نجيم مزيان*
تثير قضية التحول نحو الديمقراطية في الوطن العربي نقاشات واسعة منذ عدة عقود,ويبدو انها لا تشكل اولوية بالنسبة للمجتمعات العربية اذا ما وضعت بجانب قضايا حفظ الامن وضمان الاستقرار وتحديات التنمية ومحاربة الفقر والإقصاء،وهو ما ينسجم مع التصور التقليدي لطبيعة وظائف الدولة،وقد تضافرت عوامل عدة أعاقت-دائما-آمكانية تحول المجتمعات العربية نحو الديمقراطية، يعتبر بعض الباحثين ان جذور الازمة العربية حاليا هي اساسا ازمة الديمقراطية قبل كل شيء ثقافية محضة،فالمجتمعات العربية لا تزال عاجزة عن هضم واستيعاب مشكلاتها على اسس عقلانية،ولا يزال الفكر الخرافي يشكل الاطار النظري الاول الذي تصدر عنه الجماهير العربية،المواطن العادي والسياسي ورجل الدولة،على حد سواء.ولهذه الازمة المركبة جذور في التاريخ والثقافة والتراث.
فقد تأسس فهم خاص للحياة،ولطاقات الانسان وأدواره وطموحاته،يكرس نوعا من القدرية.وفي هذا السياق يعتبر الاستاذ حسن حنفي انه"بالرغم من كون الاسلام هو اخر الاديان،والعقل فيه وريث روحي،والإرادة الانسانية فيه وريثة المعجزات،إلا انه وفق ما يسميه حسن حنفي سلطوية التصور،فان الانسان العربي يظل قاصرا عقلا وإرادة،ويظل العقل تابعا للنقل،ثم يتوارى العمل الانساني كليا"،وهنا يصبح الفكر"لعبة الفاظ"ويصبح الطريق سالكا حين ينتفي فعل العربي ليحل محله فعل الحاكم.
وبالنظر الى الوضع الراهن للمجتمعات العربية،فان محاولات النهضة لم تخرج عن اطار محاولة اعادة انتاج الماضي على شكل مشروع مستقبلي.لقد عاش العربي دائما منشدا الى الماضي"المجيد"،منتظرا المستقبل "المشرق"وأزمة الهروب هذه نحو الماضي والمستقبل،ازمة سيكولوجية تعيق كل محاولات الانتقال الديمقراطي في العالم العربي،لان الغائب الاكبر هو الحاضر.
ومن جهة اخرى ،يواجه العقل العربي حاليا ازمات طاحنة على جميع الاصعدة،وقد عجز عن مواجهة واقعه.
وهكذا باتت الجماهير العربية ضحية لترسيخ عقدة التخلف الحضاري والغوغائية الدينية،والتضليل الاعلامي،والجمود التربوي،واللاعلمية في طبقها المكتمل.
والعقل العربي كما صيغ على مر التاريخ لا يملك خبرة كبيرة في الممارسة السياسية-بالتنظير على الاقل-ومصطلح الديمقراطية نفسه بالمفاهيم التي يتضمنها الحديث في اللغة السياسية العربية،ولم يتداول على نطاق واسع في الوطن العربي إلا في اعقاب الحرب العالمية الاولى،وبلفت النظر ان كتابات المفكرين العرب في القرن التاسع عشر تكاد تخلو منه.
وإذا عدنا الى واقع الحياة السياسية في البلدان العربية،فان الملاحظة انه يصعب كثيرا الحديث عن تنافس سياسي حقيقي و نزيه على الحكم في عموم البلاد العربية،فغالبية انظمة الحكم في العالم العربي لا تستند على شرعية انتخابية او شعبية،وهذا تحديدا ما يزيد من استخدامها المفرط للعنف واليات الضبط والسيطرة على المجتمع،فالتعددية السياسية هي تعددية شكلية ما لم يكن الحزب المهيمن هو وجه الدولة الشعبي.
وفي الحقيقة فان التعددية السياسية ما هي إلا تنوع حزبي والأحزاب المسموح بمشاركتها السياسية، نفسها ضعيفة وتعاني من انعدام الديمقراطية الداخلية.
ويعتقد الاستاذ المهدي المنجرة ان عقدة الانظمة العربية هي "الخوف من شعوبها"،لذلك تقوم كل استراتيجياتها على الهاجس الامني،وعلى تقوية نفوذ النخب الامنية على حساب النخب السياسية والاقتصادية والفكرية الفاعلة.
لذلك فان السبب الرئيسي في تعطيل المسيرة الديمقراطية من وجهة نظر المهدي المنجرة- هو غياب النخبة الفاعلة والقادرة على تطوير الاوضاع في الوطن العربي،فالنخب السياسية العربية هي نخب سياسية هرمة لعبت دورا في فترة المقاومة والتحرير ولم تستوعب جيدا ان مهمتها قد انتهت وان عليها ان تتخلى عن قيادتها لصالح جيل شاب قادر على تسيير الشأن العام.بل ومن خصائص هذه النخب انها غير مقتنعة بالديمقراطية كحل ناجح لأزماتها السياسية،بل انها غالبا ما تعتمد منطق المحاباة والرشاوى والزبونية،وتشجع ما يسميه الاستاذ محمد الرضواني ثقافة الغنيمة.فتولي المناصب الادارية والسياسية لا يعتمد منطق الكفاءة وإنما منطق الزبونية،وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه لنشوء كل مظاهر تكريس واقع اللا ديمقراطية التي تعيشها البلدان العربية.
تبدو والحالة هذه،معيقات الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي مترابطة الى حد كبير،ومركبة تركيبا بنيويا،يجعل مهمة الفصل بينها مستحيلة،ولكن ما اضاف تعقيدا اضافيا للمشهد العام هو نمو الظاهرة الاسلامية وعناصرها:معتدلون يقبلون بشروط اللعبة السياسية،متطرفون يعتمدون اسلوب التغيير العنيف(الارهاب).وهو ما جعل الانظمة العربية تعيد حساباتها.فالتيارات الاسلامية حاضرة بقوة في الشارع العربي،واستبعاد الحل الديمقراطي ضرورة-بنظر بعض الانظمة العربية-للحيلولة دون"استيلاء"الاسلاميين على السلطة.
وقد اربك صعود نجم الخطاب الاسلامي الكثير من التيارات العلمانية التي وجدت نفسها موزعة ما بين قبول واقع اللاديمقراطية والتضييق على حقوق الانسان بحجة محاربة التطرف الاسلامي او القبول بكل قواعد اللعبة بما قد ينتج عنه من مخاطر سيطرة الاسلاميين على مفاصل الدولة ومؤسساتها.
كل هذه المعيقات،وغيرها،تجعل الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي مشروعا مؤجلا الى حين.
*باحث في الدراسات الدستورية والسياسية
تثير قضية التحول نحو الديمقراطية في الوطن العربي نقاشات واسعة منذ عدة عقود,ويبدو انها لا تشكل اولوية بالنسبة للمجتمعات العربية اذا ما وضعت بجانب قضايا حفظ الامن وضمان الاستقرار وتحديات التنمية ومحاربة الفقر والإقصاء،وهو ما ينسجم مع التصور التقليدي لطبيعة وظائف الدولة،وقد تضافرت عوامل عدة أعاقت-دائما-آمكانية تحول المجتمعات العربية نحو الديمقراطية، يعتبر بعض الباحثين ان جذور الازمة العربية حاليا هي اساسا ازمة الديمقراطية قبل كل شيء ثقافية محضة،فالمجتمعات العربية لا تزال عاجزة عن هضم واستيعاب مشكلاتها على اسس عقلانية،ولا يزال الفكر الخرافي يشكل الاطار النظري الاول الذي تصدر عنه الجماهير العربية،المواطن العادي والسياسي ورجل الدولة،على حد سواء.ولهذه الازمة المركبة جذور في التاريخ والثقافة والتراث.
فقد تأسس فهم خاص للحياة،ولطاقات الانسان وأدواره وطموحاته،يكرس نوعا من القدرية.وفي هذا السياق يعتبر الاستاذ حسن حنفي انه"بالرغم من كون الاسلام هو اخر الاديان،والعقل فيه وريث روحي،والإرادة الانسانية فيه وريثة المعجزات،إلا انه وفق ما يسميه حسن حنفي سلطوية التصور،فان الانسان العربي يظل قاصرا عقلا وإرادة،ويظل العقل تابعا للنقل،ثم يتوارى العمل الانساني كليا"،وهنا يصبح الفكر"لعبة الفاظ"ويصبح الطريق سالكا حين ينتفي فعل العربي ليحل محله فعل الحاكم.
وبالنظر الى الوضع الراهن للمجتمعات العربية،فان محاولات النهضة لم تخرج عن اطار محاولة اعادة انتاج الماضي على شكل مشروع مستقبلي.لقد عاش العربي دائما منشدا الى الماضي"المجيد"،منتظرا المستقبل "المشرق"وأزمة الهروب هذه نحو الماضي والمستقبل،ازمة سيكولوجية تعيق كل محاولات الانتقال الديمقراطي في العالم العربي،لان الغائب الاكبر هو الحاضر.
ومن جهة اخرى ،يواجه العقل العربي حاليا ازمات طاحنة على جميع الاصعدة،وقد عجز عن مواجهة واقعه.
وهكذا باتت الجماهير العربية ضحية لترسيخ عقدة التخلف الحضاري والغوغائية الدينية،والتضليل الاعلامي،والجمود التربوي،واللاعلمية في طبقها المكتمل.
والعقل العربي كما صيغ على مر التاريخ لا يملك خبرة كبيرة في الممارسة السياسية-بالتنظير على الاقل-ومصطلح الديمقراطية نفسه بالمفاهيم التي يتضمنها الحديث في اللغة السياسية العربية،ولم يتداول على نطاق واسع في الوطن العربي إلا في اعقاب الحرب العالمية الاولى،وبلفت النظر ان كتابات المفكرين العرب في القرن التاسع عشر تكاد تخلو منه.
وإذا عدنا الى واقع الحياة السياسية في البلدان العربية،فان الملاحظة انه يصعب كثيرا الحديث عن تنافس سياسي حقيقي و نزيه على الحكم في عموم البلاد العربية،فغالبية انظمة الحكم في العالم العربي لا تستند على شرعية انتخابية او شعبية،وهذا تحديدا ما يزيد من استخدامها المفرط للعنف واليات الضبط والسيطرة على المجتمع،فالتعددية السياسية هي تعددية شكلية ما لم يكن الحزب المهيمن هو وجه الدولة الشعبي.
وفي الحقيقة فان التعددية السياسية ما هي إلا تنوع حزبي والأحزاب المسموح بمشاركتها السياسية، نفسها ضعيفة وتعاني من انعدام الديمقراطية الداخلية.
ويعتقد الاستاذ المهدي المنجرة ان عقدة الانظمة العربية هي "الخوف من شعوبها"،لذلك تقوم كل استراتيجياتها على الهاجس الامني،وعلى تقوية نفوذ النخب الامنية على حساب النخب السياسية والاقتصادية والفكرية الفاعلة.
لذلك فان السبب الرئيسي في تعطيل المسيرة الديمقراطية من وجهة نظر المهدي المنجرة- هو غياب النخبة الفاعلة والقادرة على تطوير الاوضاع في الوطن العربي،فالنخب السياسية العربية هي نخب سياسية هرمة لعبت دورا في فترة المقاومة والتحرير ولم تستوعب جيدا ان مهمتها قد انتهت وان عليها ان تتخلى عن قيادتها لصالح جيل شاب قادر على تسيير الشأن العام.بل ومن خصائص هذه النخب انها غير مقتنعة بالديمقراطية كحل ناجح لأزماتها السياسية،بل انها غالبا ما تعتمد منطق المحاباة والرشاوى والزبونية،وتشجع ما يسميه الاستاذ محمد الرضواني ثقافة الغنيمة.فتولي المناصب الادارية والسياسية لا يعتمد منطق الكفاءة وإنما منطق الزبونية،وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه لنشوء كل مظاهر تكريس واقع اللا ديمقراطية التي تعيشها البلدان العربية.
تبدو والحالة هذه،معيقات الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي مترابطة الى حد كبير،ومركبة تركيبا بنيويا،يجعل مهمة الفصل بينها مستحيلة،ولكن ما اضاف تعقيدا اضافيا للمشهد العام هو نمو الظاهرة الاسلامية وعناصرها:معتدلون يقبلون بشروط اللعبة السياسية،متطرفون يعتمدون اسلوب التغيير العنيف(الارهاب).وهو ما جعل الانظمة العربية تعيد حساباتها.فالتيارات الاسلامية حاضرة بقوة في الشارع العربي،واستبعاد الحل الديمقراطي ضرورة-بنظر بعض الانظمة العربية-للحيلولة دون"استيلاء"الاسلاميين على السلطة.
وقد اربك صعود نجم الخطاب الاسلامي الكثير من التيارات العلمانية التي وجدت نفسها موزعة ما بين قبول واقع اللاديمقراطية والتضييق على حقوق الانسان بحجة محاربة التطرف الاسلامي او القبول بكل قواعد اللعبة بما قد ينتج عنه من مخاطر سيطرة الاسلاميين على مفاصل الدولة ومؤسساتها.
كل هذه المعيقات،وغيرها،تجعل الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي مشروعا مؤجلا الى حين.
*باحث في الدراسات الدستورية والسياسية