د. محمد بنيعيش
كاريكاتير حسن عين الحياة من أسبوعية المشعل
إن تناول موضوع الأمازيغية وإشكالية الهوية في المغرب قد يبدو من القضايا العويصة فكريا واجتماعية وتاريخيا وسياسيا وبالدرجة الأولى لغويا.
لهذا فالحديث عنها قد يثير جدلا وردودا وتأويلات مختلفة تتأرجح بين الاحتقان والاتهام والإقصاء والإسقاط...ولقد كان الأولى عدم التعرض له بتاتا وذلك اتقاء للفتنة وسدا للذريعة ونأيا عن المهاترات التي قد لا تزيد البلاد والعباد إلا سقما وغما وهما لا مدعاة له .
لكن حينما يصبح الأمر متداولا والأخذ والرد متواصلا والدعاوى معلنة فقد يكون من الأجدر بأهل العلم والمعرفة إبداء الرأي ووجهة النظر، خالية من أية مؤثرات عرقية أو انتمائية، التي ربما قد تجد حلا للمشكلة وإقناعا فكريا تطمئن معه النفوس وتتواصل به العقول والأرواح لكي يحتفظ المجتمع بوحدته وأخوته التي لا تهزها الرياح ولا يفزعها صوت النباح.
ولقد ترددت كثيرا عن الخوض في الموضوع لما له من أشواك وتشكيك وتفكيك وتشبيك،لكن لما طفح الكيل وجرف بالبعض السيل وانقلبت الحقائق إلى نقانق تحاك وتلاك بتوابل من التشنج والترهج، فقد ارتأيت أن أدلي بدلوي من غير مراعاة لردة زيد أو عمرو أو انحياز إلى هذا الناطق أو غيره عربيا كان أم بربريا أمازيغا بل حتى عبريا وعروبيا حسانيا،وكذلك من غير تمثيل لتيار أو مذهب أو حزب وطريقة معينة، وذلك في إطار تحليل متواضع وعابر لكنه صادق وغيور على كل فئات هذا الشعب والبلد الأبي والشامخ بتاريخه وحضارته ومواقفه ووحدته،معتمدا في هذا مبدأ:لا تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الحق تعرف أهله،وكذلك قولة أرسطو المشهورة:أفلاطون صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق منه.
من المفارقات العجيبة في موضوع الأمازيغية أو لغة البربر وحضورها في المسار التاريخي وما جرى من أحداث في المغرب وغيره من دول شمال أفريقيا هو أن التدوين الرئيسي والموسع لتاريخ الناطقين بها قد تم حفظه باللغة العربية من لدن :"المعجب في تلخيص أخبار المغرب "لعبد الواحد المراكشي ومرورا بابن خلدون في كتاب "العبر" إلى "الاستقصاء" للناصري وهكذا،مما يعني أن اللغة الرئيسية التي كانت وما زالت حامية للتراث الأمازيغي وسائدة في المجتمع المغربي رسميا وحضاريا وشعبيا وثقافيا هي اللغة العربية من غير منازع ،ومن ثم فلم تكن الأمازيغية ذات تركيبة فنية أو قواعد ثابتة يمكن الاعتماد عليها في تأليف الكتب وصياغة التاريخ بدقة ووصف كامل على النحو والنمط الذي صيغ به في العربية.
ولهذا فحينما يريد بعض الأمازيغ إقصاء اللغة العربية من التداول في وسطهم الخاص كلغة حضارة وعلم وتعبير فإنهم في الحقيقة يقصون تاريخهم بأكمله وحضارتهم بجلها ،بل هويتهم أيضا ،هذه نقطة أولى.
كمفارقة ثانية أيضا وأشد عجبا،وهي أن فضل العرب على صياغة مصطلح البربر كلغة خاصة بهم أو كلهجة غير منضبطة جاءت من طرف حاكم عربي كان قد دخل أفريقيا قبل الإسلام وهو أحد ملوك اليمن التبابعة والذي كان يسمى ب:أفريقش (ليس مشتقا من الفراقش ولكن من أفريقيا)حسب ما ذكره ابن خلدون في كتابه "المقدمة" بأن أفريقش هذا لما دخل إلى شمال أفريقيا عبر السودان والتقى بالبربر وسمع لغتهم وإيقاعها الغريب عن العربية والمعقد فنيا وتعبيريا موسيقيا ،وذلك كتصحيف وتحريف للغة العربية الأصلية فيما يبدو،قال لهم:ما هذه البربرة؟ومن ثم سموا بالبربر.
فهذه نقط مهمة جدا بالنسبة لمن يرون أن أصل البربر عرب قد جاؤوا من اليمن،وهذا محتمل من خلال قصة أفريقش التي تؤيد الطرح رغم تشكيك ابن خلدون في صحة رحلته حتى شمال أفريقيا،لكن مع ذلك فاسم أفريقش دليل على أن له علاقة بأفريقيا والتي كان في الغالب يتسمى بها أهل الشمال.
وعند مجيء الإسلام فسيكون دور الفتح الإسلامي مرورا بشمال أفريقيا وعبورا إلى الأندلس وما حدث من مقاومة بربرية ابتداء من الكاهنة ومرورا بكسيلة كرد فعل طبيعي لكل الشعوب على كل من يريد أن يدخل أرضهم من غير استئذان أو بفرض وجوده ولو كان باسم الدعوة والرسالة التي فيها نجاة تلك الشعوب وسعادتها.
فالمقاومة من طبع كل الشعوب والأمم ولكنها قد يختلف نفسها وحدتها بحسب التيقن من نية وقصد الفاتح أو الغازي ،وهذا ما سيحدث بالنسبة إلى البربر المغاربة الذين قاوموا الفتح الإسلامي بل ارتدوا عن الإسلام عدة مرات قد وصلت حتى زمن المؤرخ ابن خلدون فيما يحكيه إلى اثنتي عشرة ردة ولم يعودوا إلى الالتزام إلا بالقوة والحضور الفعلي للفاتحين في البلاد ،إلى حين استقر الدين في المغرب عن قناعة وتسليم والذي على إثره تأسست الدولة الإدريسية التي ستعمل على المصاهرة بين العنصر العربي والبربري على مستوى الدم والرابطة الأسرية من خلال الزواج التي تحقق بين المولى إدريس الأول والسيدة كنزة البربرية أم الشرفاء الأدارسة بالمغرب،والذي سيستمر على وتيرته اجتماعيا وسياسيا وعلى كل المستويات الشعبية والرسمية كما عبر عنه جلالة الملك محمد السادس بأسلوب صادق وواضح ووحدوي محنك بقوله في إحدى خطبه:"أنا نصفي أمازيغي".
من هنا فقد توالت الدول وتولى الحكم بربر في أصلهم اللغوي وتاريخهم الوطني ولكنهم مع ذلك لم يسعوا إلى تخطي عتبة اللغة العربية لتعويضها بالبربرية من نقطة امتلاكهم للسلطة واستقلالهم بالقرار،بل قد ساهموا في تأطيرها كما يذكر المؤرخون العرب والأجانب ،وخاصة المؤرخ الفرنسي موريس لومبار في كتابه "الإسلام في عظمته الأولى" الذي ذهب إلى أن الشعوب غير العربية والموالي هم الذين سيضعون القواعد للغة العربية وسيحفظون لها مبادئها،أذكر من بين ما قام به البربر نموذج منظومة الآجرومية في النحو لمحمد بن داود الصنهاجي البربري.
فهذه مفارقة أخرى وهي أن البربر قد كانوا يحصنون اللغة العربية ويسعون إلى حمايتها من الذوبان في الدارجة أو اللهجات السوقية والعفوية،إيمانا منهم بأن تلك اللهجات غير كافية أو قابلة لأن تصبح ندا للغة العربية وخاصة على المستوى العلمي والأدبي الرفيع والمعتبر به حضاريا وفكريا.
إن أول مطب ذلك الذي وقع فيه متزعمو الأمازيغية باعتبارها لغة وطنية أصلية وذات أولوية رسمية حسب زعمهم هو استبدالهم مصطلح البربر بالأمازيغ،وهذه نكسة تاريخية وسلب لكل حق في دعوى الأصالة واستحقاق الهوية التاريخية قبل اللغوية ،وذلك كشعور بالدونية وحرج من مصطلح البربر بالعربية الذي قد كان يعني شعبا وقوما محددي اللغة والموقع جغرافيا في بلد له تراثه وثقافته وتقاليده وتحاشيا من الاقتراب من معنى البربر المعبر به في الفرنسية ب barbares والذي قد يدل على التوحش من خلال ممارسات البربر الكارولنجيين والميرولنجيين في أوروبا الغربية بين القرن الرابع والخامس الميلادي،وهذا المصطلح لا علاقة له بكلمة berbères التي تعني شعبا معينا والتي وظفها العرب بكل حرية ودون وصف قدحي أو تنقيص للعنصر البربري المكون للشعب المغربي في أهم أشطاره،والدليل على هذا هو خروج العرب والبربر (الأمازيغ) عند صدور الظهير البربري المفرق بينهم يدا بيد وبشعار موحد وهو "اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير،وأن لا تفرق بيننا وإخواننا البرابر".
وفي المقابل لم يغير العرب اسم انتمائهم وهويتهم عبر التاريخ رغم طغيان اللهجات الدارجة وانصهارها في حواراتهم ومداولاتهم كان للأمازيغية نصيب كبير فيها ،وذلك لخصوصية الثبات اللغوي لديهم ولوعيهم بالأصالة الحضارية التي انبنت عليها ابتداء،ولتشرفها بمجيء القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف على حروفها ولسانها.
ارتباطا بالمسألة فقد تطرح مزاعم الأصالة والهوية الوطنية لتبرير تعميم الأمازيغية كلغة مفروضة على كل الشرائح المكونة للمجتمع المغربي من مبرر أن الأمازيغ أو البربر يمثلون السكان الأصليين في المغرب بحسب سبقهم ووجودهم الزمني على رقعته .
وهذه دعوى غير سليمة ولا واقعية وهي بمثابة حصان طروادة الذي ينتقل عليه لتحقيق أهداف غير معلنة إعلاميا ومطلبيا،وذلك لأن مفهوم الأصالة في الوجود المكاني هي مسألة نسبية وزئبقية و لا يمكن تصور إنسان أو مجتمع على نمط الصخور السوداء أو الأشجار المتجذرة في الأرض وإلا فقد صفته ومحدده المنطقي بأنه:"حيوان ناطق"أي أنه يخضع لقانون الحركة والانتقال والحيوية.
بحيث يمكن لنا أن نحكم على جبل توبقال مثلا وغيره بأنه أصيل وذلك لأنه لا يتزحزح عن مكانه نسبيا إذا تأملنا،لأن الجبال والوديان قد تتعرض لعوامل التعرية وصرف السيول وبالتالي إحداث تغيرات على مستوى الارتفاع أو الانخفاض أو الهضبات..
لكن مع هذا فقد نستعمل ما يسمى عند المنطقيين بقياس الخلف وذلك بالقول :إذا كنتم تزعمون بأنكم سكان أصليون بحسب سبقكم الزمني لوجود العرب بالمغرب أو شمال أفريقيا فما رأيكم في سبق اليهود للبربر في هذا الحضور ومزاحمتهم لكم في دعوى الأصالة ؟وهو ما قد يثبته المؤرخون وتدل عليه بعض المظاهر الاجتماعية وتقاليد اللبس الأصيلة في المغرب على رأسها الجلباب التقليدي الذي كان يلبسه الحاخامت والرهبان ،ثم انتقل إلى اللباس الرسمي للمجتمع المغربي.
كما أن وجودهم من المرجح قد جاء بعد مرحلة التيه في زمن موسى عليه السلام الذي قد وصل إلى مجمع البحرين أي البوغاز حينما التقى بالخضر عليه السلام،وأيضا، من المؤكد أن قد كان بالمغرب أقوام وأمم غير البربر واليهود إما رحلت أو انصهرت أو أبيدت،حسب عجلة التاريخ وتفاعلات الشعوب،ومن يدري؟
المهم عندنا هو أن مزاعم الأصالة على نمط وجود الصخور مرفوضة بالمنطق المجرد واستقراء التاريخ ولغة البيئة وتفاعل الحضارات والأمم.ومن هنا فيكون الاستنتاج فيما يخص فرض الأمازيغية كلغة على حساب العربية ومزاحمتها من باب النِّدٍّية تحت زعم الأسبقية والأصالة والهوية هو أن اليهود في هذه المزايدة سيكونون أولى بالمطالبة من الأمازيغ بفرض العبرية كلغة رسمية ووطنية وجب تدريسها في كل المؤسسات والمعاهد طالما أنه يوجد في المغرب يهود، وما أكثرهم في العلن والخفاء أو التقنع...وسنصبح حينئذ كأننا في فلسطين أخرى وأرض ميعاد جديدة تبرر التدخل الأجنبي وعودة الاستعمار.
من هنا فيكون بعض المتشددين من الأمازيغ قد فتحوا الباب على مصراعيه والذريعة لكل أقلية أو تجمع جهوي من أجل المطالبة بفرض لهجتهم كلغة رسمية للبلاد أو التلويح بالاستقلال الذاتي والنظام الفيدرالي،وفي هذا تعدد التوجهات والمفاهيم وتناطح المعاني والمصطلحات وتشنجها ،وهو ما قد يؤدي إلى بروز الطائفية المقيتة وفسح المجال للتدخل الأجنبي لدعم هذا الفصيل أو ذاك بحسب ولائه له أو قربه وبعده من أيديولوجيته.
لكن الوطنية الحقة قد تقتضي ولاء واحدا لا غير،وتتطلب وحدة الخطاب لفهم الأوامر والنواهي الصادرة من القيادة العليا للبلاد على قد م المساواة وتواصل العقول والقلوب "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أدعياءكم أبناءكم".
وإذا سايرنا هذا التصور الناقص والهش في مزاعمه عند متعصبي اللهجات فسيصبح من المؤكد أو المستساغ أن يذهب كل شخص إلى تدوين لغته وفرضها بالقوة وبمزاعم الهوية،وبالتالي اختيار ما يحلوا له في خياله من اسم ووصف من دون أن يكون للدولة أو الفاعلين الاجتماعيين الحق في ردعه أو إيقاف غرائبه،كمثال الثقافة الجنسية التي تحولت، بعد تفسخ المعاني ومفاهيم حق التعبير وتعلم كل شيء، إلى السخافة الجنسية والدعارة الكلامية والكتابية كما نلحظه في كثير من مناحي إعلامنا بكل مستوياته وتقنياته.
من هنا فقد جاء الاضطراب في تحديد الأمازيغية بزعم أنها تمثل اللغة الوطنية لحد تسييسها والإسفاف بها حتى قسمت إلى ثلاث لهجات وهي:تريفيت وتشلحيث وتمازيغت،وكل لهجة قد لا يفهمها غير صاحبها من نفس المجموعة الأمازيغية،وذلك لأنها عبارة عن لهجات سوقية وعامية لا وجود لها على المستوى العلمي والحضاري كلغة ذات قواعد مضبوطة ومتطورة بوتيرة منتظمة وأوزان وأقيسة واستعارات واسعة كما هو الشأن في اللغات الحية في العالم وعلى رأسها اللغة العربية،لغة كل المغاربة عروبيين أو أمازيغ أو حسانيين.
هذا مع العلم بأن الأمازيغية كما تبدو سطحيا عبارة عن لغة مزيجة وخلط من اللهجات قد تنحو إلى نموذج اللغة اللقيطة،أي أنها تلتقط الألفاظ من هذه اللغة أو تلك سماعا عابرا ومسترقا لتمزجها بدون تصريف في سياقها وقواعدها المنعدمة أصلا،قد تغلب عليها الألفاظ العربية وكلماتها من دون سائر اللغات بسبب الاحتكاك التاريخي والاجتماعي المنصهر فيما بينه،وذلك في شكل تعبير كامل وصريح،أو على شكل جرْش طبيعي وخاصة عند حدود البلدان كما عبر عنه ابن حزم الأندلسي في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام "كدراسة جد متقدمة في تحديد حقيقة اللغات وتأسيس ما سيعرف حديثا بعلم النفس اللغوي،قد تناولناه بالدراسة في كتابنا الذي تحت الطبع بعنوان "الفكر السلوكي عند ابن حزم الأندلسي".
ولهذا فقد يكذب من يزعم بأن من الأمازيغ من لا يعرف العربية العامية مع مرور هذه القرون من احتكاك العرب بالبربر نسبا ودما وتجارة وسياسة،بحيث قد كان طارق بن زياد خير دليل على هذا التوافق الروحي والسلوكي بين العنصرين من دون عقدة اللغة ،والتي قد أجاد فيها أيما إجادة في خطبته الشهيرة عند فتح الأندلس مطلعها "البحر من أمامكم والعدو وراءكم"...
ولم يتخلف عن التهجي بها إلا من كان من سكان الكهوف وسفوح الجبال وممن ذهبوا مذهب الكاهنة الرافضة لحضارة النور،ما زال البعض من أتباعها يطلون علينا بين الفينة والأخرى على وجه التنامي والتعامي.وهذا ليس ذنب اللغة وإشعاعها في ربوع المغرب ولكنه عيب المسئولين وخاصة ممن يحسبون على الإخوة الأمازيغ الذين لم يريدوا أن يثقفوا مجتمعهم بلغة القرآن لإخراجهم من ظلمات الجهل والجاهلية معا.
فإذا كان مجرد اختلاف اللهجات قد يكون مدعاة للمطالبة بفرضها على المستوى الدراسي والإداري والتداول الرسمي وزيادة محنة الفيلة إلى الفيل الذي لم يكف في التعطيل والتأخير والتكسير فلا بد إذن من إدراج لهجات أخرى قريبة جدا من الأمازيغية أو فصيل عنها أو مخالفة لها وللعربية العامية والعلمية معا،أذكر من بينها اللهجة الجبلية وخاصة في مناطق غمارة المتاخمة لمنطقة الريف حيث لهجة تريفيت.
بحيث كنموذج كيف يمكن لنا وصف كلمة "تْشمورَّة"و"خِيتَّشة" و"تَكِنْت" بأنها كلمات عربية أو أمازيغية حتى،إذ كلمة "تشمورة"تعني التين الشوكي أو الهندية و"خيتشة"تين عادي مخزّن،و"تكنت"برميل طين لتخزين"خيتشة".
كيف سيمكن لنا تفسير هذه الجملة المغناة عند بعض سكان الجبال:"يا الغدّار يا بوطُُحشة،اعطاني واحد الطارْشة على خمس كْبارْ دلْكرشة"...أو كلمة "التِّشنْ الطِّنْ"التي تعني استعمال أقصى ما يمكن من السرعة،وقس على هذا...
بماذا تختلف هذه اللهجات الجبلية عن اللهجة الريفية كما كنا نتنذر بها ونحن صغار على سبيل الضحك بهذه الكلمات:"ما يِِِنْتْرَحْد أيُوما؟أراحْد أبرْجيقا ،اطْراباخا شيفورا برْويطا،سِلْدوان حَفّنْ واهّا..."وهذه الكلمات تجمع بين الريفية والعربية والإسبانية في جملة واحدة،كما حولت كلمة بلجيكا إلى برجيقا! .
أم كيف يسوغ لنا اختزال طائرة البوينغ ودقتها التقنية والفنية في تعريف"فرفارْن قصْدارن"أو"تقصدرْت تفرفرْت"؟.
لا شك أن هذه العبارات ستصبح مادة مسرحية كوميدية بامتياز لكنها قد لا تصلح لأن تكون مادة علمية وبلاغية وفكرية،كما سيكون من غير المعقول أن نتصيد كل من تقيأ تركيبة لفظية ملتوية لندونها بالتكلف والحشو المصطنع (المُفبرك) ونؤكد بأن لنا رصدا لغويا أمازيغيا أو جبليا( قَفُّوحيًا) ينبغي تلقينه في المدراس والجامعات المنهكة بضعف مستوى اللغات ومؤطريها أصلا حتى نثبت هويتنا وأصالتنا،بل إن اللغة العربية نفسها قد أقصت عدت مصطلحات من قاموسها وتداولها مما يسمى بالغريب من الألفاظ نظرا لخشونتها والتوائها وزحمة تركيبها وصادميتها الموسيقية وذلك لما تسببه من إتعاب للسان والأذن والدماغ معا.وهذا لا يعني رفض تعلم الأمازيغية كتكملة لغوية واجتماعية،إذ كيفما كان حالها فهي تبقى لهجة مغربية مفيدة في كثير من المناطق وكثير من الظروف ولا يمكن لها أن تعم.
إن الأمازيغية المستحدثة حاليا (ومعها الدارجة العربية) بهذا الشكل والخلل الفني والبياني لا يمكن لها أن تنافس اللغة العربية مهما تطورت أو صبغت وزخرفت ووشمت، وذلك لما لهذه الأخيرة من خصوصية كونية وبيئية وذوقية دينية وغيبية،وهو ما سيؤكده أبو حامد الغزالي - وهو فارسي- رحمه الله تعالى في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام" لما ذهب يقارن بين العربية والفارسية أو التركية في تناول قضايا الدين والصفات الإلهية،موضحا بأن العربية- لغة القرآن- أوسع استعارات وأدق دلالة وبيانا في هذا المجال الروحي والغيبي وكذلك في صياغة المعاني الإنسانية وتجريدها، وخاصة لما تطرق إلى مسألة "الاستواء على العرش"وتفسيره أو تأويله،مبينا أنه مهما حاول الفارسي أو التركي انتقاء الكلمات للدلالة على التنزيه بمصطلحاته الخاصة فلن يصل إلى الدرجة التي يمكن أن تتسع إليها اللغة العربية وتوافق معناه،وهذا ما حدا بنا إلى مناقشة نموذج من أوسع اللغات ومن أكثرها أدبيات في العالم وفي أوروبا خاصة وهي الفرنسية والتي بدت بدورها قاصرة أكثر من الفارسية في مجال التفسير والتأويل كما عرضناه في كتابنا المتواضع"التجديد في دراسة علم التوحيد".
بل إن مسألة أسماء الأشخاص بدورها قد تعجز كثير من اللغات عن صياغتها بمعناها السليم مما قد يؤدي إلى تحريفها عن قصدها كاسم محمد مثلا الذي قد يعمد بعض الأوروبيين إلى صياغته بmahomet وهو ذو معنى قدحي في بعض اللغات الأوروبية منها الألمانية،وهذا قد يقتضي بأن يتلفظ بالاسم كما هو في العربية أي MOHAMMAD وإلا انقلب المدح إلى الذم من حيث لا يدري الشخص.
هذا التحريف أو التصحيف قد يحدث في اللهجات كثيرا، كقلب اسم محمد إلى مْحنْد أو موحْ عند الأمازيغ وأيضا في العامية العربية أو الجبلية حينما يحولون عند التداول اسم عبد السلام إلى عَبْسَمْ وعبد القادر إلى عبْقِيدْرات.
من هنا لو فتح الباب على مصراعيه في تسجيل الأسماء الغريبة لغة وتركيبا وغير الجميلة في المعنى فسيؤدي هذا الأمر إلى تسرب ألفاظ غير سليمة عقديا وأخلاقيا ،وبالتالي سيؤول إلى تدني القيم في المجتمع وتفسخها ،سواء كانت قيما لغوية محضة أو أخلاقية وكذا وطنية،وربما سيولد تنافسا طائفيا في تكثيف هذه الأسماء ضدا على بعضها من باب مخالفة العربي للأمازيغي أو العكس،وبالتالي سنقع في مشكلة ما يمكن الاصطلاح عليه حديثا بفوبيا أو خواف الأسماء وكراهيتها،كما قد يحدث لدى كثير من الشيعة الذين لا يسمحون بتسمية أولادهم بعمر أو أبي بكر رضي الله عنهما وحتى أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها،وذلك من خلفية طائفية مقيتة قد تحولت مع الزمن إلى تعصب ومرض لا يمكن التخلص منه بشتى الأدوية والعلاجات.
من يدري لعل غدا قد يأتي شخص باسم صنم ووثن كان يعبد في العصر الجاهلي عند البربر لا يعرفه كثير من الناس ولو الأمازيغ أنفسهم،طالما أنه لم يكن يوجد قاموس ضابط للغة البربر وموحد لمعاني الكلمات والألفاظ التي قد يختلفون أنفسهم حولها،ثم يدعي بأن هذه الكلمة غير منافية للقيم والدين والوطنية ...وقد قيل لي كما يشاع أن هناك في بعض المناطق الريفية من بدأ يسمي بمثل هذه من غير تثبيت أو تسجيل رسمي،هذا ناهيك عن غياب جمالية الإيقاع الفني للاسم داخل مجتمع موحد وما جرت عليه عادته في الأسماء،اللهم إلا إذا كانت هناك عنصرية تريد أن تفرق بين العرب والبربر وطنا وتاريخا ومجتمعا ولغة رسمية علمية وكذلك دينا و هوية.
باختصار شديد وكملخص لما قصدناه ولما قد يقصده البعض من مزاعم أمازيغية نقول:
- في ظل التمازج الاجتماعي والصهر والتواصل فقد لا يكون من الممكن لنا تحديد من هم الأمازيغ أو البربر ومن هم العرب في المغرب إلا توهما وإسقاطا ذاتيا،فقد يكون من يتكلم الأمازيغية بطلاقة وليس له أية علاقة بالأمازيغ جذورا أو نسبا،ومنهم من يتكلم العربية وحدها وليس له أصل عربي بتاتا وهكذا،بل هناك من يدعي نسبته إلى آل البيت وليس له منه إلا الادعاء،وعلى العكس فقد يكون من هو فعلا من أهل البيت ولا يدعي نسبته إليهم إما أنه لا يعلمه و أنه لا تهمه مسألة النسب بقدر ما تهمه قيمته الأخلاقية والعملية وهكذا...
- إن مزاعم الهوية الوطنية وتعددها باسم الأمازيغية كمنافي ومزاحم للعربية الرسمية والعلمية قد يجر إلى نزعات الانفصال والإضرار بالقضية الوطنية الأولى،وذريعة للمطالبة باستدعاء اللهجة الحسانية بالصحراء لكي تعلن ضرورة مساواتها باللهجات المعترف بها رسميا على قدم المساواة مما قد يؤدي إلى التزاحم والتصادم...
-إن استبدال مصطلح البربر بالأمازيغ دليل على اهتزاز المواقف وذاتيتها وانسلاخ عن مزاعم الهوية والأصالة وذلك لتمرير مشروع غير واضحة إيجابياته وعائداته على المستوى الوطني والاجتماعي والعلمي واللغوي .
- إن استبدال الخط العربي بالخط الأمازيغي تيفيناغ أو الفرنسي قد يعبر عن سوء النية والانتكاسة الفنية والذوقية في تحصيل الهوية،إذ في نظرنا وتقييمنا أن الخط الأمازيغي الحالي هو عبارة عن حروف مسمارية ووشم وشتات حرفي وخبط وخلط بين الأعداد المتصلة والمنفصلة أي بين الحساب والهندسة ،وليست حروفا بمعنى الكلمة،كما أنها تفتقد إلى التناسق والجمالية والصفة الهندسية الطبيعية ،وهي ذات خلفيات مصطنعة ضد السير والتنامي الطبيعي والتاريخي للأمازيغية وتكريس لنزعة خالف تعرف،ولا علاقة لها بالأرض والواقع،ولقد كان الأولى التزام الرسم العربي في الكتابة لعدة أسباب موضوعية ونفسية واجتماعية ووطنية.
بحيث أننا نرى الفارسية بإيران رغم عمقها الحضاري وكذلك الأردية بباكستان مازالتا تحتفظان بالرسم العربي ولم يكن ذلك سالبا لهوية تلك الشعوب أو حضارتهم،بينما نرى العكس هو ما حصل عند الأتراك الذين أصبحوا يعانون من أزمة الهوية الثقافية والروحية بسبب ذلك الخط المعقوف والبعيد عن كل مظاهر ومقومات تراثهم الحضاري الشرقي ،لولا حرص القاعدة الاجتماعية وعقلائها على رصيدها الروحي الإسلامي والذين قد بدؤوا مؤخرا يتشوقون إلى العودة للاستظلال بظلاله.
إن إثارة الأمازيغية بهذه الحدة والإلحاح قد لا يخلو إما من نزعة انفصالية أو تسلطية أو شعوبية عنصرية،وهذا فيه إضرار بالوطن واللغة والحضارة والتاريخ،كما أن إقرار الأمازيغية بهذا المزيج الهجين تعبيرا وكتابة قد يؤسس لمبدأ العصيدة أو الحريرة اللغوية التي ستؤدي حتما إلى ارتفاع ضغط الدم بكثرة التوابل وعشوائية حشوها والنزوح نحو الكسل والفشل والتنابز بالألقاب.
-إن الزعم بأن في العربية ألفاظا لا يمكن تداولها عند الأمازيغ وكذلك العكس فيه حجة على أصحاب اللهجات للالتزام باللغة الرسمية للبلاد عند تسجيل الأسماء والوعي بمدلولاتها،وإلا فقد نقصي ثلثي اللغة واللهجات معا من أجل هذه الأوهام،بحيث أن لهجة تطوان ومعاني ألفاظها غير لهجة وجدة وبركان،ولهجة الريف وغمارة غير سوس وأولماس،ولهجة الصحراء غير الشمال والغرب ...
-إن تكريس اللغة العربية كلغة قارة ورسمية للبلاد ينبني على مبدأ إحياء الموات والأرض لمن أحياها واستصلحها.ولا ينكر أحد بأن العربية قد هذبت و أثرت في كل اللهجات لجميع الشعوب التي دخلها الإسلام وعلى رأسها الأمازيغية،مما سهل لها الاندماج مع العربية عبر التاريخ من غير عقدة نقص أوسعي للمزاحمة على مستوى الكتابة والتعبير الرسمي،لأنها لغة القرآن والحضارة.
- إننا كمغاربة نتشرف ونفتخر بطارق بن زياد تماما كما نفتخر بموسى بن نصير وعقبة بن نافع الفهري،كما نعتز بيحيى بن يحيى الليثي على نفس المستوى الذي نعتز بالإمام مالك بن أنس،ونؤرخ بنخوة وصدق موالاة ليوسف بن تاشفين كما نسجله بنفس الإيجاب والحب للحسن الثاني- رحمهم الله جميعا - لا فرق لدينا بين هذا عربي أو بربري أمازيغي طالما أنه قد قدم خدمة تاريخية وعلمية وبطولات وتضحيات من أجل هذا الوطن الغالي،المغرب بلد الوحدة و المسيرة الخضراء المظفرة وبلد الأولياء في مقابل المشرق بلد الأنبياء كما وصفه المؤرخون.
-لا ينبغي تصنيف كل تحرك من طرف كل من العرب أو الأمازيغ لمدح لغتهم أو لهجتهم وكذلك إبراز تراثهم وفنهم،وما أجملها من موسيقى وفن أمازيغي وتراث شعبي،بأنها ذات نزعة شعوبية أو عنصرية عرقية،إذ الكل إخوة بالمواطنة و لكل له الحق في حياته العامة بأن يعبر بما يحلو له من لهجة طالما لا تمت إلى الكراهية والعنصرية بشيء ولا تتعارض مع القيم الثابتة عبر القرون في وجدان كل مجتمع.
- إن المجال الروحي هو الباب الأوحد والأقوى الذي قد تذوب معه كل نزعة شعوبية وتتواصل فيه الأرواح قبل الأشباح والمعاني قبل الألفاظ والمباني،وهذا هو سر توحُّد المغاربة عبر التاريخ بعربيهم وأمازيغيهم على مائدة ثلاثية الأركان وهي:
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك وبهذا فسيبقى المغرب دائما وأبدا:
منبت الأحرار مشرق الأنوار
منتدى السؤدد وحماه
دمت منتداه وحماه...
بشعار: الله-الوطن-الملك
والله مؤلف القلوب ومسدد الخطى
benyaich_tetouan@yaoo.fr
كاريكاتير حسن عين الحياة من أسبوعية المشعل
إن تناول موضوع الأمازيغية وإشكالية الهوية في المغرب قد يبدو من القضايا العويصة فكريا واجتماعية وتاريخيا وسياسيا وبالدرجة الأولى لغويا.
لهذا فالحديث عنها قد يثير جدلا وردودا وتأويلات مختلفة تتأرجح بين الاحتقان والاتهام والإقصاء والإسقاط...ولقد كان الأولى عدم التعرض له بتاتا وذلك اتقاء للفتنة وسدا للذريعة ونأيا عن المهاترات التي قد لا تزيد البلاد والعباد إلا سقما وغما وهما لا مدعاة له .
لكن حينما يصبح الأمر متداولا والأخذ والرد متواصلا والدعاوى معلنة فقد يكون من الأجدر بأهل العلم والمعرفة إبداء الرأي ووجهة النظر، خالية من أية مؤثرات عرقية أو انتمائية، التي ربما قد تجد حلا للمشكلة وإقناعا فكريا تطمئن معه النفوس وتتواصل به العقول والأرواح لكي يحتفظ المجتمع بوحدته وأخوته التي لا تهزها الرياح ولا يفزعها صوت النباح.
ولقد ترددت كثيرا عن الخوض في الموضوع لما له من أشواك وتشكيك وتفكيك وتشبيك،لكن لما طفح الكيل وجرف بالبعض السيل وانقلبت الحقائق إلى نقانق تحاك وتلاك بتوابل من التشنج والترهج، فقد ارتأيت أن أدلي بدلوي من غير مراعاة لردة زيد أو عمرو أو انحياز إلى هذا الناطق أو غيره عربيا كان أم بربريا أمازيغا بل حتى عبريا وعروبيا حسانيا،وكذلك من غير تمثيل لتيار أو مذهب أو حزب وطريقة معينة، وذلك في إطار تحليل متواضع وعابر لكنه صادق وغيور على كل فئات هذا الشعب والبلد الأبي والشامخ بتاريخه وحضارته ومواقفه ووحدته،معتمدا في هذا مبدأ:لا تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الحق تعرف أهله،وكذلك قولة أرسطو المشهورة:أفلاطون صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق منه.
التدوين التاريخي للبربر والأمازيغ
من المفارقات العجيبة في موضوع الأمازيغية أو لغة البربر وحضورها في المسار التاريخي وما جرى من أحداث في المغرب وغيره من دول شمال أفريقيا هو أن التدوين الرئيسي والموسع لتاريخ الناطقين بها قد تم حفظه باللغة العربية من لدن :"المعجب في تلخيص أخبار المغرب "لعبد الواحد المراكشي ومرورا بابن خلدون في كتاب "العبر" إلى "الاستقصاء" للناصري وهكذا،مما يعني أن اللغة الرئيسية التي كانت وما زالت حامية للتراث الأمازيغي وسائدة في المجتمع المغربي رسميا وحضاريا وشعبيا وثقافيا هي اللغة العربية من غير منازع ،ومن ثم فلم تكن الأمازيغية ذات تركيبة فنية أو قواعد ثابتة يمكن الاعتماد عليها في تأليف الكتب وصياغة التاريخ بدقة ووصف كامل على النحو والنمط الذي صيغ به في العربية.
ولهذا فحينما يريد بعض الأمازيغ إقصاء اللغة العربية من التداول في وسطهم الخاص كلغة حضارة وعلم وتعبير فإنهم في الحقيقة يقصون تاريخهم بأكمله وحضارتهم بجلها ،بل هويتهم أيضا ،هذه نقطة أولى.
كمفارقة ثانية أيضا وأشد عجبا،وهي أن فضل العرب على صياغة مصطلح البربر كلغة خاصة بهم أو كلهجة غير منضبطة جاءت من طرف حاكم عربي كان قد دخل أفريقيا قبل الإسلام وهو أحد ملوك اليمن التبابعة والذي كان يسمى ب:أفريقش (ليس مشتقا من الفراقش ولكن من أفريقيا)حسب ما ذكره ابن خلدون في كتابه "المقدمة" بأن أفريقش هذا لما دخل إلى شمال أفريقيا عبر السودان والتقى بالبربر وسمع لغتهم وإيقاعها الغريب عن العربية والمعقد فنيا وتعبيريا موسيقيا ،وذلك كتصحيف وتحريف للغة العربية الأصلية فيما يبدو،قال لهم:ما هذه البربرة؟ومن ثم سموا بالبربر.
فهذه نقط مهمة جدا بالنسبة لمن يرون أن أصل البربر عرب قد جاؤوا من اليمن،وهذا محتمل من خلال قصة أفريقش التي تؤيد الطرح رغم تشكيك ابن خلدون في صحة رحلته حتى شمال أفريقيا،لكن مع ذلك فاسم أفريقش دليل على أن له علاقة بأفريقيا والتي كان في الغالب يتسمى بها أهل الشمال.
وعند مجيء الإسلام فسيكون دور الفتح الإسلامي مرورا بشمال أفريقيا وعبورا إلى الأندلس وما حدث من مقاومة بربرية ابتداء من الكاهنة ومرورا بكسيلة كرد فعل طبيعي لكل الشعوب على كل من يريد أن يدخل أرضهم من غير استئذان أو بفرض وجوده ولو كان باسم الدعوة والرسالة التي فيها نجاة تلك الشعوب وسعادتها.
فالمقاومة من طبع كل الشعوب والأمم ولكنها قد يختلف نفسها وحدتها بحسب التيقن من نية وقصد الفاتح أو الغازي ،وهذا ما سيحدث بالنسبة إلى البربر المغاربة الذين قاوموا الفتح الإسلامي بل ارتدوا عن الإسلام عدة مرات قد وصلت حتى زمن المؤرخ ابن خلدون فيما يحكيه إلى اثنتي عشرة ردة ولم يعودوا إلى الالتزام إلا بالقوة والحضور الفعلي للفاتحين في البلاد ،إلى حين استقر الدين في المغرب عن قناعة وتسليم والذي على إثره تأسست الدولة الإدريسية التي ستعمل على المصاهرة بين العنصر العربي والبربري على مستوى الدم والرابطة الأسرية من خلال الزواج التي تحقق بين المولى إدريس الأول والسيدة كنزة البربرية أم الشرفاء الأدارسة بالمغرب،والذي سيستمر على وتيرته اجتماعيا وسياسيا وعلى كل المستويات الشعبية والرسمية كما عبر عنه جلالة الملك محمد السادس بأسلوب صادق وواضح ووحدوي محنك بقوله في إحدى خطبه:"أنا نصفي أمازيغي".
من هنا فقد توالت الدول وتولى الحكم بربر في أصلهم اللغوي وتاريخهم الوطني ولكنهم مع ذلك لم يسعوا إلى تخطي عتبة اللغة العربية لتعويضها بالبربرية من نقطة امتلاكهم للسلطة واستقلالهم بالقرار،بل قد ساهموا في تأطيرها كما يذكر المؤرخون العرب والأجانب ،وخاصة المؤرخ الفرنسي موريس لومبار في كتابه "الإسلام في عظمته الأولى" الذي ذهب إلى أن الشعوب غير العربية والموالي هم الذين سيضعون القواعد للغة العربية وسيحفظون لها مبادئها،أذكر من بين ما قام به البربر نموذج منظومة الآجرومية في النحو لمحمد بن داود الصنهاجي البربري.
فهذه مفارقة أخرى وهي أن البربر قد كانوا يحصنون اللغة العربية ويسعون إلى حمايتها من الذوبان في الدارجة أو اللهجات السوقية والعفوية،إيمانا منهم بأن تلك اللهجات غير كافية أو قابلة لأن تصبح ندا للغة العربية وخاصة على المستوى العلمي والأدبي الرفيع والمعتبر به حضاريا وفكريا.
مزاعم الهوية وإشكالية تعدد اللهجات
إن أول مطب ذلك الذي وقع فيه متزعمو الأمازيغية باعتبارها لغة وطنية أصلية وذات أولوية رسمية حسب زعمهم هو استبدالهم مصطلح البربر بالأمازيغ،وهذه نكسة تاريخية وسلب لكل حق في دعوى الأصالة واستحقاق الهوية التاريخية قبل اللغوية ،وذلك كشعور بالدونية وحرج من مصطلح البربر بالعربية الذي قد كان يعني شعبا وقوما محددي اللغة والموقع جغرافيا في بلد له تراثه وثقافته وتقاليده وتحاشيا من الاقتراب من معنى البربر المعبر به في الفرنسية ب barbares والذي قد يدل على التوحش من خلال ممارسات البربر الكارولنجيين والميرولنجيين في أوروبا الغربية بين القرن الرابع والخامس الميلادي،وهذا المصطلح لا علاقة له بكلمة berbères التي تعني شعبا معينا والتي وظفها العرب بكل حرية ودون وصف قدحي أو تنقيص للعنصر البربري المكون للشعب المغربي في أهم أشطاره،والدليل على هذا هو خروج العرب والبربر (الأمازيغ) عند صدور الظهير البربري المفرق بينهم يدا بيد وبشعار موحد وهو "اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير،وأن لا تفرق بيننا وإخواننا البرابر".
وفي المقابل لم يغير العرب اسم انتمائهم وهويتهم عبر التاريخ رغم طغيان اللهجات الدارجة وانصهارها في حواراتهم ومداولاتهم كان للأمازيغية نصيب كبير فيها ،وذلك لخصوصية الثبات اللغوي لديهم ولوعيهم بالأصالة الحضارية التي انبنت عليها ابتداء،ولتشرفها بمجيء القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف على حروفها ولسانها.
ارتباطا بالمسألة فقد تطرح مزاعم الأصالة والهوية الوطنية لتبرير تعميم الأمازيغية كلغة مفروضة على كل الشرائح المكونة للمجتمع المغربي من مبرر أن الأمازيغ أو البربر يمثلون السكان الأصليين في المغرب بحسب سبقهم ووجودهم الزمني على رقعته .
وهذه دعوى غير سليمة ولا واقعية وهي بمثابة حصان طروادة الذي ينتقل عليه لتحقيق أهداف غير معلنة إعلاميا ومطلبيا،وذلك لأن مفهوم الأصالة في الوجود المكاني هي مسألة نسبية وزئبقية و لا يمكن تصور إنسان أو مجتمع على نمط الصخور السوداء أو الأشجار المتجذرة في الأرض وإلا فقد صفته ومحدده المنطقي بأنه:"حيوان ناطق"أي أنه يخضع لقانون الحركة والانتقال والحيوية.
بحيث يمكن لنا أن نحكم على جبل توبقال مثلا وغيره بأنه أصيل وذلك لأنه لا يتزحزح عن مكانه نسبيا إذا تأملنا،لأن الجبال والوديان قد تتعرض لعوامل التعرية وصرف السيول وبالتالي إحداث تغيرات على مستوى الارتفاع أو الانخفاض أو الهضبات..
لكن مع هذا فقد نستعمل ما يسمى عند المنطقيين بقياس الخلف وذلك بالقول :إذا كنتم تزعمون بأنكم سكان أصليون بحسب سبقكم الزمني لوجود العرب بالمغرب أو شمال أفريقيا فما رأيكم في سبق اليهود للبربر في هذا الحضور ومزاحمتهم لكم في دعوى الأصالة ؟وهو ما قد يثبته المؤرخون وتدل عليه بعض المظاهر الاجتماعية وتقاليد اللبس الأصيلة في المغرب على رأسها الجلباب التقليدي الذي كان يلبسه الحاخامت والرهبان ،ثم انتقل إلى اللباس الرسمي للمجتمع المغربي.
كما أن وجودهم من المرجح قد جاء بعد مرحلة التيه في زمن موسى عليه السلام الذي قد وصل إلى مجمع البحرين أي البوغاز حينما التقى بالخضر عليه السلام،وأيضا، من المؤكد أن قد كان بالمغرب أقوام وأمم غير البربر واليهود إما رحلت أو انصهرت أو أبيدت،حسب عجلة التاريخ وتفاعلات الشعوب،ومن يدري؟
المهم عندنا هو أن مزاعم الأصالة على نمط وجود الصخور مرفوضة بالمنطق المجرد واستقراء التاريخ ولغة البيئة وتفاعل الحضارات والأمم.ومن هنا فيكون الاستنتاج فيما يخص فرض الأمازيغية كلغة على حساب العربية ومزاحمتها من باب النِّدٍّية تحت زعم الأسبقية والأصالة والهوية هو أن اليهود في هذه المزايدة سيكونون أولى بالمطالبة من الأمازيغ بفرض العبرية كلغة رسمية ووطنية وجب تدريسها في كل المؤسسات والمعاهد طالما أنه يوجد في المغرب يهود، وما أكثرهم في العلن والخفاء أو التقنع...وسنصبح حينئذ كأننا في فلسطين أخرى وأرض ميعاد جديدة تبرر التدخل الأجنبي وعودة الاستعمار.
من هنا فيكون بعض المتشددين من الأمازيغ قد فتحوا الباب على مصراعيه والذريعة لكل أقلية أو تجمع جهوي من أجل المطالبة بفرض لهجتهم كلغة رسمية للبلاد أو التلويح بالاستقلال الذاتي والنظام الفيدرالي،وفي هذا تعدد التوجهات والمفاهيم وتناطح المعاني والمصطلحات وتشنجها ،وهو ما قد يؤدي إلى بروز الطائفية المقيتة وفسح المجال للتدخل الأجنبي لدعم هذا الفصيل أو ذاك بحسب ولائه له أو قربه وبعده من أيديولوجيته.
لكن الوطنية الحقة قد تقتضي ولاء واحدا لا غير،وتتطلب وحدة الخطاب لفهم الأوامر والنواهي الصادرة من القيادة العليا للبلاد على قد م المساواة وتواصل العقول والقلوب "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أدعياءكم أبناءكم".
اللغة العربية واضطراب الأسماء في اللهجات
وإذا سايرنا هذا التصور الناقص والهش في مزاعمه عند متعصبي اللهجات فسيصبح من المؤكد أو المستساغ أن يذهب كل شخص إلى تدوين لغته وفرضها بالقوة وبمزاعم الهوية،وبالتالي اختيار ما يحلوا له في خياله من اسم ووصف من دون أن يكون للدولة أو الفاعلين الاجتماعيين الحق في ردعه أو إيقاف غرائبه،كمثال الثقافة الجنسية التي تحولت، بعد تفسخ المعاني ومفاهيم حق التعبير وتعلم كل شيء، إلى السخافة الجنسية والدعارة الكلامية والكتابية كما نلحظه في كثير من مناحي إعلامنا بكل مستوياته وتقنياته.
من هنا فقد جاء الاضطراب في تحديد الأمازيغية بزعم أنها تمثل اللغة الوطنية لحد تسييسها والإسفاف بها حتى قسمت إلى ثلاث لهجات وهي:تريفيت وتشلحيث وتمازيغت،وكل لهجة قد لا يفهمها غير صاحبها من نفس المجموعة الأمازيغية،وذلك لأنها عبارة عن لهجات سوقية وعامية لا وجود لها على المستوى العلمي والحضاري كلغة ذات قواعد مضبوطة ومتطورة بوتيرة منتظمة وأوزان وأقيسة واستعارات واسعة كما هو الشأن في اللغات الحية في العالم وعلى رأسها اللغة العربية،لغة كل المغاربة عروبيين أو أمازيغ أو حسانيين.
هذا مع العلم بأن الأمازيغية كما تبدو سطحيا عبارة عن لغة مزيجة وخلط من اللهجات قد تنحو إلى نموذج اللغة اللقيطة،أي أنها تلتقط الألفاظ من هذه اللغة أو تلك سماعا عابرا ومسترقا لتمزجها بدون تصريف في سياقها وقواعدها المنعدمة أصلا،قد تغلب عليها الألفاظ العربية وكلماتها من دون سائر اللغات بسبب الاحتكاك التاريخي والاجتماعي المنصهر فيما بينه،وذلك في شكل تعبير كامل وصريح،أو على شكل جرْش طبيعي وخاصة عند حدود البلدان كما عبر عنه ابن حزم الأندلسي في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام "كدراسة جد متقدمة في تحديد حقيقة اللغات وتأسيس ما سيعرف حديثا بعلم النفس اللغوي،قد تناولناه بالدراسة في كتابنا الذي تحت الطبع بعنوان "الفكر السلوكي عند ابن حزم الأندلسي".
ولهذا فقد يكذب من يزعم بأن من الأمازيغ من لا يعرف العربية العامية مع مرور هذه القرون من احتكاك العرب بالبربر نسبا ودما وتجارة وسياسة،بحيث قد كان طارق بن زياد خير دليل على هذا التوافق الروحي والسلوكي بين العنصرين من دون عقدة اللغة ،والتي قد أجاد فيها أيما إجادة في خطبته الشهيرة عند فتح الأندلس مطلعها "البحر من أمامكم والعدو وراءكم"...
ولم يتخلف عن التهجي بها إلا من كان من سكان الكهوف وسفوح الجبال وممن ذهبوا مذهب الكاهنة الرافضة لحضارة النور،ما زال البعض من أتباعها يطلون علينا بين الفينة والأخرى على وجه التنامي والتعامي.وهذا ليس ذنب اللغة وإشعاعها في ربوع المغرب ولكنه عيب المسئولين وخاصة ممن يحسبون على الإخوة الأمازيغ الذين لم يريدوا أن يثقفوا مجتمعهم بلغة القرآن لإخراجهم من ظلمات الجهل والجاهلية معا.
فإذا كان مجرد اختلاف اللهجات قد يكون مدعاة للمطالبة بفرضها على المستوى الدراسي والإداري والتداول الرسمي وزيادة محنة الفيلة إلى الفيل الذي لم يكف في التعطيل والتأخير والتكسير فلا بد إذن من إدراج لهجات أخرى قريبة جدا من الأمازيغية أو فصيل عنها أو مخالفة لها وللعربية العامية والعلمية معا،أذكر من بينها اللهجة الجبلية وخاصة في مناطق غمارة المتاخمة لمنطقة الريف حيث لهجة تريفيت.
بحيث كنموذج كيف يمكن لنا وصف كلمة "تْشمورَّة"و"خِيتَّشة" و"تَكِنْت" بأنها كلمات عربية أو أمازيغية حتى،إذ كلمة "تشمورة"تعني التين الشوكي أو الهندية و"خيتشة"تين عادي مخزّن،و"تكنت"برميل طين لتخزين"خيتشة".
كيف سيمكن لنا تفسير هذه الجملة المغناة عند بعض سكان الجبال:"يا الغدّار يا بوطُُحشة،اعطاني واحد الطارْشة على خمس كْبارْ دلْكرشة"...أو كلمة "التِّشنْ الطِّنْ"التي تعني استعمال أقصى ما يمكن من السرعة،وقس على هذا...
بماذا تختلف هذه اللهجات الجبلية عن اللهجة الريفية كما كنا نتنذر بها ونحن صغار على سبيل الضحك بهذه الكلمات:"ما يِِِنْتْرَحْد أيُوما؟أراحْد أبرْجيقا ،اطْراباخا شيفورا برْويطا،سِلْدوان حَفّنْ واهّا..."وهذه الكلمات تجمع بين الريفية والعربية والإسبانية في جملة واحدة،كما حولت كلمة بلجيكا إلى برجيقا! .
أم كيف يسوغ لنا اختزال طائرة البوينغ ودقتها التقنية والفنية في تعريف"فرفارْن قصْدارن"أو"تقصدرْت تفرفرْت"؟.
لا شك أن هذه العبارات ستصبح مادة مسرحية كوميدية بامتياز لكنها قد لا تصلح لأن تكون مادة علمية وبلاغية وفكرية،كما سيكون من غير المعقول أن نتصيد كل من تقيأ تركيبة لفظية ملتوية لندونها بالتكلف والحشو المصطنع (المُفبرك) ونؤكد بأن لنا رصدا لغويا أمازيغيا أو جبليا( قَفُّوحيًا) ينبغي تلقينه في المدراس والجامعات المنهكة بضعف مستوى اللغات ومؤطريها أصلا حتى نثبت هويتنا وأصالتنا،بل إن اللغة العربية نفسها قد أقصت عدت مصطلحات من قاموسها وتداولها مما يسمى بالغريب من الألفاظ نظرا لخشونتها والتوائها وزحمة تركيبها وصادميتها الموسيقية وذلك لما تسببه من إتعاب للسان والأذن والدماغ معا.وهذا لا يعني رفض تعلم الأمازيغية كتكملة لغوية واجتماعية،إذ كيفما كان حالها فهي تبقى لهجة مغربية مفيدة في كثير من المناطق وكثير من الظروف ولا يمكن لها أن تعم.
إن الأمازيغية المستحدثة حاليا (ومعها الدارجة العربية) بهذا الشكل والخلل الفني والبياني لا يمكن لها أن تنافس اللغة العربية مهما تطورت أو صبغت وزخرفت ووشمت، وذلك لما لهذه الأخيرة من خصوصية كونية وبيئية وذوقية دينية وغيبية،وهو ما سيؤكده أبو حامد الغزالي - وهو فارسي- رحمه الله تعالى في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام" لما ذهب يقارن بين العربية والفارسية أو التركية في تناول قضايا الدين والصفات الإلهية،موضحا بأن العربية- لغة القرآن- أوسع استعارات وأدق دلالة وبيانا في هذا المجال الروحي والغيبي وكذلك في صياغة المعاني الإنسانية وتجريدها، وخاصة لما تطرق إلى مسألة "الاستواء على العرش"وتفسيره أو تأويله،مبينا أنه مهما حاول الفارسي أو التركي انتقاء الكلمات للدلالة على التنزيه بمصطلحاته الخاصة فلن يصل إلى الدرجة التي يمكن أن تتسع إليها اللغة العربية وتوافق معناه،وهذا ما حدا بنا إلى مناقشة نموذج من أوسع اللغات ومن أكثرها أدبيات في العالم وفي أوروبا خاصة وهي الفرنسية والتي بدت بدورها قاصرة أكثر من الفارسية في مجال التفسير والتأويل كما عرضناه في كتابنا المتواضع"التجديد في دراسة علم التوحيد".
بل إن مسألة أسماء الأشخاص بدورها قد تعجز كثير من اللغات عن صياغتها بمعناها السليم مما قد يؤدي إلى تحريفها عن قصدها كاسم محمد مثلا الذي قد يعمد بعض الأوروبيين إلى صياغته بmahomet وهو ذو معنى قدحي في بعض اللغات الأوروبية منها الألمانية،وهذا قد يقتضي بأن يتلفظ بالاسم كما هو في العربية أي MOHAMMAD وإلا انقلب المدح إلى الذم من حيث لا يدري الشخص.
هذا التحريف أو التصحيف قد يحدث في اللهجات كثيرا، كقلب اسم محمد إلى مْحنْد أو موحْ عند الأمازيغ وأيضا في العامية العربية أو الجبلية حينما يحولون عند التداول اسم عبد السلام إلى عَبْسَمْ وعبد القادر إلى عبْقِيدْرات.
من هنا لو فتح الباب على مصراعيه في تسجيل الأسماء الغريبة لغة وتركيبا وغير الجميلة في المعنى فسيؤدي هذا الأمر إلى تسرب ألفاظ غير سليمة عقديا وأخلاقيا ،وبالتالي سيؤول إلى تدني القيم في المجتمع وتفسخها ،سواء كانت قيما لغوية محضة أو أخلاقية وكذا وطنية،وربما سيولد تنافسا طائفيا في تكثيف هذه الأسماء ضدا على بعضها من باب مخالفة العربي للأمازيغي أو العكس،وبالتالي سنقع في مشكلة ما يمكن الاصطلاح عليه حديثا بفوبيا أو خواف الأسماء وكراهيتها،كما قد يحدث لدى كثير من الشيعة الذين لا يسمحون بتسمية أولادهم بعمر أو أبي بكر رضي الله عنهما وحتى أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها،وذلك من خلفية طائفية مقيتة قد تحولت مع الزمن إلى تعصب ومرض لا يمكن التخلص منه بشتى الأدوية والعلاجات.
من يدري لعل غدا قد يأتي شخص باسم صنم ووثن كان يعبد في العصر الجاهلي عند البربر لا يعرفه كثير من الناس ولو الأمازيغ أنفسهم،طالما أنه لم يكن يوجد قاموس ضابط للغة البربر وموحد لمعاني الكلمات والألفاظ التي قد يختلفون أنفسهم حولها،ثم يدعي بأن هذه الكلمة غير منافية للقيم والدين والوطنية ...وقد قيل لي كما يشاع أن هناك في بعض المناطق الريفية من بدأ يسمي بمثل هذه من غير تثبيت أو تسجيل رسمي،هذا ناهيك عن غياب جمالية الإيقاع الفني للاسم داخل مجتمع موحد وما جرت عليه عادته في الأسماء،اللهم إلا إذا كانت هناك عنصرية تريد أن تفرق بين العرب والبربر وطنا وتاريخا ومجتمعا ولغة رسمية علمية وكذلك دينا و هوية.
ملخص المزاعم وثوابت المكارم بين العرب والأمازيغ
باختصار شديد وكملخص لما قصدناه ولما قد يقصده البعض من مزاعم أمازيغية نقول:
- في ظل التمازج الاجتماعي والصهر والتواصل فقد لا يكون من الممكن لنا تحديد من هم الأمازيغ أو البربر ومن هم العرب في المغرب إلا توهما وإسقاطا ذاتيا،فقد يكون من يتكلم الأمازيغية بطلاقة وليس له أية علاقة بالأمازيغ جذورا أو نسبا،ومنهم من يتكلم العربية وحدها وليس له أصل عربي بتاتا وهكذا،بل هناك من يدعي نسبته إلى آل البيت وليس له منه إلا الادعاء،وعلى العكس فقد يكون من هو فعلا من أهل البيت ولا يدعي نسبته إليهم إما أنه لا يعلمه و أنه لا تهمه مسألة النسب بقدر ما تهمه قيمته الأخلاقية والعملية وهكذا...
- إن مزاعم الهوية الوطنية وتعددها باسم الأمازيغية كمنافي ومزاحم للعربية الرسمية والعلمية قد يجر إلى نزعات الانفصال والإضرار بالقضية الوطنية الأولى،وذريعة للمطالبة باستدعاء اللهجة الحسانية بالصحراء لكي تعلن ضرورة مساواتها باللهجات المعترف بها رسميا على قدم المساواة مما قد يؤدي إلى التزاحم والتصادم...
-إن استبدال مصطلح البربر بالأمازيغ دليل على اهتزاز المواقف وذاتيتها وانسلاخ عن مزاعم الهوية والأصالة وذلك لتمرير مشروع غير واضحة إيجابياته وعائداته على المستوى الوطني والاجتماعي والعلمي واللغوي .
- إن استبدال الخط العربي بالخط الأمازيغي تيفيناغ أو الفرنسي قد يعبر عن سوء النية والانتكاسة الفنية والذوقية في تحصيل الهوية،إذ في نظرنا وتقييمنا أن الخط الأمازيغي الحالي هو عبارة عن حروف مسمارية ووشم وشتات حرفي وخبط وخلط بين الأعداد المتصلة والمنفصلة أي بين الحساب والهندسة ،وليست حروفا بمعنى الكلمة،كما أنها تفتقد إلى التناسق والجمالية والصفة الهندسية الطبيعية ،وهي ذات خلفيات مصطنعة ضد السير والتنامي الطبيعي والتاريخي للأمازيغية وتكريس لنزعة خالف تعرف،ولا علاقة لها بالأرض والواقع،ولقد كان الأولى التزام الرسم العربي في الكتابة لعدة أسباب موضوعية ونفسية واجتماعية ووطنية.
بحيث أننا نرى الفارسية بإيران رغم عمقها الحضاري وكذلك الأردية بباكستان مازالتا تحتفظان بالرسم العربي ولم يكن ذلك سالبا لهوية تلك الشعوب أو حضارتهم،بينما نرى العكس هو ما حصل عند الأتراك الذين أصبحوا يعانون من أزمة الهوية الثقافية والروحية بسبب ذلك الخط المعقوف والبعيد عن كل مظاهر ومقومات تراثهم الحضاري الشرقي ،لولا حرص القاعدة الاجتماعية وعقلائها على رصيدها الروحي الإسلامي والذين قد بدؤوا مؤخرا يتشوقون إلى العودة للاستظلال بظلاله.
إن إثارة الأمازيغية بهذه الحدة والإلحاح قد لا يخلو إما من نزعة انفصالية أو تسلطية أو شعوبية عنصرية،وهذا فيه إضرار بالوطن واللغة والحضارة والتاريخ،كما أن إقرار الأمازيغية بهذا المزيج الهجين تعبيرا وكتابة قد يؤسس لمبدأ العصيدة أو الحريرة اللغوية التي ستؤدي حتما إلى ارتفاع ضغط الدم بكثرة التوابل وعشوائية حشوها والنزوح نحو الكسل والفشل والتنابز بالألقاب.
-إن الزعم بأن في العربية ألفاظا لا يمكن تداولها عند الأمازيغ وكذلك العكس فيه حجة على أصحاب اللهجات للالتزام باللغة الرسمية للبلاد عند تسجيل الأسماء والوعي بمدلولاتها،وإلا فقد نقصي ثلثي اللغة واللهجات معا من أجل هذه الأوهام،بحيث أن لهجة تطوان ومعاني ألفاظها غير لهجة وجدة وبركان،ولهجة الريف وغمارة غير سوس وأولماس،ولهجة الصحراء غير الشمال والغرب ...
-إن تكريس اللغة العربية كلغة قارة ورسمية للبلاد ينبني على مبدأ إحياء الموات والأرض لمن أحياها واستصلحها.ولا ينكر أحد بأن العربية قد هذبت و أثرت في كل اللهجات لجميع الشعوب التي دخلها الإسلام وعلى رأسها الأمازيغية،مما سهل لها الاندماج مع العربية عبر التاريخ من غير عقدة نقص أوسعي للمزاحمة على مستوى الكتابة والتعبير الرسمي،لأنها لغة القرآن والحضارة.
- إننا كمغاربة نتشرف ونفتخر بطارق بن زياد تماما كما نفتخر بموسى بن نصير وعقبة بن نافع الفهري،كما نعتز بيحيى بن يحيى الليثي على نفس المستوى الذي نعتز بالإمام مالك بن أنس،ونؤرخ بنخوة وصدق موالاة ليوسف بن تاشفين كما نسجله بنفس الإيجاب والحب للحسن الثاني- رحمهم الله جميعا - لا فرق لدينا بين هذا عربي أو بربري أمازيغي طالما أنه قد قدم خدمة تاريخية وعلمية وبطولات وتضحيات من أجل هذا الوطن الغالي،المغرب بلد الوحدة و المسيرة الخضراء المظفرة وبلد الأولياء في مقابل المشرق بلد الأنبياء كما وصفه المؤرخون.
-لا ينبغي تصنيف كل تحرك من طرف كل من العرب أو الأمازيغ لمدح لغتهم أو لهجتهم وكذلك إبراز تراثهم وفنهم،وما أجملها من موسيقى وفن أمازيغي وتراث شعبي،بأنها ذات نزعة شعوبية أو عنصرية عرقية،إذ الكل إخوة بالمواطنة و لكل له الحق في حياته العامة بأن يعبر بما يحلو له من لهجة طالما لا تمت إلى الكراهية والعنصرية بشيء ولا تتعارض مع القيم الثابتة عبر القرون في وجدان كل مجتمع.
- إن المجال الروحي هو الباب الأوحد والأقوى الذي قد تذوب معه كل نزعة شعوبية وتتواصل فيه الأرواح قبل الأشباح والمعاني قبل الألفاظ والمباني،وهذا هو سر توحُّد المغاربة عبر التاريخ بعربيهم وأمازيغيهم على مائدة ثلاثية الأركان وهي:
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك وبهذا فسيبقى المغرب دائما وأبدا:
منبت الأحرار مشرق الأنوار
منتدى السؤدد وحماه
دمت منتداه وحماه...
بشعار: الله-الوطن-الملك
والله مؤلف القلوب ومسدد الخطى
benyaich_tetouan@yaoo.fr