الطيب بوتبقالت*
بحلول 21 يوليوز 2018 تكون قد مرت على معركة أنوال المظفرة سبعة وتسعون عاما، وهي ذكرى غالية تعيد إلى أذهان المغاربة ما قام به الآباء والأجداد من تضحيات جسام حتى يبقى المغرب حرا مستقلا.
إن أحداثا من هذا القبيل تشكل، لا محالة، معينا لا ينضب من الدروس والعبر، التي من شأنها أن تفيد الأجيال المغربية الصاعدة في مواجهتها أخطار الحاضر، وفي صمودها على تحمل مفاجآت المستقبل.
وهكذا في مطلع عشرينيات القرن الماضي ازدادت أحوال المغاربة سوءا جراء ارتفاع الحركة الاستعمارية، التي طالت كافة مظاهر حياتهم اليومية، وجعلت مستقبلهم وسيادة وطنهم في مهب الرياح الكولونيالية الهوجاء، حيث انتقل الاحتلال من طور الاستعمار العسكري بهيكلته التقليدية المعهودة إلى مرحلة الاكتساح الشمولي والهيمنة المطلقة.
لقد بات من الواضح أن مخططات المستعمر كانت تهدف إلى استئصال مقومات الهوية الثقافية والحضارية الوطنية تمهيدا لبسط سيطرته النهائية، وتكريسا لاستدامة احتلاله للبلاد.
ورغم صمود القبائل المغربية هنا وهناك، فإن الآفاق كانت تبدو مسدودة تماما، سيما أن الحرب الكبرى وضعت أوزارها، وأعطت بذلك نفسا جديدا للزحف الإمبريالي، وتكريسا صارخا لوسائل الإكراه والتضليل المختلفة، والاستبداد المتعجرف على نطاق واسع في كل المستعمرات.
وكانت فرنسا، تلك الدولة "الحامية" للمغرب، من بين الأطراف التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الأولى، وهو الشيء الذي ضاعف غطرستها وجبروتها إلى الحد الذي أصبح معه قادتها لا يقيمون أي وزن يذكر للمقاومة المحلية مهما تعاظم نفوذها وتقوت شوكتها.
وفعلا، سقط المغرب تحت جبروت الإمبريالية متعددة الرؤوس، واحتفظت الجمهورية الفرنسية لنفسها بحصة الأسد في ذلك التقسيم الجائر، في حين كان على إسبانيا أن تحتل المنطقة الشمالية، بإرادة ودعم من الإمبراطورية البريطانية، التي كانت لا تغيب عنها الشمس، نظرا إلى ترامي أطراف مستعمراتها عبر العالم.
وقد فرضت هذه الأخيرة على كل الدول المتنافسة على استعمار المغرب تخصيص منطقة دولية حول مدينة طنجة، وفقا لما كانت تمليه عليها مصالحها الاستراتيجية. ومما لا شك فيه أن بريطانيا كانت إلى حد بعيد هي صاحبة الكلمة الفصل في رسم الخريطة الكولونيالية بالمغرب.
في هذه الظروف التاريخية العصيبة تميز أبناء الريف الأشاوس بمواقفهم البطولية التي لا تلين، وباستمراريتهم النضالية التي لا تنكسر. لم يبهرهم العدو أو يرهبهم باستعراض عضلاته، رغم كثرة عدته وعتاده، ولم يزدهم التكالب الاستعماري الغاشم على البلاد إلا ثقة بالنفس، وطموحا في رفع سقف التحديات.
لقد علمتهم المواجهات المريرة مع العدوان الإسباني في الشمال المغربي، على امتداد عقود من الزمن، أن قوة الإرادة وصلابة العزيمة دفاعا عن الحرية والكرامة هي الرافعة الأساسية للكفاح مهما عظم الخطب وتوالت النكبات.
ويشهد التاريخ أنه منذ انحطاط الدولة المغربية وأفول نجمها السياسي والعسكري ظل أبناء الريف بمثابة الدرع الواقي والسيف المسلول في وجه أطماع وتطاولات الأعداء على البلاد، فكانوا بالمرصاد للهجمات الإسبانية المتتالية على المنطقة، وبصفة خاصة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.
وظهر من بينهم زعماء قياديون أشداء وأمراء جهاد أفذاذ، أمثال الشريف محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، الذين شهد لهم التاريخ بالكفاءة الميدانية العالية والفكر الاستراتيجي الخلاق.
لقد كانوا بحق نموذجا منقطع النظير في التضحية والتحرير، نالوا بفضله إعجاب وتقدير الأعداء والأصدقاء على حد سواء، وأضحوا مدرسة قائمة الذات في الكفاح من أجل القيم الإنسانية الراقية والمبادئ الحقوقية والأخلاقية الأساسية لفائدة البشرية جمعاء. وفي هذا السياق بالتحديد جاءت واقعة أنوال لتسجل للريفيين دخولهم الرائع من البوابة الرسمية للتاريخ العالمي.
انهيار القوات الإسبانية أمام ثبات المجاهدين الريفيين
بتاريخ 25 غشت 1919 عينت الحكومة الإسبانية الجنرال برينكر مقيما عاما على منطقة نفوذها الكولونيالي بالمغرب، بعد وفاة سلفه الجنرال خوردانا. وهو التاريخ نفسه، الذي تم فيه تعيين الجنرال سلفستر على الجبهة الريفية الغربية قصد مواجهة قبائل بني عروص، التي كانت آنذاك تحت لواء الشريف الريسوني المتقلب الأدوار.
وفي السنة الموالية انتقل الجنرال سلفستر إلى مليلية ليكون على رأس القيادة العليا للجيش الإسباني هناك، وكان واضحا من سلوكاته وتصريحاته المستفزة لشخصية الريفيين وكبريائهم أنه يستعجل اكتساح كل المناطق الريفية الشرقية غير مكترث بما قد تقوم به قبائل تلك المناطق من ردود دفاعية فتاكة.
والواقع أنه بدأ فعلا يحرز بعض التقدم الميداني، ويحتل بعض المواقع داخل تراب تلك القبائل ليجعلها مراكز أمامية تنطلق منها لاحقا هجماته العدوانية الهادفة إلى الاستيلاء الشامل على معاقل الريفيين.
والجدير بالإشارة أن الجنرال سلفستر كان يتمتع بدعم شخصي ومباشر من ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر، مما زاده غرورا واستعلاء حتى في إطار علاقاته مع المقيم العام الإسباني بتطوان. وكان من بين تقاريره "الانتصارية" برقية بعث بها إلى هذا الأخير يعلن له فيها احتلال إغريبن، وهو موقع يوجد بين قبيلتي تمسمان وبني توزين غير بعيد عن معسكر أنوال.
وهذا هو نص تلك البرقية، نقلا عن أحمد البوعياشي: "لقد قمنا في الساعة الثامنة من صباح يوم 17 يونيو 1921 باحتلال جبل إغريبن بين سمار وأنوال، لضمان الطريق الواصل بين ابن الطيب (ببني وليشك) وأنوال، وتركيز العمل ببني وليشك. فقمنا بتشييد التحصينات، وبالتقوية اللازمة للحماية، كما قمنا بجلب فرقتين من المشاة، وفرقة من أصحاب الرشاشات، وبطارية مدفعية، وقد قام رجال البوليس بالتراشق بالرصاص مع جيش العدو، فجرح جندي من طرفنا، وقد اضطر العدو إلى التراجع للوراء.
وكانت جيوش العدو التي شاركت في هذه العملية تتكون من فرقتين، جاءت واحدة من زاوية سيدي بويعقوب والثانية من الرابية عند المنفذ".
والحقيقة أن ما كان الجنرال سلفستر يسميه "جيوش العدو" لم يكن سوى مجموعات صغيرة من المقاومين الريفيين الشجعان، الذين سرعان ما التفوا حول قائدهم محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي أبان عن قدرة خارقة في التعبئة والتأطير. ولا بأس أن نعطي هنا ولو لمحة وجيزة عن بداية المسيرة الجهادية لهذا البطل الشهم.
لقد خلدت الكتابات الإعلامية العالمية اختصارا محمد بن عبد الكريم الخطابي تحت اسم والده عبد الكريم. والمعروف عنه أنه ازداد في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر في أجدير. شب وترعرع في أحضان عائلة متنورة تتمتع بسمعة طيبة في الأوساط الريفية، وكانت تنحدر من قبيلة بني ورياغل-فرقة آيت خطاب.
اختار محمد بن عبد الكريم الخطابي المسار التعليمي، الذي مكن والده من ممارسة القضاء، وكان شغوفا بالدراسات الفقهية، وهذا ما كان دافعا إلى انتقاله إلى فاس طلبا للعلم بجامعة القرويين، التي مكنته من الارتواء من علوم ومعارف شيوخها. كما أنه كان ملما باللغة الإسبانية وثقافتها. وهكذا، بحكم انتمائه العائلي والقبلي، إلى جانب تكوينه في الثقافتين المغربية والإسبانية، وجد فيه المستعمر الإسباني نموذجا مثاليا للاستقطاب من أجل تدعيم اختراقه للمجتمع الريفي وترسيخ قدمه بالمنطقة.
وهكذا، عمل محمد بن عبد الكريم الخطابي محررا بصحيفة "تلغراف الريف" الصادرة بمليلية، ثم أستاذا وموظفا بمكتب الشؤون الأهلية، بالإضافة إلى مزاولته مهنة القضاء، التي ارتقى فيها إلى منصب قاضي القضاة بمليلية. كانت مواقفه من الاستعمار الأوروبي واضحة منذ مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، ليس فقط بالنسبة إلى مخططات احتلال المغرب، بل بالنسبة إلى المد الاستعماري في إفريقيا الشمالية قاطبة.
ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى بدأ يبتعد تدريجيا عن مظلة السلطة الاستعمارية الإسبانية وتحصن بأجدير على مقربة من الحسيمة بين أهله وذويه. وكان يعلم أن التدابير الانتقامية الإسبانية ستلاحقه: لقد ذاق مرارة السجن وكسرت ساقه اليمنى عندما حاول الهروب من قبضة الإسبان، الذين أصبحوا يطاردون آل الخطابي بعدما فشلت كل محاولاتهم الهادفة إلى إغراء هذه العائلة النبيلة.
غادر محمد بن عبد الكريم الخطابي مليلية بصفة نهائية سنة 1919 ليقيم بأجدير، التي شهدت زواجه ووفاة أبيه القاضي عبد الكريم. وفي هذه البلدة وضع محمد بن عبد الكريم الخطابي اللبنات الأولى لما أطلق عليه الريفيون اسم "الريفوبليك"، التي تبلورت معالمها مباشرة بعد انتصار أنوال الساحق سنة 1921، وكانوا يقصدون بذلك حكما منظما ومستقلا بمثابة تحدٍّ للمستعمر الإسباني "بوجروان" – آكل الضفادع.
أما فيما يتعلق بمعركة أنوال على وجه الخصوص، فيمكن أن نجزم بأنها جاءت تتويجا لعدة مجابهات مع القوات الغازية امتدت من فاتح يونيو 1921 إلى 26 يوليوز من السنة نفسها، وكانت متسلسلة كالتالي: ظهر أبران، سيدي إبراهيم، إغريبن وأنوال. ويفهم من هذا التطور المتلاحق أن معركة أنوال لم تكن نتيجة لتخطيط مسبق سطرته المقاومة الريفية، وجعلته هدفا يتصدر أولوياتها الاستراتيجية، بل كانت مجرد مرحلة عادية على درب النضال المستميت.
ورغم هذا الانتصار الباهر، فإن الريفيين، خلافا لما يعتقد، لم يبتهجوا له كثيرا، لأنهم كانوا في موقع دفاعي مشروع، ولم يقوموا إلا باسترداد ما ضاع منهم، وكانوا على يقين تام بأنهم ما زالوا في بداية مشوار الانعتاق، مع علمهم بالحجم الحقيقي لقوات العدو، وبإمكانية حدوث تحالفات استعمارية واسعة ضدهم.
ومن هنا فإن انتصار أنوال كان يحمل في طياته بوادر احتمالات قوية تنذر بفشل الثورة الريفية، وهي مفارقة عنيدة كان يغذيها المنطق الإمبريالي السائد يومئذ، لكن هذه المعركة هي التي شكلت بكل وضوح الخطوة الحاسمة في بزوغ قمر الانتفاضة الريفية في صيغتها التاريخية.
نتائج المعركة..
تتضارب الأرقام والتأويلات في تحديد الخسائر الإسبانية والريفية الناجمة عن تطاحنات أنوال، لكن كافة المصادر تجمع على أنها كانت هزيمة نكراء وكارثة وطنية بكل المقاييس بالنسبة إلى الإسبان. بالمقابل كانت بالنسبة إلى الريفيين وسام شرف تاريخيا في الدفاع عن الكرامة وشهادة استحقاق عالمية في النضال التحريري.
وفي كتاب "مذكرات ابن عبد الكريم" حصيلة لما كسبه الريفيون من هذه المواجهة على لسان بطل الريف: "ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع، سواء من عيار 75 أو 65 أو 77، وأزيد من 20000 بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتموينا كثيرا يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم. وإجمالا "تبرعت" علينا إسبانيا بين عشية وضحاها بكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشا ونشن حربا كبيرة. لقد أخذنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15000 جندي ما بين قتيل وجريح".
تم الإفراج لاحقا عن الأسرى الإسبان الناجين من الموت المحقق مقابل مبلغ مالي يقدر بأربعة ملايين بسيطة إسبانية، مما أعطى إضافة نوعية، عسكريا وسياسيا، للتنظيم الريفي الجديد. ومن هذا المنظور، فإن معركة أنوال كانت فتحا مبينا بالنسبة إلى المقاومة الريفية، التي بدأت تتعزز يوما عن يوم بانضمام حماسي للقبائل المجاورة. وللإشارة، فإن الجنرال سلفستر لقي حتفه خلال هذه المعركة.
لقد كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يدرك جيدا، بحكم احتكاكه السابق بالإدارة الاستعمارية الإسبانية، أن مشكلة مقاومة الشعب المغربي للاستعمار، عموما، كانت تتجلى قبل كل شيء في غياب التنظيم المحكم والالتحام الشعبي الصلب، وأعطى الدليل القاطع، من خلال انتصار عناصره في معركة أنوال، على أن الشعب إذا أراد يوما الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
كانت هذه، في الواقع، هي المكاسب المعنوية التي بقيت أغلى وأهم نتيجة سجلها أبناء الريف المجاهدون. وباستسلام عبد الكريم للقوات الفرنسية يوم 26 ماي 1926 يكون الستار قد أسدل على التجربة الريفية الجهادية لتظل حاضرة إلى الأبد في أذهان كل المغاربة الغيورين على سيادة بلدهم، وفي أذهان كل محبي السلام عبر العالم.
*أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
بحلول 21 يوليوز 2018 تكون قد مرت على معركة أنوال المظفرة سبعة وتسعون عاما، وهي ذكرى غالية تعيد إلى أذهان المغاربة ما قام به الآباء والأجداد من تضحيات جسام حتى يبقى المغرب حرا مستقلا.
إن أحداثا من هذا القبيل تشكل، لا محالة، معينا لا ينضب من الدروس والعبر، التي من شأنها أن تفيد الأجيال المغربية الصاعدة في مواجهتها أخطار الحاضر، وفي صمودها على تحمل مفاجآت المستقبل.
وهكذا في مطلع عشرينيات القرن الماضي ازدادت أحوال المغاربة سوءا جراء ارتفاع الحركة الاستعمارية، التي طالت كافة مظاهر حياتهم اليومية، وجعلت مستقبلهم وسيادة وطنهم في مهب الرياح الكولونيالية الهوجاء، حيث انتقل الاحتلال من طور الاستعمار العسكري بهيكلته التقليدية المعهودة إلى مرحلة الاكتساح الشمولي والهيمنة المطلقة.
لقد بات من الواضح أن مخططات المستعمر كانت تهدف إلى استئصال مقومات الهوية الثقافية والحضارية الوطنية تمهيدا لبسط سيطرته النهائية، وتكريسا لاستدامة احتلاله للبلاد.
ورغم صمود القبائل المغربية هنا وهناك، فإن الآفاق كانت تبدو مسدودة تماما، سيما أن الحرب الكبرى وضعت أوزارها، وأعطت بذلك نفسا جديدا للزحف الإمبريالي، وتكريسا صارخا لوسائل الإكراه والتضليل المختلفة، والاستبداد المتعجرف على نطاق واسع في كل المستعمرات.
وكانت فرنسا، تلك الدولة "الحامية" للمغرب، من بين الأطراف التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الأولى، وهو الشيء الذي ضاعف غطرستها وجبروتها إلى الحد الذي أصبح معه قادتها لا يقيمون أي وزن يذكر للمقاومة المحلية مهما تعاظم نفوذها وتقوت شوكتها.
وفعلا، سقط المغرب تحت جبروت الإمبريالية متعددة الرؤوس، واحتفظت الجمهورية الفرنسية لنفسها بحصة الأسد في ذلك التقسيم الجائر، في حين كان على إسبانيا أن تحتل المنطقة الشمالية، بإرادة ودعم من الإمبراطورية البريطانية، التي كانت لا تغيب عنها الشمس، نظرا إلى ترامي أطراف مستعمراتها عبر العالم.
وقد فرضت هذه الأخيرة على كل الدول المتنافسة على استعمار المغرب تخصيص منطقة دولية حول مدينة طنجة، وفقا لما كانت تمليه عليها مصالحها الاستراتيجية. ومما لا شك فيه أن بريطانيا كانت إلى حد بعيد هي صاحبة الكلمة الفصل في رسم الخريطة الكولونيالية بالمغرب.
في هذه الظروف التاريخية العصيبة تميز أبناء الريف الأشاوس بمواقفهم البطولية التي لا تلين، وباستمراريتهم النضالية التي لا تنكسر. لم يبهرهم العدو أو يرهبهم باستعراض عضلاته، رغم كثرة عدته وعتاده، ولم يزدهم التكالب الاستعماري الغاشم على البلاد إلا ثقة بالنفس، وطموحا في رفع سقف التحديات.
لقد علمتهم المواجهات المريرة مع العدوان الإسباني في الشمال المغربي، على امتداد عقود من الزمن، أن قوة الإرادة وصلابة العزيمة دفاعا عن الحرية والكرامة هي الرافعة الأساسية للكفاح مهما عظم الخطب وتوالت النكبات.
ويشهد التاريخ أنه منذ انحطاط الدولة المغربية وأفول نجمها السياسي والعسكري ظل أبناء الريف بمثابة الدرع الواقي والسيف المسلول في وجه أطماع وتطاولات الأعداء على البلاد، فكانوا بالمرصاد للهجمات الإسبانية المتتالية على المنطقة، وبصفة خاصة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.
وظهر من بينهم زعماء قياديون أشداء وأمراء جهاد أفذاذ، أمثال الشريف محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، الذين شهد لهم التاريخ بالكفاءة الميدانية العالية والفكر الاستراتيجي الخلاق.
لقد كانوا بحق نموذجا منقطع النظير في التضحية والتحرير، نالوا بفضله إعجاب وتقدير الأعداء والأصدقاء على حد سواء، وأضحوا مدرسة قائمة الذات في الكفاح من أجل القيم الإنسانية الراقية والمبادئ الحقوقية والأخلاقية الأساسية لفائدة البشرية جمعاء. وفي هذا السياق بالتحديد جاءت واقعة أنوال لتسجل للريفيين دخولهم الرائع من البوابة الرسمية للتاريخ العالمي.
انهيار القوات الإسبانية أمام ثبات المجاهدين الريفيين
بتاريخ 25 غشت 1919 عينت الحكومة الإسبانية الجنرال برينكر مقيما عاما على منطقة نفوذها الكولونيالي بالمغرب، بعد وفاة سلفه الجنرال خوردانا. وهو التاريخ نفسه، الذي تم فيه تعيين الجنرال سلفستر على الجبهة الريفية الغربية قصد مواجهة قبائل بني عروص، التي كانت آنذاك تحت لواء الشريف الريسوني المتقلب الأدوار.
وفي السنة الموالية انتقل الجنرال سلفستر إلى مليلية ليكون على رأس القيادة العليا للجيش الإسباني هناك، وكان واضحا من سلوكاته وتصريحاته المستفزة لشخصية الريفيين وكبريائهم أنه يستعجل اكتساح كل المناطق الريفية الشرقية غير مكترث بما قد تقوم به قبائل تلك المناطق من ردود دفاعية فتاكة.
والواقع أنه بدأ فعلا يحرز بعض التقدم الميداني، ويحتل بعض المواقع داخل تراب تلك القبائل ليجعلها مراكز أمامية تنطلق منها لاحقا هجماته العدوانية الهادفة إلى الاستيلاء الشامل على معاقل الريفيين.
والجدير بالإشارة أن الجنرال سلفستر كان يتمتع بدعم شخصي ومباشر من ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر، مما زاده غرورا واستعلاء حتى في إطار علاقاته مع المقيم العام الإسباني بتطوان. وكان من بين تقاريره "الانتصارية" برقية بعث بها إلى هذا الأخير يعلن له فيها احتلال إغريبن، وهو موقع يوجد بين قبيلتي تمسمان وبني توزين غير بعيد عن معسكر أنوال.
وهذا هو نص تلك البرقية، نقلا عن أحمد البوعياشي: "لقد قمنا في الساعة الثامنة من صباح يوم 17 يونيو 1921 باحتلال جبل إغريبن بين سمار وأنوال، لضمان الطريق الواصل بين ابن الطيب (ببني وليشك) وأنوال، وتركيز العمل ببني وليشك. فقمنا بتشييد التحصينات، وبالتقوية اللازمة للحماية، كما قمنا بجلب فرقتين من المشاة، وفرقة من أصحاب الرشاشات، وبطارية مدفعية، وقد قام رجال البوليس بالتراشق بالرصاص مع جيش العدو، فجرح جندي من طرفنا، وقد اضطر العدو إلى التراجع للوراء.
وكانت جيوش العدو التي شاركت في هذه العملية تتكون من فرقتين، جاءت واحدة من زاوية سيدي بويعقوب والثانية من الرابية عند المنفذ".
والحقيقة أن ما كان الجنرال سلفستر يسميه "جيوش العدو" لم يكن سوى مجموعات صغيرة من المقاومين الريفيين الشجعان، الذين سرعان ما التفوا حول قائدهم محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي أبان عن قدرة خارقة في التعبئة والتأطير. ولا بأس أن نعطي هنا ولو لمحة وجيزة عن بداية المسيرة الجهادية لهذا البطل الشهم.
لقد خلدت الكتابات الإعلامية العالمية اختصارا محمد بن عبد الكريم الخطابي تحت اسم والده عبد الكريم. والمعروف عنه أنه ازداد في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر في أجدير. شب وترعرع في أحضان عائلة متنورة تتمتع بسمعة طيبة في الأوساط الريفية، وكانت تنحدر من قبيلة بني ورياغل-فرقة آيت خطاب.
اختار محمد بن عبد الكريم الخطابي المسار التعليمي، الذي مكن والده من ممارسة القضاء، وكان شغوفا بالدراسات الفقهية، وهذا ما كان دافعا إلى انتقاله إلى فاس طلبا للعلم بجامعة القرويين، التي مكنته من الارتواء من علوم ومعارف شيوخها. كما أنه كان ملما باللغة الإسبانية وثقافتها. وهكذا، بحكم انتمائه العائلي والقبلي، إلى جانب تكوينه في الثقافتين المغربية والإسبانية، وجد فيه المستعمر الإسباني نموذجا مثاليا للاستقطاب من أجل تدعيم اختراقه للمجتمع الريفي وترسيخ قدمه بالمنطقة.
وهكذا، عمل محمد بن عبد الكريم الخطابي محررا بصحيفة "تلغراف الريف" الصادرة بمليلية، ثم أستاذا وموظفا بمكتب الشؤون الأهلية، بالإضافة إلى مزاولته مهنة القضاء، التي ارتقى فيها إلى منصب قاضي القضاة بمليلية. كانت مواقفه من الاستعمار الأوروبي واضحة منذ مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، ليس فقط بالنسبة إلى مخططات احتلال المغرب، بل بالنسبة إلى المد الاستعماري في إفريقيا الشمالية قاطبة.
ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى بدأ يبتعد تدريجيا عن مظلة السلطة الاستعمارية الإسبانية وتحصن بأجدير على مقربة من الحسيمة بين أهله وذويه. وكان يعلم أن التدابير الانتقامية الإسبانية ستلاحقه: لقد ذاق مرارة السجن وكسرت ساقه اليمنى عندما حاول الهروب من قبضة الإسبان، الذين أصبحوا يطاردون آل الخطابي بعدما فشلت كل محاولاتهم الهادفة إلى إغراء هذه العائلة النبيلة.
غادر محمد بن عبد الكريم الخطابي مليلية بصفة نهائية سنة 1919 ليقيم بأجدير، التي شهدت زواجه ووفاة أبيه القاضي عبد الكريم. وفي هذه البلدة وضع محمد بن عبد الكريم الخطابي اللبنات الأولى لما أطلق عليه الريفيون اسم "الريفوبليك"، التي تبلورت معالمها مباشرة بعد انتصار أنوال الساحق سنة 1921، وكانوا يقصدون بذلك حكما منظما ومستقلا بمثابة تحدٍّ للمستعمر الإسباني "بوجروان" – آكل الضفادع.
أما فيما يتعلق بمعركة أنوال على وجه الخصوص، فيمكن أن نجزم بأنها جاءت تتويجا لعدة مجابهات مع القوات الغازية امتدت من فاتح يونيو 1921 إلى 26 يوليوز من السنة نفسها، وكانت متسلسلة كالتالي: ظهر أبران، سيدي إبراهيم، إغريبن وأنوال. ويفهم من هذا التطور المتلاحق أن معركة أنوال لم تكن نتيجة لتخطيط مسبق سطرته المقاومة الريفية، وجعلته هدفا يتصدر أولوياتها الاستراتيجية، بل كانت مجرد مرحلة عادية على درب النضال المستميت.
ورغم هذا الانتصار الباهر، فإن الريفيين، خلافا لما يعتقد، لم يبتهجوا له كثيرا، لأنهم كانوا في موقع دفاعي مشروع، ولم يقوموا إلا باسترداد ما ضاع منهم، وكانوا على يقين تام بأنهم ما زالوا في بداية مشوار الانعتاق، مع علمهم بالحجم الحقيقي لقوات العدو، وبإمكانية حدوث تحالفات استعمارية واسعة ضدهم.
ومن هنا فإن انتصار أنوال كان يحمل في طياته بوادر احتمالات قوية تنذر بفشل الثورة الريفية، وهي مفارقة عنيدة كان يغذيها المنطق الإمبريالي السائد يومئذ، لكن هذه المعركة هي التي شكلت بكل وضوح الخطوة الحاسمة في بزوغ قمر الانتفاضة الريفية في صيغتها التاريخية.
نتائج المعركة..
تتضارب الأرقام والتأويلات في تحديد الخسائر الإسبانية والريفية الناجمة عن تطاحنات أنوال، لكن كافة المصادر تجمع على أنها كانت هزيمة نكراء وكارثة وطنية بكل المقاييس بالنسبة إلى الإسبان. بالمقابل كانت بالنسبة إلى الريفيين وسام شرف تاريخيا في الدفاع عن الكرامة وشهادة استحقاق عالمية في النضال التحريري.
وفي كتاب "مذكرات ابن عبد الكريم" حصيلة لما كسبه الريفيون من هذه المواجهة على لسان بطل الريف: "ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع، سواء من عيار 75 أو 65 أو 77، وأزيد من 20000 بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتموينا كثيرا يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم. وإجمالا "تبرعت" علينا إسبانيا بين عشية وضحاها بكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشا ونشن حربا كبيرة. لقد أخذنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15000 جندي ما بين قتيل وجريح".
تم الإفراج لاحقا عن الأسرى الإسبان الناجين من الموت المحقق مقابل مبلغ مالي يقدر بأربعة ملايين بسيطة إسبانية، مما أعطى إضافة نوعية، عسكريا وسياسيا، للتنظيم الريفي الجديد. ومن هذا المنظور، فإن معركة أنوال كانت فتحا مبينا بالنسبة إلى المقاومة الريفية، التي بدأت تتعزز يوما عن يوم بانضمام حماسي للقبائل المجاورة. وللإشارة، فإن الجنرال سلفستر لقي حتفه خلال هذه المعركة.
لقد كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يدرك جيدا، بحكم احتكاكه السابق بالإدارة الاستعمارية الإسبانية، أن مشكلة مقاومة الشعب المغربي للاستعمار، عموما، كانت تتجلى قبل كل شيء في غياب التنظيم المحكم والالتحام الشعبي الصلب، وأعطى الدليل القاطع، من خلال انتصار عناصره في معركة أنوال، على أن الشعب إذا أراد يوما الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
كانت هذه، في الواقع، هي المكاسب المعنوية التي بقيت أغلى وأهم نتيجة سجلها أبناء الريف المجاهدون. وباستسلام عبد الكريم للقوات الفرنسية يوم 26 ماي 1926 يكون الستار قد أسدل على التجربة الريفية الجهادية لتظل حاضرة إلى الأبد في أذهان كل المغاربة الغيورين على سيادة بلدهم، وفي أذهان كل محبي السلام عبر العالم.
*أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة