مصطفى الحمداوي*
في كتابه " كيف تكتب الرواية " يروي غابرييل غارسيا ماركيز حكاية طريفة عن الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس الذي نشر كتابه الأول عام 1937 ، وطبع منه فقط 300 نسخة وزعها على أصدقائه ، ما عدا 100 نسخة منها حملها إلى مجلة " نوسوتروس " فنظر أحد مدراء المجلة إلى بورخيس مذعورا ثم قال: وهل تريدني أن أبيع كل هذه الكتب؟! فرد بورخيس: لا طبعا، فرغم أني كتبتها، غير أني لست أحمق. لكن بورخيس في المقابل اقترح على المدير أن يدخل نسخا من الكتاب في جيوب المعاطف التي يعلقها المحررون على المشاجب في مكاتبهم، عسى أن يتيح ذلك نشر بعض الملاحظات النقدية حول الكتاب.
ويواصل غارسيا الحديث بنفس طرافة الحكي التي تلازمه، ولكن هذه المرة يستحضر مقولة ماريو بارغاس يوسا " في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب، فانه يقرر إن كان سيصبح كاتبا جيدا أم كاتبا رديئا " وبهذا الصدد يقول غارسيا: جاء إلى بيتي بمدينة مكسيكو شاب في الثالثة والعشرين من عمره ، كان قد نشر روايته الأولى قبل ستة شهور ، وكان يشعر بالنصر في تلك الليلة لأنه سلم لتوه مخطوط روايته الثانية إلى الناشر . أبديت له حيرتي لتسرعه وهو ما يزال في بداية الطريق، فرد علي باستهتار لازلت أرغب في تذكره على أنه استهتار لا إرادي " أنت عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تكتب لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أما أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة، لأن قلة من الناس يقرؤونني " ويعلق غارسيا على هذه الحادثة قائلا: عندئذ وبإيحاء مبهم فهمت مغزى عبارة بارغاس يوسا. ذلك الشاب قرر سلفا أن يكون كاتبا رديئا، كما كان في الواقع، إلى أن حصل على وضيفة جديدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعد ذلك إلى إضاعة وقته في الكتابة.
لكن غارسيا سرعان ما ينظر للنازلة من زاوية مختلفة بحيث يقول: ومع ذلك أفكر الآن بأن مصير الشاب ربما قد تبدل لو أنه تعلم الحديث في الأدب قبل أن يتعلم الكتابة، وليزكي غارسيا وجهة نظره هذه يضيف: الشيء الوحيد الذي يفوق الحديث في الأدب هو صناعة الأدب الجيد.
دعونا نتأمل قليلا هذه العبارة " إلى أن حصل على وضيفة جديدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة " المثير أن غارسيا، حسب رأيي، تعمد استعمال عبارة " مؤسسة لبيع السيارات المستعملة " انه يقصد طبعا الكاتب الشاب الذي زار غارسيا في بيته بمكسيكو مزهوا بدفع مخطوط روايته الثانية إلى الناشر بعد مرور ستة شهور عن نشر روايته الأولى. في كتابات وتصريحات الروائيين الكبار كغارسيا لا يمكنك الفصل بين الحقيقة والخيال في جزئيات ذات بعد معين. بل تجد نفسك تتأمل الخفايا العميقة التي يرمي إليها الكاتب من خلال استخدام عبارات تبدو عفوية ولكنها شديدة الانتقاء. لا أعتقد أن غارسيا اهتم بما فعله الشاب بعد أن افترقا، لكن غارسيا أصر على إقحام عبارة ستقول لنا كل شيء حول مسار مشروع كاتب حكم على نفسه مبدئيا بالفشل. " وظيفة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة " بمعنى آخر غارسيا يجرد الشاب ، بمبررات منطقية ، حتى من طموح الوصول إلى مراتب عليا في سلم الرقي الاجتماعي. وهنا الرسالة ليست موجهة للكاتب الشاب المفترض، لأن هناك احتمال قوي بأن تكون هذه القصة وليدة خيال واسع لكاتب استثنائي جدا . ولكن الرسالة موجهة لكل كاتب ناشئ يحلم ويعمل على أن يصبح كاتبا حقيقيا.
وفي ذات الكتاب الذي نحن بصدده " كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى " يروي غارسيا قصة تبدو حقيقية جدا أكثر من الحقيقة ذاتها ( أعترف : لا أصدق بسهولة ما يرويه الكتاب من قصص يصفونها بالواقعية ، سواء في كتاباتهم أو في الحوارات التي تجرى معهم ) يقول غارسيا بأنه قرأ يوما أو أنه شاهد فيلما أو أن أحدا روى له حادثة واقعية ( يجب التركيز هنا على كلمة واقعية ) وملخص القصة أن ضابطا في البحرية أدخل عشيقته إلى قمرة سفينته الحربية خفية، وعاشا حبا صاخبا في تلك الحجرة الضيقة، دون أن يكشف أمرهما أحد لعدة سنوات. هذه هي القصة، ولكن غارسيا يطلب المساعدة ممن يعرف مؤلف القصة الجميلة لكي يعرف غارسيا به بأسرع ما يمكن . يستطرد غارسيا : سألت كثيرين وكثيرين وكانوا جميعهم لا يعرفونه ، حتى بدأت أشك بأنها خطرت لي أنا بالذات في أحد الأيام ونسيتها ، شكرا . لمن يوجه هنا الشكر غارسيا ؟! أكيد لمن يستطيع مساعدته في التعرف على صاحب هذه القصة " ولأنني أرسم دائما علامات استفهام كبيرة حول القصص الواقعية للكتاب " فلا يمكنني إلا أن أعتبر أن صاحب هذه القصة الخيالية، لن يكون إلا غارسيا نفسه، مع أنه يقدم القصة القصيرة جدا بدون أن يعلن ما إذا كانت مجرد قصة، أم أنها لحظة من لحظات حكيه الواقعي الذي زخر به كتابه " كيف تكتب الرواية ".
يستمر غارسيا في قفشاته الإبداعية في الكتاب الذي نحن بصدده ، حيث يتحدث عن الكوكاكولا وبعد استعراض بارع لتاريخ هذا المشروب الغازي ، وبعد حديثه عن مواقف جد طريفة حول الكوكاكولا في كوبا ، يستقر حديث غارسيا عن هذا المشروب ليستحضر قصة من الاتحاد السوفييتي ليتحدث عن زيارة قادته إلى هناك بمناسبة مهرجان موسكو للشباب عام 1957 . يقول غارسيا أن مترجمة يصفها بالمتشوقة وأنها تجرأت لمعرفة مفاتن الرأسمالية . سألت غارسيا عن مذاق الكوكاكولا ، فأجابها ( حسب قوله ) بالحقيقة التي يحسها: " لها مذاق الأحذية الجديدة " ومن مبدأ كوني أجد في كتابات وتصريحات الكتاب نكهة الإبداع أكثر من واقعية الحقيقة ، لدي أكثر من مبرر ومن منطلق رأيي الخاص لأشك في تفاصيل هذه القصة وليس الشك في القصة بحد ذاتها ، وسيكبر مثل هذا الشك حينما يوغل غارسيا في رسم صورة كاريكاتورية لطبيب أسنانه الذي يؤكد للكاتب بدون أن يطرف له رمش : إذا غمر سنا في كأس من الكوكاكولا فان هذا السن سيذوب تماما خلال 48 ساعة .
غير أنني أتساءل : من أكد حقيقة ذوبان السن في كأس الكوكاكولا في غضون 48 ساعة ، طبيب الأسنان ، أم خيال غارسيا البارع ؟ ثم من لم تطرف له جفن وهو يروي الحكاية ، الطبيب أم غارسيا ؟
قرأت الكثير لغارسيا ، هذه أمثلة بسيطة حول قدرته الباهرة في إغراق القارئ في حيرة المتعة الآسرة التي تتميز بها كتاباته الروائية وغير الروائية . في رائعته مائة عام من العزلة يخرج غارسيا من المألوف ليقودنا إلى مزيج من السرد المذهل الذي يمتزج فيه سحر الواقع والأحداث الغرائبية التي تمثل نموذجا فريدا لا يمكن إلا أن ينتمي لشخصية الكاتب المدهشة التي بلورها غارسيا عبر تجربة استقاها من محيطه أولا ، ومن اطلاعه الواسع على كل التجارب الإنسانية التي راكمت في مخيلته بذورا كانت تحتاج لجهد غارسيا وخياله الخصب الذي يبدو وكأن لا نهاية له في خلق عوالم عجائبية لا تمحي من ذاكرة القارئ .
ما كتبه غارسيا في رواية " مائة عام من العزلة " خصوصا بعض المشاهد التي تشكل بنية الواقعية السحرية التي أسس عليها غارسيا مشروعه الروائي ، تجعلنا ندرك العلاقة التي قد لا يمكننا فيها الفصل بين شخصية الكاتب كمحدث ومتحدث في الحياة اليومية، وانشغاله الأدبي حين يصوغ رواياته بكل ذلك الدفق العجيب من المتعة المدهشة التي يمارسها على القارئ، وسنستعرض هنا شيئا قليلا مما ورد في رائعته مائة عام من العزلة . الأمر ليس إلا مثالا صغيرا من أمثلة كثيرة وكثيرة جدا لا يتسع الحيز والمقام لاستعراضها جملة.
المثال الأول:
"في سنوات قلائل ، ودون جهود تذكر ، وإنما بفعل الحض وحده ، جمع أوريليانو الثاني ثروة من أكبر الثروات في منطقة المستنقعات ، بسبب ذلك التكاثر الخارق للمواشي .. كانت الأفراس تلد ثلاثا ، والدجاج يبيض مرتين كل يوم ، والخنازير تسمن بسرعة غريبة "
المثال الثاني :
يصف ريميديوس الجميلة ويقول عنها في الرواية بأنها: " لم تكن مخلوقة لهذه الدنيا " وأنها كانت تجول في أرجاء البيت عارية لأن طبيعتها تنبذ التستر " وعندما طالعها قائد الحرس الشاب بحبه صدته عنها ببساطة، ( مجونه روعها ) وفي هذا قالت لأمارانتا :
_ أنظري إلى سذاجته! .. قال لي انه سيموت بسببي، كأنني مرض معد يؤدي إلى الموت! ..
وعندما عثروا على الضابط الشاب صريعا تحت نافذتها ، لم تعد أن قالت لأمارانتا :
_ ألم أقل لك انه ساذج! .. "
وفي مشهد آخر أكثر عجائبية يصور ماركيز ريميديوس الجميلة كالتالي:
" لاحظت أمارانتا أن ريميديوس الجميلة يغطيها شحوب بالغ، فسألتها :
_ هل تشعرين بأي انحراف؟..
فأجابت ريميديوس الجميلة بابتسامة راثية وهي ممسكة بطرف الملاءة :
_ بالعكس ... أنا في أحسن حال ...
وما أن فاهت بهذا الرد حتى شعرت فرناندا بلفحة هواء وضياء جذبت الملاءة من يدها ودفعت وسطها إلى الأعلى ... وشعرت أمارانتا بدورها برفرفة خفية في أشرطة جونلتها حتى حاولت أن تشد قبضتها على طرف الملاءة لئلا تقع، في اللحظة التي بدأت فيها ريميديوس الجميلة ترتفع ... وكانت أورسولا التي كاد بصرها يذهب تماما في ذلك الحين من الهدوء بحيث فهمت طبيعة لفحة الهواء والضياء هذه وتركت الملاءة تحت وهي تراقب ريميديوس الجميلة تلوح مودعة وسط الملاءة الخفاقة التي ارتفعت معها، مخلفة وراءها بيئة الهوام والزهور، صاعدتين في الهواء إلى أن غابتا عن الأنظار في أطباق الجو "
بعد أن استعرضنا هذه المشاهد القليلة جدا من أعاجيب رواية " مائة عام من العزلة " سنستطيع فهم العلاقة بين هذه الظواهر الغريبة التي يستحيل حدوثها في الواقع وبين الواقع ذاته، ولكننا بالرغم من ذلك نشعر أننا نقرأ رواية واقعية لا تخرجنا هذه الظواهر الغريبة من سياقها الواقعي والمتن الذي يظل مترابطا متماسكا . وبالرغم من كل شيء سنشعر بلذة النص وبالدهشة التي يرمينا فيها خيال غارسيا، ونكاد لا نتساءل، بل لن نتساءل هل ما يحث في الرواية واقع معاش يحدث في دنيا الناس، أم أنه مجرد اختلاقات من مخيلة الكاتب الكبير غارسيا؟ أعتقد أن قدرة الكاتب المتمرس المتمكن من أدواته هو الذي يستطيع أن يوفر علينا مثل هذا النوع من التساؤل .
وهنا نعود لاستحضار حديث ماركيز عن الكاتب الشاب واشتغاله بمؤسسة لبيع السيارات المستعملة ، ثم التساؤل الذي طرحته عليه إحدى المترجمات حول مذاق الكوكاكولا وجوابه الجميل والغرائبي إن صح التعبير " لها مذاق الأحذية الجديدة " وبالتأكيد أيضا ما رواه عن طبيب أسنانه وقول هذا الأخير ، بدون أن يطرف له رمش " إذا غمر سنا في كأس من الكوكاكولا فان هذا السن سيذوب حتما خلال 48 ساعة ". كل هذه الأقوال التي أوردها الكاتب تشبه تماما الأدب الذي يشتغل عليه، ونكاد لا نجد فروقا واضحة بين ما يرويه كواقع، وما يرويه كأدب وكرواية. ومن هنا نستنتج أن الكاتب مهما حاول الهروب من ذاته في خضم إبداعه، فانه لن ينجح إلا بالقدر اليسير. ونحن إذ نتحدث عن الكاتب، فإننا نتحدث عن الكاتب الصادق المخلص لمبادئ الكتابة المتعارف عليها، وحول الأدب كقيمة رفيعة يجب التعامل معه بمنطق الجدية المطلقة كما أورد غارسيا في نصيحته الضمنية للكاتب الشاب في مستهل حديثه في كتاب " كيف تكتب الرواية " هذا السؤال الذي يجيب عليه غابرييل غارسيا ماركيز بكل واقعيته السحرية حين ينهي فصل " كيف تكتب الرواية " من كتابه " كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى " في هذا الجانب يجيب بسؤال :
قل لي .. يا أخي " اللعنة ، كيف يمكن كتابة رواية ؟ "
* كاتب مغربي مقيم في هولندا
في كتابه " كيف تكتب الرواية " يروي غابرييل غارسيا ماركيز حكاية طريفة عن الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس الذي نشر كتابه الأول عام 1937 ، وطبع منه فقط 300 نسخة وزعها على أصدقائه ، ما عدا 100 نسخة منها حملها إلى مجلة " نوسوتروس " فنظر أحد مدراء المجلة إلى بورخيس مذعورا ثم قال: وهل تريدني أن أبيع كل هذه الكتب؟! فرد بورخيس: لا طبعا، فرغم أني كتبتها، غير أني لست أحمق. لكن بورخيس في المقابل اقترح على المدير أن يدخل نسخا من الكتاب في جيوب المعاطف التي يعلقها المحررون على المشاجب في مكاتبهم، عسى أن يتيح ذلك نشر بعض الملاحظات النقدية حول الكتاب.
ويواصل غارسيا الحديث بنفس طرافة الحكي التي تلازمه، ولكن هذه المرة يستحضر مقولة ماريو بارغاس يوسا " في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب، فانه يقرر إن كان سيصبح كاتبا جيدا أم كاتبا رديئا " وبهذا الصدد يقول غارسيا: جاء إلى بيتي بمدينة مكسيكو شاب في الثالثة والعشرين من عمره ، كان قد نشر روايته الأولى قبل ستة شهور ، وكان يشعر بالنصر في تلك الليلة لأنه سلم لتوه مخطوط روايته الثانية إلى الناشر . أبديت له حيرتي لتسرعه وهو ما يزال في بداية الطريق، فرد علي باستهتار لازلت أرغب في تذكره على أنه استهتار لا إرادي " أنت عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تكتب لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أما أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة، لأن قلة من الناس يقرؤونني " ويعلق غارسيا على هذه الحادثة قائلا: عندئذ وبإيحاء مبهم فهمت مغزى عبارة بارغاس يوسا. ذلك الشاب قرر سلفا أن يكون كاتبا رديئا، كما كان في الواقع، إلى أن حصل على وضيفة جديدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعد ذلك إلى إضاعة وقته في الكتابة.
لكن غارسيا سرعان ما ينظر للنازلة من زاوية مختلفة بحيث يقول: ومع ذلك أفكر الآن بأن مصير الشاب ربما قد تبدل لو أنه تعلم الحديث في الأدب قبل أن يتعلم الكتابة، وليزكي غارسيا وجهة نظره هذه يضيف: الشيء الوحيد الذي يفوق الحديث في الأدب هو صناعة الأدب الجيد.
دعونا نتأمل قليلا هذه العبارة " إلى أن حصل على وضيفة جديدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة " المثير أن غارسيا، حسب رأيي، تعمد استعمال عبارة " مؤسسة لبيع السيارات المستعملة " انه يقصد طبعا الكاتب الشاب الذي زار غارسيا في بيته بمكسيكو مزهوا بدفع مخطوط روايته الثانية إلى الناشر بعد مرور ستة شهور عن نشر روايته الأولى. في كتابات وتصريحات الروائيين الكبار كغارسيا لا يمكنك الفصل بين الحقيقة والخيال في جزئيات ذات بعد معين. بل تجد نفسك تتأمل الخفايا العميقة التي يرمي إليها الكاتب من خلال استخدام عبارات تبدو عفوية ولكنها شديدة الانتقاء. لا أعتقد أن غارسيا اهتم بما فعله الشاب بعد أن افترقا، لكن غارسيا أصر على إقحام عبارة ستقول لنا كل شيء حول مسار مشروع كاتب حكم على نفسه مبدئيا بالفشل. " وظيفة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة " بمعنى آخر غارسيا يجرد الشاب ، بمبررات منطقية ، حتى من طموح الوصول إلى مراتب عليا في سلم الرقي الاجتماعي. وهنا الرسالة ليست موجهة للكاتب الشاب المفترض، لأن هناك احتمال قوي بأن تكون هذه القصة وليدة خيال واسع لكاتب استثنائي جدا . ولكن الرسالة موجهة لكل كاتب ناشئ يحلم ويعمل على أن يصبح كاتبا حقيقيا.
وفي ذات الكتاب الذي نحن بصدده " كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى " يروي غارسيا قصة تبدو حقيقية جدا أكثر من الحقيقة ذاتها ( أعترف : لا أصدق بسهولة ما يرويه الكتاب من قصص يصفونها بالواقعية ، سواء في كتاباتهم أو في الحوارات التي تجرى معهم ) يقول غارسيا بأنه قرأ يوما أو أنه شاهد فيلما أو أن أحدا روى له حادثة واقعية ( يجب التركيز هنا على كلمة واقعية ) وملخص القصة أن ضابطا في البحرية أدخل عشيقته إلى قمرة سفينته الحربية خفية، وعاشا حبا صاخبا في تلك الحجرة الضيقة، دون أن يكشف أمرهما أحد لعدة سنوات. هذه هي القصة، ولكن غارسيا يطلب المساعدة ممن يعرف مؤلف القصة الجميلة لكي يعرف غارسيا به بأسرع ما يمكن . يستطرد غارسيا : سألت كثيرين وكثيرين وكانوا جميعهم لا يعرفونه ، حتى بدأت أشك بأنها خطرت لي أنا بالذات في أحد الأيام ونسيتها ، شكرا . لمن يوجه هنا الشكر غارسيا ؟! أكيد لمن يستطيع مساعدته في التعرف على صاحب هذه القصة " ولأنني أرسم دائما علامات استفهام كبيرة حول القصص الواقعية للكتاب " فلا يمكنني إلا أن أعتبر أن صاحب هذه القصة الخيالية، لن يكون إلا غارسيا نفسه، مع أنه يقدم القصة القصيرة جدا بدون أن يعلن ما إذا كانت مجرد قصة، أم أنها لحظة من لحظات حكيه الواقعي الذي زخر به كتابه " كيف تكتب الرواية ".
يستمر غارسيا في قفشاته الإبداعية في الكتاب الذي نحن بصدده ، حيث يتحدث عن الكوكاكولا وبعد استعراض بارع لتاريخ هذا المشروب الغازي ، وبعد حديثه عن مواقف جد طريفة حول الكوكاكولا في كوبا ، يستقر حديث غارسيا عن هذا المشروب ليستحضر قصة من الاتحاد السوفييتي ليتحدث عن زيارة قادته إلى هناك بمناسبة مهرجان موسكو للشباب عام 1957 . يقول غارسيا أن مترجمة يصفها بالمتشوقة وأنها تجرأت لمعرفة مفاتن الرأسمالية . سألت غارسيا عن مذاق الكوكاكولا ، فأجابها ( حسب قوله ) بالحقيقة التي يحسها: " لها مذاق الأحذية الجديدة " ومن مبدأ كوني أجد في كتابات وتصريحات الكتاب نكهة الإبداع أكثر من واقعية الحقيقة ، لدي أكثر من مبرر ومن منطلق رأيي الخاص لأشك في تفاصيل هذه القصة وليس الشك في القصة بحد ذاتها ، وسيكبر مثل هذا الشك حينما يوغل غارسيا في رسم صورة كاريكاتورية لطبيب أسنانه الذي يؤكد للكاتب بدون أن يطرف له رمش : إذا غمر سنا في كأس من الكوكاكولا فان هذا السن سيذوب تماما خلال 48 ساعة .
غير أنني أتساءل : من أكد حقيقة ذوبان السن في كأس الكوكاكولا في غضون 48 ساعة ، طبيب الأسنان ، أم خيال غارسيا البارع ؟ ثم من لم تطرف له جفن وهو يروي الحكاية ، الطبيب أم غارسيا ؟
قرأت الكثير لغارسيا ، هذه أمثلة بسيطة حول قدرته الباهرة في إغراق القارئ في حيرة المتعة الآسرة التي تتميز بها كتاباته الروائية وغير الروائية . في رائعته مائة عام من العزلة يخرج غارسيا من المألوف ليقودنا إلى مزيج من السرد المذهل الذي يمتزج فيه سحر الواقع والأحداث الغرائبية التي تمثل نموذجا فريدا لا يمكن إلا أن ينتمي لشخصية الكاتب المدهشة التي بلورها غارسيا عبر تجربة استقاها من محيطه أولا ، ومن اطلاعه الواسع على كل التجارب الإنسانية التي راكمت في مخيلته بذورا كانت تحتاج لجهد غارسيا وخياله الخصب الذي يبدو وكأن لا نهاية له في خلق عوالم عجائبية لا تمحي من ذاكرة القارئ .
ما كتبه غارسيا في رواية " مائة عام من العزلة " خصوصا بعض المشاهد التي تشكل بنية الواقعية السحرية التي أسس عليها غارسيا مشروعه الروائي ، تجعلنا ندرك العلاقة التي قد لا يمكننا فيها الفصل بين شخصية الكاتب كمحدث ومتحدث في الحياة اليومية، وانشغاله الأدبي حين يصوغ رواياته بكل ذلك الدفق العجيب من المتعة المدهشة التي يمارسها على القارئ، وسنستعرض هنا شيئا قليلا مما ورد في رائعته مائة عام من العزلة . الأمر ليس إلا مثالا صغيرا من أمثلة كثيرة وكثيرة جدا لا يتسع الحيز والمقام لاستعراضها جملة.
المثال الأول:
"في سنوات قلائل ، ودون جهود تذكر ، وإنما بفعل الحض وحده ، جمع أوريليانو الثاني ثروة من أكبر الثروات في منطقة المستنقعات ، بسبب ذلك التكاثر الخارق للمواشي .. كانت الأفراس تلد ثلاثا ، والدجاج يبيض مرتين كل يوم ، والخنازير تسمن بسرعة غريبة "
المثال الثاني :
يصف ريميديوس الجميلة ويقول عنها في الرواية بأنها: " لم تكن مخلوقة لهذه الدنيا " وأنها كانت تجول في أرجاء البيت عارية لأن طبيعتها تنبذ التستر " وعندما طالعها قائد الحرس الشاب بحبه صدته عنها ببساطة، ( مجونه روعها ) وفي هذا قالت لأمارانتا :
_ أنظري إلى سذاجته! .. قال لي انه سيموت بسببي، كأنني مرض معد يؤدي إلى الموت! ..
وعندما عثروا على الضابط الشاب صريعا تحت نافذتها ، لم تعد أن قالت لأمارانتا :
_ ألم أقل لك انه ساذج! .. "
وفي مشهد آخر أكثر عجائبية يصور ماركيز ريميديوس الجميلة كالتالي:
" لاحظت أمارانتا أن ريميديوس الجميلة يغطيها شحوب بالغ، فسألتها :
_ هل تشعرين بأي انحراف؟..
فأجابت ريميديوس الجميلة بابتسامة راثية وهي ممسكة بطرف الملاءة :
_ بالعكس ... أنا في أحسن حال ...
وما أن فاهت بهذا الرد حتى شعرت فرناندا بلفحة هواء وضياء جذبت الملاءة من يدها ودفعت وسطها إلى الأعلى ... وشعرت أمارانتا بدورها برفرفة خفية في أشرطة جونلتها حتى حاولت أن تشد قبضتها على طرف الملاءة لئلا تقع، في اللحظة التي بدأت فيها ريميديوس الجميلة ترتفع ... وكانت أورسولا التي كاد بصرها يذهب تماما في ذلك الحين من الهدوء بحيث فهمت طبيعة لفحة الهواء والضياء هذه وتركت الملاءة تحت وهي تراقب ريميديوس الجميلة تلوح مودعة وسط الملاءة الخفاقة التي ارتفعت معها، مخلفة وراءها بيئة الهوام والزهور، صاعدتين في الهواء إلى أن غابتا عن الأنظار في أطباق الجو "
بعد أن استعرضنا هذه المشاهد القليلة جدا من أعاجيب رواية " مائة عام من العزلة " سنستطيع فهم العلاقة بين هذه الظواهر الغريبة التي يستحيل حدوثها في الواقع وبين الواقع ذاته، ولكننا بالرغم من ذلك نشعر أننا نقرأ رواية واقعية لا تخرجنا هذه الظواهر الغريبة من سياقها الواقعي والمتن الذي يظل مترابطا متماسكا . وبالرغم من كل شيء سنشعر بلذة النص وبالدهشة التي يرمينا فيها خيال غارسيا، ونكاد لا نتساءل، بل لن نتساءل هل ما يحث في الرواية واقع معاش يحدث في دنيا الناس، أم أنه مجرد اختلاقات من مخيلة الكاتب الكبير غارسيا؟ أعتقد أن قدرة الكاتب المتمرس المتمكن من أدواته هو الذي يستطيع أن يوفر علينا مثل هذا النوع من التساؤل .
وهنا نعود لاستحضار حديث ماركيز عن الكاتب الشاب واشتغاله بمؤسسة لبيع السيارات المستعملة ، ثم التساؤل الذي طرحته عليه إحدى المترجمات حول مذاق الكوكاكولا وجوابه الجميل والغرائبي إن صح التعبير " لها مذاق الأحذية الجديدة " وبالتأكيد أيضا ما رواه عن طبيب أسنانه وقول هذا الأخير ، بدون أن يطرف له رمش " إذا غمر سنا في كأس من الكوكاكولا فان هذا السن سيذوب حتما خلال 48 ساعة ". كل هذه الأقوال التي أوردها الكاتب تشبه تماما الأدب الذي يشتغل عليه، ونكاد لا نجد فروقا واضحة بين ما يرويه كواقع، وما يرويه كأدب وكرواية. ومن هنا نستنتج أن الكاتب مهما حاول الهروب من ذاته في خضم إبداعه، فانه لن ينجح إلا بالقدر اليسير. ونحن إذ نتحدث عن الكاتب، فإننا نتحدث عن الكاتب الصادق المخلص لمبادئ الكتابة المتعارف عليها، وحول الأدب كقيمة رفيعة يجب التعامل معه بمنطق الجدية المطلقة كما أورد غارسيا في نصيحته الضمنية للكاتب الشاب في مستهل حديثه في كتاب " كيف تكتب الرواية " هذا السؤال الذي يجيب عليه غابرييل غارسيا ماركيز بكل واقعيته السحرية حين ينهي فصل " كيف تكتب الرواية " من كتابه " كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى " في هذا الجانب يجيب بسؤال :
قل لي .. يا أخي " اللعنة ، كيف يمكن كتابة رواية ؟ "
* كاتب مغربي مقيم في هولندا