عن موقع الأيام24
في كتابه “العلم المرح” كان نيتشه ينصح الإنسان قائلا: “إن السر لحصاد أعظم، وإثمار أكبر قدر من الاستمتاع في الوجود هو العيش بشكل خطير، ابن مدنك على سفوح جبل فيزوف”. وهو جبل بركاني في إيطاليا مشهور بثورانه الذي دمّر مدنا رومانية بكاملها.
لم نختر بمحض إرادتنا أن نعيش إلى جانب الخطر ولم نتعلم كيف نقيم فيه، لكن جائحة كورونا دفعت بالكثيرين منا أن يقيموا على حدود الموت، في قلب المستشفيات إلى جانب من قُدّرت عليهم الإصابة بالفيروس القاتل. عقود طويلة ونحن نتفرج من بعيد على أزمات العالم، من جنون البقر إلى أنفلونزا الخنازير، وحتى إيبولا وسارس.. لكن مع فيروس كورونا المستجد، اكتست الحكاية طابعا معولما لم نعد فيه استثناء.
خارج تتبع أرقام عدد المصابين، والناجين الذين تماثلوا للشفاء، وأولئك الذين قضوا نحبهم، ومن أظهرت التحاليل المخبرية أنهم أصبحوا ضمن فريق المصابين بفيروس كورونا، في يوميات أضحت مثل النشرات الجوية، نتابعها على الساعة السادسة من مساء كل يوم من خلال الندوة الصحافية لوزارة الصحة..
اخترنا هنا الكشف عن جانب إنساني من معاناة محاربين في الصفوف الأمامية، يخوضون ما يشبه عملا ملحميا، لا نسمع منه إلا الصدى. لكن في قلب المعيش اليومي لأطباء وممرضين، نساء ورجال مغاربة، نستكشف حياة مليئة بالدمع والخوف، وقدرة إنسانية كبرى على المقاومة، كما نجد أيضا جراحا وانكسارات، يرويها بعض الممرضين والممرضات الذين تحدثنا إليهم، بنوع من الشهامة الإنسانية. ومن بينهم طبيبة فرنسية من ضواحي باريس فتحت قلبها لـ “الأيام” للحديث عن “روتين يومي” من نوع إنساني، فيه الكثير من التضحية والإيثار والمقاومة والتضامن، في معركة كونية ضد فيروس “كوفيد 19”.
كشفت طبيبة فرنسية من أصول مغربية لـ “الأيام”، أن عملها أصبح شاقا مع تزايد أعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد. (س. ب) تشتغل بمستشفى صغير بضواحي باريس يضم 15 سريرا، تقول إن هناك غرفا مزدوجة تضم سريرين، “لكن بسبب انتشار العدوى، اكتفينا بوضع مريض واحد في كل غرفة. عملنا يبدأ على السابعة صباحا ويستمر حتى الخامسة مساء، أو العكس حين نعمل في مناوبة ليلية، حيث نقوم بشكل يومي بمراجعة حالة المرضى المصابين، بأخذ عينات من الدم لفحصها، ثم نقوم بمراقبة الضغط الدموي، وقياس الحرارة بشكل خاص لأن المرضى بفيروس كورونا يصابون عادة بالحمى، وتظهر عليهم مرات عديدة في اليوم. نقدم للحالات غير المستقرة مضادات حيوية، وأدوية “دوليبران” و”باراسيطامول” بالتناوب، ثم جرعات السيروم.
في كل مصلحة (service) هناك ممرضتان ومساعدتان، كما تم استقدام طلبة مساعدين بسبب الضغط الذي أحدثته كثرة المصابين بفيروس كورونا”…
قبل مراقبة المرضى، تؤكد الطبية الفرنسية ذاتها أن “هناك لباسا خاصا نرتديه للتقليل من مخاطر انتقال عدوى الفيروس إلينا، وتلزمنا عشر دقائق لارتداء اللباس وفق احترام تعليمات الوقاية الصحية. أغلب المرضى المصابين بالفيروس في هذا المستشفى الصغير من المتقدمون في السن، وهم في الواقع أصعب الحالات، لأن وضعهم الصحي مع الإصابة بالفيروس يتدهور بشكل سريع، وهو ما يفرض علينا بعد المراجعة الأولى مراقبة وضعهم كل ساعتين، وقد فقدنا هنا الكثير من المسنين بسبب هذا الفيروس”.
حين يتدهور وضع المرضى بشكل خطير، تضيف الطبيبة الفرنسية في حديثها لـ “الأيام”، ننقلهم إلى قسم الإنعاش. “الزيارة ممنوعة كليا حتى على المقربين من المريض خوفا من انتقال العدوى إليهم، أما بالنسبة للموتى فهم لا يغسّلون وفق الطقوس الجنائزية العادية بل يُحملون مباشرة إلى المقبرة خوفا من يؤدي الاحتفاظ بهم في مركز حفظ الموتى لزيادة مخاطر انتشار الفيروس. حتى العائلات لا تحضر طقوس الدفن الاستثنائية بحكم الحجر الصحي ومنع التجمعات”.
أما بالنسبة لظروف العمل والأجهزة الطبية، فتكشف الطبيبة، التي رفضت الإعلان عن اسمها، أن المستشفى الذي تعمل به “امتلأ عن آخره، بسبب طاقته الاستيعابية الصغيرة وتزايد أعداد المصابين. في البداية كانت لدينا فقط مطهرات كحولية لغسل أيدينا، وقد أعطونا كمامات منتهية الصلاحية أنتجت منذ عام 2009، فلم تحم العاملين من العدوى. عشنا أوقات رعب حقيقية، ولكننا اليوم نتوفر على أجهزة متطورة وواقيات صحية، تحد من إمكانيات انتقال العدوى، وتجعلنا نشتغل باطمئنان أكبر، ولكن مع ذلك فقد أصيب أطباء بيننا وممرضون يعملون معنا، ويبدو أن الوضع يزداد خطورة”.
“ما يؤلمني أكثر هو أن جميع المصابين الذين ماتوا بسبب كورونا المستجد، ماتوا في عزلتهم القاسية لوحدهم، وذات ليلة أبكاني مريض كان يحتضر، وكان لديه طلب أخير أن يرى زوجته وابنه، وظل يبكي طيلة الليل ويصرخ باسم عائلته، لكن توفي لوحده. حتى الناس الذين يموتون بسبب السرطان نلمس لديهم استعدادا نفسيا مسبقا، فهم يعرفون أنهم سيرحلون عن الدنيا، ويتعايشون مع الألم، لكن فيروس كورونا يداهم المصابين على غفلة، ويخطفهم من الوجود وهم يعانون وحيدين في غرفة منعزلة لا يقترب منهم أحد. قد يدخل أحدهم يوم الاثنين مثلا ويغادر الدنيا يوم الثلاثاء وحيدا في عزلته.. وهذا يؤلمنا جميعا، الناس يموتون لوحدهم في غرفهم بدون زيارة، ولا حتى شخص من أقاربهم وأحبابهم يخرجهم من وحدتهم ويخفف عنهم الألم. إنهم يموتون ويدفنون بلا أي طقوس أو مراسيم، وقبلها يحسون بأنهم مصدر خطر، ويتفهمون أن الكل يبتعد عنهم ويفر منهم. الأمر جد مؤلم من الناحية الإنسانية قبل المهنية الصرفة”.
لكن ثمة جانب إنساني في قلب هذا الخطر الذي جاء به فيروس كورونا المستجد، تكشف عنه الطبيبة الفرنسية لـ “الأيام” بالكثير من الشهامة موضحة: “مع كل هذه المخاطر التي سردت لك وهي فقط نقطة من بحر، لأن هناك جوانب إنسانية ومهنية تدخل في باب السر المهني وميثاق الشرف الذي ينظم مهنتنا فلا يمكن البوح بها، نحس كطاقم أطباء، إلى جانب الممرضين، بنوع من الفخر لكوننا نساعد المرضى المصابين بكورونا ونحاول التخفيف من آلامهم ووحدتهم، ومن قُدرت له الحياة وبقي حيا بعد الإصابة، هو المؤهل أكثر ليصدر حكمه على ما قدمنا من مساعدة وتضحيات جسيمة، وعمل حتى خارج الأوقات المحددة لنا، وكل هذا وسط رعب خطر انتقال العدوى إلينا بشكل لا يمكن تصوره، هذا هو مصدر اعتزازنا”.
في كتابه “العلم المرح” كان نيتشه ينصح الإنسان قائلا: “إن السر لحصاد أعظم، وإثمار أكبر قدر من الاستمتاع في الوجود هو العيش بشكل خطير، ابن مدنك على سفوح جبل فيزوف”. وهو جبل بركاني في إيطاليا مشهور بثورانه الذي دمّر مدنا رومانية بكاملها.
لم نختر بمحض إرادتنا أن نعيش إلى جانب الخطر ولم نتعلم كيف نقيم فيه، لكن جائحة كورونا دفعت بالكثيرين منا أن يقيموا على حدود الموت، في قلب المستشفيات إلى جانب من قُدّرت عليهم الإصابة بالفيروس القاتل. عقود طويلة ونحن نتفرج من بعيد على أزمات العالم، من جنون البقر إلى أنفلونزا الخنازير، وحتى إيبولا وسارس.. لكن مع فيروس كورونا المستجد، اكتست الحكاية طابعا معولما لم نعد فيه استثناء.
خارج تتبع أرقام عدد المصابين، والناجين الذين تماثلوا للشفاء، وأولئك الذين قضوا نحبهم، ومن أظهرت التحاليل المخبرية أنهم أصبحوا ضمن فريق المصابين بفيروس كورونا، في يوميات أضحت مثل النشرات الجوية، نتابعها على الساعة السادسة من مساء كل يوم من خلال الندوة الصحافية لوزارة الصحة..
اخترنا هنا الكشف عن جانب إنساني من معاناة محاربين في الصفوف الأمامية، يخوضون ما يشبه عملا ملحميا، لا نسمع منه إلا الصدى. لكن في قلب المعيش اليومي لأطباء وممرضين، نساء ورجال مغاربة، نستكشف حياة مليئة بالدمع والخوف، وقدرة إنسانية كبرى على المقاومة، كما نجد أيضا جراحا وانكسارات، يرويها بعض الممرضين والممرضات الذين تحدثنا إليهم، بنوع من الشهامة الإنسانية. ومن بينهم طبيبة فرنسية من ضواحي باريس فتحت قلبها لـ “الأيام” للحديث عن “روتين يومي” من نوع إنساني، فيه الكثير من التضحية والإيثار والمقاومة والتضامن، في معركة كونية ضد فيروس “كوفيد 19”.
كشفت طبيبة فرنسية من أصول مغربية لـ “الأيام”، أن عملها أصبح شاقا مع تزايد أعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد. (س. ب) تشتغل بمستشفى صغير بضواحي باريس يضم 15 سريرا، تقول إن هناك غرفا مزدوجة تضم سريرين، “لكن بسبب انتشار العدوى، اكتفينا بوضع مريض واحد في كل غرفة. عملنا يبدأ على السابعة صباحا ويستمر حتى الخامسة مساء، أو العكس حين نعمل في مناوبة ليلية، حيث نقوم بشكل يومي بمراجعة حالة المرضى المصابين، بأخذ عينات من الدم لفحصها، ثم نقوم بمراقبة الضغط الدموي، وقياس الحرارة بشكل خاص لأن المرضى بفيروس كورونا يصابون عادة بالحمى، وتظهر عليهم مرات عديدة في اليوم. نقدم للحالات غير المستقرة مضادات حيوية، وأدوية “دوليبران” و”باراسيطامول” بالتناوب، ثم جرعات السيروم.
في كل مصلحة (service) هناك ممرضتان ومساعدتان، كما تم استقدام طلبة مساعدين بسبب الضغط الذي أحدثته كثرة المصابين بفيروس كورونا”…
قبل مراقبة المرضى، تؤكد الطبية الفرنسية ذاتها أن “هناك لباسا خاصا نرتديه للتقليل من مخاطر انتقال عدوى الفيروس إلينا، وتلزمنا عشر دقائق لارتداء اللباس وفق احترام تعليمات الوقاية الصحية. أغلب المرضى المصابين بالفيروس في هذا المستشفى الصغير من المتقدمون في السن، وهم في الواقع أصعب الحالات، لأن وضعهم الصحي مع الإصابة بالفيروس يتدهور بشكل سريع، وهو ما يفرض علينا بعد المراجعة الأولى مراقبة وضعهم كل ساعتين، وقد فقدنا هنا الكثير من المسنين بسبب هذا الفيروس”.
حين يتدهور وضع المرضى بشكل خطير، تضيف الطبيبة الفرنسية في حديثها لـ “الأيام”، ننقلهم إلى قسم الإنعاش. “الزيارة ممنوعة كليا حتى على المقربين من المريض خوفا من انتقال العدوى إليهم، أما بالنسبة للموتى فهم لا يغسّلون وفق الطقوس الجنائزية العادية بل يُحملون مباشرة إلى المقبرة خوفا من يؤدي الاحتفاظ بهم في مركز حفظ الموتى لزيادة مخاطر انتشار الفيروس. حتى العائلات لا تحضر طقوس الدفن الاستثنائية بحكم الحجر الصحي ومنع التجمعات”.
أما بالنسبة لظروف العمل والأجهزة الطبية، فتكشف الطبيبة، التي رفضت الإعلان عن اسمها، أن المستشفى الذي تعمل به “امتلأ عن آخره، بسبب طاقته الاستيعابية الصغيرة وتزايد أعداد المصابين. في البداية كانت لدينا فقط مطهرات كحولية لغسل أيدينا، وقد أعطونا كمامات منتهية الصلاحية أنتجت منذ عام 2009، فلم تحم العاملين من العدوى. عشنا أوقات رعب حقيقية، ولكننا اليوم نتوفر على أجهزة متطورة وواقيات صحية، تحد من إمكانيات انتقال العدوى، وتجعلنا نشتغل باطمئنان أكبر، ولكن مع ذلك فقد أصيب أطباء بيننا وممرضون يعملون معنا، ويبدو أن الوضع يزداد خطورة”.
“ما يؤلمني أكثر هو أن جميع المصابين الذين ماتوا بسبب كورونا المستجد، ماتوا في عزلتهم القاسية لوحدهم، وذات ليلة أبكاني مريض كان يحتضر، وكان لديه طلب أخير أن يرى زوجته وابنه، وظل يبكي طيلة الليل ويصرخ باسم عائلته، لكن توفي لوحده. حتى الناس الذين يموتون بسبب السرطان نلمس لديهم استعدادا نفسيا مسبقا، فهم يعرفون أنهم سيرحلون عن الدنيا، ويتعايشون مع الألم، لكن فيروس كورونا يداهم المصابين على غفلة، ويخطفهم من الوجود وهم يعانون وحيدين في غرفة منعزلة لا يقترب منهم أحد. قد يدخل أحدهم يوم الاثنين مثلا ويغادر الدنيا يوم الثلاثاء وحيدا في عزلته.. وهذا يؤلمنا جميعا، الناس يموتون لوحدهم في غرفهم بدون زيارة، ولا حتى شخص من أقاربهم وأحبابهم يخرجهم من وحدتهم ويخفف عنهم الألم. إنهم يموتون ويدفنون بلا أي طقوس أو مراسيم، وقبلها يحسون بأنهم مصدر خطر، ويتفهمون أن الكل يبتعد عنهم ويفر منهم. الأمر جد مؤلم من الناحية الإنسانية قبل المهنية الصرفة”.
لكن ثمة جانب إنساني في قلب هذا الخطر الذي جاء به فيروس كورونا المستجد، تكشف عنه الطبيبة الفرنسية لـ “الأيام” بالكثير من الشهامة موضحة: “مع كل هذه المخاطر التي سردت لك وهي فقط نقطة من بحر، لأن هناك جوانب إنسانية ومهنية تدخل في باب السر المهني وميثاق الشرف الذي ينظم مهنتنا فلا يمكن البوح بها، نحس كطاقم أطباء، إلى جانب الممرضين، بنوع من الفخر لكوننا نساعد المرضى المصابين بكورونا ونحاول التخفيف من آلامهم ووحدتهم، ومن قُدرت له الحياة وبقي حيا بعد الإصابة، هو المؤهل أكثر ليصدر حكمه على ما قدمنا من مساعدة وتضحيات جسيمة، وعمل حتى خارج الأوقات المحددة لنا، وكل هذا وسط رعب خطر انتقال العدوى إلينا بشكل لا يمكن تصوره، هذا هو مصدر اعتزازنا”.