NadorCity.Com
 


قراءة في شريط "السكوت القاتل"


قراءة في شريط  "السكوت القاتل"
محمد بوتخريط . هولندا

عندما نطق "السكوت القاتل" زنا المحارم..هذا ( الطابو) المسكوت عنه.

قد لا أختلف مع الكثير إن قلت أننا وخلال السنوات الأخيرة حظينا بنمو لا بأس به في مجال الإنتاج الدرامي الأمازيغي الريفي ...
شاهدنا أفلاما سينمائية وأخرى تلفزية وظهرت سيتكومات وأفلام قصيرة ... بل أن من بين كل هذا وذاك ظهرت افلام جديدة لم نعهدها كثيرا من قبل ، ليس فقط على مستوى الإنتاجات الأمازيغية بل وكذلك العربية وهي أفلام من نوع ما يصطلح عليه ب " أفلام الرعب ". لم نعهدها كثيرا.. ربما لكون الواقع عندنا هو أكثر رعبا من الخيال السينمائي ذاته ، فاختلطت الأمور عندنا كما عند المخرجين وكتاب السيناريو حول التصنيفات الواجبة اعتمادها . فاحتمال أن تسير فتاة في شوارع وأزقة المدينة - على سبيل المثال - ويعترض طريقها قاطع طريق يهددها بل وقد يغتصبها أو قد يسلبها وفي رمشة عين كل ما تملك ، أكثر بكثير من احتمال ظهور " عفريت " من الجن "يرعبها".

من بين هذه الأعمال التي تحفَّظ البعض منا على تصنيفها نجد فيلم "السكوت القاتل" الذي بثته القناة الأمازيغية مؤخرا ضمن خارطة برامجها الرمضانية وقامت بإنتاجها شركة ثازيري للإنتاج لفائدة ذات القناة.
نجح عنوان الفيلم "السكوت القاتل" الحامل لدلالات وإيحاءات كثيرة ، كما لعلامات استفهام عديدة ، في جذب الكثير منا لانتظار يوم البث لمشاهدة الفيلم ، ربما لكون مخرجه أتانا من بلد فيه تُصنع السينما او ربما بسبب نوعيته التي أدرجها صانعوه ضمن أفلام "الإثارة و الرعب" أو ربما فقط لتعطشنا الى مشاهدة اي منتوج محلي أمازيغي ريفي يروينا .
وبعد أن أتاحت لنا ذات القتاة فرصة مشاهدة الشريط،استطيع التأكيد على أن العنوان كان بعيدا شيئا ما فى إعطاء تصور أولي للمتفرج عن الصورة الكاملة التي سيكون عليها الفيلم .. وهذا أجمل ما في الأمر. لأنك والحالة هذه ملزم لتذوق كل كبيرة وصغيرة في أحداث الفيلم لاكتشاف سر عنوانه ... وهو السر الذي كشفته وفي جملة واحدة ، اللحظات الأخيرة من الشريط.

تتحدث قصة الفيلم عن ظاهرة زنى المحارم من خلال حكاية عائلة صغيرة مكونة من زوجين وابنيهما(سمير ، لويزة وأنير )عادا من الخارج لزيارة أم الزوجة المريضة .. يجدانها تحتضر على فراش الموت وقبل أن تلفظ انفاسها الأخيرة تخبر ابنتها أنها ليست أمها الحقيقية . لتبدأ بعد ذلك رحلة البحث عن "الأم الحقيقية" في بلدة بقرية نائية في الريف...لتعيش العائلة الصغيرة مواقف وأحداث غريبة مرعبة وغير منتظرة منذ وصولها إلى القرية واتخاذ منزل مهجور بها سكنا لها، لتبدأ بداخله رحلة أخرى مع أجواء غريبة و كئيبة ستلعب فيما بعد دورها في تشكيل كل مجريات الفيلم ، بعد أن يحملنا " المخرج " من خلال طريقة "الفلاش باك" الى عوالم وخبايا الوقائع التي ارتكز عليها الفيلم . وأهمها مشهد الأب الذي هو في حقيقة الأمر ذئب بشري دفعته وحشيته الى اغتصاب ابنته القاصر .

تطور الأحداث في الشريط وبعض ايقاعاته المتقلبة أظافت ميزة خاصة على الفيلم وجعلت منه فعلا فيلما يستحق المشاهدة ، خصوصا وأنت تتفاعل مع هذه الشخصية " لويزة /الزوجة " التي لم تواجه فقط موت أمها وإنما من جهة أخرى فهي فقدت أم لتبحث عن أم أخرى بل أنها كذلك تبحث عن أصلها و "هويتها" وتحاول في نفس الآن أن تحتفظ بعائلتها الصغيرة (إبنها/ أنير و وزوجها/ سمير). وهي القصة الموازية التي تلتقي في منتصف الفيلم مع القصة الرئيسية عندما تحكي لها العجوز (نُونُوتْ) بأن أمها الحقيقية حية تُرزق مسجونة في مستشفى للأمراض العصبية وبعدها ستعرف من الطبيب في ذات المستشفى أن أمها متهمة بقتل زوجها الذي ليس سوى أبوها الذي اغتصب ابنته التي هي أختها.. لتُصِر بعد ذلك أكثر على البحث عن كشف الحقيقة وكل الحقيقة مع تفادي وقوع أي مكروه لعائلتها الصغيرة خاصة إبنها الوحيد( أنير)، مما يجعل القضية قضية واحدة رغم تفرعها أحيانا.

الفيلم يعتبر طفرة نوعية ميزت إنتاجات هذه السنة قدمت لنا إسما واعدا لمخرج كبير في السينما الريفية " أكسيل فوزي " الذي قدم لنا سابقاً أعمالا تلفزية أخرى ليعود إلينا هذه المرة بعمل جديد يثبت من خلاله أن مستوى السير في مسيرته تصاعديا و مستمرا ، ومؤكدا في ذات الوقت أنه قادم بقوة ليرسم اسمه كبيرا على "أفيشات" السينما الأمازيغية الريفية.
باختصار هو مخرج متمكن جدا من أدواته، يحمل نظرة خاصة جدا في العمل الذي يقدمه، كما في "السكوت القاتل" بحيث يقدم لنا "أكسيل" في هذا العمل خلطة سينمائية جديدة من نوعها، تختلط فيها أجواء الرعب و العنف والإنتقام والإغتصاب ، من خلال تناوله لظاهرة تعتبر طابوها من طابوهات المجتمع ، زنى المحارم وانعكاساتها على الأسر . وبين جمالية المكان و تجليات ملامحه في طبيعة الريف وبيوته المعتمة أحيانا و ببعض الديكورات التي قدمها والتي تسودها القتامة في أحيان أخرى ، كما من خلال أهل الريف البسطاء الموشومين بهدوء مميز لا نجده إلا في الريف .

الأداء التمثيلي جاء جيداً. ابدع الممثلون في إتقان أدوارهم بشكل مميز ينم عن مواهب مبدعة جبارة قادمة بقوة لتحجز مكانها على الساحة الفنية السينمائية. وجاء مصطفى الزروالي بقوة كبيرة في الفيلم وبرع في أداء دور الأب / الوحش الآدمي المدمن المتسلط والمغتصِب.
باختصار كان الأداء التمثيلي جيدا تحت رعاية مخرج يحترم لغة التعامل السينمائي ، مبدع في أفكاره ومتمكن من أدواته وفريق العمل المحترف الذي يعمل معه.

ولكن وعلى الرغم من كل هذا وذاك فلا جدال في أن المخرج وهو يطرح قضية مثل قضية زنا المحارم في تجربته السينمائية هذه ، كان يعي جيدا بأنه يدخل منطقة ملغومة لا يجرؤ الكثير من المخرجين دخولها . وأنها مغامرة في التعامل مع مٌشاهدٍ ثقافته مختلفة، حين يفكر في مشاهدة فيلم فهو يريد أن يستمتع ، يحب أن يضحك أكثر مما هو يريد أن يشاهد "سينما" وفن وإبداع.
لذلك هناك من المشاهدين والمتابعين من لم يستحسن العمل ، بل أن هناك من لم يرق له الفيلم جملة وتفصيلا. كما تباينت كذلك بعض الآراء حول السيناريو و الإخراج وسرد الأحداث كما حول تقمص الشخصيات . بل أنه ذهب البعض الى حد القول أنه مهما كانت قناعات المخرج ، كان عليه احترام خصوصيات المنطقة باعتبار الفيلم هو أصلا إنتاج "ريفي" .. ومهما كانت الرسالة التي يحملها مهمة فهي غير مقبولة إن كانت " تخدش الحياء" لأنها بذلك لا تحترم أخلاق المشاهد،الذي هو في الأصل مشاهد"ريفي" محافظ .

ولكن وإن سلمنا جدلا بهذه "المؤاخذات".. فيجب أن لا ننسى أن الفيلم لم يُصنع ليبقى حبيس المنطقة .. فكما للسينما أجنحة تجعلها تسافر الى كل الأمكنة عبر العالم ، فالفيلم كذلك هو للجميع ، يحمل جناحين وسيطير بهما الى ابعد الحدود... وسيشاهده الكثيرون من غير أهل الريف.
ثم ان الفيلم لا يحمل ما "يخدش الحياء" على حد تعبير بعض من نعرفهم. إلا إذا اعتبرنا اللقطة الوحيدة في الفيلم التي ربما تكون قد حملت بعض " الإيحاء" بشيء ما حصل .. وهو مشهد الأب وهو يحاول إغلاق 'سوستة' سرواله حين خرج من بيت" ابنته" بعد أن اعتدى عليها جنسيا واغتصبها .

هي "مؤاخذات" إذن ، طُرحت -ربما- لكون مخرج الفيلم حاول فضح المسكوت عنه في مجتمعاتنا. ولم يحبذ تقديم قصص الحب التافهة التي تملأ شاشاتنا ومعظم الإنتاجات التجارية، باعتبار أن السينما عنده رسالة هادفة .. فاستطاع بذلك بالتالي فتح باب نقاش عن قضية ممنوع الحديث فيها أو تناولها وطرحها ، رغم أنها واقع ملموس في مجتمعاتنا .
فلا أحد يستطيع تصويرالعالم الواقعي مجسد أمامنا سوى السينما.. والمشاهد " الريفي" يتمتع بعين سينمائية وهو قادر أن يدرك بها قيمة العمل ، ولا تغريه أي أساليب أخرى.

الفيلم في مجمله جيد جدا ، لا يخرج عن نمط الواقعية رغم الكم الهائل من الخيال الذي يطبعه ، لذلك قد أختلفُ مع تصنيفه في خانة الرعب والتشويق ، فرغم بعض المشاهد التي تحمل نسمة التشويق و انتظار ما سيحدث إلا أن أغلب المشاهد هي سرد متوقع لما هو منتظر. لذلك و-حسب رأيي المتوضع- فالفيلم قد أصنفه في خانة الأفلام الدرامية الواقعية و ليس في خانة أفلام "الرعب" . رغم أن المخرج كان يحاول في كل مرة أن يسافر بنا الى الأجواء المحيطة بالشخصيات أكثر من الشخصيات تفسها ، ولا يعطي اهتماما للبناء الدرامي التقليدي للشخصية بل وأنه يحاول تعزيز ثيمات "الرعب" على حسابها.
وطبعا لم يأتي ذلك صدفة بل هو طبعا امرا مقصودا من المخرج اعتماده التركيز على الأجواء أكثر ، ونرى ذلك جليا على مستوى الديكورات المبتكرة و الأثاث المؤثت لبيوت المنزل . كما على المستوى الخارجي كذلك عن طريق مناظر من الريف يغلفها ضباب رمادي احيانا وضوء خافت وكئيب في أحيان أخرى ، ويمتزج كل ذلك بموسيقى تتكامل مع مؤثرات صوتية أظافت للفيلم إثارة كبيرة خاصة في مشاهده "المرعبة".
كما عمد المخرج على أشكال أخرى من الإثارة صورها لنا في أشياء صغيرة كان لها تأثير مميز، منها تلك "الأشباح" التي تأتي وتتحرك بسرعة في خلفية المَشاهد، وكذلك بعض الحركات "الفجائية" كأنها أشباح والتي صُورت بطريقة عالية في الإحترافية والجودة جعلتنا نستمتع بها وبالفيلم أكثر.. كما قدم لنا العديد من اللمحات السينمائية الجذابة. دون إغفال كون الفيلم قد طرح كذلك مجموعة من المشاهد والصور المتميزة تركت أثرها في المشاهد كما حال المنزل المهجور المخيف وبيوته وأروقته الداخلية بكل الأحداث "المرعبة التي تقع فيه ، وتلك المنعرجات التي توصل اليه. ثم كذلك المشهد الذي هز الكثيرين منا، مشهد اغتصاب الأب لابنته الصغيرة ، ونهاية طبعا بمشهد النهاية ، جريمة القتل "الثانية" ، التي فاجئنا بها المخرج بل أنه نجح الى حد كبير في خداعنا للحظات ، ولكنه سرعان ما حملنا الى عالم آخر ليرسم على وجوهنا بسمة صغيرة نقلتنا من سواد الجريمة الى مشهد آخر سيبقى هو الآخر حاظرا في ذاكرة كل من شاهد الفيلم:
" انا لم أمت اليوم .. أنا السكوت قتلني منذ زمن بعيد . حين سكتت عن قول الحقيقة " .
هو آخر ما نطقت به الأم .. وأول رسالة خطها الفيلم .. وهو آخر المشهد .. من كل الحكاية .. صمت مميت وسكوت قاتل .. هي باختصار حكاية "السكوت القاتل ".

كخلاصة يمكن القول أن الفيلم يعتبر من أحد أفضل الأفلام التي ظهرت على الساحة السينمائية مؤخراً . أتقن المخرج " أكسيل فوزي" صنع الأجواء المناسبة لعمل جيد من خلال وعيه بما يفعل ونظرته للأشياء التي هي سلم النجاح في مسيرته رغم ضعف وضآلة المساحات بل وإنعدام الإمكانيات أحيانا . هي خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح ، توحي لنا أن خطوات أخرى قادمة تعزز الخطوة التي قام بها " أكسيل" لتوفير البيئة المناسبة لتفجير الطاقات الابداعية و تحويلها الى أعمال ملموسة ، فما زال هناك أشياء كثيرة ننتظرها من "الفن السينمائي الأمازيغي" بالريف .
هو فيلم مِنا ولنا أنصح بمشاهدته .. يستحق التنويه كما مخرجه "أكسيل" الذي أبان أنه يصنع لنفسه يوما بعد يوم مكانة يعزز بها تألقه .. حرص في هذا العمل أن تكون كل التفاصيل وحتى الصغيرة منها في مكانها المناسب بداية من السيناريو والإخراج والتمثيل والتصوير والديكور وأجواء "الرعب" وصولاً الى الموسيقى الرائعة التي أثثت هذه الأجواء طيلة ما يقارب الساعتين عمر الفيلم .

لم أتحدث عن باقي مكونات الفيلم لأن كلها عناصر كانت موفقة و" أكسيل فوزي" كاتب السيناريو و مخرج العمل قام بعمل يستحق التقدير سواءا على مستوى الإخراج أو حتى السيناريو و الحبكة الدرامية للفيلم .. كما أن اختيار الأماكن و المشاهد الطبيعية في الفيلم كانت موفقة جدا ، ولعبت دورا مهما في إبراز ما يزخر به الريف من جمال ، هي أشياء مجتمعة تُشعرك بأن (أكسيل) لم يقم فقط بإخراج وكتابة الفيلم وإنما صنعه بكل حيثياته وتفاصيله الصغيرة والكبيرة وكان له الفضل الأول في الوصول إلى هذا الشكل الذي شاهدناه وجعل منه بالتالي لوحة فنية رائعة في الجمال..
قد يقول عني البعض أني ربما أفرطت شيئا ما في الإعجاب بالفيلم لكنه يستحق فعلا. بالأخص أنني لم أكن أتوقع أن يكون بهذا المستوى. فأحيانا النية التي تسبق المشاهدة تلعب دورا عكسيا في الحكم على الأشياء.

كما نهاية الشريط .. جملة عصماء، نفتقدها اليوم كثيرا ،
لا نحتاج الى "السكوت" نحتاج إلى البوح وكسر التابوهات وتناول المواضيع التي تخلق النقاش وقول الحقيقة . فحياة بلا حقيقة حياة جافة يسودها العذاب والموت البطيء ، يسودها نوع من شريعة الغاب التي طُبقت على أُم البطلة واختها القاصر .
جملة تاريخية ، أفكر بأن أعيدها أمام نفسي لاحقًا على أمل أن تعديني بسحرها .
" أنا السكوت قتلني منذ زمن بعيد . أنا ميتة منذ اليوم الذي سكتت فيه عن قول الحقيقة"
وهذه حقيقة الحكاية .. حكاية "السكوت القاتل"... رحلة استكشاف على طريقة " أكسيل" الجميلة وصورته المبهرة.













المزيد من الأخبار

الناظور

الفنان رشيد الوالي يخطف الأضواء خلال زيارته لأشهر معد "بوقاذيو نواتون" بالناظور

تلاميذ ثانوية طه حسين بأزغنغان يستفيدون من حملة تحسيسية حول ظاهرة الانحراف

بحضور ممثل الوزارة ومدير الأكاديمية.. الناظور تحتضن حفل تتويج المؤسسات الفائزة بالألوية الخضراء

نائب رئيس جماعة بني انصار ينفي ترأسه اللجنة الوطنية للمطالبة بتحرير سبتة ومليلية

البرلمانية فريدة خينيتي تكشف تخصيص وزارة السياحة 30 مليار سنتيم لإحداث منتجع سياحي برأس الماء

تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية

جماهير الفتح الناظوري تحتشد أمام مقر العمالة للمطالبة برحيل الرئيس