بقلم : ذ. زكرياء الريسوني الحسني
بـــــــــــسم الله الرحمن الرحيم.
مع سكون الليل الدامس وسدول ظلامه، أيقظني من غفوتي داعي الكتابة، فدعتني أفكاري وعواطفي وأحلامي تتمازج وتتعارف بين مد وجزر ، ثم عادت إلى تدفق غير معهود ونوازع وتيارات لا تنجلي ثم قرَّت وسكنت فجعلتني أستعيد في نفسي سؤالا.! وأفكر في أمر وأستدرج ما عراني من إيحاء تغلغلْتُ في معانيه فدلَّني على أنّ أكثر من يكتب إنما يدفع بعض الكلام إلى قلمه ليعبر عنه، غير محتفل بما يقول، وَطَفِقْتُ أقرأ وأقرأ على خلاف عادتي من صحف ومجلات وكتب قراءة المتتبع اليقظ والناقد المتلقِّف، لأضع يدي على أقنع جواب يطمئن إليه قلبي، فما وجدت ما أنا بصدده في كلام الكُتَّاب وأغراضهم فيما كتبوا .
وقد استوقفني هذا العنوان قبل أن أخط ببناني هذه الكلمات، وقلت في نفسي كم صار للقلم أسواق قد تغاوى أصحابها اليوم ، لأن القلم الذي هو أساس صناعة الكتابة من أشد الوسائل التحاما بالحياة والواقع ، بل يعد صورة النفس، فهو يطلعك من غير تحفظ على الأسرار النفسية لحامليه، ونحن نقصد بكلامنا مدى استقلالية القلم عن الكاتب في تضاعيف ما يَكتب ، وأيضا الكشف عن أسرار لا تقع تحت البصر من أول نظرة ، بل تكون بالحسِّ الباطني ترهفه التجارب والمعرفة الطويلة بالنفوس واختلاف مشاربها وهذا كله كالشرح لعنوان المقالة .
فالقلم - أيها الفضلاء الكرام- الذي جممع تجويد الشعر إلى تحبير النثر وسداد المقصد، ُركِّبت فيه آلة إحساس دقيق يحس بكل شيء بعيد إحساسه بالقريب لكنه بين اثنتين، إما أن يَنْحَطَّ به صاحبه ويخضعه لهوى غرائزه وأحقاده وشهواته الوحشية، وإما أن يحصن قلمه دونها فيروض نفسه عن غرائزها الوحشية، ويوطنها على الحرمان والألم ثم على الصراع الذي لا هوادة فيه بين تضرم النزعات الإباحية وبين أن تنقاد لحكم العقل النبيل والعواطف السامية المتورعة المطمئنة.
إن القلم المتبصر الذي لا يرضى لنفسه أن يكون من الغوغاء وأتباع الدهماء، ينتفض تقززا واشمئزازا لكل نظرية هوجاء أو قل نظرية معرفية متأزمة 1 لا قرار لها على حال. وهاهي أسواق القلم مرة أخرى صارت تمس الروح مَسَّة تيار كهربائي لعلها تطلعنا على الغامض من جليل الكلام الذي ظل إلى هذا الزمان معبرا عن القيم الخلقية 2 والحث على الاعتبار بها، ولا يخفى عليكم -أعزائي- أن القلم أيقظ أكثر كتابنا إلى حقيقة ملموسة كانوا يغضون دونها أبصارهم لما تلبس كثير منهم بلباس الخزي والعار، لنبقى بين الأمم أمة لا قوام لها من نفسها وأصلها وتاريخها، وانشغلت في الحقيقة بالزينة والزخرف بحجة مسايرة التطور والاستجابة لمقتضى التغيير .
فالقلم المُتخَلِّق بالمعاني الشريفة أو قل قيم عليا؛ إذا استوفى شرط عدم انفكاك القول عن العمل فإن الإصلاح لابد أن يتعجل حدوثه ولكن كيف يكون ذلك مع جيل طٌبِعَ على سفاسف الأخلاق، فانكسرت أقلامه وسال مداده فخرج عن أصله وفقد الألفاظ والمعاني، فصار يتاجر به ويلبِّسه الغش والخِلاب والمواربة فأصبح جيلا باطنه أظلم شيء ، وظاهره يتلألأ بمعاني العفة والشرف والأمانة والنزاهة ، وغير ذلك من حيل التُّجار السماسرة المتهكمين في هذا الدهر المائج بصنوف البلاء والمصائب والفتن التي أصبحت كقطع الليل المظلم وهل يظن القلم أن كل هؤلاء المتهوكين الذين أقامتهم الأمة المسكينة على حياطة فكرها وتراثها و شؤونها وأسباب عيشها لا يستشعرون هذا الذي نستشعره ولا يجدون من معانيه مثل الذي نجد ؟ كلا ؛ بل نقول : فمن أين يأتي الشفاء إذا كان كل الطبيب هو بعض المريض !!
أيها القلم .. أنت المدد للمعاني الخائفة التي تنزوي في كهوف النفس الإنسانية السامية الطامحة ، فتتدفق كالتيار الذي يتدافع بالبحر فينشئ المعاني والأغراض النبيلة التي تحيك في الصدور، ويخرج أحلام النفوس الرفيعة التي تبرأ من الغرائز الدنيئة ، كي لا تنقرض العواطف الرقيقة التي تملأ النفس تخَلَُّقا وتساميا وورعا وحنانا ..
فإن حقكم على الكُتاب أيها القراء الأعزاء، أن يجعل هؤلاء أقلامهم تتخلق بالحكمة و الاعتدال والتصوُّن ، وأن لا يُبَذِّروا مداد أقلامهم مع هذه الأزمة الفكرية التي نعيشها في زمن يمكن وصفه بفساد التَّعقُّل3.فيضيفون بكتاباتهم فوضى إلى هذه الفوضى الفكرية التي نتخبط فيها، فنزيد في بلبلة الأمة واضطرابها و تطاحن أفكارها منتجة ثمارا فجة متعفنة موبوء ة .
لقد جعلت مقامي في هذا المقال مقام المذكر الذي يحب أن يؤدي واجب النصيحة التي لا تحمل ضغينة ولا رياء، فأنا لا استطيع إلا أن أتكلم بكلامي وإن أغضب من لا يرضى إلا بما يرضيه من التملق والدهان، فإن المصارحة في القول وإبداء النصح مكشوفا غير مُكفَّن مما لا يمكن أن يُغْضَى عنه.
أجل إن كثيرا من مقالات الكتاب وقع فيها لغو وتهالك نشأ عنه تفكك وعدم التمييز بين الخبيث والطيب والجور والإنصاف والاستبداد والحرية، فأصبحت بذلك أقلامهم على شفا جرف هار إلى البوار والبلى والفساد، وصرت أنفر من مكاني كلما قرأت ما كتبوا لما عراني من ضيق وقلق روحي عنيف يدفع صاحبه إلى الاستقلال بنفسه والاعتداد بشخصيته، فإن الأقلام أيها الكتاب تحب من يغامر في الحضارة الحديثة بروح المجدد لا بضعف المقلد ، فعندئذ تنتزع أسباب الحضارة بالقوة وتتخذ الوجهة الواحدة التي تجتمع عليها القلوب وتتوجه إليها العقول . ولولا ضيق المقام ، وعدم احتماله الإطالة والتوسع لاتسع لي مجال القول في تفصيل الرأي في معنى شخصية القلم أكثر مما بيناه .
ونسأل الله أن يجعل آخر أمر المسلمين والناس جميعا كأوله ألفة وارتباطا وصفاء وعملا خالصا لله لا للخصومة والشنآن والشهوات والأهواء. والله المستعان ..
هوامش
1/ يفيد هذا المدلول النظريات المعرفية الحديثة والمناهج العقلية التي لا تؤدي بصاحبها إلى التحلي بالأخلاق والوصول إليها وتعيش أزمتين اثنتين هما :
أزمة (صدق ) و أزمة (قصد) انظر للتوسع ''سؤال الأخلاق '' للدكتور طه عبد الرحمن / طبعة المركز الثقافي العربي .
2 / أي : الأخلاق ذات الأصل الديني، والتي تحمل دلالة تعبدية .
3 / فهو أحد الفضائل الرئيسة والقيم الأساسية لتحصيل المعرفة الصحيحة المسددة بوسائل الشرع وفق الفطرة الطبيعية.
* باحث دكتوراه بوحدة تاريخ الأديان والحضارات الشرقية.
بـــــــــــسم الله الرحمن الرحيم.
مع سكون الليل الدامس وسدول ظلامه، أيقظني من غفوتي داعي الكتابة، فدعتني أفكاري وعواطفي وأحلامي تتمازج وتتعارف بين مد وجزر ، ثم عادت إلى تدفق غير معهود ونوازع وتيارات لا تنجلي ثم قرَّت وسكنت فجعلتني أستعيد في نفسي سؤالا.! وأفكر في أمر وأستدرج ما عراني من إيحاء تغلغلْتُ في معانيه فدلَّني على أنّ أكثر من يكتب إنما يدفع بعض الكلام إلى قلمه ليعبر عنه، غير محتفل بما يقول، وَطَفِقْتُ أقرأ وأقرأ على خلاف عادتي من صحف ومجلات وكتب قراءة المتتبع اليقظ والناقد المتلقِّف، لأضع يدي على أقنع جواب يطمئن إليه قلبي، فما وجدت ما أنا بصدده في كلام الكُتَّاب وأغراضهم فيما كتبوا .
وقد استوقفني هذا العنوان قبل أن أخط ببناني هذه الكلمات، وقلت في نفسي كم صار للقلم أسواق قد تغاوى أصحابها اليوم ، لأن القلم الذي هو أساس صناعة الكتابة من أشد الوسائل التحاما بالحياة والواقع ، بل يعد صورة النفس، فهو يطلعك من غير تحفظ على الأسرار النفسية لحامليه، ونحن نقصد بكلامنا مدى استقلالية القلم عن الكاتب في تضاعيف ما يَكتب ، وأيضا الكشف عن أسرار لا تقع تحت البصر من أول نظرة ، بل تكون بالحسِّ الباطني ترهفه التجارب والمعرفة الطويلة بالنفوس واختلاف مشاربها وهذا كله كالشرح لعنوان المقالة .
فالقلم - أيها الفضلاء الكرام- الذي جممع تجويد الشعر إلى تحبير النثر وسداد المقصد، ُركِّبت فيه آلة إحساس دقيق يحس بكل شيء بعيد إحساسه بالقريب لكنه بين اثنتين، إما أن يَنْحَطَّ به صاحبه ويخضعه لهوى غرائزه وأحقاده وشهواته الوحشية، وإما أن يحصن قلمه دونها فيروض نفسه عن غرائزها الوحشية، ويوطنها على الحرمان والألم ثم على الصراع الذي لا هوادة فيه بين تضرم النزعات الإباحية وبين أن تنقاد لحكم العقل النبيل والعواطف السامية المتورعة المطمئنة.
إن القلم المتبصر الذي لا يرضى لنفسه أن يكون من الغوغاء وأتباع الدهماء، ينتفض تقززا واشمئزازا لكل نظرية هوجاء أو قل نظرية معرفية متأزمة 1 لا قرار لها على حال. وهاهي أسواق القلم مرة أخرى صارت تمس الروح مَسَّة تيار كهربائي لعلها تطلعنا على الغامض من جليل الكلام الذي ظل إلى هذا الزمان معبرا عن القيم الخلقية 2 والحث على الاعتبار بها، ولا يخفى عليكم -أعزائي- أن القلم أيقظ أكثر كتابنا إلى حقيقة ملموسة كانوا يغضون دونها أبصارهم لما تلبس كثير منهم بلباس الخزي والعار، لنبقى بين الأمم أمة لا قوام لها من نفسها وأصلها وتاريخها، وانشغلت في الحقيقة بالزينة والزخرف بحجة مسايرة التطور والاستجابة لمقتضى التغيير .
فالقلم المُتخَلِّق بالمعاني الشريفة أو قل قيم عليا؛ إذا استوفى شرط عدم انفكاك القول عن العمل فإن الإصلاح لابد أن يتعجل حدوثه ولكن كيف يكون ذلك مع جيل طٌبِعَ على سفاسف الأخلاق، فانكسرت أقلامه وسال مداده فخرج عن أصله وفقد الألفاظ والمعاني، فصار يتاجر به ويلبِّسه الغش والخِلاب والمواربة فأصبح جيلا باطنه أظلم شيء ، وظاهره يتلألأ بمعاني العفة والشرف والأمانة والنزاهة ، وغير ذلك من حيل التُّجار السماسرة المتهكمين في هذا الدهر المائج بصنوف البلاء والمصائب والفتن التي أصبحت كقطع الليل المظلم وهل يظن القلم أن كل هؤلاء المتهوكين الذين أقامتهم الأمة المسكينة على حياطة فكرها وتراثها و شؤونها وأسباب عيشها لا يستشعرون هذا الذي نستشعره ولا يجدون من معانيه مثل الذي نجد ؟ كلا ؛ بل نقول : فمن أين يأتي الشفاء إذا كان كل الطبيب هو بعض المريض !!
أيها القلم .. أنت المدد للمعاني الخائفة التي تنزوي في كهوف النفس الإنسانية السامية الطامحة ، فتتدفق كالتيار الذي يتدافع بالبحر فينشئ المعاني والأغراض النبيلة التي تحيك في الصدور، ويخرج أحلام النفوس الرفيعة التي تبرأ من الغرائز الدنيئة ، كي لا تنقرض العواطف الرقيقة التي تملأ النفس تخَلَُّقا وتساميا وورعا وحنانا ..
فإن حقكم على الكُتاب أيها القراء الأعزاء، أن يجعل هؤلاء أقلامهم تتخلق بالحكمة و الاعتدال والتصوُّن ، وأن لا يُبَذِّروا مداد أقلامهم مع هذه الأزمة الفكرية التي نعيشها في زمن يمكن وصفه بفساد التَّعقُّل3.فيضيفون بكتاباتهم فوضى إلى هذه الفوضى الفكرية التي نتخبط فيها، فنزيد في بلبلة الأمة واضطرابها و تطاحن أفكارها منتجة ثمارا فجة متعفنة موبوء ة .
لقد جعلت مقامي في هذا المقال مقام المذكر الذي يحب أن يؤدي واجب النصيحة التي لا تحمل ضغينة ولا رياء، فأنا لا استطيع إلا أن أتكلم بكلامي وإن أغضب من لا يرضى إلا بما يرضيه من التملق والدهان، فإن المصارحة في القول وإبداء النصح مكشوفا غير مُكفَّن مما لا يمكن أن يُغْضَى عنه.
أجل إن كثيرا من مقالات الكتاب وقع فيها لغو وتهالك نشأ عنه تفكك وعدم التمييز بين الخبيث والطيب والجور والإنصاف والاستبداد والحرية، فأصبحت بذلك أقلامهم على شفا جرف هار إلى البوار والبلى والفساد، وصرت أنفر من مكاني كلما قرأت ما كتبوا لما عراني من ضيق وقلق روحي عنيف يدفع صاحبه إلى الاستقلال بنفسه والاعتداد بشخصيته، فإن الأقلام أيها الكتاب تحب من يغامر في الحضارة الحديثة بروح المجدد لا بضعف المقلد ، فعندئذ تنتزع أسباب الحضارة بالقوة وتتخذ الوجهة الواحدة التي تجتمع عليها القلوب وتتوجه إليها العقول . ولولا ضيق المقام ، وعدم احتماله الإطالة والتوسع لاتسع لي مجال القول في تفصيل الرأي في معنى شخصية القلم أكثر مما بيناه .
ونسأل الله أن يجعل آخر أمر المسلمين والناس جميعا كأوله ألفة وارتباطا وصفاء وعملا خالصا لله لا للخصومة والشنآن والشهوات والأهواء. والله المستعان ..
هوامش
1/ يفيد هذا المدلول النظريات المعرفية الحديثة والمناهج العقلية التي لا تؤدي بصاحبها إلى التحلي بالأخلاق والوصول إليها وتعيش أزمتين اثنتين هما :
أزمة (صدق ) و أزمة (قصد) انظر للتوسع ''سؤال الأخلاق '' للدكتور طه عبد الرحمن / طبعة المركز الثقافي العربي .
2 / أي : الأخلاق ذات الأصل الديني، والتي تحمل دلالة تعبدية .
3 / فهو أحد الفضائل الرئيسة والقيم الأساسية لتحصيل المعرفة الصحيحة المسددة بوسائل الشرع وفق الفطرة الطبيعية.
* باحث دكتوراه بوحدة تاريخ الأديان والحضارات الشرقية.