الدكتور عبد القادر بطار
الكلام المحمود والكلام المذموم:
مهما يكن من شيء فإن الاشتغال بعلم الكلام يكون بحسب الحاجة إليه، وفي حدود الرد على الشبهات والبدع، ثم لابد أن يكون المشتغل بالكلام قد بلغ درجة عالية من الفهم لأمور العقيدة، متمكنا من علوم الشريعة، خبيرا بمقالات المتكلمين... وهناك نص يورده الحافظ بن عبد البر يحدد فيه الإمام مالك مفهوم المبتدعة وموقفه من علم الكلام المحمود، يقول ابن عبد البر:
قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده، وعند أهل بلده، وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلا فقال: نحو قول جهم ... والذي قاله مالك رحمه الله عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف مالك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه أو خشي ضلالة عامة أو نحو هذا. (26)
لقد أدرك فقهاء المذهب المالكي خطورة الكلام، ومن ثم وضعوا شروطا صارمة لمن يشتغل بالرد على الشبه والبدع الكلامية التي يثيرها أهل الأهواء في كل عصر ومصر.
يقول القاضي عبد الوهاب في معرض بيان أهمية المناظرة التي يقصد منها رد الشبه:" فأما المناظرة المقصود منها إيضاح الحجة وإبطال الشبهة، ورد المخطئ إلى الصواب، والزائغ إلى الحق، والضال إلى صحة الاعتقاد فإن ذلك غير منهي عنه، بل مندوب إليه، ومحضوض عليه، وقد قال تعالى:" وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [النحل : 125] وقال:" وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت : 46] وقال مخبرا عن قوم نوح:" قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا" [هود : 32] هذه هي المناظرة التي بين المناظرين. (7 2)
يقول الإمام جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس:" وأما القيام بدفع شبه المبتدعة فلا يتعرض له إلا من طالع علوم الشريعة وحفظ الكثير منها، وفهم مقاصدها وأحكامها، وأخذ ذلك عن الأئمة وفاوضهم فيها، وراجعهم في ألفاظها وأغراضها وبلغ درجة الإمامة في هذا العلم بصحبة إمام أو أئمة أرشدوه إلى وجه الصواب، وحذروه من الخطأ والضلال حتى ثبت الحق في نفسه وفهمه، ثبوتا قوي به على رد شبه المخالفين، وإبطال حجج المبطلين، فيكون القيام بدفع الشبه فرضَ كفاية عليه، وعلى أمثاله حينئذ، فأما غيرهم فلا يجوز له التعرض لذلك، لأنه ربما ضعف عن رد تلك الشبهة وتعلق بنفسه منها ما لا يقدر على إزالته، فيكون قد تسبب إلى هلكته وضلال، ونسأل الله العصمة.(28)
ويقول ابن الحاجب في عقيدته:" ولا يجب القيام بدفع شبه أهل الضلال إلا على من تمكن في النظر في علوم الشريعة تمكنا يقوى بها على دفعها وهو فرض كفاية. (29)
وقد ألف الإمام الأشعري رسالة بعنوان "استحسان الخوض في علم الكلام" ومضمون هذه الرسالة كما يدل عليه عنوانها هو التدليل على جواز الاشتعال بعلم الكلام الذي حكم بعض العلماء بتحريمه، دون تميز بين المحمود منه والمذموم وفي أحسن الحالات بتبديع المشتغل به، على الرغم من أهميته وشرف موضوعه.(30)
فقد ألف عبد الله الأنصاري الهروي (تـ481 ﻫ) كتابا سماه "ذم الكلام" للتحذير من علم الكلام والإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي، في كتابه " تحريم النظر في كتب الكلام.(31)
وكان الإمام الأشعري من أوائل من ردوا على دعاوى ذم الكلام والنهي عن الخوض فيه مطلقا في الرسالة السابقة "استحسان الخوض في علم الكلام" فقال: إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأسَ مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين. ومالوا إلى التخفيف والتقليد وطعنوا على من فتش عن أصول الدين، ونسبوه إلى الضلال... "
وقد نقض الإمام الأشعري دعاوى هؤلاء الرافضين من خلال تفكيك خطابهم التبديعي لينتهي بعد ذلك إلى إقرار شرعية علم الكلام لكون أصوله النظرية مأخوذة من القرآن الكريم." فقد قال تعالى: }لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ{ ] الأنبياء[: 22 وهذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنه واحد لا شريك له، وكلام المتكلمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنما مرجعه إلى هذه الآية. (32)
وقد سلك الإمام الأشعري منهجا واضحا في الدفاع عن مشروعية الكلام، فبعد أن أشار إلى أهم المقدمات التي استند عليها خصوم الكلام والحكم على المشتغل به بالضلال والابتداع قال: الجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: قلب السؤال عليهم، بأن يقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أيضا أنه من بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبتدعا، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالا إذ تكلمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وضللتم من لم يضلله النبي صلى الله عليه وسلم.(33)
لقد تطور علم الكلام وأصبح مع المدرسة الأشعرية من العلوم الشرعية بل من أجلها وأشرفها لكونه يبحث في ذات الله عز جل وصفاته وأفعاله، وذوات رسله عليهم الصلاة والسلام وأحوال الآخرة ...
وعن شرف علم الكلام ومنزلته يقول الإمام سيف الدين الآمدي : " وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقب بعلم الكلام، الباحث عن ذات واجب الوجود وصفاته، وأفعاله ومتعلقاته، إذ شرف كل علم إنما هو تابع لشرف موضوعه الباحث عن أحواله العارضة لذاته...(34)
ويقول سعد الدين التفتزاني: " ... وبالجملة فهو – علم الكلام – أشرف العلوم لكونه أساس الأحكام الشرعية ورئيس العلوم الدينية، وكون معلوماته: العقائد الإسلامية، وغايته: الفوز بالسعادة الدينية والدنيوية ... وما نقل عن بعض السلف من الطعن فيه والمنع عنه فإنما هو للمتعصب في الدين، والقاصر عن تحصيل اليقين، والقاصد إفساد عقائد المسامين، والخائض فيما لا يفتقر إليه من غوامض المتفلسفين، وإلا فكيف يتصور المنع عما هو أصل الواجبات، وأساس المشروعات.(35)
الكلام المحمود والكلام المذموم:
مهما يكن من شيء فإن الاشتغال بعلم الكلام يكون بحسب الحاجة إليه، وفي حدود الرد على الشبهات والبدع، ثم لابد أن يكون المشتغل بالكلام قد بلغ درجة عالية من الفهم لأمور العقيدة، متمكنا من علوم الشريعة، خبيرا بمقالات المتكلمين... وهناك نص يورده الحافظ بن عبد البر يحدد فيه الإمام مالك مفهوم المبتدعة وموقفه من علم الكلام المحمود، يقول ابن عبد البر:
قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده، وعند أهل بلده، وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلا فقال: نحو قول جهم ... والذي قاله مالك رحمه الله عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف مالك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه أو خشي ضلالة عامة أو نحو هذا. (26)
لقد أدرك فقهاء المذهب المالكي خطورة الكلام، ومن ثم وضعوا شروطا صارمة لمن يشتغل بالرد على الشبه والبدع الكلامية التي يثيرها أهل الأهواء في كل عصر ومصر.
يقول القاضي عبد الوهاب في معرض بيان أهمية المناظرة التي يقصد منها رد الشبه:" فأما المناظرة المقصود منها إيضاح الحجة وإبطال الشبهة، ورد المخطئ إلى الصواب، والزائغ إلى الحق، والضال إلى صحة الاعتقاد فإن ذلك غير منهي عنه، بل مندوب إليه، ومحضوض عليه، وقد قال تعالى:" وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [النحل : 125] وقال:" وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت : 46] وقال مخبرا عن قوم نوح:" قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا" [هود : 32] هذه هي المناظرة التي بين المناظرين. (7 2)
يقول الإمام جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس:" وأما القيام بدفع شبه المبتدعة فلا يتعرض له إلا من طالع علوم الشريعة وحفظ الكثير منها، وفهم مقاصدها وأحكامها، وأخذ ذلك عن الأئمة وفاوضهم فيها، وراجعهم في ألفاظها وأغراضها وبلغ درجة الإمامة في هذا العلم بصحبة إمام أو أئمة أرشدوه إلى وجه الصواب، وحذروه من الخطأ والضلال حتى ثبت الحق في نفسه وفهمه، ثبوتا قوي به على رد شبه المخالفين، وإبطال حجج المبطلين، فيكون القيام بدفع الشبه فرضَ كفاية عليه، وعلى أمثاله حينئذ، فأما غيرهم فلا يجوز له التعرض لذلك، لأنه ربما ضعف عن رد تلك الشبهة وتعلق بنفسه منها ما لا يقدر على إزالته، فيكون قد تسبب إلى هلكته وضلال، ونسأل الله العصمة.(28)
ويقول ابن الحاجب في عقيدته:" ولا يجب القيام بدفع شبه أهل الضلال إلا على من تمكن في النظر في علوم الشريعة تمكنا يقوى بها على دفعها وهو فرض كفاية. (29)
وقد ألف الإمام الأشعري رسالة بعنوان "استحسان الخوض في علم الكلام" ومضمون هذه الرسالة كما يدل عليه عنوانها هو التدليل على جواز الاشتعال بعلم الكلام الذي حكم بعض العلماء بتحريمه، دون تميز بين المحمود منه والمذموم وفي أحسن الحالات بتبديع المشتغل به، على الرغم من أهميته وشرف موضوعه.(30)
فقد ألف عبد الله الأنصاري الهروي (تـ481 ﻫ) كتابا سماه "ذم الكلام" للتحذير من علم الكلام والإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي، في كتابه " تحريم النظر في كتب الكلام.(31)
وكان الإمام الأشعري من أوائل من ردوا على دعاوى ذم الكلام والنهي عن الخوض فيه مطلقا في الرسالة السابقة "استحسان الخوض في علم الكلام" فقال: إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأسَ مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين. ومالوا إلى التخفيف والتقليد وطعنوا على من فتش عن أصول الدين، ونسبوه إلى الضلال... "
وقد نقض الإمام الأشعري دعاوى هؤلاء الرافضين من خلال تفكيك خطابهم التبديعي لينتهي بعد ذلك إلى إقرار شرعية علم الكلام لكون أصوله النظرية مأخوذة من القرآن الكريم." فقد قال تعالى: }لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ{ ] الأنبياء[: 22 وهذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنه واحد لا شريك له، وكلام المتكلمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنما مرجعه إلى هذه الآية. (32)
وقد سلك الإمام الأشعري منهجا واضحا في الدفاع عن مشروعية الكلام، فبعد أن أشار إلى أهم المقدمات التي استند عليها خصوم الكلام والحكم على المشتغل به بالضلال والابتداع قال: الجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: قلب السؤال عليهم، بأن يقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أيضا أنه من بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبتدعا، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالا إذ تكلمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وضللتم من لم يضلله النبي صلى الله عليه وسلم.(33)
لقد تطور علم الكلام وأصبح مع المدرسة الأشعرية من العلوم الشرعية بل من أجلها وأشرفها لكونه يبحث في ذات الله عز جل وصفاته وأفعاله، وذوات رسله عليهم الصلاة والسلام وأحوال الآخرة ...
وعن شرف علم الكلام ومنزلته يقول الإمام سيف الدين الآمدي : " وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقب بعلم الكلام، الباحث عن ذات واجب الوجود وصفاته، وأفعاله ومتعلقاته، إذ شرف كل علم إنما هو تابع لشرف موضوعه الباحث عن أحواله العارضة لذاته...(34)
ويقول سعد الدين التفتزاني: " ... وبالجملة فهو – علم الكلام – أشرف العلوم لكونه أساس الأحكام الشرعية ورئيس العلوم الدينية، وكون معلوماته: العقائد الإسلامية، وغايته: الفوز بالسعادة الدينية والدنيوية ... وما نقل عن بعض السلف من الطعن فيه والمنع عنه فإنما هو للمتعصب في الدين، والقاصر عن تحصيل اليقين، والقاصد إفساد عقائد المسامين، والخائض فيما لا يفتقر إليه من غوامض المتفلسفين، وإلا فكيف يتصور المنع عما هو أصل الواجبات، وأساس المشروعات.(35)