سعيد بلغربي
الهوية المسروقة
كتب السير في شمال أفريقيا لا توفر للباحثين الحقيقة الكاملة والمنشودة لتكوين صورة واضحة الدقة والمعالم عن حياة وتراجم الأدباء والمثقفين القدامى، فلا نكاد نعثر سوى على اليسير من الإشارات اليتيمة والمتداولة بشكل بسيط وخجول، لا تستند غالبا إلى أي مصادر موثوقة، ولا نملك منها سوى تلك التحليلات الكولونيالية الحديثة، حيث تتمشى ـ يقول العروي ـ مع إيمانهم بأن فرنسا وارثة رسالة روما الحضارية. كتابات تنكرت للمنجزات الحضارية للأمازيغ، فكرست جهدها في تجريدهم من مقومات الفعل والعطاء والإبداع، وتصويرهم في صورة الإنسان المتخلف العاطل عن التفكير والتغيير والتحضر، وعملت على قطع كل صلة تربطه بجذوره الثقافية والتاريخية، فسعت إلى توفير مادة تتباين بين تأويلات المؤرخين وتناقضاتهم.
الهوية المسروقة
كتب السير في شمال أفريقيا لا توفر للباحثين الحقيقة الكاملة والمنشودة لتكوين صورة واضحة الدقة والمعالم عن حياة وتراجم الأدباء والمثقفين القدامى، فلا نكاد نعثر سوى على اليسير من الإشارات اليتيمة والمتداولة بشكل بسيط وخجول، لا تستند غالبا إلى أي مصادر موثوقة، ولا نملك منها سوى تلك التحليلات الكولونيالية الحديثة، حيث تتمشى ـ يقول العروي ـ مع إيمانهم بأن فرنسا وارثة رسالة روما الحضارية. كتابات تنكرت للمنجزات الحضارية للأمازيغ، فكرست جهدها في تجريدهم من مقومات الفعل والعطاء والإبداع، وتصويرهم في صورة الإنسان المتخلف العاطل عن التفكير والتغيير والتحضر، وعملت على قطع كل صلة تربطه بجذوره الثقافية والتاريخية، فسعت إلى توفير مادة تتباين بين تأويلات المؤرخين وتناقضاتهم.
في سير هؤلاء الأدباء ثغرات كثيرة تجعلهم محط شك وارتياب بخصوص التأكد من أصولهم وانتمائهم الأفريقي الأمازيغي، وسبق للمستمزغ ش.أ جوليان، وأن أكد هذا القول برأيه: «أنه يتعذر أن نعرف بالضبط هل أن كتاب أفريقيا ينحدرون من معمرين رومان، وأغلب الظن أن أكثرهم كانوا من البربر المتأثرين بالحضارة الرومانية الذين عبروا في لغة الفاتحين عما كانت اللغة الليبية وحتى البونيقية قاصرة دونه». وفي هذا الصدد نستفيد من كتابات المؤرخين ما يشير إلى أن يوبا الثاني (50 ق.م ـ 23 ب.م) ـ مثلا ـ فعلاوة على أصله النوميدي الأمازيغي وتربيته الرومانية، فهو بونيقي لما ورثه مع قومه من حضارة قرطاج، وإغريقي بثقافته وذوقه الفني، ومصري بزواجه من إبنة كيلوباترة ملكة مصر (بوكبوط: 44). هذا المزيج الثقافي والهوياتي ساهم ـ بلا شك ـ في إنتاج آراء تختلف وتتضارب في ما بينها حول هذه الشخصيات الفكرية الغامضة؛ حتى إن استقرت الاستنتاجات التاريخية حول انتمائها الأمازيغي الأفريقي.
من خلال روايته «التحولات» يقودنا نص واضح إلى اعتراف أبوليوس (125 ـ 180م) بهويته الأمازيغية، مشيرا إلى أنه بعصاميته بذل مجهودا في الانتقال من لغته الأم إلى تعلم اللغة اللاتينية الدخيلة التي خط بها عمله الأدبي المذكور، وهو الكاتب نفسه الذي حُفظت له القولة المشهورة: «لم يتملكني في يوم من الأيام أي نوع من الشعور بالخجل من هويتي ومن وطني». وما فتئ أن أكد بنفسه في كتاباته على أنه أصيل مدينة مداوروش، (إحدى مدن نوميديا، تبعد 24 كلم تقريبا عن تاغسطا المعروفة اليوم بسوق أهراس بالجزائر). وفي جهة أخرى، يلمح مونصو إلى الخطيب الأمازيغي ماركوس كورنيليوس فرونطو (100 ـ 166م) مؤكدا على انتمائه المغاربي، فهو الذي كتب يوما إلى زوجة الإمبراطور (فاوستين) قائلا: «إنني بربري.. إنني ليبي، ومن منطقة الليبيين النوميديين» (بن ميس: 176). وعن قومية القديس أوغسطين (القرن 5 م) يقول غوتييه: «إنه كان أفريقيا في تشدده الديني وتمسكه بمذهبه»، والشيء نفسه يقال عن الفيلسوف سيبتموس سيفيروس (145 – 211 م) الذي حافظ طويلا على لكنته الأمازيغية المزعجة، التي لازمته طوال حياته.
المثقف الأمازيغي أوغسطين، سيرة الشك
في هذا الشأن، ساعدت كتابات المفكر الديني أوغسطين الواضحة المعالم المؤرخين كثيرا على معرفة جزء من حياته الخاصة والأدبية. وعلى هامش سيرة هذا القديس المبالغ فيها، يتجه العديد من الباحثين ولاعتبارات مختلفة جعلتهم يطلقون العنان لخيالهم الجامح لتكوين صورة تبدو كاملة وفي دقة متناهية ترصد كل التفاصيل حتى المهملة منها، تُجَانب الافتراء والعواطف، وتفرض الأفكار الرغبوية بدلاً من الواقعية. كما هو الحال مع أوغسطين، ففي مقدمة كتابه «اعترافات» التي حررت في سنة 1962، نعثر على سيرة ذاتية غاية في الدقة، متمكنة من جميع مراحل حياة الرجل، بداية من الولادة مرورا بمرحلة الصبا المليئة بمغامرات الشر والمجون لتستقر أخيرا في شخصية مقدسة مفعمة بالتقوى والإيمان المسيحي انتهاء بالوفاة.
ومما يثير الدهشة في مصداقية هذه «المقدمة» أن كاتبها تناول تاريخ الولادة والوفاة باليوم والشهر والسنة، وهذا ما يثير الشك في ماهية طبيعة المصادر التي يمكن لها أن تحافظ على مثل هذه المعلومات الدقيقة من الزيادة والتزوير الذي لحق العديد من النصوص القديمة. وهنا نتساءل: كيف حُمِّلت شهادات أوغسطين بهذه الجدية، وما الذي يبرر صحتها؟ مع العلم أن هناك شخصيات دينية وأدبية من الأهمية بمكان جاءت متأخرة بعدة قرون من زمن أوغسطين إلاّ أننا نجهل عنها الكثير.
فأغلب الإنتاجات الأدبية والفكرية لهؤلاء النخبة مفقودة، لم يبق منها سوى القليل من النصوص والحفريات «الميتة» التي لا تحمل شيئا يفيد في البحث عن أصولهم وسيرهم ومميزات وتقاليد وطقوس شعوبهم، فأكثرها تحوي موضوعات جرت أحداثها في أمكنة وأزمنة ميثية غريبة عن البيئة وعاداتها. وربما يكون طابعها الأسطوري هو الذي ساهم في عدم وجود أي روابط وتفسيرات معقولة بينها وبين أي حدث في الطبيعة. وهذا ما يوضحه العروي بقوله: «أما النصوص الأدبية، اليونانية أو اللاتينية، فإنها مليئة بالألغاز والمعميات، التي تحمل تأويلات متناقضة، وتكثر من ذكر الغرائب والمفارقات».
من خلال روايته «التحولات» يقودنا نص واضح إلى اعتراف أبوليوس (125 ـ 180م) بهويته الأمازيغية، مشيرا إلى أنه بعصاميته بذل مجهودا في الانتقال من لغته الأم إلى تعلم اللغة اللاتينية الدخيلة التي خط بها عمله الأدبي المذكور، وهو الكاتب نفسه الذي حُفظت له القولة المشهورة: «لم يتملكني في يوم من الأيام أي نوع من الشعور بالخجل من هويتي ومن وطني». وما فتئ أن أكد بنفسه في كتاباته على أنه أصيل مدينة مداوروش، (إحدى مدن نوميديا، تبعد 24 كلم تقريبا عن تاغسطا المعروفة اليوم بسوق أهراس بالجزائر). وفي جهة أخرى، يلمح مونصو إلى الخطيب الأمازيغي ماركوس كورنيليوس فرونطو (100 ـ 166م) مؤكدا على انتمائه المغاربي، فهو الذي كتب يوما إلى زوجة الإمبراطور (فاوستين) قائلا: «إنني بربري.. إنني ليبي، ومن منطقة الليبيين النوميديين» (بن ميس: 176). وعن قومية القديس أوغسطين (القرن 5 م) يقول غوتييه: «إنه كان أفريقيا في تشدده الديني وتمسكه بمذهبه»، والشيء نفسه يقال عن الفيلسوف سيبتموس سيفيروس (145 – 211 م) الذي حافظ طويلا على لكنته الأمازيغية المزعجة، التي لازمته طوال حياته.
المثقف الأمازيغي أوغسطين، سيرة الشك
في هذا الشأن، ساعدت كتابات المفكر الديني أوغسطين الواضحة المعالم المؤرخين كثيرا على معرفة جزء من حياته الخاصة والأدبية. وعلى هامش سيرة هذا القديس المبالغ فيها، يتجه العديد من الباحثين ولاعتبارات مختلفة جعلتهم يطلقون العنان لخيالهم الجامح لتكوين صورة تبدو كاملة وفي دقة متناهية ترصد كل التفاصيل حتى المهملة منها، تُجَانب الافتراء والعواطف، وتفرض الأفكار الرغبوية بدلاً من الواقعية. كما هو الحال مع أوغسطين، ففي مقدمة كتابه «اعترافات» التي حررت في سنة 1962، نعثر على سيرة ذاتية غاية في الدقة، متمكنة من جميع مراحل حياة الرجل، بداية من الولادة مرورا بمرحلة الصبا المليئة بمغامرات الشر والمجون لتستقر أخيرا في شخصية مقدسة مفعمة بالتقوى والإيمان المسيحي انتهاء بالوفاة.
ومما يثير الدهشة في مصداقية هذه «المقدمة» أن كاتبها تناول تاريخ الولادة والوفاة باليوم والشهر والسنة، وهذا ما يثير الشك في ماهية طبيعة المصادر التي يمكن لها أن تحافظ على مثل هذه المعلومات الدقيقة من الزيادة والتزوير الذي لحق العديد من النصوص القديمة. وهنا نتساءل: كيف حُمِّلت شهادات أوغسطين بهذه الجدية، وما الذي يبرر صحتها؟ مع العلم أن هناك شخصيات دينية وأدبية من الأهمية بمكان جاءت متأخرة بعدة قرون من زمن أوغسطين إلاّ أننا نجهل عنها الكثير.
فأغلب الإنتاجات الأدبية والفكرية لهؤلاء النخبة مفقودة، لم يبق منها سوى القليل من النصوص والحفريات «الميتة» التي لا تحمل شيئا يفيد في البحث عن أصولهم وسيرهم ومميزات وتقاليد وطقوس شعوبهم، فأكثرها تحوي موضوعات جرت أحداثها في أمكنة وأزمنة ميثية غريبة عن البيئة وعاداتها. وربما يكون طابعها الأسطوري هو الذي ساهم في عدم وجود أي روابط وتفسيرات معقولة بينها وبين أي حدث في الطبيعة. وهذا ما يوضحه العروي بقوله: «أما النصوص الأدبية، اليونانية أو اللاتينية، فإنها مليئة بالألغاز والمعميات، التي تحمل تأويلات متناقضة، وتكثر من ذكر الغرائب والمفارقات».
بين النعمة والنقمة
ومن المعلوم أن الأمازيغ لم يكتبوا تاريخهم الأدبي بل كتبه غيرهم، فأصبح من النادر جدا العثور على معلومات حقيقية تخص هذه النخبة المثقفة، وهذا ما يجعل مثلا، أمكنة وتواريخ ميلادهم تبدو احتمالية ونسبية، استطاع المؤرخون حديثا اجتثاثها اعتمادا على مجموعة من المقاربات التاريخية، أما تواريخ وحيثيات وفياتهم فإنها من أكثر الأمور غموضا، خاصة إذا انتبهنا إلى فتراتِ طويلة من الفوضى والتوترات السياسية والمدنية.. التي عرفتها المنطقة المتوسطية في مراحل عاصفة من تاريخها المظلم، المنطقة التي كانت بمثابة الفضاء العام لتحركات وتجوال هؤلاء الأدباء والفنانين، خاصة «المخلصين» والمحظوظين منهم، والذين كانوا تحت الحماية الرسمية للدولة والكنيسة، إذ كانوا يتحركون بحرية وباستمرار في إطار «زيارات عمل» خاصة، نظرا لطبيعة الوظائف التي كانوا يضطلعون بها في سلك الدولة الرومانية، التي وفرت لهم طرق استغلال وسائل التنقل، إذ أعطى الرومان أهمية خاصة للمواصلات البحرية لتحقيق التحكم في كافة المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وذلك لغرض خدمة النبلاء، وعرض إبداعاتهم وخبرتهم الفنية في أماكن وجود زبنائهم المعروفين بشغفهم بالبذخ والترف.
ويمكن أن نستثني في هذا الباب؛ الأدباء والمفكرون من الفئة الشعبية الدنيا، فأغلبية هؤلاء المثقفين تكالبت عليهم نوائب الدهر وعاشوا حياة التقشف والفقر والتشرد، فتم رميهم في أغلب الأحيان بتهم الهرطقة والسحر والمجون والجنون.. كضريبة على أفكارهم الجريئة، واتخذت في حقهم جميع الإجراءات الممكنة لطمس ذكراهم، وهذا ما يمكن تفسيره بأن المصادر القديمة لم تحفظ لنا أسماء هؤلاء ولم تسجل ولا يذكر التاريخ أي إشارات تفيد بأنهم كانوا محط اهتمام وتكريم في حياتهم الأدبية في حفلات التتويج المختلفة، بالمنقوشات والأكاليل والنصب التذكارية التي كان أغلبها يقام في مناسبات وطنية ودينية، احتفاء بالعديد من فعاليات المجتمع من الأباطرة وسادة المدينة الذين ساهموا في تقديم خدمات جليلة للإمبراطورية الرومانية وللكنيسة بالخصوص.
هناك وثائق تشير إلى أن أبوليوس مثلا؛ ما لبث أن تدرج في المسؤوليات الرسمية إلى أن شغل كرسيا في المجلس البلدي الروماني، وهو الذي صرح شخصيا أمام الملأ في مرافعته الشهيرة، بقوله: «وإني لأطمح بدوري إلى أداء دور مماثل في الدولة، وأن أحظى بالشرف والتقدير، فقد بدأت أشارك في المجلس البلدي»، كما عثر الأثريون له في «حفريات مداورش على تمثال نصفي أهداه له سكان المدينة» (سلطاني: جامعة باتنة)؛ «كُتب في أسفله: (الفيلسوف الأفلاطوني) ونحت له أيضا تمثال ببيزنطة وتمثالان آخران بقرطاج. لكن هذه التماثيل الثلاثة اندثرت كلها. بقيت له ميدالية خشبية موجودة الآن بمتحف باريز للميداليات» (بن ميس: 110). والشيء نفسه قيل عن الريطوريقي الأمازيغي فيكتورينوس أفر (300 ـ 382م).. حسب شهادة القديس أوغسطينوس وغيره، قيل بأنه كان أشهر علماء عصره.
وفي حوالي 353 م نحت له سكان مدينة روما؛ وهو على قيد الحياة، تمثالا بشخصه وضع بساحة تراجان» (بن ميس: 153). كما أنّ اعترفات أوغسطين الثرية بالمعلومات التاريخية، تبين لنا بأن القديس نفسه كان من بين أبرز المنعمين عليهم، وهو القائل بعد «التوبة»: «وكنا نسعى في أثر شعبية رخيصة نجنيها حينا من تصفيق النظارة لنا وأحيانا من المباريات الشعرية التي اشتركنا فيها والجهاد في سبيل أكاليل ذابلة» (اعترافات: 57)، وفي السياق نفسه تؤكد الوثائق الأخرى أن أوغسطين وعلى غرار مواطنه أبوليوس كان عميلا مخلصا للنظام الروماني، خاصة ما تشي به لنا كتاباته المتعلقة منها بمهاجمته ونقده للحركة الشعبية الأمازيغية الدوناتية الرافضة لجميع أشكال التعاون مع السلطة الرومانية، التي جند لها فكره وسلطته الدينية والأدبية وحَارَبَهَا بكل شراسة وقوة. والشيء نفسه يقال عن المثقف الأمازيغي سيبتموس سيفيروس (145 – 211 م)، الذي ازدهرت في فترة حكمه منابع الأدب والفلسفة والعلوم، وكان صاحب شخصية طاغية جعلت منه ولشدة ولعه بالسلطة والجاه أن يأمر بأن يُخلد شخصه بوضع تمثال له وأمر الناس بعبادته، ومازال نصب التمثال قائما إلى اليوم في مدينة لبدة الليببة مسقط رأسه.
كما عثر الآثاريون على تمثال رأسي من البرونز في حالة سليمة يعتقد بأنه للكاتب والعالم الأمازيغي يوبا الثاني بموقع أليلي الأثري (مدينة وليلي المغربية) والمعروض حاليا في المتحف الأثري بالرباط، قد يكون التمثال هدية رمزية أعدّ له تكريما للخدمات الجليلة التي قدمها للإمبراطورية الرومانية، وكان من أبرزها؛ وقوف جيوشه إلى جانب الرومان في محاربة بني جلدته الأمازيغ حينما اندلعت ثورة تاكفاريناس العارمة ضد الرومان (بوكبوط: 45).
وثائق أثرية وأدبية تفيد وفي أكثر التوقعات احتمالا أن هؤلاء المثقفين الأمازيغ رعايا الأباطرة الرومان، كانوا محط احترام وتقدير لما قدَّموه من الطاعة والولاء لروما. هذه الأخيرة التي نهجت سياسة ثقافية تميزت بفتح ذراعيها لاحتضان جميع هؤلاء المفكرين والأدباء والعلماء، ـ يقول إيمَار ـ فراحت تحتفي بهم وبأفكارهم. وهذا ما جعل أحد قوادها يصرح قائلا: «إن دولتي تحت حكمي تجيز المرء على قدر ما يقوم به من أعمال، إنها تساعد الجميع، وتمنح أعلى الدرجات لمن يخدمها في إخلاص» (الجراري:27)، فساهمت في صناعة نخب ثقافية أمازيغية على حساب مقاساتها الإديولوجية، فأصبحوا من أكثر المتهافتين على أبوابها سعيا في تحقيق مصالحهم الذاتية، وذلك في انحراف واضح بمقايضة المواقف بالمكاسب التي وفرتها لهم روما بسخاء كبير.
ومن المعلوم أن الأمازيغ لم يكتبوا تاريخهم الأدبي بل كتبه غيرهم، فأصبح من النادر جدا العثور على معلومات حقيقية تخص هذه النخبة المثقفة، وهذا ما يجعل مثلا، أمكنة وتواريخ ميلادهم تبدو احتمالية ونسبية، استطاع المؤرخون حديثا اجتثاثها اعتمادا على مجموعة من المقاربات التاريخية، أما تواريخ وحيثيات وفياتهم فإنها من أكثر الأمور غموضا، خاصة إذا انتبهنا إلى فتراتِ طويلة من الفوضى والتوترات السياسية والمدنية.. التي عرفتها المنطقة المتوسطية في مراحل عاصفة من تاريخها المظلم، المنطقة التي كانت بمثابة الفضاء العام لتحركات وتجوال هؤلاء الأدباء والفنانين، خاصة «المخلصين» والمحظوظين منهم، والذين كانوا تحت الحماية الرسمية للدولة والكنيسة، إذ كانوا يتحركون بحرية وباستمرار في إطار «زيارات عمل» خاصة، نظرا لطبيعة الوظائف التي كانوا يضطلعون بها في سلك الدولة الرومانية، التي وفرت لهم طرق استغلال وسائل التنقل، إذ أعطى الرومان أهمية خاصة للمواصلات البحرية لتحقيق التحكم في كافة المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وذلك لغرض خدمة النبلاء، وعرض إبداعاتهم وخبرتهم الفنية في أماكن وجود زبنائهم المعروفين بشغفهم بالبذخ والترف.
ويمكن أن نستثني في هذا الباب؛ الأدباء والمفكرون من الفئة الشعبية الدنيا، فأغلبية هؤلاء المثقفين تكالبت عليهم نوائب الدهر وعاشوا حياة التقشف والفقر والتشرد، فتم رميهم في أغلب الأحيان بتهم الهرطقة والسحر والمجون والجنون.. كضريبة على أفكارهم الجريئة، واتخذت في حقهم جميع الإجراءات الممكنة لطمس ذكراهم، وهذا ما يمكن تفسيره بأن المصادر القديمة لم تحفظ لنا أسماء هؤلاء ولم تسجل ولا يذكر التاريخ أي إشارات تفيد بأنهم كانوا محط اهتمام وتكريم في حياتهم الأدبية في حفلات التتويج المختلفة، بالمنقوشات والأكاليل والنصب التذكارية التي كان أغلبها يقام في مناسبات وطنية ودينية، احتفاء بالعديد من فعاليات المجتمع من الأباطرة وسادة المدينة الذين ساهموا في تقديم خدمات جليلة للإمبراطورية الرومانية وللكنيسة بالخصوص.
هناك وثائق تشير إلى أن أبوليوس مثلا؛ ما لبث أن تدرج في المسؤوليات الرسمية إلى أن شغل كرسيا في المجلس البلدي الروماني، وهو الذي صرح شخصيا أمام الملأ في مرافعته الشهيرة، بقوله: «وإني لأطمح بدوري إلى أداء دور مماثل في الدولة، وأن أحظى بالشرف والتقدير، فقد بدأت أشارك في المجلس البلدي»، كما عثر الأثريون له في «حفريات مداورش على تمثال نصفي أهداه له سكان المدينة» (سلطاني: جامعة باتنة)؛ «كُتب في أسفله: (الفيلسوف الأفلاطوني) ونحت له أيضا تمثال ببيزنطة وتمثالان آخران بقرطاج. لكن هذه التماثيل الثلاثة اندثرت كلها. بقيت له ميدالية خشبية موجودة الآن بمتحف باريز للميداليات» (بن ميس: 110). والشيء نفسه قيل عن الريطوريقي الأمازيغي فيكتورينوس أفر (300 ـ 382م).. حسب شهادة القديس أوغسطينوس وغيره، قيل بأنه كان أشهر علماء عصره.
وفي حوالي 353 م نحت له سكان مدينة روما؛ وهو على قيد الحياة، تمثالا بشخصه وضع بساحة تراجان» (بن ميس: 153). كما أنّ اعترفات أوغسطين الثرية بالمعلومات التاريخية، تبين لنا بأن القديس نفسه كان من بين أبرز المنعمين عليهم، وهو القائل بعد «التوبة»: «وكنا نسعى في أثر شعبية رخيصة نجنيها حينا من تصفيق النظارة لنا وأحيانا من المباريات الشعرية التي اشتركنا فيها والجهاد في سبيل أكاليل ذابلة» (اعترافات: 57)، وفي السياق نفسه تؤكد الوثائق الأخرى أن أوغسطين وعلى غرار مواطنه أبوليوس كان عميلا مخلصا للنظام الروماني، خاصة ما تشي به لنا كتاباته المتعلقة منها بمهاجمته ونقده للحركة الشعبية الأمازيغية الدوناتية الرافضة لجميع أشكال التعاون مع السلطة الرومانية، التي جند لها فكره وسلطته الدينية والأدبية وحَارَبَهَا بكل شراسة وقوة. والشيء نفسه يقال عن المثقف الأمازيغي سيبتموس سيفيروس (145 – 211 م)، الذي ازدهرت في فترة حكمه منابع الأدب والفلسفة والعلوم، وكان صاحب شخصية طاغية جعلت منه ولشدة ولعه بالسلطة والجاه أن يأمر بأن يُخلد شخصه بوضع تمثال له وأمر الناس بعبادته، ومازال نصب التمثال قائما إلى اليوم في مدينة لبدة الليببة مسقط رأسه.
كما عثر الآثاريون على تمثال رأسي من البرونز في حالة سليمة يعتقد بأنه للكاتب والعالم الأمازيغي يوبا الثاني بموقع أليلي الأثري (مدينة وليلي المغربية) والمعروض حاليا في المتحف الأثري بالرباط، قد يكون التمثال هدية رمزية أعدّ له تكريما للخدمات الجليلة التي قدمها للإمبراطورية الرومانية، وكان من أبرزها؛ وقوف جيوشه إلى جانب الرومان في محاربة بني جلدته الأمازيغ حينما اندلعت ثورة تاكفاريناس العارمة ضد الرومان (بوكبوط: 45).
وثائق أثرية وأدبية تفيد وفي أكثر التوقعات احتمالا أن هؤلاء المثقفين الأمازيغ رعايا الأباطرة الرومان، كانوا محط احترام وتقدير لما قدَّموه من الطاعة والولاء لروما. هذه الأخيرة التي نهجت سياسة ثقافية تميزت بفتح ذراعيها لاحتضان جميع هؤلاء المفكرين والأدباء والعلماء، ـ يقول إيمَار ـ فراحت تحتفي بهم وبأفكارهم. وهذا ما جعل أحد قوادها يصرح قائلا: «إن دولتي تحت حكمي تجيز المرء على قدر ما يقوم به من أعمال، إنها تساعد الجميع، وتمنح أعلى الدرجات لمن يخدمها في إخلاص» (الجراري:27)، فساهمت في صناعة نخب ثقافية أمازيغية على حساب مقاساتها الإديولوجية، فأصبحوا من أكثر المتهافتين على أبوابها سعيا في تحقيق مصالحهم الذاتية، وذلك في انحراف واضح بمقايضة المواقف بالمكاسب التي وفرتها لهم روما بسخاء كبير.