بقلم: بدر أعراب
شاهدنا جميعا قبل أيام قليلة، كيف تمّ سلخ قرابة مئة منضوٍ تحت لواء التنظيم المحلي للمعطلين بالناظور، حين كانوا بصدد تنفيذ شكل احتجاجي سلمي وحضاري جاء كحلقة مسترسلة ضمن سلسلة الأشكال الاحتجاجية التي انخرطت قواعد التنظيم في البَصْم عليها على غرار ما دأبت على خوضه كل دوائر المعطلين عبر العالم مغربه ومشرقه، بموجب أنها أبسط الحقوق المكفولة دستوريا لدى سائر الأمم ومنها المغرب الذي يتشدق ساسته بأول ما يتشدقون به من قبيل أننا قطعنا أشواطا مراطونية على درب الحريات الأساسية (بين ألاف الأقواس) التي اِجترح المغرب توقّيعا على كافة وثائقها الأممية الضامنة لهذا الحق حتى يتمتع به بني البشر عندنا، وبما أنّ الذي يُسمع ليس كالذي يُرى بأمّ العين، فإننا بإلقاء نظرة متأنية على مستوى الممارسة بعيدا عن (الشفوي) نكاد نشّك في ما إذا كان بلدنا قد وقّع بإسمه حقا على هذه الصيغ الدولية، الكفيلة بانضمام دولة تحترم مضامين إتفاقياتها إلى حظيرة الدول الديمقراطية، أم ختم عليها بطابع يحمل إسما لكوكب شارد في فلك مجرة تائهة مفقودة للأبد.
لقد سيق حوالي المائة معطل قبل متم الشهر المنصرم وبالضبط إبّان ما بات يعرف بالخميس الأسود، إلى حيث المجزرة وكأنهم قطيع خرفان مساقة إلى أقدارها بلا رحمة، حيث الجزارون في انتظار التناوب على سلخها واحدة تلو الأخرى، في مشهد دامي مخزٍ تئن تحت وطأته أعتى الأفئدة قساوة وتندى لها الأجبن، ولسوء الصدف أن القاعة العمومية التي احتوت مُعتصمَ المعطلين كانت مسيّجة عن آخرها إلى درجة لم يعثروا معها عن منفذ واحد وسط هذا الطوق الأمني محكم الإغلاق يلوذون عبره بجلودهم لإطلاق سيقانهم للريح حتى تبتلعهم الزقاقات للنجاة من "العلقة" كأضعف الإيمان، رغما أن الوقفة التي تلاحقت في أعقاب ذلك على الفور بعد قيام المصابين وقفة رجل واحد وهُمْ مضرجون بالدماء ومحنطون بالضمادات يترصدون الجلاد ذي الهراوات عن كثب، بأعين تغلى فيها أحاسيس جياشة فوق نار هادئة، في منظر يدعو السيكولوجيون المغاربة لدراسة مدخل حديث العهد ل"ظاهرة نفسية" جديدة آخذة في التبلور على أرض الواقع بغية الوقوف على حقيقة ما أضحى يؤدي إليه القمع من تداعيات خطيرة تقف وراء إكساب المواطن المغربي الحالي سيكولوجية غدت تنكسر أمامها أصلب الهراوات، تؤكد ( الوقفة ) لمن يجيد القراءة طبعا، ثبات صمودهم وسط المعارك النضالية وفي الميدان إلى آخر قطرة دم، وكما يبدو حتى تحقيق مطلبهم المشروع ولو تطلب الأمر ـ يفيد لسان حالهم ـ تقديم أنفسهم مشاريع شهداء جدد على خطى رفاقهم وإخوانهم في الرضاعة من ثدي هموم العطالة وقسوة الوطن، غير أن ما يُخلفه القمع من شروخات لا تبرح، أقوى في الأنفس من شيء آخر، وقد رأينا التدخل الهستيري غير المبرّر لعناصر قوى الأمن بالشكل الفج الذي كشرت فيه عن أنيابها وأبانت عن هيبة عضلاتها الأمنية إزاء معطلين لا حيلة لهم، فقط تجمعهم بهؤلاء حلبة جغرافية اسمها الوطن، أما وان كسب فوق رقعتها هؤلاء الملاكمين من الوزن الثقيل الجولة الأولى من المعركة المفتوحة التي يبدو أنها سوف لن تنتهي في المنظور القريب، بحضور الشارع العام الذي بدا بمظهر ساخط، رافضا تماما التصفيق لانتصارهم الوهمي، فإن معظم المواطنين ممّن عاينوا سيناريو الرعب هذا عبر الأثير مباشرة، تمنّوا لو أنهم بادلوا عناصر قوات الأمن "التصرفيق" عوض التصفيق لهم وهم يبرزون عضلاتهم وأطقم أنيابهم بكاملها، ناهشة في الأجساد بكل سادية ودموية بلغت فيها الوقاحة ببعضهم حدّ التفنن والإبداع من عندهم في توجيه ضربات تحت الحزام وفوقه وفي كل مكان. ولست أدري بالمناسبة أهو حظ سعد أم نحس عندما تخلفت يومها عن تسجيل حضوري معية الرفاق، بسبب التزامات أخرى أملت عليّ السفر أسبوعا قبل الحادث، ولكن حينما أحاول جاهدا استعادة مشاهد ذات فيلم الرعب ركيك الإخراج هذا، لرجال أقل ما يقال عنهم أنهم مجرد أجساد فارغة من كل جوهر أشعر بالتقزز وبالرغبة في التقيؤ من سلوك بدائي لدى السلطة أكل عليه الزمن وشرب.
ما يحزّ بالنفس حقا يا سادة هو ما حدثنا به أنفسنا أمس، قبل ذلك بقليل، بحيث همس كل واحد منا في أذن الآخر بأن الحكومة الملتحية الجديدة بالرغم ممّا يشاع عنها، ستأخذها الرأفة بأبناء الشعب الذين ذاقوا ذرعا من وطن يخاصمهم في اليوم أكثر من سبعة وعشرين ألف مرة في اللحظة التي يُمنّون بها ذواتهم بغد أفضل لهذا البلد الذي يبدو أنه منذور للخيبة والهزائم دوما، في حين أن بنكيران لم يزد بالأحرى سوى ذرّ الملح على جراح الشباب العاطل في ظل بوادر لا تؤشر أنها ستندمل قريبا، خصوصا عندما يخرج سعادته للإدلاء بتصريحات رسمية تتعلق بشأن الوظيفة العمومية كتلك التي ترددتها الأصداء مؤخرا في الأوساط الإعلامية.
ومن ثم، فإن ما تعرضنا له كمعطلين، بالأمس على مستوى مواقع نضالية عدة منها موقع الناظور والحسيمة وغيرها، بعد انقضاء شهر العسل بين السلطة والمواطن على إثر تراجع مسلسل الحراك الشعبي وتقهقره نتيجة انسحاب العدليين كأحد أبرز مكوناته ومعبّريه السياسيين من داخل حركة العشرين من فبراير، من سيناريو قمعي هستيري استخدمت فيه أشد وسائل الأذى الجسدي والشفهي لدى أجهزة الأمن، من هراوات وركلات وكذا سباب مهين وحاط بالكرامة إلى حدّ يخجل فيه المواطن من مغربيته، يرمي إلى التأكيد على أن السلطة لا تزال تنهج نفس أسلوب الحوار مع معطلي الوطن باللكمات لا الكلمات، هؤلاء لم يقترفوا ذنبا يستحقون عليه هذه "التربية" العقيمة التي أعدتها لهم الدولة وفق نظرياتها المُبحرة في علم البيداغوجيا المبنية على أسس "الزرواطة" والعصا لمن عصى والتي هي بالمناسبة لا تنتج سوى نماذج انهزامية لمواطنين مشوهين خلقيا وأخلاقيا، بل كلّ جرمهم أنهم يحوزون شواهد دراسية هللّ لها ذويهم قبل أن يهللوّا لها هم أنفسهم، فرحا بانفراج مصدر رزق آت لا محالة بعد ضياع سنوات من عمر أبنائهم تحصيلا للدراسة بين مدرجات الجامعات بغية التتويج بوثيقة مختوم عليها بطابع الدولة الرسمي اعترافا بجدارتهم واستحقاقهم الذي يمتد جذوره لسنوات ولا يقاس بمباراة خجلى ما تلبث تطّل إلا لتغيب ردحا مديدا من الزمن.
من السهل جدا علينا كمعطلين مغاربة التصريح جهرا بالرغبة في تجديد إقامة علاقة حبّ حميمية مع الوطن رغم غلظته وفظاظة لهجته، واني هنا لا أتحدث باسم الجميع، ومع ذلك فإن الجميع في الجمعية الوطنية للمعطلين يرفعون عاليا شعارا كم مرة صدحت به حناجرنا لتملأ الأرجاء دويا الى حد القشعريرة "ما أنا فوضوي، ما أنا إرهابي، أنا مواطن مغربي ..." ويمكننا أن نمرّر من حناجرنا أيضا كل أخطاء ماضيه السياسي وسوابقه العدلية وملفاته الملطخة، بجرعة ماء واحدة وكفى، ومنحه "حسن سيرة" جديدة مصادق عليها من طرف المعطلين، أبناءه الأبرار، رغم الغصة التي وقفت تعترضها كحجرة عثرة توقف تنسم هواء الحاضر، ولكن على أمل أن يعيد الوطن ترميم ذاته رأبا للصدع بينه وبين المعطل، على ألا نحيى فاقدي الأمل في غد مشرق قد يأتي وقد لا يأتي، على أن نهمس لبعضنا البعض سرا وجهرا بهذا الحب المتبادل بين كلينا، على أن تلتئم أفئدتنا في السراء والضراء، على أن نكون سويّا في الغدو والعشيّ في أتمّ الجاهزية للدفاع عن مصالح بعضنا البعض، على أن نسكنه عن طيب خاطر مثلما يسكن هو قلوبنا عن طوع دونما إكراه، ويوم يجد الوطن فيه إحساسا من هذا القبيل يبادلنا به فآنذاك نحن مستعدون عن الآخر لإشهار حبّنا له أمام كل العالم، "وفي قلوبنا ينمو حبّ الوطن كما تنمو النباتات بين شقوق الصخر" قال حيدر حيدر الروائي السوري الكبير في رائعته وليمة لأعشاب البحر.
كان لزاما علينا قبل الخوض في أية محاولة للحديث عن واقع البطالة في المغرب لا تحيلنا إلا على ما يشبه الخطاب الغوغائي لأن الموضوع شائك ومعقد، أن نعترف مسبقا بأنها ليست قدرا محتوما سلّطه ربّ العباد على البلاد، بل هي باختصار شديد نتاج تراكم سياسي ماضوي فاشل، فاقد لأية إستراتيجية كفيلة من شأنها حلّ المعضلة من جذورها، ومن "أعراضها" الجانبية على سبيل الاستئناس لا الحصر بروز ما يطلق عليه باقتصاد الريع، هذا الذي أعطت عفونة رائحته هذه الأيام، منبعثة من الصحف الوطنية تلك المتعلقة بفضيحة الكشف عن قائمة أسماء المستفيدين من "الكريمات". لذا أضحى من سابع المستحيلات وجود خطاب وسط الساسة والمسؤولين من شأنه إقناع المعطل بالتخلي عن "الاحتجاج" والتراجع عن خيار النضال والاستماتة في الميدان بعدما مسّته هذه "السياسة" في حياته كلّها، على خلفية ما يعنيه استقرار العامل الاقتصادي في حياة كلّ فرد، واسألوا التاريخ يطلعكم عمّا يشكله الاقتصاد الذي كاد يُشعل الإنسان بسببه "قيامة" في الأرض قبل قيامة الله في السماء، خلال مراحل سابقة، بحيث فتحت أبواب "جهنم" على مصراعيها في كل بلدان المعسكرات الدولية الشرقي والغربي منه واكتوى الجميع بنيرانها وما تزال بعض دول العالم لحدّ الآن تعيش حدّة أثر انعكاساتها السلبية جراء الصراعات التاريخية من أجل لقمة العيش.
وعليه فأيّ بديل بالمستطاع تقديمه للمعطل من أجل مطالبته بالتنازل عن خيار "الاحتجاج"!؟ لا نريد جوابا إننا فقط نطلّ على صحراء على حد قول الراحل محمود درويش، بل دعوني أقولها لكم صراحة من منطلق أنّ "ما يْحسْ بالمَزودْ غير للّي مكْوي به" بالعربية تاعرابت: لو أن بنكيران خرج لها " نيشان" وأعلنها للمعطلين بطاي طاي، بدون مواربة ولا لفٍ ولا دوران، ضمن تصريح حكومي مماثل لا يلومه عليه أحد، بِشأن شهاداتهم الدراسية العليا: بأن يهّموا جميعا بمسح مؤخراتهم بهذه الدبلومات، حتى يعرفوا بالكاد لها من مزية، لكان أجدى لبنكيران من تركهم يلاحقونه ملاحقات لصيقة أينما حلّ وارتحل، كظّله الذي لن يتملص منه أبدا.
وفي المقابل، أمام بلوغ الأمور الباب المسدود فما عاد يبقى لدى المعطلين سوى قذف شهاداتهم في وجه الحكومة عقب أن يصدروا بلاغا مضمونه كالتالي "خذوا وثائقكم ما عدا أمرها يعنينا" كما فعلوا قبل ذلك عند تخليهم عن أوراقهم الثبوتية، هذا قبل التوّجه نحو أقرب منفذ على المتوسطي للتنفيذ علنا آخر شكل نضالي في مسيرة حياتهم البطالية، ميدانه هذه المرة قوارب الموت، مفعلين هجرة سرية بشكل جماعي صوب الضفة الأخرى، بحثا عن ملاذ آمن لا يدفع فيه الوضع الاجتماعي للمعطل إلى حرق الذات، خلافا لوطن طالما رسمنا له بإصبعنا على الهواء ببراءة الأطفال وسذاجتهم نجمة خماسية خضراء، دلالة عن ما نكنه له بين أضلعنا، ومن منا لم يُردد يوما وهو تلميذ الإبتدائي نشيد الولاء "أرسم علمي فوق القمم .. أرسم وطني بالألوان".
وبعيدا عن المزاح في شكل سخريته السوداء، دعوني يا سادة أقول بحقّ، إنه من الصعب بمكان الرمي إلى محاولة إقناع المعطلين بضرورة إيجاد بديل آخر لعطالتهم، ذلك في اعتقادي أن كل الخطابات تتكسر أمام صخرة واقعهم الصلبة و حتما لن تؤتي أكلها حتى ولو مع معطل واحد، فور الإنصات بكل آذان صاغية وحكيمة إلى صوته المبحوح من شدة المناجاة، رغم لَعبِ من في أيديهم ملف التشغيل داخل دواليب الحكومة الحالية على رهان الوقت، كورقة وحيدة في أفق ما إذا توقعنا افتراضا تحسّن الأداء الحكومي في التعاطي مع الملف، ومن وجهة نظر محايدة لا تحركها الخطابات الرنانة قد يُتفهم وضع هذه الأخيرة التي دخلت ـ تقول في إحدى تصريحاتها ـ على تراكمات ماضوية من الفساد قد يستدعي معها التدرّج في تقويم الاعوجاج بما يتطلبه ذلك من جدولة زمنية متباعدة الأسقف، إلا أنّ الأمر على المستوى العملي يستدعي بدوره ـ في تقديري ـ لزوم العمل على إعداد إستراتيجية موازية قد تتمثّل في مخطط ضمني على شاكلة برنامج استعجالي مماثل للسابق قصد استيعاب أفواج من المعطلين، امتصاصا لحدة النزيف وللحدّ من استشراء الأزمة أكثر مما هي عليها اليوم، ويكون ذلك ساريا على امتداد الأسقف الزمنية المفترض تحديدها تبعا لأجندة الحكومة.
هامش
تفاديا لانحراف الفهم عن مغزاه أقول، المقال لا يتحدث باسم أحد كما لا يعبر بالضرورة عن رأي تنظيم الجمعية الوطنية للمعطلين بالمغرب، إنه رأيي الشخصي لكوني معطلا أنا الآخر ولي وجهة نظري حول هذا الخصوص، هذه الصفة التي - ربما - قد يخجل البعض التصريح بها في هكذا مقام غير أني على غرار المئات من الرفاق والاخوة أعتبرها شارة فخر فوق صدر حاملها، هذا وقد ضمّنت ما تقرؤون جملة أفكار وتمثلات أراها مقبولة نوعا ما، بالرغم ممّا قد ينجلي للقارئ من أن فقراته متنافرة بعض الشيء، ولكن من المؤكد ثمة خيط رفيع ينسجها ويجمعها في بوتقة واحدة ألا وهي إدانة السياسة التي تنظر إلينا كمعطلين من خلال ثقب "مقاربة القمع الأمنية" بشكل عام، بحيث حاولت قدر ما أمكن معالجتها عن طريق السخرية السوداء كأسلوب أدبي بليغ في الكتابات الدرامية الحديثة، فيما تعرضت لمواضيع لم يكن يسعني المجال للوقوف عندها طويلا لتناولها بإسهاب من أجل إعطاء مفاهيم وأبجديات حولها، بسبب ضيق الحيّز ولسبب آخر سبق لي ذكره أنفا هو تشعبها وكذا شائكيتها، ولكن حتما سأعود إليها في وقت لاحق ضمن مقالات انتظروها.
شاهدنا جميعا قبل أيام قليلة، كيف تمّ سلخ قرابة مئة منضوٍ تحت لواء التنظيم المحلي للمعطلين بالناظور، حين كانوا بصدد تنفيذ شكل احتجاجي سلمي وحضاري جاء كحلقة مسترسلة ضمن سلسلة الأشكال الاحتجاجية التي انخرطت قواعد التنظيم في البَصْم عليها على غرار ما دأبت على خوضه كل دوائر المعطلين عبر العالم مغربه ومشرقه، بموجب أنها أبسط الحقوق المكفولة دستوريا لدى سائر الأمم ومنها المغرب الذي يتشدق ساسته بأول ما يتشدقون به من قبيل أننا قطعنا أشواطا مراطونية على درب الحريات الأساسية (بين ألاف الأقواس) التي اِجترح المغرب توقّيعا على كافة وثائقها الأممية الضامنة لهذا الحق حتى يتمتع به بني البشر عندنا، وبما أنّ الذي يُسمع ليس كالذي يُرى بأمّ العين، فإننا بإلقاء نظرة متأنية على مستوى الممارسة بعيدا عن (الشفوي) نكاد نشّك في ما إذا كان بلدنا قد وقّع بإسمه حقا على هذه الصيغ الدولية، الكفيلة بانضمام دولة تحترم مضامين إتفاقياتها إلى حظيرة الدول الديمقراطية، أم ختم عليها بطابع يحمل إسما لكوكب شارد في فلك مجرة تائهة مفقودة للأبد.
لقد سيق حوالي المائة معطل قبل متم الشهر المنصرم وبالضبط إبّان ما بات يعرف بالخميس الأسود، إلى حيث المجزرة وكأنهم قطيع خرفان مساقة إلى أقدارها بلا رحمة، حيث الجزارون في انتظار التناوب على سلخها واحدة تلو الأخرى، في مشهد دامي مخزٍ تئن تحت وطأته أعتى الأفئدة قساوة وتندى لها الأجبن، ولسوء الصدف أن القاعة العمومية التي احتوت مُعتصمَ المعطلين كانت مسيّجة عن آخرها إلى درجة لم يعثروا معها عن منفذ واحد وسط هذا الطوق الأمني محكم الإغلاق يلوذون عبره بجلودهم لإطلاق سيقانهم للريح حتى تبتلعهم الزقاقات للنجاة من "العلقة" كأضعف الإيمان، رغما أن الوقفة التي تلاحقت في أعقاب ذلك على الفور بعد قيام المصابين وقفة رجل واحد وهُمْ مضرجون بالدماء ومحنطون بالضمادات يترصدون الجلاد ذي الهراوات عن كثب، بأعين تغلى فيها أحاسيس جياشة فوق نار هادئة، في منظر يدعو السيكولوجيون المغاربة لدراسة مدخل حديث العهد ل"ظاهرة نفسية" جديدة آخذة في التبلور على أرض الواقع بغية الوقوف على حقيقة ما أضحى يؤدي إليه القمع من تداعيات خطيرة تقف وراء إكساب المواطن المغربي الحالي سيكولوجية غدت تنكسر أمامها أصلب الهراوات، تؤكد ( الوقفة ) لمن يجيد القراءة طبعا، ثبات صمودهم وسط المعارك النضالية وفي الميدان إلى آخر قطرة دم، وكما يبدو حتى تحقيق مطلبهم المشروع ولو تطلب الأمر ـ يفيد لسان حالهم ـ تقديم أنفسهم مشاريع شهداء جدد على خطى رفاقهم وإخوانهم في الرضاعة من ثدي هموم العطالة وقسوة الوطن، غير أن ما يُخلفه القمع من شروخات لا تبرح، أقوى في الأنفس من شيء آخر، وقد رأينا التدخل الهستيري غير المبرّر لعناصر قوى الأمن بالشكل الفج الذي كشرت فيه عن أنيابها وأبانت عن هيبة عضلاتها الأمنية إزاء معطلين لا حيلة لهم، فقط تجمعهم بهؤلاء حلبة جغرافية اسمها الوطن، أما وان كسب فوق رقعتها هؤلاء الملاكمين من الوزن الثقيل الجولة الأولى من المعركة المفتوحة التي يبدو أنها سوف لن تنتهي في المنظور القريب، بحضور الشارع العام الذي بدا بمظهر ساخط، رافضا تماما التصفيق لانتصارهم الوهمي، فإن معظم المواطنين ممّن عاينوا سيناريو الرعب هذا عبر الأثير مباشرة، تمنّوا لو أنهم بادلوا عناصر قوات الأمن "التصرفيق" عوض التصفيق لهم وهم يبرزون عضلاتهم وأطقم أنيابهم بكاملها، ناهشة في الأجساد بكل سادية ودموية بلغت فيها الوقاحة ببعضهم حدّ التفنن والإبداع من عندهم في توجيه ضربات تحت الحزام وفوقه وفي كل مكان. ولست أدري بالمناسبة أهو حظ سعد أم نحس عندما تخلفت يومها عن تسجيل حضوري معية الرفاق، بسبب التزامات أخرى أملت عليّ السفر أسبوعا قبل الحادث، ولكن حينما أحاول جاهدا استعادة مشاهد ذات فيلم الرعب ركيك الإخراج هذا، لرجال أقل ما يقال عنهم أنهم مجرد أجساد فارغة من كل جوهر أشعر بالتقزز وبالرغبة في التقيؤ من سلوك بدائي لدى السلطة أكل عليه الزمن وشرب.
ما يحزّ بالنفس حقا يا سادة هو ما حدثنا به أنفسنا أمس، قبل ذلك بقليل، بحيث همس كل واحد منا في أذن الآخر بأن الحكومة الملتحية الجديدة بالرغم ممّا يشاع عنها، ستأخذها الرأفة بأبناء الشعب الذين ذاقوا ذرعا من وطن يخاصمهم في اليوم أكثر من سبعة وعشرين ألف مرة في اللحظة التي يُمنّون بها ذواتهم بغد أفضل لهذا البلد الذي يبدو أنه منذور للخيبة والهزائم دوما، في حين أن بنكيران لم يزد بالأحرى سوى ذرّ الملح على جراح الشباب العاطل في ظل بوادر لا تؤشر أنها ستندمل قريبا، خصوصا عندما يخرج سعادته للإدلاء بتصريحات رسمية تتعلق بشأن الوظيفة العمومية كتلك التي ترددتها الأصداء مؤخرا في الأوساط الإعلامية.
ومن ثم، فإن ما تعرضنا له كمعطلين، بالأمس على مستوى مواقع نضالية عدة منها موقع الناظور والحسيمة وغيرها، بعد انقضاء شهر العسل بين السلطة والمواطن على إثر تراجع مسلسل الحراك الشعبي وتقهقره نتيجة انسحاب العدليين كأحد أبرز مكوناته ومعبّريه السياسيين من داخل حركة العشرين من فبراير، من سيناريو قمعي هستيري استخدمت فيه أشد وسائل الأذى الجسدي والشفهي لدى أجهزة الأمن، من هراوات وركلات وكذا سباب مهين وحاط بالكرامة إلى حدّ يخجل فيه المواطن من مغربيته، يرمي إلى التأكيد على أن السلطة لا تزال تنهج نفس أسلوب الحوار مع معطلي الوطن باللكمات لا الكلمات، هؤلاء لم يقترفوا ذنبا يستحقون عليه هذه "التربية" العقيمة التي أعدتها لهم الدولة وفق نظرياتها المُبحرة في علم البيداغوجيا المبنية على أسس "الزرواطة" والعصا لمن عصى والتي هي بالمناسبة لا تنتج سوى نماذج انهزامية لمواطنين مشوهين خلقيا وأخلاقيا، بل كلّ جرمهم أنهم يحوزون شواهد دراسية هللّ لها ذويهم قبل أن يهللوّا لها هم أنفسهم، فرحا بانفراج مصدر رزق آت لا محالة بعد ضياع سنوات من عمر أبنائهم تحصيلا للدراسة بين مدرجات الجامعات بغية التتويج بوثيقة مختوم عليها بطابع الدولة الرسمي اعترافا بجدارتهم واستحقاقهم الذي يمتد جذوره لسنوات ولا يقاس بمباراة خجلى ما تلبث تطّل إلا لتغيب ردحا مديدا من الزمن.
من السهل جدا علينا كمعطلين مغاربة التصريح جهرا بالرغبة في تجديد إقامة علاقة حبّ حميمية مع الوطن رغم غلظته وفظاظة لهجته، واني هنا لا أتحدث باسم الجميع، ومع ذلك فإن الجميع في الجمعية الوطنية للمعطلين يرفعون عاليا شعارا كم مرة صدحت به حناجرنا لتملأ الأرجاء دويا الى حد القشعريرة "ما أنا فوضوي، ما أنا إرهابي، أنا مواطن مغربي ..." ويمكننا أن نمرّر من حناجرنا أيضا كل أخطاء ماضيه السياسي وسوابقه العدلية وملفاته الملطخة، بجرعة ماء واحدة وكفى، ومنحه "حسن سيرة" جديدة مصادق عليها من طرف المعطلين، أبناءه الأبرار، رغم الغصة التي وقفت تعترضها كحجرة عثرة توقف تنسم هواء الحاضر، ولكن على أمل أن يعيد الوطن ترميم ذاته رأبا للصدع بينه وبين المعطل، على ألا نحيى فاقدي الأمل في غد مشرق قد يأتي وقد لا يأتي، على أن نهمس لبعضنا البعض سرا وجهرا بهذا الحب المتبادل بين كلينا، على أن تلتئم أفئدتنا في السراء والضراء، على أن نكون سويّا في الغدو والعشيّ في أتمّ الجاهزية للدفاع عن مصالح بعضنا البعض، على أن نسكنه عن طيب خاطر مثلما يسكن هو قلوبنا عن طوع دونما إكراه، ويوم يجد الوطن فيه إحساسا من هذا القبيل يبادلنا به فآنذاك نحن مستعدون عن الآخر لإشهار حبّنا له أمام كل العالم، "وفي قلوبنا ينمو حبّ الوطن كما تنمو النباتات بين شقوق الصخر" قال حيدر حيدر الروائي السوري الكبير في رائعته وليمة لأعشاب البحر.
كان لزاما علينا قبل الخوض في أية محاولة للحديث عن واقع البطالة في المغرب لا تحيلنا إلا على ما يشبه الخطاب الغوغائي لأن الموضوع شائك ومعقد، أن نعترف مسبقا بأنها ليست قدرا محتوما سلّطه ربّ العباد على البلاد، بل هي باختصار شديد نتاج تراكم سياسي ماضوي فاشل، فاقد لأية إستراتيجية كفيلة من شأنها حلّ المعضلة من جذورها، ومن "أعراضها" الجانبية على سبيل الاستئناس لا الحصر بروز ما يطلق عليه باقتصاد الريع، هذا الذي أعطت عفونة رائحته هذه الأيام، منبعثة من الصحف الوطنية تلك المتعلقة بفضيحة الكشف عن قائمة أسماء المستفيدين من "الكريمات". لذا أضحى من سابع المستحيلات وجود خطاب وسط الساسة والمسؤولين من شأنه إقناع المعطل بالتخلي عن "الاحتجاج" والتراجع عن خيار النضال والاستماتة في الميدان بعدما مسّته هذه "السياسة" في حياته كلّها، على خلفية ما يعنيه استقرار العامل الاقتصادي في حياة كلّ فرد، واسألوا التاريخ يطلعكم عمّا يشكله الاقتصاد الذي كاد يُشعل الإنسان بسببه "قيامة" في الأرض قبل قيامة الله في السماء، خلال مراحل سابقة، بحيث فتحت أبواب "جهنم" على مصراعيها في كل بلدان المعسكرات الدولية الشرقي والغربي منه واكتوى الجميع بنيرانها وما تزال بعض دول العالم لحدّ الآن تعيش حدّة أثر انعكاساتها السلبية جراء الصراعات التاريخية من أجل لقمة العيش.
وعليه فأيّ بديل بالمستطاع تقديمه للمعطل من أجل مطالبته بالتنازل عن خيار "الاحتجاج"!؟ لا نريد جوابا إننا فقط نطلّ على صحراء على حد قول الراحل محمود درويش، بل دعوني أقولها لكم صراحة من منطلق أنّ "ما يْحسْ بالمَزودْ غير للّي مكْوي به" بالعربية تاعرابت: لو أن بنكيران خرج لها " نيشان" وأعلنها للمعطلين بطاي طاي، بدون مواربة ولا لفٍ ولا دوران، ضمن تصريح حكومي مماثل لا يلومه عليه أحد، بِشأن شهاداتهم الدراسية العليا: بأن يهّموا جميعا بمسح مؤخراتهم بهذه الدبلومات، حتى يعرفوا بالكاد لها من مزية، لكان أجدى لبنكيران من تركهم يلاحقونه ملاحقات لصيقة أينما حلّ وارتحل، كظّله الذي لن يتملص منه أبدا.
وفي المقابل، أمام بلوغ الأمور الباب المسدود فما عاد يبقى لدى المعطلين سوى قذف شهاداتهم في وجه الحكومة عقب أن يصدروا بلاغا مضمونه كالتالي "خذوا وثائقكم ما عدا أمرها يعنينا" كما فعلوا قبل ذلك عند تخليهم عن أوراقهم الثبوتية، هذا قبل التوّجه نحو أقرب منفذ على المتوسطي للتنفيذ علنا آخر شكل نضالي في مسيرة حياتهم البطالية، ميدانه هذه المرة قوارب الموت، مفعلين هجرة سرية بشكل جماعي صوب الضفة الأخرى، بحثا عن ملاذ آمن لا يدفع فيه الوضع الاجتماعي للمعطل إلى حرق الذات، خلافا لوطن طالما رسمنا له بإصبعنا على الهواء ببراءة الأطفال وسذاجتهم نجمة خماسية خضراء، دلالة عن ما نكنه له بين أضلعنا، ومن منا لم يُردد يوما وهو تلميذ الإبتدائي نشيد الولاء "أرسم علمي فوق القمم .. أرسم وطني بالألوان".
وبعيدا عن المزاح في شكل سخريته السوداء، دعوني يا سادة أقول بحقّ، إنه من الصعب بمكان الرمي إلى محاولة إقناع المعطلين بضرورة إيجاد بديل آخر لعطالتهم، ذلك في اعتقادي أن كل الخطابات تتكسر أمام صخرة واقعهم الصلبة و حتما لن تؤتي أكلها حتى ولو مع معطل واحد، فور الإنصات بكل آذان صاغية وحكيمة إلى صوته المبحوح من شدة المناجاة، رغم لَعبِ من في أيديهم ملف التشغيل داخل دواليب الحكومة الحالية على رهان الوقت، كورقة وحيدة في أفق ما إذا توقعنا افتراضا تحسّن الأداء الحكومي في التعاطي مع الملف، ومن وجهة نظر محايدة لا تحركها الخطابات الرنانة قد يُتفهم وضع هذه الأخيرة التي دخلت ـ تقول في إحدى تصريحاتها ـ على تراكمات ماضوية من الفساد قد يستدعي معها التدرّج في تقويم الاعوجاج بما يتطلبه ذلك من جدولة زمنية متباعدة الأسقف، إلا أنّ الأمر على المستوى العملي يستدعي بدوره ـ في تقديري ـ لزوم العمل على إعداد إستراتيجية موازية قد تتمثّل في مخطط ضمني على شاكلة برنامج استعجالي مماثل للسابق قصد استيعاب أفواج من المعطلين، امتصاصا لحدة النزيف وللحدّ من استشراء الأزمة أكثر مما هي عليها اليوم، ويكون ذلك ساريا على امتداد الأسقف الزمنية المفترض تحديدها تبعا لأجندة الحكومة.
هامش
تفاديا لانحراف الفهم عن مغزاه أقول، المقال لا يتحدث باسم أحد كما لا يعبر بالضرورة عن رأي تنظيم الجمعية الوطنية للمعطلين بالمغرب، إنه رأيي الشخصي لكوني معطلا أنا الآخر ولي وجهة نظري حول هذا الخصوص، هذه الصفة التي - ربما - قد يخجل البعض التصريح بها في هكذا مقام غير أني على غرار المئات من الرفاق والاخوة أعتبرها شارة فخر فوق صدر حاملها، هذا وقد ضمّنت ما تقرؤون جملة أفكار وتمثلات أراها مقبولة نوعا ما، بالرغم ممّا قد ينجلي للقارئ من أن فقراته متنافرة بعض الشيء، ولكن من المؤكد ثمة خيط رفيع ينسجها ويجمعها في بوتقة واحدة ألا وهي إدانة السياسة التي تنظر إلينا كمعطلين من خلال ثقب "مقاربة القمع الأمنية" بشكل عام، بحيث حاولت قدر ما أمكن معالجتها عن طريق السخرية السوداء كأسلوب أدبي بليغ في الكتابات الدرامية الحديثة، فيما تعرضت لمواضيع لم يكن يسعني المجال للوقوف عندها طويلا لتناولها بإسهاب من أجل إعطاء مفاهيم وأبجديات حولها، بسبب ضيق الحيّز ولسبب آخر سبق لي ذكره أنفا هو تشعبها وكذا شائكيتها، ولكن حتما سأعود إليها في وقت لاحق ضمن مقالات انتظروها.