهم معطلين... ليس إخراجا لهم من أزمة ليسوا مسئولين عنها ولكن لتعاطفنا مع قضيتهم ومحاولة لإيجاد إمكانيات للبحث عن سبل أخرى تخلق مناصب شغل... فالبلدية لديها حوانيت تمررها بين السطور لمن شبعوا، وأراضي تباع هنا وهناك خلسة... ولديها أيضا فوائض مالية...وللمجلس الإقليمي كذلك ميزانية فيها ما يُفعل... والعمالة لديها سلطة وكلمة... فماذا سيبقى إن اجتمع المال والأراضي والحوانيت والسلطة؟؟؟ لن يبقى سوى قرار شجاع... وتنتهي أزمة معطلينا... أما حين أخبرت جدتي بأن الميزانية التي سترصد للمهرجان لن تُهوِدَ عن 400 مليون، نصحتني ألا أنسى نفسي وأن أفعل على ما سأعود... كما حدثتها عن المقالات التي كتبوها في المواقع الالكترونية وعن المبارزات والرشق بالكلمات عبر الانترنيت... وكيف تجند جل الكتاب بمعاول تهدم أحلاما، إن عن حسن نية أو عن سوئها، فتضرب مشروع المهرجان تارة بالركلة وتارة تضربه في الزيرو مستكثرين عن مدينة الناظور لقاءات تجمع الأحباب بالأصدقاء والفنانين بالكتاب في جو من الفن والإبداع والثقافة... بل وشكمت لجدتي عن أولئك الذين اعتبروا المهرجان مضيعة للفلوس في وقت يزداد فيه الفقر انتشارا والبطالة تفحشا وعن أولئك الذين رأوا فيه الطريق الأقصر للنار لأنه مصدر فتنه وغواية وخروج عن الدين...
وأنا أسرد بتفصيل الكيفية التي أعددنا بها ملفات طلب الدعم وعن لائحة المؤسسات التي وضعنا لديها تلك الطلبات، التفت لجدتي لأفاجأ بها وهي نائمة مسنودة الرأس على بردعة حمارها... نهضت من مكاني وقبلت رأسها فأخذت في يدي الخنشة كي أعمرها بفلوس المهرجان وفي قلبي دفنت أدعيتها ... وأنا اطوي خطواتي ورائي سرَّحْت عيني بين أشجار اللوز النابت في الكَعدة الحمراء... وقلت ناهرا نفسي تكَعّد اِنك من الحالمين... وارم عنك الخنشة فلا فلوس هناك ولا هم يحزنون... واحشم شويا أسّي... انك كبير عن مثل تلك الأحلام... ودع جدتك في هناء وطمانينة مع اقبوشها وثاراها ولا تكن من الذين لا يحشمون وتستنبط الأفكار منها لتزوق بهم مشروع حلمك...
تلكم كانت حكايتي مع جدتي التي نوّمتها بحكاية حلم لم أستفق منه بعد حتى يتسنى لي أن احكيه بالتفصيل الممل... أما حين فتشت عني في الواقع وجدتُني داخل أقبوش أتبقْبق تحت ماء ثاراوين...
آخخخخ... نسيت أن أخبر جدتي بأننا أسسنا مؤسسة سميناها المؤسسة المتوسطية للثقافة الأمازيغية للناظور لتسهر، إن شاء الله، على تنظيم المهرجان... كما نسيت أن أخبرها بأننا قَرَعْنا النفس باختيارنا لذلك الاسم...
ولكن....
ولكن فقط نسيت...معليشْ جدتي... أنت دائما تسامحينني...